صوفية الرؤيا

يعترض فهم الرؤيا مشكلان : مشكل موضوعي في عهودها الثلاثة؛ ومشكل بياني في معنى حلقاتها السباعية الست ـ إذ إن حلقة الرسائل السبع مفهومة.

أولاً : عهود المسيحية الثلاثة

واقع الرؤيا بقسميها ( 4 ـ 11 ثم 12 ـ 19 ) يصف تاريخيّاً صراع المسيحية مع اليهودية العالمية حتى سقوط أورشليم (( هناك حيث صُلب

ـ 67 ـ

ربهم )) ؛ ورمزيّاً صراع المسيحية مع الوثنية الرومانية حتى سقوط رومة، (( بابل العظيمة )).

لكن في الفصل العشرين يظهر موجز لتاريخ المسيحية في البشرية : (( ورأيت ملاكاً هابطاً من السماء، ومعه مفتاح الهاوية، وبيده سلسلة عظيمة. فقبض على التنين، الحياة القديمة الذي هو إبليس والشيطان، وقيّده لألف سنة، وطرحه في الهاوية، وأقفلها وختم عليه، لئلا يُضلّ الأمم بعد، إلى تمام الألف سنة؛ وبعد ذلك سيُحل زماناً يسيراً )) ( 20 : 1 ـ 3 ). فهنا، بعد الاضطهاد اليهودي ثم الروماني، يأتي حكم المسيحية الألفي، ثم تجدّد الصراع في الزمن الأخير. فتلك عهود ثلاثة لمصير المسيحية.

العهد الأول هو الذي تصفه الرؤيا ( 4 ـ 19 ) : الاضطهاد اليهودي فالاضطهاد الروماني؛ وينتهي بحكم المسيحية الألفي.

العهد الوسيط هو حكم المسيح الألفي على (( المسكونة )) ـ وهو غير محدود. تذكره الرؤيا ولا تفصّله ( 20 : 4 ـ 6 ). لكنها تصفه (( بالقيامة الأولى )) ( 20 : 5 ) كأن النجاة من الاضطهاد الروماني هي قيامة من بين الأموات.

العهد الأخير، في اليوم الآخر، قبل يوم الدين، هو عهد صراع المسيحية الأخير مع الوثنية العالمية، (( الأمم الذين في زوايا الأرض الأربع ـ جوج وماجوج )) ( 20 : 8 ). وتذكره الرؤيا في ( 20 : 7 ـ 10 ).

تلك هي عهود المسيحية الثلاثة بحسب الفصل العشرين. ففي الرؤيا سرّ أصغر تكشف عنه وهو سر صراع المسيحية مع الوثنية الرومانية حتى هدايتها وظهور المسيحية عليها؛ وسرّ أكبر تكشف عنه الرؤيا في الفصل العشرين؛ فتذكره ولا تفصّله. وهو صراع المسيحية الأخير مع الوثنية العالمية، في اليوم الآخر.

فإذا نظرنا إلى هذه العهود الثلاثة، التي لا تفصّل الرؤيا إلاّ العهد الأول منها، وتكتفي بذكر العهد الوسيط، حكم المسيح الألفي، والعهد الأخير،

ـ 68 ـ

حينئذٍ يصحّ القول بأن رؤيا يوحنا هي كشف عن سرّ الكنيسة والمسيحية في العالم عبر التاريخ كله حتى يوم الدين ( 20 : 11 ـ 15 ).

تلك هي صوفية الرؤيا في عهودها الثلاثة.

*

ثانياً : معنى الحلقات السباعية في الرؤيا

هذا هو المشكل البياني في فهم الرؤيا بحلقاتها السباعية : حلقة الرسائل السبع ( 1 : 9 ـ 3 : 22 ) وحلقة الأختام السبعة ( 6 ـ 7 ) وحلقة الأبواق السبعة ( 8 ـ 9 ) وحلقة الآيات السبع ( 12 : 1 ـ 15 : 8 ) وحلقة الجامات السبعة (16) وحلقة الأصوات السبعة في دينونة (( بابل )) ( 17 : 1 ـ 19 : 10 )، وحلقة الرؤى السبع، في دينونة التنين والوحش والنبي الكذاب، ثم ظهور أورشليم الجديدة النازلة من السماء (19 : 11 ـ 22 : 5) فهي سبع حلقات، عدد الكمال والشمول للتاريخ كله.

