إن أسلوب الرؤيا، في تاريخ النبوة، بدأ قبل عهد السيد المسيح بمئتي سنة، برؤيا دانيال النبوية، وانتهى برؤيا يوحنا النبوية في ختام القرن الأول المسيحي.

فكان أسلوب الرؤيا المرحلة الأخيرة في تاريخ النبوة عند بني إسرائيل، وفي الأدب الديني عندهم. وكان محوره (( ابن البشر )) الموعود. فكأنه كان تعبيراً عن الشعور الديني بحضور عهد المسيح القريب.

*

أولاً : الرؤيا في تاريخ النبوة

1 ـ تمتد جذور الأسلوب الرائي إلى حزقيال النبي، في جلاء بابل. فكان حزقيال أبا الأسلوب, الـذي اقتدى به بعض الأنبياء مثل زكريا ويوئيل، في بعض نبؤاتهم، حتى جـاء (( دانيال )) في عهد الاضطهاد السوري فأكسبه استقلاله البياني؛ وصارت النبؤة فيه رؤيا.

ثم ازدهر الفن وشاع بين اليهود، على هامش النبوة، حتى قضى الرومان على الدولة والأمة والمدينة المقدسة والهيكل، سنة 135. فزال فنّ الرؤيا مع آمالهم. وكان صوت النبوة قد اختفى بظهور السيد المسيح.

2 ـ وما بين النبوة والرؤيا فوارق.

فالنبي رسول مسؤول عن تأدية رسالته. وقد يكتبها بنفسه، أو يدوّنها تلاميذه من بعده للذكرى والعبرة.

ـ 10 ـ

أمّا الرائي عندهم فهو يسطر التاريخ كما يحلم به، وقد يكتب التاريخ نفسه بأسلوب النبوة.

النبوة دعوة لأهل زمانها، ولا تنظر إلى المستقبل إلاّ فيما ندر. فتكون النبؤة الغيبية.

بينما الرؤيا عندهم فكلّها تصوير للماضي بشكل نبؤة؛ أو تصوير للمستقبل على ضوء الماضي.

فعالم النبوة واقعي؛ بينما عالم الرؤيا فهو خيالي.

والفارق الأكبر بين النبوة والرؤيا عندهم أن النبوة وحي وتنزيل بينما الرؤيا هي كشف رمزي مبني على رموز حسية أو خيالية.

فوحده سفر دانيال جاء نبؤة في رؤيا.

*

ثانياً : رؤيا يوحنا في تاريخ النبوة

1 ـ إن يوحنا جمع في سِفْره ما بين النبوة والرؤيا. فسفره نبؤة في أسلوب رؤيا. والسفر يسمّي نفسه (( نبؤة )) ، وصاحبه (( نبيّاً )) ( 1 : 3؛ 10 : 7؛ 11 : 18؛ 22 : 6 و9 و10 )؛ بعد أن وصفه (( رؤيا )) في أول كلمة منه، عنواناً للكتاب كله.

2 ـ موضوعها هو دعوة مسيحية، مبنية على تفسير نبؤات العهد القديم لإظهار تحقيقها في المسيح والمسيحية. فهي شهادة للمسيح كسائر أسفار العهد الجديد : (( فإن الشهادة للمسيح هي روح النبوة )) ( 19 : 10 ).

وهذه النبوة المسيحية هي جواب لمشاكل المسيحيين ومسائلهم في الاضطهاد الأول والثاني، على أيام نيرون، ثم على عهد دوميتيانس. فالسفر جواب لواقع الحال، ورمز للمآل في الاستقبال.

فهو رسالة ونبؤة ورؤيا وشهادة معاً

3 ـ ان رؤيا يوحنا لها مصادر. فهي تصوير في تفسير لخطاب السيد المسيح في مصير ملكوت السماوات. وكما اقتبس السيد المسيح لقبه (( ابن

ـ 11 ـ

البشر )) من دانيال، استخدم أيضاً رؤياه لتصوير مصير المسيحية في البشرية؛ ونلمس على الدوام تعابير حزقيال في الرؤيا الأولى ( 4 ـ 11 ).

تلك هي مصادر يوحنا البيانية المباشرة. ويقول بعضهم بمصادر وثائقية.

