وجدت مجريات الأحداث غاية في الاحباط، أنا ابن الاثنتي عشرة سنة ونص السنة أتلبس شخصية أب وزوج إسباني في منتصف العمر على خلفية من موسيقى شوبان المشوهة الصاخبة، ناهي عن الشعور الامريكي الجمعي الذي نبذني وتركني متقلقلاً أكثر مما كنتق قبل "الجزيرة المسحورة". وسط كل هذا، أُعلن عن سفرنا الداهم، فنقلتُ الخبر بجبن، إلى زملائي الممثلين الذين قابلوه باللامبالاة. قُدِّم عرضان للمسرحية، حضر أهلي ثانيهما، وأعلن أبي أن ما اثار إعجابه هو أن لي زوجة لأول مرة، حضنتني أمي بدفئها الغامر المميز وأنا يمتلكني شعور بالإنزعاج والحرج مما قاله أبي. ثم انضممنا إلى الأهل والممثلين الاخرين نحتسي الـ"بانش" ونتحادث بود مع المعلمين الخجولين. وحدها مسز كلارك المرهوبة الجانب حافظت على صرامتها الضجرة، تدخن وتشرب منأى عن سائر الحضور وقد جمرت شعرها الأحمر في كعكة متوعِّدة ترزح على قمة رأسها. وقضى أبي الوقت بطوله يبحث عن "المندوب الأمريكي" المسؤول عن "البعثة الأمريكية" وكان هذا موضوعه الأثير على الغداء، إذ إن البعثة لم تكن قد ارتقت بعد الى مستوى السفارة، فالحضور البريطاني في القاهرة كان لا يزال هو الأقوى وإن يكن في حال تقلص مستمرة.

تم كل ذلك عشية إبحارنا من الاسكندرية يومها، ساقتنا أمي أنا وروزي وجين مهرولين الى الباخرة الايطالية "ساتورنيا" من على رصف الميناء الاسكندراني المزدحم الرازح تحت الشمس القائظة، وأبي لاحق بنا يلقي أوامره على مفرزة من الحمالين المحليين ينوؤون تحت ثقل حقائبنا الجدلية العديدة. ومع إني سمعت قبلا عن بواخر النقل الامريكية من زملائي في المدرسة، فإني لم أكن قد شاهدت شيئاً أجنبياً، ضخماً، وغريبا مثلها. سحرني كل شيء فيها، ن اللغة إلى الأزياء اللماعة البيضاء التي يرتديها الخدم والضباط على حد سواء، ومن أواني المائدة البراقة الى الكميات الغير محدودة من الاطعمة غير العربية، وصولاً إلى المهاجع المرتبة على نحو حاذق ذوات الكوى الصغيرة والمراوح المتدلية من السقف تُخرخر خرخرة مهذبة. وما إن خرجنا إلى السطح لمشاهدة إبحار الباخرة المهيب، حتى أعلن أبي أن "زوجتك على الباخرة" مسبوقة بعبارة "إيدي بوي" بذلك المزيح من التحبب والتهكّم وقد درج على استخدامها بُعيد انتسابي الى المدرسة الامريكية. كانت عيناه تنضحان بالشر حين كان يبلغني الخبرالسار، وهو على اتم الادراك لمدى الحرج الذي يسببه لي. والحال إني كنت غافلا كليا عما تعنيه الزوجة خلا الرفقة العادية التي أشاهدها بين والديّ، وبين أصدقائهما أيضا. غير أني أحسست أن المفردة تُضمر سلوكاً شائناً حين تنطبق عليّ، انابابا غوميز المثير للضحك الذي صدف ان تكون زوجته في المسرحية، مارغريت اوزبورن، هي أيضا على ظهر "سوتورنيا".

شاهدتها مرة واحدة وهي تتجاوزني واثبة على السلالم، ولكننا لم نتبادل التحية ولا مجرد اشارة تعرف واحدنا على الآخر. أكثرَ أبي من السؤال عنها، فزاد ذلك من الجفاء بيني وبينه. وبصعوبة استوعبتُ أنا وشقيقتاي أن غرض الرحلة الفعلي هو حاجة أبي إلى العناية الطبية. فهو لم يذكر شيئا عن مرضه مع أن أمي لمّحت بغموض إلى طبيب أمريكي شهير يعتزمان مقابلته، ولكنها فعلت ذلك على طريقتها الخاصة، التي تعني " ولكن هذا في الحقيقة أمر يجب أن لا يشغل رأسك الصغير" ولم يُؤتَعلى ذكر الغرض من رحلتنا مرة ثانية على "ساتورنيا". أكثر أبي من لعب البريدج وكان ينضم إلينا للغداء والعشاء في معطم الدرجة الأولى ويشاركنا، بوتيرة أقل، تناول "الكونسوميه" في الحادية عشرة على سطح الباخرة الرئيسي. وما أن استقللنا الباخرة، حتى أخذت اتقلب بين لحظات من القلق على صحة أبي (وهو ما أعادني إلى أيام رام الله المضطربة لصيف 1942) -وهي لحظات يضافع منها تهكمه المباغت ومحاضراته عن مخاطر "العبث بالجسد" واعوجاج قامتي وتبذيري-، وبين برهات اطول استسلم خلالها لما توفره الحياة على الباخرة من تسليات باذخة. فشاركت في لعبة "شافلبورد" وكرة الطاولة ولعب "البنغو" كل ليلة تقريبا، واستمتعت بجولات استكشافية مديدة على الباخرة الوافرة التجهيز التي اختبرتُها على نحو غريب بما هو حضور انثوي مضايف كريم الى أبعد الحدود.
وشد ما أبهجني اكتشاف مناعتي ضد خطوب الطقس الهائج. ففيما سائر افراد العائلة مبتئسون بلازمون مهاجعهم خلال عبورنا مضائق مسّينا، والباخرة تعلو بنا وتهبط بلا رحمة، تنعّمتُ بتر التجوال وحيدا في قاعات الاستراحات والبارات وفسحات التسلية والسطوح الخالية، حيث العدد الوافر من المجلات الامريكية، والعروض السينمائية الليلة، وفرقة موسيقية مصغرة تزعق انغامها الراقصة امام حلبة خاوية، وعشرات الخدم الايطاليين المتزينين بالابيض، مجهولين يسلّون شاباً مجهولا ويُغدقون عليه أطيب المأكولات.

يتبع إن شاء الله
(f)