فهل هي سبعة عهود للمسيحية، كما فهم بعضهم، أم ما السر في ذلك ؟

لقد رأينا أن إشارات الكتاب، مع أخبار التاريخ، تشير إلى تدوين رؤيا أولى تاريخية يصف اضطهاد نيرون للمسيحية، بدس اليهودية، وانتصار المسيحية بالشهادة والاستشهاد في ثلاث حلقات سباعية : الأختام ( 6 ـ 7 ) والأبواق ( 7 ـ 8 ) والأصوات ( 17 : 1 ـ 19 : 10 ). كما تشير أيضاً إلى رؤيا ثانية رمزية نبوية تصف اضطهاد الوثنية الرومانية المقبل للمسيحية والكنيسة، بإيعاز من التنين والوحش والنبي الكذاب، وينتهي بحكم المسيح الألفي مع قديسه؛ وذلك في ثلاث حلقات سباعية أخرى : الآيات ( 12 : 1 ـ 15 : 8 ) والجامات (16) والرؤى ( 19 : 11 ـ 22 : 5 ). وكل حلقة تستفتحها رؤيا إعدادية، برسالة جديدة يتسلمها النبي الرائي، وتفسّر مدلول الحلقة الآتية.

إن حلقة الرسائل السبع صريحة، تغني بذاتها عن كل تفسير.

ثم إن الحلقة الثالثة في كلٍّ من السفرين الآخرين، لا خلاف فيها : فإن حلقة الأصوات السماوية التي تختم سفر الرؤيا (( الأولى )) ( 17 :

ـ 69 ـ

1 ـ 19 : 10 ) تصف دينونة رومة نيرون، بحسب رمز الوحش (( ذي الرؤوس السبعة والقرون العشرة )) ؛ كما أن حلقة الرؤى السماوية ( 19 : 11 ـ 22 : 5 ) التي تختم سفر الرؤيا (( الثانية )) تصف دينونة رومة الوثنية الممثلة بالتنين والوحش والنبي الكذاب، والتي تنتهي بحكم المسيح الألفي.

بقيت الحلقتان الأوليان من كل سفر من الاثنين : فما سرهما ؟

نجزم بأنهما سفرين جُمعا معاً، كما رأينا.

ثم نجزم بأن كلاً من السفرين مؤلف من حلقتين : الأولى فيهما أي الأختام (6 ـ 7) والآيات ( 12 : 1 ـ 15 : 5 )، تدل الإشارات فيهما على أنهما تصميم يتم في السماء؛ ثم تأتي حلقة الأبواق ( 8 ـ 9 ) وحلقة الجامات (16) لتحقيقه على الأرض. وإليك البيان :

1 ـ سفر الرؤيا الأولى ( 5 ـ 11 )

1) يستفتحه برؤيا إعدادية عامة يظهر فيها العلي القديم على عرشه في السماء (4) يسلّم (( الحمل، أسد يهوذا )) سفراً مختوماً فيه أقدار أهل الأرض (5).

فيأخذ الحمل السفر المختوم، ويفض أختامه، فتظهر الأقدار المكتوبة فيه ( 6 ـ 7 ). (( ولمّا فتح الختم السابع حدث سكوت في السماء نحو نصف ساعة )) ( 8 : 1 ). وهذا يدل حرفيّاً على أن حلقة الأختام السبعة تتم في السماء، على سبيل التصميم والتقدير.

ثم تأتي رؤيا إعدادية خاصة ( 8 : 2 ـ 6 ) نرى فيها ملائكة الحضرة السبعة، الملائكة المقربين، يستلمون سبعة أبواق؛ (( وتهيأ الملائكة السبعة الذين معهم الأبواق السبعة لينفخوا فيها )) ( 8 : 6 )؛ فيما يأخذ ملاك جبار مجمرة فيها البخور، رمز صلوات القديسين الشهداء؛ ويرفعها أمام الله دعاء، فيستجيب القدير الدعاء في السماء من الشهداء. حينئذٍ (( أخذ الملاك المجمرة وملأها من نار المذبح، وألقاها على الأرض، (( فحدث رعود وأصوات وبروق وزلازل! وتهيّأ الملائكة السبعة الذين معهم الأبواق السبعة لينفخوا فيها )) . وهكذا ننتقل في هذه الرؤيا الإعدادية الأخرى

ـ 70 ـ

( 8 : 2 ـ 6 ) من السماء إلى الأرض، لكي نشاهد تصميم الأختام في السماء يتحقق على الأرض في حلقة الأبواق السبعة ( 8 : 7 ـ 11 : 15 ما عدا 10 : 1 ـ 11 : 13؛ فهما رؤيا تضمينية ثم رؤيا استطرادية ).

(( ونفخ الملاك السابع في بوقه، فانبعثت في السماء أصوات عظيمة تقول : إن ملك العالم قد صار لربنا ولمسيحه، فهـو يملك إلى دهر الدهور )) ( 11 : 15 ). فانتهت الرؤيا (( الأولى )) بملك المسيح وكنيسته، بالرغم من اضطهاد نيرون، بدس اليهودية العالمية.

2) وفي الحلقة الثالثة، من هذا السفر الأول، حلقة الأصوات ( 17 : 1 ـ 19 : 8 ) نرى دينونة رومة نيرون، الوحش (( الذي كان، وليس بكائن، وهو موشك أن يطلع من الهاوية، ويذهب إلى الهلاك )) ( 17 : 7 ـ 11 ). وارتداد الوحش مع قرونه العشرة على رومة (( يأكلون لحمها ويحرقونها بالنار )) هو إشارة إلى حريق رومة، بواسطة نيرون نفسه (17 : 16 قابل 9 : 18).

والتناسق قائم بين التصميم في السماء والتحقيق على الأرض، يؤيد ذلك وقوف ملوك الأرض من بعيد يشاهدون دخانها ( 18 : 9 ـ 10 ).

والنبي الرائي يشاهد أيضاً انتصار المسيحية على وثنية رومة نيرون. ويعلن الصوت السابع، وهو (( صوت جمع كثير، كصوت مياه غزيرة، كصوت ريح شديدة، قائلة : الحمد لله، فإن الرب إلهنا، القدير نفسه، قد ملك! فلْنفرحْ ونبتهجْ، ولْنشدْ بمجده، لأن عرس الحمل قد حضر! ولأن عروسَه قد هيأت نفسها، وأوتيت أن تلبس بَزّاً بهيّـاً نقيّـاً )) ( 19 : 6 ـ 8 )، (( والبز هو مبرّات القدّيسين )) ( 19 : 8 ).

ويطرب يوحنا لمرأى عرس الحمل : (( وقال لي الملاك : اكتبْ : طوبى للمدعوين إلى وليمة عرس الحمل )) ( 19 : 9 ).

ثم يصف لنا عروس الحمل، المدينة المقدسة، أورشليم الجديدة. ولها صورة ضمن صورة : أورشليم الجديدة الأرضية موصوفة ضمن أورشليم الجديدة السماوية ( 21 : 1 ـ 22 : 5؛ وضمنها 21 : 9 ـ 27 )، كأن الأرضية صورة عن السماوية.

ـ 71 ـ

ويختم يوحنا سفر الرؤيا التاريخية : (( وقال لي أيضاً : تلك هي أقوال الله الحقيقية! فخررتُ عند قدميه لأسجد له. فقال لي : إيّاك أن تفعل، فإني نظيرك في الخدمة، ونظير إخوتك الذين يحفظون الشهادة ليسوع، فاسجد لله )) ( 19 : 9 ـ 10 ). ويذيّل السفر بهذه الخاتمة : (( فإن الشهادة ليسوع هي روح النبوة )) ( 19 : 10 ).

فتقتصر إذن هذه الرؤيا (( الأولى )) في عرْف الرائي، على الاستشهاد والشهادة ليسوع، لا على التاريخ النبوي لمصير الكنيسة في العالم. فهي محدودة الزمان والمكان والموضوع.

3) ولنا البرهان القطعي في فهمها حقّ فهمها، بحل رموزها كما فسّرها النبي الرائي نفسه ( 17 : 7 ـ 11 ) :

فالوحش هو نيرون، (( الذي كان، وليس بكائن، وهو موشك أن يطلع من الهاوية )) (17 : 8). ويفسّر النبي الرائي رجعة نيرون بشخص دوميتيانس : (( أما الوحش الذي كان، وليس بكائن، فهو ملك ثامن، إلاّ أنه من السبعة، ويذهب هو أيضاً إلى الهلاك )) (17 : 11).

ثم يؤرّخ زمن كتابة سفر الرؤيا (( الأولى )) بتورية، قال : (( وسكان الأرض، الذين لم تُكتب أسماؤهم في سفر الحياة، منذ إنشاء الكون، سيتعجبون إذ يرون الوحش كيف كان، وليس بكائن، ويظهر أيضاً. هنا ينبغي الفهم المتحلّي بالحكمة : فالرؤوس السبعة هي سبع آكام عليها المرأة جالسة؛ وهي أيضاً سبعة ملوك، خمسة منهم هلكوا، وواحد موجود، والآخر لم يأتِ بعد، وإذا أتى لا يبقى إلاّ قليلاً، ويذهب هو أيضاً إلى الهلاك )) ( 17 : 8 ـ 11 ).