لكن لا يُنكر أن يوحنا، كاتب الرؤيا، قد استخدم الفن المشهور في جيله، بأساليبه وعباراته، مع ما عبر إليها قبله من (( الميثولوجيا )) الشرقية أو الهلنستية، حيث ائتلفت مع التوحيد.

لكنه مدين في موضوعه للكتاب والإنجيل. وسفره فسيفساء جميلة من آيات الكتاب، قد لا تخلو آية منه من مثيلتها في الكتاب. فيوحنا يكتب بلغة الأنبياء أنفسهم.

لذلك توهم بعضهم أن الرؤيا يهودية، لا مسيحية؛ أو يهودية حرّفها بعضهم إلى مسيحية.

لكن الرؤيا مسيحية، بسداها ولحمتها، وإن كان كاتبها قد استعان برؤى يهودية وبكتاب العهد القديم. إنها رؤيا الحمل، ابن البشر.

4 ـ إن النظم والتنظيم ظاهرتان في سفر الرؤيا.

فلا أحد يشك في أسلوب الرؤيا الرمزي؛ كما لا يشك أحد أنها من باب الشعر المرسل. لكن بعضهم يرى أنها أقرب إلى الشعر المنظوم، منها إلى الشعر المرسل.

والفن الملحمي هو ظاهرتها الكبرى.

5 ـ إنما الخلاف في وحدة سفر الرؤيا

نميّز بين الوحدة الموضوعية، والوحدة الفنية.

إن أكبر العلماء وأكثرهم يؤكدون الوحدة الفنية في سفر الرؤيا؛ وهي قائمة على وحدة الإنشاء ووحدة الأسلوب.

لكن بعض الظواهر لا تدل على وحدة موضوعية. فيرى بعضهم في السفر كله تكراراً لا مبرّر له. فإن المائة والأربعة وأربعين ألفاً الذين يختمهم الملاك على جباههم ( 7 : 2 ـ 8 ) يقابلهم العدد نفسه يحملون على جباههم

ـ 12 ـ

اسم الله ( 14 : 1 ـ 5 ). وما بين سُباعيّ الأبواق ( 8 ـ 9 ) وسباعيّ الجامات (16) مطابقة كاملة. كذلك فإن للوحش ذي الرؤوس السبعة، والقرون العشرة وصفين بمعنيين مختلفين ( 13 : 1 ـ 8 = 17 : 3 ـ 8 ). كما لأورشليم العتيدة وصفان ( 21 : 1 ـ 8 ثم 21 : 9 ـ 22 : 5 ). ويعلن سقوط (( بابل )) مرتين ( 14 : 8 ثم 18 : 2 ـ 3 ). وهناك أشياء وأشخاص يظهرون مرة ثانية كأنما للمرة الأولى ( 17 : 3 ـ 4 ) : فالوحش يمثّل الإمبراطورية الرومانية ( ف 13 ) ثم نيرون نفسه كأنه عاد حياً ( ف 17 ).

هذا ما حمل بعضهم ـ ونحن منهم ـ على اعتبار كتاب الرؤيا سفرين، أو رؤيين، جُمعا معاً في كتاب واحد، لوحدة الكاتب : وعند الجمع صُدّرا بسفر الرسائل، تقديماً لكنائس آسيا الصغرى، حيث وضعت الأسفار الثلاثة. وتكون التكرارات دليلاً على ذلك. الرؤيا الأولى تاريخية ( ف 4 ـ 11 ) لكن الفصل (10) هو تهيئة للرؤيا الثانية على سبيل التضمين، والرؤيا الثانية رمزية لمصير الكنيسة في الدولة الرومانية، ثم في العالم مدى الدهر. وعند الجمع أيضاُ جُمعت خاتمة الرؤيا الأولى التاريخية ( ف 17 : 10 ـ 19 : 10 ) إلى خاتمة الرؤيـا الثانية الرمزية ( 19 : 11 ـ 20 : 15 ) : الخـاتمة التاريخية تنتهي بنشيد الظفر ( 19 : 1 ـ 10 ) والخاتمة الرمزية تنتهي بيوم الدين ( 20 : 11 ـ 15 )؛ كذلك فإن الخاتمة التاريخيّة تنتهي بقيام أورشليم المسيحية على الأرض ( 21 : 9 ـ 27 ) والخاتمة الرمزيّة تنتهي بقيام أورشليم السماوية في السماء ( 21 : 6 ـ 8 ).

