فاتورة الانسحابات الخطرة
بهدوء وبقليل من بعد النظر والتروي في شأن لبنان، أقول ان الانسحاب الاسرائيلي الانفرادي من جنوب لبنان هو الذي ادى الى انسحاب سوريا الاخير، لا المظاهرات ولا غيرها، اعرف تماما مغزى بداية مقالي بعبارات صادمة كهذه، لكنني استخدم هذه المقولة مثل استخدام السكين لنقطع ما تحت القشرة في تحليل الانسحاب السوري من لبنان وتبعاته واخطاره المحتملة على مستقبل الاستقرار في لبنان وفي سوريا ايضا، في سياق انفلات أمني يكتسح المنطقة باسرها، من الدار البيضاء مرورا بالقاهرة فالرياض فبغداد.اذا ما قبلنا بهذه المقولة فاننا بذلك نضع اغتيال الحريري ومن قبله محاولة اغتيال مروان حمادة، وكذلك تمديد رئاسة اميل لحود وتعديل الدستور، نضع كل هذا ضمن سياق اوسع لا يكشف لنا مستقبل لبنان فقط وانما يضيء لنا الطريق لقراءة تكلفة هذا الانسحاب على الداخل السوري وعلى أمن المنطقة.

اي دارس لموضوعي السياسة والأمن يدرك ان خروج اسرائيل احادي الجانب من جنوب لبنان خلف وراءه فراغا سياسيا وأمنيا ادى الى خلخلة بنيتي الأمن والسياسة في لبنان، فأيا كانت قوة سوريا في لبنان فهي لا تستطيع ملء الفراغ الأمني المفاجئ، وللمتشككين في ذلك اضرب مثل اكبر قوة في العالم وهي الولايات المتحدة الأميركية وعدم قدرتها على ملء الفراغ الأمني والسياسي الذي خلفه انهيار اجهزة الدولة العراقية ليس في العراق كله، وانما في المثلث السني فقط. فأنى لسوريا وهي الاقل عدة وعتادا ان تملأ هذا الفراغ في يوم وليلة؟! قراءة اوضاع معقدة سياسيا وأمنيا كهذه تتطلب الهدوء والروية ان اردنا ان نتجنب دفع فاتورة التحليل العاطفي او التحليل بالتمني.

«النقطة الاساسية هنا هي ان ما حدث في لبنان منذ عام 2000 اي بعد الخروج الاسرائيلي هو نتيجة لمجموعة من القرارات المستعجلة واللاهثة من قبل سوريا والحكومة التابعة في بيروت لاعادة هيكلة الأمن والسياسة بما يحفظ لسوريا قبضتها على لبنان، وبهذا يكون اغتيال الحريري ومظاهرات ساحة الشهداء نتيجة وليست سببا لتغير في السياق وخلل في بنية الأمن والسياسة. فمحاولات سوريا بمصادرها المحدودة بشريا وعتادا لاعادة انتشار جيشها ومنظومتها الأمنية كانت متخبطة ومستعجلة تنم عن تصرفات هواة للسياسة لا تصرفات محترفين، فما هكذا يسد الفراغ الأمني والسياسي.

اول ضربة وجهتها اسرائيل لسوريا في لبنان هي انها سحبت منها الورقة المبررة لوجودها في لبنان وهي ورقة العدو الاسرائيلي الذي يحتل الاراضي العربية اللبنانية، ترى ماذا فعلت سوريا تجاه هذه اللطمة المباغتة؟! بسذاجة منقطعة النظير، اعلنت سورريا ان مزارع شبعا ارض لبنانية، في محاولة يائسة للقول بان اسرائيل ما زالت موجودة على ارض لبنان وهذا يبرر الوجود السوري. هذه اللعبة لم تكن مقبولة لا داخل لبنان ولا خارجه، خصوصا ان اهم حلفاء سوريا في لبنان، قيادات حزب الله، لم يكونوا ليعرفوا بموضوع مزارع شبعا حتى عام 2000. فشلت حملة مزارع شبعا لانها كانت حملة ارتجالية ومجرد لهث سوري للرد السياسي على نزع الغطاء الذي يشرع الاحتلال السوري، ان كنت معارضا، او الوجود السوري ان كنت مواليا.

الفراغ المفاجئ الذي تركته اسرائيل واثره على خلخلة اسس البنية الأمنية لم يكن ليملأ بالاحتفالات والرايات في الجنوب، وبالفعل لم تستطع سوريا ومعها حزب الله ملء هذا الفراغ. التخوف من الانسحاب الانفرادي يعرفه من اكتوى بنار الانسحابات المكلفة، فالرئيس حسني مبارك مثلا حذر من انسحاب اسرائيل المفاجئ والاحادي من الجنوب وقال بانه لا بد من التفاوض على هذا الانسحاب. رؤية مبارك مقبلة من درس قاس يعرفه هو من تجربة العسكرية المصرية، فانسحاب القوات المصرية من اليمن ربما كان سببا اساسيا في هزيمة 67، وفي خلخلة شرعية جمال عبد الناصر، هزة كبرى اصابت ناصر بصدمة ادت الى موته بعدها بثلاث سنوات، تكلفة الانسحاب كبيرة «ودخول الحمام مش زي خروجه» كما يقول المثل المصري، نكرر هذه المقولة وربما لا ندرك ابعادها، خروج سوريا من لبنان اخطر بكثير من دخولها، خطر ليس على لبنان وحده وانما خطر كبير على سوريا قد يطيح بنظام الحكم السوري بمجمله او يؤدي الى سلسلة من القرارات الخاطئة تؤدي الى الانهيار، والنظام السوري الجديد معروف بقراراته المستعجلة والارتجالية ان كان تصرفه في لبنان بعد عام 2000 مرشدا لنا.

سوريا ليست استثناء في موضوع الانسحابات غالية الثمن او المكلفة، فالولايات المتحدة بكل ما اوتيت من قوة دفعت ثمن انسحاب قواتها من فيتنام بمجموعة من الاضطرابات السياسية والاجتماعية التي سادت أميركا في نهاية الستينات وبداية السبعينات، اضرابات دخلت فيها لعبة الاغتيالات السياسية كاحدى ادواتها. اسرائيل نفسها وايهود باراك بالتحديد دفع ثمن الانسحاب الاحادي وخسر حزب العمل وتمكن الليكود من القبض على عنق السياسة الاسرائيلية وربما لفترات مقبلة.

بداية النهاية لصدام حسين كانت نتيجة «لدخوله» الكويت ثم انسحابه غير المنظم منها، هزيمة صدام عام 1991 ادت الى حالة من اللوث العقلي، تبعته سلسلة من القرارات الخاطئة التي اوصلته الى ما هو عليه الآن!فهل سوريا اقوى بكثير من كل هذه الدول؟! بالطبع لا! هل يستطيع النظام السياسي والاجتماعي السوري استيعاب كل هذه الاعداد الهائلة من الجنود والضباط العائدين من لبنان؟! جنود وضباط تعودوا على حياة افضل لانهم وان احسنا الظن يخدمون خارج الوطن ويتقاضون مرتبات افضل، ولن اقول شيئا عن الرشاوى او عن الاتاوات التي كانت تفرض على الساسة واهل المال في لبنان! كيف يستوعب النظام السياسي السوري هؤلاء؟! وهل سيتحول غضبهم الناتج عن الحرمان الى غضب سياسي يوجه الى النظام نفسه!

العمال السوريون ايضا عائدون لا محالة، فمهما تشدقنا بأواصر الاخوة والعلاقات الخاصة بين سوريا ولبنان، فان العامل السوري كان يحس بالامان في ظل حماية عسكرية سورية، وبانتهاء هذه الحماية في هذا الجو المشحون عاطفيا لا بد لهؤلاء العمال ان يعودوا، فهل تستطيع سوريا استيعابهم؟،

تبعات الانسحاب السوري الناتج عن الانسحاب الإسرائيلي الانفرادي من لبنان تقع على لبنان في المقام الأول، وتاريخ الانسحابات لا يبشر بخير، وإن بشر فنتائجه تأتي بعد مرحلة انتقالية بالغة التكلفة ايضا، وهذا يضع نصب أعيننا علامة واضحة وعنوانا كبيرا لا بد ان يأخذ في الاعتبار هذا العنوان هو «تفاءلوا بحذر شديد وأنتم تنظرون إلى ديمقراطية لبنان المقبلة». فلبنان نموذج للدولة الهشة التي إن لم تعالج برفق قد تتهشم بأسرع مما نتصور. أول من دفع ثمن الانسحاب السوري في لبنان هي المعارضة اللبنانية، فمعارضة «القرنة» و«المختارة» لم تكن جاهزة أو حتى متحسبة لسرعة تنفيذ سوريا للقرار 1559، وبالانسحاب السوري بدأت وحدة المعارضة تتخلخل، وبدا خطابها فيه بعض من ميوعة تفتقد إلى تماسك الخطاب الذي تلى اغتيال الحريري، جنبلاط بدا لاعباً عالمياً مسافراً بين القاهرة والرياض وباريس وفي محاولته لتهيئة نفسه للحكم، فقد خطابه التركيز، وكان واضحاً من اختيار المعارضة لنجيب ميقاتي لرئاسة الوزراء أن المعارضة لا تعرف كيف تقف في المنتصف، اختارت رجلاً معروفاً بصداقته للرئيس السوري وبعلاقاته مع سوريا، الهدف المعلن هنا هو أن المعارضة تحاول الوصول إلى الانتخابات التشريعية بأسرع وقت حتى تفوت على المتربصين التذرع بغياب الحكومة لتأجيل الانتخابات، لكن مؤشراً آخر بدا واضحاً ليظهر حالة الضعف والانشقاق داخل المعارضة، وهو الاختلاف على دوائر الانتخابات بين القضاء والمحافظة، ويلوح شبح الطائفية من جديد. إذن كما هو واضح يبدو أن خلخلة الأمن والسياسة بالانسحاب الإسرائيلي أدت إلى كثير من القرارات الخاطئة التي أوصلت لبنان وسوريا إلى هذا المأزق التاريخي، ولو فضل اللبنانيون والسوريون المفاوضة مع إسرائيل على شكل وحجم ومراحل الانسحاب، ربما لتجنبوا ما حدث لهم بعد ذلك، لكن كعادة البلدان أخذت الجميع سكرة النصر المفتعل ونشوته، ونسي الجميع ان لذلك فاتورة تدفع على المدى البعيد. المشكلة الآن هي أن ما رأيناه في لبنان بعد عام 2000، هو من تبعات الفراغ السياسي والأمني المفاجئ الناتج عن الانسحاب الإسرائيلي، لكن ما نراه اليوم هو نتيجة لتراكم انسحابين أحدهما إسرائيلي والثاني سوري، إذن تكون الخلخلة في بنيتي الأمن والسياسة مضاعفة، هذه الخلخلة من الأسس لا يعوضها إلا نظام جديد بالكامل، فلا ينفع فيها الاتكاء على اتفاقات قديمة مثل الطائف وغيرها، ولا ينفع فيها الإشارة إلى مظاهرات ساحة الشهداء، فإن لم تتحول هذه المظاهرات من حالة التغيير السياسي إلى حالة مؤسسات سياسية، فلن يكون لها معنى يذكر.

ربما يكون الحل في تخفيض سن الانتخابات إلى 18 سنة، حتى يشارك هؤلاء الشباب في صياغة لبنان الجديد، أو ربما يشجع هؤلاء الشباب لبناء حزب مغاير عن الأحزاب القديمة المهترئة والمتهمة في مصداقيتها وأحياناً في قياداتهل.

لبنان لا يختلف كثيراً عن العراق، فالعراق لم يكن ليتغير إلا بإزالة كاملة لكل مؤسسات حزب البعث، وظني أن لبنان لن يتحسن وضعه إلا بتصور أكبر وبرنامج أشمل للتغيير يبدأ من بعد اغتيال الحريري وليس قبله، وبالتالي يكون النقاش حول الطائف بمجرد نقاش حول مرجعية سياسية لا حول قوانين تحكم المستقبل* الطائف اتفاق هدنة وليس رؤية سياسية للمستقبل. وليتحسب اللبنانيون لثمن الانسحاب السوري داخل سوريا، فهل يحتمل لبنان الهش قلاقل في بلد مجاور بحجم سوريا. وليتحسب العرب أيضا لذلك الانسحاب المقبل من غزة، عزاؤنا أن في حالة غزة قد تستطيع السلطة الفلسطينية أن تملأ الفراغ الأمني، وان تشجيع عملية السلام قد يملأ الفراغ السياسي، ومع ذلك فإنني لست مطمئنا في ظل جو من الانفلات الأمني العام الذي تخيم سحبه على المنطقة بأسرها.

[SIZE=5]الانسحابات غالبا ما تكون خطرة ومكلفة مهما كانت قوة الدولة المنسحبة، وأخيراً أرجو ألا يقرأ هذا المقال على أنه تثبيط للتفاؤل بديمقراطية لبنان المقبلة أو تقليل من حادث الاغتيال أو قيمة المظاهرات في بيروت، قراءة كهذه فقط تأخذنا إلى المستوى الثاني من التحليل وتخرجنا من عالم العواطف إلى عالم الواقع، خصوصاً إذا كان الثمن هو اضطرابات في بلد عربي مهم كسوريا، يضيف إلى زعزعة الأمن العربي من الرباط حتى عمان.