وقد رأينا أن العدّ الأصحّ يبدأ بالأباطرة القياصرة. فيكون الملك الموجود هو فسبزيانس ( عام 69 ـ 79 )؛ وخليفته الذي (( متى جاء لا يبقى إلاّ قليلاً )) هو تيطس ( عام 79 ـ 81 ). فسفر الرؤيا الأولى دُوّن على زمن فسبزيانس، وعلى الأصح بعد الحرب السبعينية، حيث قضى الرومان على أورشليم، والدولة والأمة. فكان السفر تحقيقاً لنبؤة المسيح في خراب أورشليم الكافرة به.

ـ 72 ـ

4) ولنا على تاريخية الرؤيا (( الأولى )) ، وتحديد زمن كتابتها، بعهد نيرون ـ فسبزيانس، دلائل من الإشارات في حلقة الأختام ( ف 6 )، إلى حوادث تاريخية :

فالفارس الأول ( 6 : 1 ـ 2 ) قد يشير إلى انتصار ملك البرثيين، هولاكو القديم Vologèse عام 62 على الجيوش الرومانية.

والفارس الثاني ( 6 : 3 ـ 4 ) الذي ينفي السلام عن الأرض ويثير مذابح أهلية، قد يشير إلى الحرب الرومانية الأهلية التي ثارت عام 69 بين الجيوش الرومانية وقادتها جلْبا وأوتون وفيتاليوس وفسبزيانس، على خلافة نيرون.

والفارس الثالث ( 6 : 5 ـ 6 ) الذي يثير المجاعة في الإمبراطورية قد يشير إلى المجاعات التي رافقت حكم نيرون، كما ذكر المؤرخون الرومانيون.

والفارس الرابع ( 6 : 7 ـ 8 )، واسمه (( موت )) تتبعه (( جحيم )) قد يكون إشارة إلى أوبئة الطاعون التي حلت عام 65 بشهادة تاشيتوس ( عام 26 ف 13 ).

وتوجز الرؤيا توريات الفوارس الأربعة، بأنهم (( قد سُلّطوا على ربع الأرض ( الدولة الرومانية ) ليهلكوا بالسيف وبالجوع وبالطاعون وبوحوش الأرض )) ( 6 : 8 ) ـ كما يروي تاريخهم عن حكم نيرون الطاغية.

5) وفي حلقة الأختام أيضاً تورية (( الويلات )) الثلاثة :

ففي القسم الأول من حلقة الأختام يذكر الأفراس الأربعة تورية عن رومة نيرون؛ وفي القسم الثاني منها، مع الأفراس الثلاثة الأخيرة، تظهر قصة (( الويلات )) الثلاثة. وقد وجد بعضهم أن تلك الويلات قد تعني الحرب الرومانية ـ اليهودية سنة السبعين، على أعقاب اضطهاد المسيحيين، بدس اليهود. ومن تفصيل المؤرخ اليهودي يوسيف لتلك الحرب القاضية، يرون أنّ :

الويل الأول ( 9 : 1 ـ 12 ) يرمز إلى الثورات التي سبقت الحرب، على عهد الولاية فلورس.

ـ 73 ـ

والويل الثاني ( 9 : 13 ـ 21 ) الذي يطلق الملائكة الأربعة على الفرات قد يرمز إلى حملة سستيوس الذي قاد أربعة فيالق معظمها من ناحية الفرات.

والويل الثالث ( 11 : 14 ) يذكره يوحنا ولا يفصله. فقد يكون خراب المدينة المقدسة والهيكل؛ والاستعاضة عن هيكل الأرض بهيكل السماء، حيث تابوت الله الحق (11 : 19).

وهكذا يظهر سفر الرؤيا (( الأولى )) ( 4 ـ 11 ) صورة رمزية تاريخية لعهد نيرون، في اضطهاد المسيحية الذي أعقبته الحرب الرومانية اليهودية سنة سبعين.

6) ختام سفر الرؤيا (( الأولى )) صريح مع (( البوق السابع )) ( 11 : 15 ).

بعد ذكر الويل الثالث ( 11 : 14 ) المنبئ بخراب أورشليم، (( نفخ الملاك السابع في بوقه، فانبعث في السماء أصوات عظيمة تقول : (( إن ملك العالم قد صار لربنا ومسيحه )) (11 : 15)، فقامت المسيحية على أنقاض أورشليم ـ اليهودية، وعلى دماء شهداء نيرون.

وختام السفر يظهر ببراعة فنية بذكر التصدير في الرؤيا الإعدادية له، حيث الأربعة والعشرون شيخاً يسجدون لله وللحمل ( 4 : 4 و 10 ) كما يفعلون في ختام النبؤة ( 11 : 16 )؛ وكما انفتح في المطلع هيكل الله السماوي ( 4 : 1 ) ينفتح أيضاً في الختام (( هيكل الله الذي هو في السماء )) ( 11 : 19 ).

وكما ربط الرسل الصحابة مصير العالم بمصير أورشليم اليهودية ربطاً بيانيّاً ( متى 24 : 3 )، تربط الرؤيا بين مصير أورشليم الممثل (( بالويل الثالث )) ( 11 : 14 )، ومصير العالم : (( لقد غضبت الأمم، وأتى غضبك، وكذلك الزمن، لتدين الأموات، وتولي الثواب لعبيدك الأنبياء والقديسين والذين يتـّقون اسمك صغاراً وكباراً؛ وتدمّر الذين دمّروا الأرض )) ( 11 : 18 ).

أخيراً، بعد ذكر الدينونة ( 11 : 18 ) تنفتح السماء، (( وظهر تابوت عهد الله في هيكله؛ وحدثت بروق وأصوات ورعود وبرد عظيم وزلزال )) ( 11 : 19 ) كما وصف السيد المسيح اليوم الآخر. وهذه الخاتمة للسفر،

ـ 74 ـ

يرادفها خاتمة سفر الرؤيا الثانية : (( ورأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة )) ( 21 : 1 ).

فختام سفر الرؤيا (( الأولى )) صريح.

7) ولنا شاهد آخر من لغة الكتاب نفسها

فهو يسمي نفسه حيناً (( رؤيا )) وطوراً (( نبؤة )) . وما بين النبؤة والرؤيا فارق جوهري. فالرؤيا ـ كما عند دانيال ـ هي نظرة إلى الماضي لإحيائه بأسلوب نبوي. بينما النبؤة هي نظرة للحاضر والمستقبل، لتصويره بأسلوب نبوي. فلا يستويان.

لذلك فصفة (( رؤيا )) تنطبق حصراً على سفر الرؤيا الأولى التي تصف انتصار المسيحية والكنيسة، عروس المسيح، على رومة نيرون، باستشهاد أبنائهـا، وشهادتهم ليسوع! (( والشهادة ليسوع هي روح النبؤة )) ( 19 : 10 ) إذا أطلقنا عليها صفة (( نبؤة )) كما نطلقها على رؤيا دانيال.

ولذلك فصفة (( نبؤة )) ( 22 : 7 و10 و18 ) تنطبق حصراً على سفر الرؤيا الثانية التي تصف انتصار المسيحية والكنيسة على الدولة الرومانية بهدايتها للمسيحية، وملك المسيح الألفي مع كنيسته على (( المسكونة )) . فهذه هي (( نبؤة )) بأسلوب (( رؤيا )) رآها في جزيرة بطمس ( 1 : 10 )، في منفاه، على زمن اضطهاد دوميتيانس للمسيحية سنة 95 ـ 96.

2 ـ سفر الرؤيا الثانية ( 12 ـ 22 )

إن تجديد الاضطهاد الروماني للمسيحية حمل يوحنا على وصف مصير المسيحية في الدولة الرومانية الوثنية حتى انتصار الكنيسة وحكم المسيح الألفي. ففعل ذلك على غرار سفر الرؤيا الأولى، لكن بأبعاد جديدة.

والفارق الأكبر بين الرؤيَيَين أن (( ابن البشر )) هو الشاهد والدليل في سفر الرؤيا الأولى؛ بينما دليل الرائي في سفر الرؤيا الثانية هو ملاك الوحي ( ف 10 ).

والسفر الأول (( شهادة ليسوع )) ؛ بينما الثاني هو (( نبؤة )) عن مصير

ـ 75 ـ

المسيحية كما يؤكد في ختامها ( 22 : 7 و10 و18 )، وأن ظل هو أيضاً شهادة ليسوع في كنيسته.

وكان السفر الأول (( سفراً مختوماً )) ( 5 : 1 )؛ بينما الثاني هو (( سفر مفتوح )) (10 : 2)، لم ينقضِ زمانه.

1) ففي رؤيا إعدادية ( ف 10 ) ـ ضمّنوها عند الجمع في خواتم سفر الرؤيا الأولى، لربط السفرين بعضهما ببعض، كأنهما ينبثقان بعضهما عن بعض ـ يظهر ملاك الوحي للنبي الرائي، ويكلفه برسالة جديدة : (( لا بدّ لك من أن تتنبأ من جديد عن شعوب وأُمم وألسنة وملوك كثيرين )) ( 10 : 11 ). فالموضوع يختلف عن سفر الرؤيا الأولى. وقوله (( من جديد )) شاهد بأنها نبؤة جديدة، في سفر جديد.