6 ـ أما الظاهرة الكبرى فهي في التأليف :

يقسم الكتاب كله إلى سبع حلقات، كل حلقة من سبعة مشاهد : حلقة الرسائل، ثم حلقة الأختام ثم حلقة الأبواق ثم حلقة الجامات ثم حلقة الآيات، ثم حلقة منشدي سقوط بابل ( 17 ـ 19 : 9 ) ثم حلقة مشاهد عرس الحمل السبعة في أورشليم الأرضية ( 21 : 9 ـ 27 ) ثم في أورشليم السماوية ( 21 : 1 ـ 8 مع 22 : 1 ـ 5 ).

فيكون كتاب الرؤيا مقسوماً إلى ثلاثة أسفار مجموعة

سفر الرسائل السبع، مع الرؤيا التحضيرية ( 1 : 4 ـ 3 : 22 ).

ـ 13 ـ

ثم سفر الرؤيا الأولى، من ثلاث حلقات سباعية، مع الرؤيا التحضيرية ( 4 ـ 5 ) : حلقة الأختام السباعية ( 6 ـ 8 : 6 )؛ ثم حلقة الأبواق السباعية ( 8 : 7 ـ 11 : 19 )، وفيها استطراد على سبيل التضمين لتهيئة سفر الرؤيا الثاني؛ ثم حلقة مشاهد عرس الحمل السباعية في أورشليم المسيحية الأرضية ( 21 : 9 ـ 27 ).

ثم سفر الرؤيا الثانية، من ثلاث حلقات سُباعية أخرى ـ مع الرؤيا التحضيرية التي ضُمّنت في الأولى ( ف 10 ) : حلقة الآيات السبع ( 12 : 1 ـ 15 : 4 )، ثم حلقة الجامات السبعة ( 15 : 5 ـ 16 : 21 ) ثم حلقة مشاهد عرس الحمل السباعية، في أورشليم المسيحية السماوية ( 21 : 1 ـ 8 مع 22 : 1 ـ 5 ).

وعند الجمع كانت الفاتحة العامة ( 1 : 1 ـ 3 ) مع الخاتمة العامة التي تجمع خواتيم الأسفار الثلاثة ( 22 : 6 ـ 21 ).

7 ـ واقعية الرؤيا ظاهرة من ذاتها. فهي ليست رؤيا خيالية كالقصص المشهورة في الآداب العالمية؛ ولا رؤيا محض فنّية ابتدعها الخيال المصوّر بعبقرية كبرى. إنما هي رؤيا واقعية حدثت ليوحنا، مستخدمة ما اكتنز في ذاكرته وخياله من نبؤات العهد القديم، مجسّمةً بصور حسية، رآها ولم يؤلفها؛ وسـاعده الوحي على فهمها. لذلك وصف (( رؤياه )) بأنهـا (( نبؤة )) أي إنها (( نبؤة )) بأسلوب (( رؤيا )) . وهي استجماع وتجميع لنبؤات العهد القديم في المسيح، طالما بحثها مع مدرسته في أفسس، فظلت رواسبها حية في ذهنه وخياله، قبل سوقه إلى منفاه، حيث هبط عليه الوحي، وقد تهيّأ له من حيث لا يدري. ولا شك أنه عند التدوين جرى فيها شيء من البيان والتبيين، قام به كاتبه أو كتبته من مدرسته في أفسس، وهي جامعة لأهل الكتاب والهلّينيين الأسيويين، خلّفها له بولس وأبولّس. فمدرسته هذه هي التي ورثت تراثه في الإنجيل والرؤيا والرسالة، ونقلته إلى الكنيسة الجامعة.

وهكذا نقدر أن نعتبر سفر الرؤيا وحدة فنية مبنية على وحدة الإنشاء والتأليف.

ـ 14 ـ

فيكون الكتاب كله ملحمة من سبعة فصول، كل فصل منها من سبعة مشاهد.

ونقدر أيضاً أن تعتبر كتاب الرؤيا ثلاثة أسفار مجموعة : سفر الرسائل السبع، ثم سفر الرؤيا الأولى، ثم سفر الرؤيا الثانية. وكل رؤيا منهما ملحمة من ثلاثة فصول : التحضير في عالم الغيب ثم التحقيق على الأرض ثم الخاتمة في عرس الحمل الأرضي أو السماوي.

وفي كلا الحالين، تكون رؤيا يوحنا معجزة الافتنان في الإعجاز البياني الملحمي.

