بداية دعونا نتفق على أمر مهما اختلفنا في أمور...
كلنا –هنا- مقتنع بعدالة (الديمقراطية) النسبية، وكل يدعي وصلا بليلى!
أيضا نحن جميعا ضد المزاودة على بعضنا في سلوك نعترف جميعا أننا لم نجربه إلا بالقدر الذي لا يهيؤنا لتنصيب أنفسنا أساتذة محكمين علة بعضنا، بله أن نكون قضاة لم يفوضهم أحد بسلطان، ولا منعهم من تطفيف الكيل وبخس الناس أشياءهم شنآن!
كما أن علينا أن نعترف أخيرا بأنه تماما كما أن في صفوف المتطرفين الدينيين من يصادر على الديمقراطية بدعوى (الولاء والبراء)، فإن في الصفوف الأخرى من يصادر عليها بدعوى(محاربة تسييس الدين)!!
وللمعلومية فلسنا من حيث الأصل ضد أي من الدعويين، لكننا ضد التأويلات الفاسدة التي تجرنا لإجهاض الديمقراطية في أرحام الأمهات تحت ذريعة الحنو عليها وحمايتها من الموت! ونحن نقول لهؤلاء الحادبين المشفقين: لا تقتلوا أمالكم خشية الاغتيال، فما جريمة أبشع من الانتحار! ولا تكونوا كذاك الدب الذي أخلص لصاحبه فأراد أن يقي وجهه إزعاج دبابة فألقم أم رأسه حجرا أودت بحباة الصاحب لا بحياة الذبابة!!
نريد الديمقراطية لنا جميعا، ونريدها أن تسعنا على اختلاف مشاربنا ونزعاتنا، وأن تكون مرنة تستوعب واقعنا وأحجامنا الطبيعية، لا أن تكون بمقاس ثابت مفروض علينا من لدن زيد أو عبيد!
دستورنا نحن من نتراضى عليه، وهويتنا هي هويتنا الحقيقية لا أي هوية مزعومة لنا من لدن الآخرين، وديمقراطيتنا مستقلة لا وصي عليها ولا سلطان غير سلطان الشعب ووصايته، وهي ملكية جماعية نشترك فيها جميعا كما نشترك في الماء والهواء والموارد والحرية والحقوق.
أما بقايا الديناصورات المنقرضة والرخويات اللافقارية ممن يحدثوننا عن الحرية والديمقراطية والأنسنة والحقوق، فقد شبعنا منهم كلاما، ومللناهم تنظيرا ، وقرفناهم تجربة، بعد أن خبرناهم منذ عرفنا الاستقلال، فما رأينا في ثوريتهم الماركسية ولا في عولمتهم الليبرالية، غير اسطوانة مشروخة تسلخ كرامة الشعوب وحقوقها المشروعة، وتكفر بالآخر أقصى حدود التطرف، ثم تزوق جريمتها بأسماء نبيلة رأينا آثارها في صحراء غوانتنامو اليوم كما رأيناها في الصحراء السيبيرية بالأمس!
وقبل أن أناقش الزملاء الكرام ألمح إلى أن الخلط بين التطرف والاعتدال، أو بين الأقارب والأباعد ليس من العدل في شيئ! ولا يوظف في النهاية إلا لصالح تقوية التطرف وتشجيعه.
نعم في الصفوف الإسلامية كما في الصفوف العلمانية، كما في كل انتماء فكري وديني وسياسي وقومي، قليل من المتطرفين، كما القليل من المفرطين، غير أن السواد الأعظم في منحنى الانتماء الجرسي المعروف هو لثلة الاعتدال والوسطية، وهي المعبر عن حقيقة الانتماء، والأكثر مرونة في التفاعل مع الآخرين، ومن الإنصاف ي تقويم التيارات ألا ننشغل بتتبع تلك النكرات والشواذ من السلوكيات في الحكم على الظاهرة بقواعدها العريضة..
إن حديثا عن العقائد أو الشرائع، أو المناهج الدينية بالتعميم والإجمال، يماثل تماما الحديث عن الفكر والمناهج (المدنية) بإجمال مماثل، ولا سيما حين يتعمد فريق تعميم الظواهر السلبية في معطيات العقائد والمناهج والسلوك.
فإذا كان في الفكر (المدني) مذاهب ومدارس متعددة ومتضاربة أحيانا، وإذا كانت فيه دعوات (عنصرية) و(شوفينية) و(نازية) و(فاشية) و(عدمية) و(إمبريالية)، فإنه لا يجوز بحال أن تؤخذ مدارس الفكر المدني، أو ممارساته بعضها بجرم بعض، فيلغى من المكون الثقافي للأمم والشعوب ثمرات العقول، وجهد العلماء والمفكرين، لأن في بعض هذا الثمرات حنظلاً فلسف النزعات: الاستعلائية، والطاغوتية، والتدميرية في الإنسان، وأنتج ركاماً من آليات القتل والإفساد والمناهج والأفكار الهدامة.