2) وتأتي حلقة (( الآيات )) السبع تصف تصميم المصير في السماء ( 12 : 1 ـ 15 : 1 ). يظهر ذلك من تركيز الرائي على ذكر السماء عند ظهور كل (( آية )) منها : (( ثم ظهر في السماء آية عظيمة : امرأة ملتحفة بالشمس )) ( 12 : 1 )؛ (( وظهرت آية أخرى في السماء )) ( 12 : 3 )؛ (( حينئذٍ نشب قتال في السماء )) ( 12 : 7 ) رمزاً للصراع على الأرض؛ ثم يرى من السماء وحشاً طالعاً من البحر ( 13 : 1 ) ووحشاً طالعاً من البرّ (13 : 11)؛ (( ورأيت ملاكاً آخر يطير في وسط السماء، ومعه الإنجيل الأبدي ليبشر به أهل الأرض )) ( 14 : 6 )؛ (( ثم رأيت، فإذا سحابة بيضـاء، وعلى السحابة جالس شبه ابن البشر )) ( 14 : 14 )؛ (( وخرج ملاك آخر من الهيكل الذي في السماء )) ( 14 : 17 ). ويختم بالآية السابعة : (( ثم رأيت آية أخرى في السماء، عظيمة ومذهلة، سبعة ملائكة ومعهم الضربات السبع الأخيرة، لأنه بها يتم سخط الله )) ( 15 : 1 ). فهذا التركيز المتواتر لذكر السماء برهان على أن حلقة (( الآيات )) السبع هي تصميم في السماء، لِمَا سيتحقق على الأرض.

3) وبين حلقة (( الآيات )) للتصميم، وحلقة (( الجامات )) للتحقيق، فاصل نرى فيه شهداء المسيح من بني إسرائيل ومن الأمميين ينشدون لله

ـ 76 ـ

(( نشيد موسى ونشيد الحمل )) ، يطلبون تحقيق عدل الله على الأرض ( 15 : 2 ـ 4 ).

4) ويستفتح النبي الرائي حلقة الجامات. للتحقيق على الأرض، برؤيا إعدادية يرى فيها (( الملائكة السبعة الذين معهم الضربات السبع ( قابل 15 : 1 ) يخرجون من الهيكل (السماوي) ... وقد ناول أحد الحيوانات الأربعة الملائكة السبعة سبعة جامات من ذهب مملوءة من غضب الله، الحي القيوم ... وسمعتُ صوتاً عظيماً من الهيكل ( السماوي ) يقول للملائكة السبعة : اذهبوا وصبّوا جامات غضب الله على الأرض )) ( 15 : 5 ـ 16 : 1 ).

فهذه الرؤيا الإعدادية تنقلنا من السماء إلى الأرض للتحقيق والتنفيذ.

5) وللحـال تأتي حلقة (( الجامات )) السـبعة تصف التحقيق والتنفيذ على الأرض : (( فذهب الأول وصبّ جامه على الأرض )) ( 16 : 2 )؛ (( وصبّ الثاني جامه على البحر )) ( 16 : 3 )؛ (( وصبّ الثالث جامه على الأنهار، وعلى ينابيع المياه )) ( 16 : 4 )؛ (( وصبّ الرابع جامه على الشمس، وأُبيح لها أن تحرق الناس بنارها )) ( 16 : 8 )؛ (( وصبّ الخامس جامه على عرش الوحش فأظلمت مملكته )) ( 16 : 10 )؛ (( وصبّ السادس جامه على الفرات، النهر العظيم، فجفّ ماؤه ليتهيّأ الطريق للملوك الآتين من مشرق الشمس )) ، البرثيين أعداء رومة الدائمين ( 16 : 12 )؛ (( وصبّ السابع جامه على الهواء ... فحدثت بروق وأصوات وروعود، ثم زلزلة عنيفة لم يكن قط مثلها، منذ كان الإنسان على الأرض ... ونزل من السماء على الناس برد ضخم بقدر الوزنة! وجدّف الناس على الله لضربة البرد، لأن ضربة ذاك البرد كانت هائلة )) ( 16 : 17 ـ 21 ).

ـ هنا تأتي آية قدّمها جامع الرؤيا : (( وخرج صوت عظيم من الهيكل ( السماوي ) من جهة العرش، يقول : (( لقد تمّ )) ! ( 16 : 17 ). أجل لقد تمّ انتقام الله من رومة الوثنية، وانتصار المسيحية عليها بدم الشهداء. وفي قوله (( لقد تمّ )) تورية لطيفة لقول السيد المسيح على الصليب، الذي بموته واستشهاده (( تمّ )) نصره، كما يتم نصر المسيحية على الوثنية، بالاستشهاد.

6) ثم تأتي الحلقة الختامية، حلقة الرؤى السبع ( 19 : 11 ـ 22 : 5 )

ـ 77 ـ

تصف انتصار (( كلمة الله )) ، الفارس (( الأمين )) و (( الصادق )) على وحش البر ووحش البحر ( 19 : 11 ـ 20 ) وعلى التنين نفسه ( 20 : 1 ـ 3 )؛ ثم تنوّه بملك المسيح الألفي، أي لزمن غير محدود ( 20 : 4 ـ 6 ). ولتتمة تصوير مصير المسيحية في العالم، بعد حكم المسيح الألفي، يختم النبي الرائي بوصف الصراع الأخير بين المسيحية والوثنية العالمية الممثلة يجوج وماجوج ( 20 : 7 ـ 10 ) قبل وصف يوم الدين (20 : 11 ـ 15). وبوصفه نصل إلى ختام الحياة الدنيا : (( وقال الجالس على العرش : ها أني أجعل كل شيء جديداً ... وقال لي أيضاً : لقد تمّ! أنا الألف والياء، أنا المبدأ والمعاد )) ... ( 21 : 5 ـ 8)(1) ـ وهي المرة الوحيدة التي فيها ينطق الله نفسه في الكتاب كله.

7) وفي رؤيا ختامية جامعة يصف (( أورشليم الجديدة )) بسبعة مشاهد ( 21 : 1 ـ 22 : 5 ). فيصف أورشليم الجديدة الأرضية ( 21 : 9 ـ 25 ) في أورشليم الجديدة السماوية ( 21 : 1 ـ 22 : 5 ) على سبيل التضمين(2) ، كأن الأرضية صورة عن السماوية. ويستجمع الصورتين للكنيسة، أورشليم الجديدة، في قوله : (( هلمّ فأريك العروس، قرينة الحمل ... وأراني المدينة المقدسة، أورشليم، نازلة من السماء من عند الله )) ( 21 : 9 ـ 10 ). فالكنيسة الأرضية هي أيضاً سماوية، على مثال الكنيسة السماوية : فالله بانيها، لا البشر.

8) أخيراً يأتي ختام الرؤيا (( الثانية ))

(( حينئذٍ قال لي ( الملاك ) : إن هذه الأقوال يقين وحق. وإن الرب الإله الذي يوحي إلى الأنبياء قد أرسل ملاكه ليري عباده ما سيكون عن قريب. ها أنا ذا آتٍ عن قريب : فطوبى لمن يحفظ أقوال هذا الكتاب النبوية )) ( 22 : 6 ـ 7 ). ويكرر قوله : (( ها أنا ذا آتٍ عن قريب )) ( 22 : 12 و20 )، وهو يظهر غاية يوحنا من كتابة سفر الرؤيا (( الثانية )).

ــــــــــــــــــ
(1) هذا المقطع ( 21 : 5 ـ 8 ) هو تتمة مشهد يوم الدين ( 20 : 11 ـ 15 ) ورد خطأ عند جمع السفرين، في رؤيا أورشليم الجديدة ( 21 : 1 ـ 22 : 5 ).
(2) أسلوب التضمين يوضح ما يتخبط فيه المفسرون في وصف الأرضية ضمن السماوية.

ـ 78 ـ

فهو لا يعنيه ملك المسيح الألفي، ولا الصراع الأخير قبل يوم الدين بين المسيحية والوثنية العالمية، اللذين يذكرهما بطريقة عابرة، ولا يفصلهما ( 20 : 4 ـ 10 ) كما فصل اضطهاد نيرون التاريخي بدس اليهودية في سفر الرؤيا الأولى ( 4 ـ 11 مع 17 ـ 19 : 10 ) واضطهاد الدولة الرومانية النبوي في سفر الرؤيا الثانية ( 12 : 16 مع 19 : 11 ـ 22 : 5 ). وهذا يدل على أن غاية يوحنا هي حصراً الاضطهاد الروماني، من خاتمة السفر التي تركز الاهتمام على وعد يسوع المتواتر : (( ها أنا آتٍ عن قريب )) ( 22 : 7 و12 و20 ). فليس كتاب رؤيا يوحنا في موضوعه الأساسي تاريخاً نبويّاً للمسيحية عبر الأجيال كلها، كما زعموا في القرون الأولى، قبل هداية الدولة الرومانية إلى المسيحية؛ ولا تفصيلاً لعهود المسيحية السبعة في تاريخ البشرية، كما زعموا في القرون الوسطى؛ ولا تمثيلاً لحياة المسيحية على عهد يوحنا الرسول، كما يقولون في العصر الحديث.

ومع حصر كتاب الرؤيا كله بالاضطهاد الروماني وحده تظل قيمته النبوية عظيمة، مثل نبؤة السيد المسيح عن خراب أورشليم والهيكل، رمزاً لنهاية إسرائيل (( عن قريب )) ؛ فهو نبؤة ضخمة لانتصار المسيحية على الوثنية الرومانية (( عن قريب )) أيضاً، ولو كان بعد ثلاثماية سنة.