إنها جميعاً ملحمة المسيحية الكبرى.

*

ثالثاً : الرؤيا في مذاهب التفسير(1)

لقد اختلف علماء الكتاب، قديماً وحديثاً في تفسير (( الرؤيا )) . فهي (( نبؤة )) ، والنبؤة لا تُعلم جيداً إلاّ من بعد تحقيقها.

وقد استخلصنا من كتاب أحد العلماء(2) عشرين تفسيراً :

رأي أول : التفسير الألفي الذي أخذ به أكثر الأقدمين منذ هيبوليت؛ وهو انتصار المسيحية مدى ألف سنة.

وكأن التاريخ مصداق ذلك. فبعد الاضطهاد الروماني للكنيسة، سيطرت المسيحية ألف سنة من هداية قيصر رومة، قسطنطين، إلى سقوط القسطنطينية بالفتح العثماني.

رأي ثانٍ : إنها رؤيا التاريخ العام للمسيحية في البشرية حتى اليوم الآخر، بحسب تسلسل للأحداث مضطرد؛ أو بحسب تصوير للأحداث متكرر(3) .

ــــــــــــــــــ
(1) صدر للرؤيا نحو مئتي تفسير.
(2) André Feuillet: l'Apocalypse- Etat de la question.
(3) Système de la Récapitulation.

ـ 15 ـ

ونظرية التاريخ العام للكنيسة والبشرية شاع في أواخر العهد الوسيط. وقد أخذ به العلاّمة الفرنسي بوسويه.

رأي ثالث : التفسير الأخروي الذي يرى في الرؤيا وصفاً لليوم الآخر في سيرة البشرية والكنيسة. وهو الذي شاع في العهد الحديث.

رأي رابع : التفسير الرمزي المطلق. فالرؤيا لا تذكر شخصاً ولا حدثاً تاريخيّاً. لكنها تصف القوانين العامة التي تسيّر ملكوت الله، فكل زمان يستضيء بها.

رأي خامس : الرؤيا تفسير لليوم الآخِر القريب على ظن صاحبها. وفيها بعض إشارات تاريخية.

رأي سادس : إنها رؤيا آجال الكنيسة السبعة في التاريخ العام وهو رأي لا تأييد له.

رأي سابع : إنها رؤيا تاريخية لأحداث الكنيسة منذ ارتفاع المسيح حتى نهاية القرن الأول، زمن كتابتها؛ حيث انتشرت عبادة (( الرب قيصر )) بدل عبادة (( الرب يسوع )) .

رأي ثامن : إنها تفسير اليوم الآخر، على ضوء اليوم الحاضر، في زمن كتابتها.

رأي تاسع : إنها ليست كتاب تاريخ، بل كتاب تعزية لأهل زمانه، وبهم لأهل كل زمان من المسيحيين : سينتصر المسيح والمسيحية!

رأي عاشر : إنها نبؤة عن اليوم الآخِر، مع إشارات إلى اليوم الحاضر.

رأي حادي عشر : الرؤيا صورة رمزية لمصير الكنيسة في البشرية بدون تحديد زمان وعهود، قد يستفيد منها كل عهد في كل زمان.

رأي ثاني عشر : الرؤيا كتاب دعوة دينية، كان على أساس علم الكلام المسيحي.

رأي ثالث عشر : الرؤيا وصف لانتشار الملكوت : نشأة الملكوت ( 6 : 1 ـ 11 : 13 )؛ الحملات الشيطانية المعاكسة ( 11 : 14 ـ 13 : 18 )؛

ـ 16 ـ

قضاء الله على المضطهدين ( 14 : 1 ـ 19 : 21 )؛ حكم الألف سنة ( 20 : 1 ـ 15 )؛ أخيراً أورشليم الجديدة ( ف 21 ـ 22 ).

رأي رابع عشر : إنها نبؤة في اليوم الآخِر وفي رجعة المسيح الظافرة.

رأي خامس عشر : رؤيا المسيح محور التاريخ. فالفصل (12) يقص مولده، وما قبله رؤيا العهد القديم، وما بعده رؤيا العهد الجديد.

رأي سادس عشر : إنها تاريخ اضطهاد دوميتيانس، بأسلوب رؤيا. فألقاب المسيح في الرؤيا هي ردّ على ألقاب دوميتيانس. وعـدد اسم الوحش ليس 666 بل 616 وهـو سـجل (( دوميتيانس قيصر 16 )) أي السنة السادسة عشرة من ولايته.

رأي ساب عشر : ليس للرؤيا صلات تاريخية؛ إنما هي رمز لانتصار المسيح وكنيسته، يتكرر في سلاسل سباعية.

رأي ثامن عشر : الرؤيا نبؤة في تاريخ الخلاص، بأساليب متنوعة، والموضوع واحد.

رأي تاسع عشر : الرؤيا سبعة آجال الكنيسة، في سبعة آجال البشرية فهي فلسفة تاريخ المسيحية في مصيرها، لا تاريخ المسيحية عينه.

رأي عشرون : بما أن الرؤيا (( نبؤة )) في أسلوب العهد القديم، فهي على غرار أسفار النبؤة القديمة، في الرؤيا الأولى، صراع المسيحية مع اليهودية؛ وفي الرؤيا الثانية صراع المسيحية مع الوثنية الرومانية. وهذا الرأي يستهوينا؛ فإن المدينة الملعونة في الرؤيا الأولى هي أورشليم (( حيث ربهم أيضاً صُلب )) ( 11 : 8 )؛ وفي الرؤيا الثانية هي رومة الوثنية، (( بابل العظيمة )) .

*

وقد ردّ بعضهم تلك التفاسير إلى سبعة(1) :

ـ التفسير الألفي الذي اعتمده الأقدمون.

ــــــــــــــــــ
(1) cf. l'Ami du Clergé 1961, pp. 257- 272.

ـ 17 ـ

ـ التفسير البياني، في تكرار العهود برموز مختلفة، بقيادة أغسطين العظيم ( مدينة الله ك 20 ف 17 ).

ـ تفسير التاريخ العام للكنيسة في البشرية الذي شاع في أواخر العهد الوسيط، وقد أخذ به المفكر الفرنسي الكبير بوسويه.

ـ التفسير الأخروي الذي يرى في الرؤيا وصفاً لليوم الآخِر من سيرة الكنيسة والبشرية. وهو الذي شاع في العهد الحديث.

ـ تفسير المقارنة بين الأديان. فليس في الرؤيا من نبؤة ولا من معجزة غيبية. وقد شاع هذا المذهب في القرن التاسع عشر.

ـ التفسير بالمصادر المختلفة، الذي شاع في مطلع القرن العشرين. وهذا المذهب يُظهر ما اختلف وما ائتلف في سفر الرؤيا الموحّد.

ـ التفسير بالتاريخ للمؤلف، وهو يرمز إلى المصير.

*

ونقدر أن نرد جميع التفاسير إلى ثلاث مدارس :

1) مدرسة التفسير التاريخي الذي يردّ الرؤيا إلى وصف اليوم الحاضر من الاضطهاد الروماني ( أو الإسرائيلي ـ الروماني ).

2) مدرسة التفسير الأخروي الذي يُرجع الرؤيا إلى وصف اليوم الآخر وأهواله. فليس فيها من تاريخ سوى رموز.

3) مدرسة المذهب الرمزي الذي يرى في الرؤيا وصفاً لليوم الآخر على ضوء اليوم الحاضر، الغارق في الاضطهاد. وهو مذهب جامع للتفسير التاريخي والتفسير الأخروي كلاهما.

ونحن نرى التفسير الحق في الأخذ بمبادئ المدارس الثلاث جميعاً؛ فإن الأسلوب عينه يتحمل ذلك وقد يقتضيه.

ففي عرفنا إن الرؤيا الأولى ( ف 4 ـ 11 ) تصف اضطهاد الكنيسة الأول على عهد الطاغية نيرون ـ وقد يكون الاضطهاد اليهودي للمسيحية هو الذي توسّل الاضطهاد الروماني، بواسطة زوجة نيرون اليهودية. والرؤيا

ـ 18 ـ

الثانية ( ف 12 ـ 16 ) تصف الاضطهاد الروماني الثاني، وتأخذ منه رمزاً لانتصار المسيحية في استشهادها عبر الأجيال.

وما الألف سنة المذكورة سوى كناية حرفية عن سيطرة المسيحية مدى ألف سنة، من هداية قياصرة رومة إلى المسيحية، حتى سقوط القسطنطينية، عاصمة المسيحية في الشرق، أو استعارة رمزية لمصير المسيحية في البشرية، ما بين نشأتها في الاضطهاد، وآخرتها في الاضطهاد، وسيطرتها على العالم في اضطهادها واستشهادها حتى خلاصها النهائي من براثين التنين ووحش البحر، ووحش البر، وانتصار المسيح وكنيسته في يوم الدين. نشأة في الدم، ونهاية في الدم، ويسر مع عسر بينهما، حتى سقوط (( بابل العظيمة )) الرمزية، وانتصار المسيحية العظيمة في يوم الدين.

إن معنى الرؤيا العام هو قراءة مسيحية جامعة لنبؤات العهد القديم. وعلى التخصيص، فالرؤيا نظرة جامعة لنبؤات الأنبياء في (( الأيام الأخيرة )) كنايةً عن العهد المسيحي منذ رفع المسيح حتى رجوعه ليوم الدين. وهذا ما كشف عنه السيد المسيح في خطابه ( مرقس 13 : 1 ـ 37 ) وفصّله يوحنا في رؤياه.

فالرؤيا (( نبؤة )) تاريخية ورمزية معاً لمصير المسيحية في البشرية. إنها سرّ الكنيسة في العالم، وصوفيّة المسيحية في البشرية.

أخيراً هذا هو رأيي الخاص.

إذا فهمت شيئاً من كتاب الرؤيا فهو هذا :

سفر الرسائل ( ف 1 ـ 3 ) يصور حياة الكنيسة والمسيحيين في زمن كاتبها. فهو يصوّر الواقع ويبني عليه (( النبؤة )) إلى المسيحيين، في أسلوب رؤيا.

سفر الرؤيا الأولى ( ف 4 ـ 11 )، من رؤيا تحضيرية، وحلقة تصميم في السماء ثم حلقة تحقيق على الأرض. وهذه الرؤيا الأولى تاريخية بمعنى أنها تصوّر اضطهاد اليهودية العالمية للمسيحية في نشأتها كما يظهر من ( 11 : 1 ـ 3 )؛ والذي توّجته باضطهاد نيرون، فحمل ظلمها أمام التاريخ، وصار في كتاب الرؤيا رمز الطاغية الأكبر المضطهد.

ـ 19 ـ

سفر الرؤيا الثانية ( 12 ـ 21 : 8 ) هو أيضاً من رؤيا تحضيرية ضُمّنت في الأولى ( ف 10 ) بمهارة فائقة، لربط الثانية بالأولى على سبيل التضمين؛ ومن حلقة تصميم في السماء، وحلقة تحقيق على الأرض. وهذه الرؤيا الثانية تمثل اضطهاد الدولة الرومانية للمسيحية حتى سقوط الوثنية فيها، وبدء حكم المسيح الألفي، الذي نراه في هداية القيصر قسطنطين حتى الفتح العثماني للقسطنطينية، عاصمة المسيحية في الشرق. ومنذئذٍ بدأ وحش البر، ووحش البحر، عملهما في تخريب المسيحية، بقيادة (( التنين )) ؛ كما بدأت سيطرة المسيحية العالمية تضعف.

فالمسيحية اليوم هي في عهد صراعها مع الوحشين، يقودهما التنين، حتى يوم الدين، يوم القضاء عليه وعليهما أجمعين.

ففي رأينا كان التاريخ تحقيقاً لنبؤة كتاب الرؤيا. فهي أعظم نبؤة غيبية نعرفها.

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	مليون قبطى اسلموا خلال 30 سنة	على نور الله	2	658	06-12-2012, 12:38 PM آخر رد: handy
	ما معنى قول المسيحي للمسلم إن المسيح ابن الله؟	إبراهيم	0	1,091	03-13-2012, 08:11 PM آخر رد: إبراهيم
	إثبات كذب وحى الميرزا غلام من خلال أقواله عن آدم	ابانوب	3	971	01-28-2012, 11:34 AM آخر رد: جمال الحر
	أيها الأخ المسيحي : هل لديك جواب من كتابك المقدس؟.	جمال الحر	19	3,193	12-13-2011, 06:47 PM آخر رد: جمال الحر
	حقيقة الجنة و الجحيم ...لا تحكموا على الإسلام من خلال فهم بعض الشيوخ	جمال الحر	23	5,034	11-23-2011, 05:36 PM آخر رد: جمال الحر