عندما يصبح القلم "عبوة فيتامينات"، وضرباً من الغذاء المباع في الصيدليات بعد أن اقتنص منه دسمه وطعمه ولونه ورائحته، عندها نكون قد وصلنا إلى الأسلوب العلمي أو "الكتابة الأداة" ....

ليس للقلم – مع هذا الوجه من وجوه الكتابة - أن يكون جمحة حصان شارد، ولا أن يستحيل إلى رجع ترنيمة مقدسة في عمق واد مهيب، لا وليس له أن يريد "عمروا"ً من خلال مهاجمة "زيد" ... فالمطلوب من المداد أن لا يكفهر ولا يدلهم ولا يوشح ولا يوشي ولا يترنح بين الخيط الأسود والخيط الأبيض ... فهمّ الكاتب منصب على إيصال "فكرة ما" - تفتق عنها وعيه - دون التفاف ولا مواربة، وبمقدار ما يكون مباشراً كالسهم واضحاً كالصبح صادقاً كطلقة مسدس، يكون قد نجح في إداء مهمته على خير وجه ...

هذا الوجه من وجوه الكتابة لا يأخذ زخمه من الحرف وفنونه، ولا يستمد ألقه من الخيال وتحويماته، ولا يشتد ساعده بيد روح منفعله وخفقان قلب سريع النبضات ... فقوام هذا الأسلوب يعتمد على صحة واستقامة الفكرة منطقياً في المجالات النظرية، وعلى دقة التجرية وسلامتها في المجالات التطبيقية ....

ومع هذا فلو عرف هذا الأسلوب أن يمتزج بالحرف الجميل والخيال المجنح، لصال وجال وفتن الخلق ومشى في ركابه المجد، وأمس كان "فريدريك نيتشه" يقبض على جماع عبقريته بكلتا يديه ويترك للأجيال "هكذا تلكم زرادشت" ، فيمزج الفكرة المحكمة بأتون الحرف المتوقد، ويسطر على جبين الزمن فصلاً من الجمال الفلسفي الذي ما زالت تغلي مراجله حتى اليوم .. ولكن الدهر لا يجود دائماً بمثل "نيتشه" ولا بمثل "فولتير" قبله، بل أن الأغلب الأعم من جمهور العلماء والفلاسفة أكثر جفافاً من "أرسطو" و"توما الأكويني" و"ابن رشد" و"باروخ اشبينوزا" و"عمانوئيل كانط" "وألبرت أينشتاين" "وهانز كلسن" ... هم –كما أسلفنا – ضرب من "زيت السمك" المقوي المغذي المفيد الذي لا يستسيغه اللسان وينفر منه الفم ويحتج عليه الحلق ....