ثم يأتي ختام سفر الرؤيا الثانية مثل ختام الأولى : (( وأنا يوحنا سمعت ورأيت ذلك. وبعد أن سمعت ورأيت، خررت لأسجد أمام قدمَي الملاك، فقال لي : إياك أن تفعل، فإني نظيرك في الخدمة، ونظير إخوتك الأنبياء، والذين يحفظون أقوال هذا الكتاب : فاسجد لله )) (22 : 8 ـ 9، قابل 19 : 10). فهذه الخاتمة المكررة بالحرف الواحد هي دليل من الأدلة على أنهما خاتمتان لسفرين جُمعا في كتاب واحد.

والقول الفصل إن كتاب الرؤيا هو صوفية المسيحية في العالم. ويتألف من ثلاثة أسفار جمعت في كتاب واحد : سفر الرؤيا الأولى في اضطهاد اليهودية ونيرون للمسيحية، الذي ينتهي بخراب أورشليم اليهودية، (( هناك حيث صلب ربهما )) ( 11 : 8 )؛ وسفر الرؤيا الثانية في اضطهاد الدولة الرومانية للمسيحية، الذي ينتهي بسقوط رومة، (( بابل العظيمة )) ، (( المدينة العظيمة المالكة على ملوك الأرض )) ( 17 : 18 ).

ـ 79 ـ

فكل سفر من الرؤيَيَين مؤلف من ثلاث حلقات، بعد رؤيا إعدادية لكل منهما : حلقة للتصميم في السماء، وحلقة للتحقيق على الأرض، وحلقة لإعلان انتصار المسيحية والكنيسة، (( أورشليم الجديدة )) . وذلك كله قبل إعلان حكم المسيح الألفي مع قديسيه. وهذا يبرهن برهاناً قاطعاً أن كتاب الرؤيا كله يتعلق فقط بصراع المسيحية مع أورشليم الظالمة الكافرة ثم مع رومة الوثنية الفاجرة.

وسفر الرسائل النبوية السبع ( 1 ـ 3 ) يصف حالة الكنائس السبع التي ضعضعها الاضطهاد من خارج، والبدعة من داخل. وفيها تكثر الإشارات إلى سفر الرؤيا الثانية، وإلى هرطقة النيقولائيين، وإلى اليهودية الباغية، (( مجمع الشيطان )) ( 2 : 9؛ 3 : 9 ). ولا إشارة فيها إلى اضطهاد قائم. فهذه كلها دلائل على أن سفر الرسائل كُتب بعد السفرين الآخرين.

فجاءت مدرسة يوحنا في أفسس، وجمعت الأسفار الثلاثة في كتاب واحد، وجعلت سفر الرسائل تقديماً لسفرَي الرؤيا الأولى والرؤيا الثانية.

فالرؤيا كلها، في أسفارها الثلاثة، مجتمعة أو متفرقة، تصف رمزياً سرّ كنيسة المسيح في البشرية. إنها في صراع دائم مع اليهودية الظالمة، ومع البشرية الوثنية. لكن النصر مكتوب لها، على طريقة معلمها الإلهي، أي بالاستشهاد : انها تستشهد لتنتصر! فكما قال هو على الصليب : (( لقد تمّ )) ، تقول هي في نصرها واستشهادها بقول الله نفسه : (( لقد تمّ )) ( 21 : 6 ).

تلك هي صوفية الرؤيا.

* * *

تسجيل الدخول
اسم المستخدم:
كلمة المرور:	فقدت كلمة المرور؟
	تذكرني

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع		الكاتب	الردود	المشاهدات	آخر رد
	مليون قبطى اسلموا خلال 30 سنة	على نور الله	2	658	06-12-2012, 12:38 PM آخر رد: handy
	ما معنى قول المسيحي للمسلم إن المسيح ابن الله؟	إبراهيم	0	1,091	03-13-2012, 08:11 PM آخر رد: إبراهيم
	إثبات كذب وحى الميرزا غلام من خلال أقواله عن آدم	ابانوب	3	971	01-28-2012, 11:34 AM آخر رد: جمال الحر
	أيها الأخ المسيحي : هل لديك جواب من كتابك المقدس؟.	جمال الحر	19	3,193	12-13-2011, 06:47 PM آخر رد: جمال الحر
	حقيقة الجنة و الجحيم ...لا تحكموا على الإسلام من خلال فهم بعض الشيوخ	جمال الحر	23	5,034	11-23-2011, 05:36 PM آخر رد: جمال الحر