وعندما غادرتُ القاهرة عام 1951 إلى ما اعتبرته منفاي الأمريكي كانت مجمل العلاقات بين فرعي عائلتنا في القاهرة والقدس قد أصيبت بصدوع غير قابلة للاصلاح من الناحية التجارية. فشعرت إذاك أن اختفاء فلسطين هو المسؤول عما جرى. على أني لم أستطع التعبير عن سبب ذلك ولا عن كيفية حصوله بالتمام، ولا استطاعه أي فرد آخر من أفراد العائلة. كان ثمة نشاز خبرناه جميعا بوصفنا أجانب في القاهرة لا نستطيع الاستعانة بوطن لنا. فالإشارات المتكررة إلى جوازات السفر وبطاقات الاقامة أو الهوية والمواطنة والجنسية تتزايد تزايد هشاشتنا تجاه الوضع المتغير في مصر والعالم العربي.

فخلال الاعوام 1948و 1949 و1950، تقلص الوجود البريطاني في مصر ومعه ضعفت سلكة الملكية وتدنّت سمعتها. وفي تموز/يوليو 1952 قامت ثورة الضباط الاحرار وشكلت تهديدا مباشرا لمصالحنا بما نحن عائلة أجانب ميسورة لا يملك أمثالنا كبيرمعين داخل المجتمع المصري. ويخيل إليّ أن أبنيْ عمتي-لصغر سنهما، ولمعرفتهما باللغة العربية بأفضل من معرفة أبي بها، ولاستعدادهما (أول الأمر) لمراعاة الأمر الواقع –كانا أقل غربة في مصر مما كانه أبي. وهذا ما ضاعف التوتر بينه وبينهما إلى حد كبير.غير أن أبي لم يكد يفصل لأولاده بشيء عن ذلك الموضوع.

وقد علمتُ من أمي ذات مرة أن جورج وأبي تضاربا بالأيدي. كان جورج يجيئنا لتناول الغداء ويعزف على البيانو الفالس الكبرى اللامعة لشوبان على مقام "إي" الأدنى والنشيد العسكري لشوبرت، وكان يبدو لي كائنا يرتدي النظارات، عديم الضرر، وعلى شيء من الاحترافية. أثارني الخبر غاية الاثارة وصرت موزعا بين شعوري بالارتياح لأن أحد غيري تلقى ضربات أبي، وبين الأمل غير الواقي أن يكون أبي قد وقع أخيرا ضحية خصم أقوى منه.

ظل موضوع النزاع يدول حول صلاحيات اتخاذ القرار. ولأن السلطة لم تكن مستمدة كليا من القدس ولا من الماضي (كما هو حال سلطة يوسف) فقد كان أبي أكثر فأكثر جهوزية للمعارك، في حين كنا (عمتي وأولادها ونحن السبعة) بوصفنا جماعة ذات موقع وطني شاذ، مدفوعين لأن نزداد التصاقاً بعضنا ببعض, وقد أدركت أن ماضي أبي وماله(وقد بت معقود اللسان كليا بالخجل والنواهي المذنبة عندما يتعلق الامر بالتحدث إليه عن المال) وفلسطين والنزاعات المضطرمة داخل العائلة، هي مجموعة من القضايا –مثلها مثل الجنس- تقع في دائرة المحظور، يُمنع عليّ إثارتها أو حتى الاشارة إليها بأي شكل من الأشكال.

تكراراً أبدتْ أمي أسفها لأن "والدكم" –أو "دادي"- لم يُجب قط على رسائل بولس التهديدية الواردة من القدس ولا هو احتفظ بأي منها، لانه رجل خلوق، وهو ما سمح ليوسف بأن يضايقه باستمرار بإبرازه نصا من النصوص، فأوقع ذلك أبي في حال من الارتباك دائمة، ولبّد جو العائلة بالتلميحات وبالتهم والتهم المضادة المضمرة، إلى درجة أن الأهل أخذوا يحذروننا مما يجوز أو لا يجوز التفوه به في حضرة عمتي وينهوننا عن قبول دعواتها لتناول الغداء. وفجأة، في أواخر بيع العام 1948، فيما معرك العائلة يستعر أوارها والوضع السياسي يتدهور، أعلن أبي أننا ذاهبون إلى أمريكا، باستثناء شقيقيّ الصُغريين، جويس في الخامسة وغريس في الثانية, فلم أعد أستوعب تماما دلالات تلك الخطوة الاستثنائية التي أزمعنا عليها.

ذلك الربيع، ازددتُ التصاقاً بزملائي من الطلبة الأمريكيين في المدرسة الأمريكية، بسبب من مسرحية غنائية أنتجتها المدرسة وأُعطيت فيها، ويا لعجبي، أحد الأدوار (وقدرت أن ذلك تم لسمرة بشرتي). اسم المسرحية "الجزيرة المسحورة"، وهي رواية متأمركة، عاطفية وثقيلة الوطأة، لإقامة شوبان في جزيرة "مايوركا" مع جورج صاند، وقد جرى التشديد فيها على الجانب الغرامي من خلال حضور زوجين إسبانيين –مثلتُ دور "بابا غوميز". ومثلت مارغريت أوزبورن، التلميذة في الصف العاشر، دور "ماما غوميز" –تقع ابنتهما الشابة مؤقتا في غرام شوبان الدنيوي والمحسود على لمعانه، ويمثله بوب فاوست وهو أمريكي تعلو وجهه الثور ويتمتع بصوت "تينور" صافٍ.

بدت فكرة اعتبار المسرحية "نشاطا مدرسيا" جديدة عليّ برمتها، كانت "اعدادية الحزيزة" تقدم العروض المسرحية هي أيضا، لكن معظم الجهد العضلي فيها يبذله الخدم، والتمثيل يسيطر عليه بإحكام معلم واحد، ويعامل التلامذة فيها (بما فيهم ميشلين ليندل الموهوبة) وكأنهم بيادق شطرنج يحركها معلم –مخرج واحد لا يخلو من الدعة.

أما بالنسبة إلى "الجزيرة المسحورة" فالأطفال الصغار أنفسهم أعطيت لهم فيها مهمات يؤدونها، مساعدين على خشبة المسرح أو افرادا في "الكومبارس"، في حين تولى التلامذة معام النجارين والدهانين والملقنين أفراد الكورس، تراقبنا جميعا (والكلمة أقوى بدرجة واحدة في الواقع) مس كتشم معلمة اللغة الإنجليزية، النشطة الناتئة الأسنان، ذات الستة والعشرين ربيعا، التي تشرف على الفاعليات المدرسة المختلفة.

واذكر بحرج كيف أني ذات مرة بددتُ صمت قاعة المطالعة (وهي فترة من فترات اليوم الدراسي لا تعرفها المدارس الأمريكية) إذ سألتها بصوت مرتفع عن معنى كلمة "اغتصاب". قادتنا مِس كتشم –تساعدها بين الحين والآخر مس غايل، الأكبر سنا والشديدة النزق- عبر ترهات "الجزيرة المسحورة، حيث يتلخص دوري، بصفتي الوالد العجوز لكونشيتا المغناجة، في أن أحرف اهتمامها عن شوبان وادفعها نحون خوان ابن القرية شبنه المتخلف عقليا، الذي يفترض أنه في مثل مستواها الاجتماعي.

وتعقب كل حوار قصير بين الممثلين "وصلات" غنائية قائمة في رأيي، على نسخ معدلة ومبسطة وإنشادية فجة لأعمال شوبان: "التنويمة" و"البولونية العسكرية"، و"الفالس اللامعة" على مقام "إي" الأدنى ولحن آخر على مقام "دي" الأدنى مقتطف من "النشيد الجنائزي" وقد تحول في "الجزيرة المسحورة" إلى أغنية ثنائية غرامية حيوية لكنها لا تخلو من الغرابة.

يبتع إن شاء الله