وبالطريقة نفسها فإن (العقائد) الربانية أو الإنسانية، أو مصطلح (دين) يشمل مللاً ونحلاً لا يكاد يحصيها العاد، ولا أن يحيط بها مؤرخ متتبع. ولا يجوز بحال أن يكون بعض هذه الملل أو النِّحل أو الأديان، شاهدا على المصطلح كله، فيرمى المنهج الديني، أو الفكر الديني كله بقوس واحدة.
إن التعميم في الحالتين خاطئ، فلا الفكر المدني الإنساني كله ترهات وأباطيل وسفسطة أو دعوات للاستعلاء والطغيان والعدوان. ولا الفكر الديني كله أساطير وحكايات وقيود إعاقة، وجرعات أفيون.
التعميم أول مقتل خاطئ في مناهج البحث، والالتزام بالخصوصية ليس غروراً ولا ادعاء، ولا هروباً إلى الأمام، كما يحاول أن يلمزنا بذلك بعض دعاة (الحداثة) أو (التطوير). إن (الخصوصية) حالة واقعية يفرضها المنهج العلمي للبحث، وتبقى نتائج البحث ملزمة لكل عاقل منصف وشريف.
الحكيم الرائي يسوق بكل ديمقراطية للتعامل الأمني مع ملفات الإسلاميين -بشتى مدارسهم وسلوكياتهم- زاعما أن قضيتهم قانونية وأمنية! وهو في استثنائه للإسلاميين من نيل حقوقهم الديمقراطية، وتشجيعه على حرمانهم من التعامل السياسي مع أطروحاتهم الفكرية والسياسية يظن أنه يخلص للديمقراطية ويصنع لها معروفا، وما درى أنه في القضايا القيمية يكون استثناء جزء بمثابة استثناء الكل، والقضاء على بعض العملية يعني القضاء عليها برمتها، والكفر ببعض الحق يعني عدم الإيمان بالحق كله، فالحقوق لا تتجزأ، والإيمان لا يتبعض، والقيم لا تعرف الانتقائية والاجتزاء (من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا)، (أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض؟!).
زميلي المحترم عليك أن تدرك أنه بمقدار حرصك على حقوق أخيك الإنسان، تكون أنسنتك، وإلا فهي دعوى لا يجوز لك أن تزاود بها على غيرك، أو تعير بها من يكيد لك كما تكيد له!! وما أجمل فولتير وأعظم أنسنته حين قال: (قد أخالفك الرأي لكنني سأدفع حياتي ثمنا لأن تقول رأيك بلا وجل)، وهكذا فلنكن ديمقراطيون وإلا فلا..
أما العلماني فحكاية أخرى تقطر مزاجية وهوى وبواعث أخرى!
فهو يبرر إقصاء الإسلاميين جميعا من الممارسة الديمقراطية تحت أوهام ظن آثم بأنهم ربما ينقلبون عليها!
وأهم من ذلك أنه يرى بنيتنا غير قابلة للإصلاح لمجرد تمسكنا بالهوية ودين الدولة! بينما يظن الزميل المحترم أن أطروحاته الغوغائية تحكيمية، وأنه يكفي تبجحه بها لتكون معيارا راسخا يقاضي الآخرين ويحكم عليهم بقابلية الإصلاح من عدمها بينما أطروحاته ترتع في الفساد والإفساد وتنتفخ وتنمو على بقايا الحاقدين من المستشرقين والمتغربين!!! (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
حسنا، بادئ ذي بدء هل تقتضي النشأة الليبرالية للديمقراطية الغربية أن تستنسخ شعوبنا ذات الأيديولوجية الليبرالية؟! هذه "ظاهرية" جامدة لا تستأهل عناء الرد! إذا كانت شعوبنا قد استفادت من تجارب الآخرين أو من بقايا تجربتها الشوروية التالدة تلك الآليات الديمقراطية الغربية، فهل هي بالضرورة قد سلمت بأيديولوجيا العلمنة؟! ربما شعوب الغرب –أو بعضها- قد فعل ذلك، لكنني أراهن أن أيا من شعوبنا العربية والمسلمة لم يفعل ذلك، نعم هناك نزعات معزولة وأحيانا تتسع قليلا تنادي بذلك، لكن المعول عليه هو الاختيار الديمقراطي لها من الشعوب دون وصاية ولا إقصاء.
وفي ثنائية العلمنة والدمقرطة دعوني أتوسع قليلا: