السرقة واللصوصية اتهام خطير يرفضه الجميع، وأعتقد شخصيا أن الأفكار إذا انطلقت لم تعد ملكا شخصيا لأصحابها، بل يسع كل أحد أن يتناولها ويستفيد منها ويتبناها ويوقع اسمه عليها إذا اقتنع بها...

هناك ثلاثة نقاط مهمة في هذا السياق:

الأول: أن نسبة الأفكار الأصلية لأصحابها سلوك نبيل وأمين، فالحقوق محفوظة ولاشك، ويتأكد هذا في البحوث المحكمة والرسائل الأكاديمية بل والكتب المنشورة، والسطو على ثمرة عقول الأخرين أو بديع إنتاجهم أمر مرفوض بلا أدنى شك.

الثاني: أن المقالات الصحفية لا تسـتأهل ذلك التوثيق العلمي الذي تتطلبه الكتب والأبحاث المحكمة والرسائل العلمية. كما أنه ليس كل فكرة عابرة تستحق التوثيق فكم من عبارة جميلة نتصيدها دون أن نلتفت لقائلها لا رغبة بلصوصية ما، وإنما لأن العبارة عابرة ليس فيها تميز أو خصوصية تذكر، وقد مضى الأولون ينقل اللاحق من السابق مثل هذه العبارات، وبعضها مطول بلا إنكار، وقد رأيت أن ابن قدامة المقدسي وابن قيم الجوزية أخذا من الغزالي في إحيائه كثيرا من عباراته دون إشارة، كما رأيت أن الطحاوي أخذ عن ابن تيمية مثل ذلك الكثير دون إشارة وهذا له اعتبارات أخرى أيضا سأورها في الفقرة الثالثة، ومن هنا فلا مشاحة -من وجهة نظري- في الاقتباس العابر حتى ولو بلغ عدة أسطر فيما لا يكرس فكرة إبداعية مميزة يمكن أن تنسب لفلان من الناس دون سواه.

الثالث: أن البعض يخفي اسم الكاتب لاعتبارات أمنية أو نفسية أو اجتماعية أو سواها، وقد جربت هذا شخصيا، فكثيرا من تأملات سيد قطب في الظلال رحمه الله كنت أسوقها في خطبي ومحاضراتي في المجتمع السعودي بلا إشكال، ولو أني فعلت ذلك بنسبة الكلام لقائله لربما تسبب ذلك بمشاكل أمنية واجتماعية مع إخواننا السلفية!
أعلم أيضا أن أحدهم سافر إلى الهند فدرسهم كتاب التوحيد لمحمد بن عبد الوهاب بعد أن نزع عنوان الكتاب واسم المؤلف فاستحسنوه ولا تزال للكتاب طبعة هندية يكتب بها اسم الشيخ بالتميمي نسبة لجد له غير معروف لتمرير الفكرة في تلك الأوساط، وحتى لا يكون اسم الشيخ حائلا دون الاستفادة من الفكرة

أنا شخصيا فعلت ما فعله الهويدي والطبطبائي مرات في النادي وغيره لاعتبارات كهذه، فكنت أخفي اسم الشيخ القرضاوي أو الغزالي أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أحيانا حتى لا يكون صادا دون تمعن البعض للفكرة، وكم حجبت الأسماء الأفكار!
أعتقد أن إطلاق اللصوصية على كل هذه الاقتباسات أمر مبالغ به والله أعلم.

وأذكر في مثل هذا أن أستاذنا الدكتور جمال عبد الهادي بمكة تعرض لحملة تشهير عبر جريدة الندوة السعودية سنة 1987 لاقتباسات مرسلة من محمد قطب وأخيه في سلسلة كتبه (مفاهيم ينبغي أن تصحح في التاريخ) وكان اعتباره الأمني والاجتماعي والسياسي هو الذي منعه من ذكر اسم (آل قطب) على مؤلفاته، ولكن نبل الأستاذ قطب حفظه الله، أنه كتب بعد حملة التشهير التي استمرت بضعة أيام، مقالا أرسله للجريدة، وتناوله في إحدى محاضراته يبين فيها أنه أجاز للدكتور جمال أن ينقل عنه ما يشاء، وأنه يتفهم دوافعه إخفاء الاسم ويباركها!

أتوقع من جهتي لمعرفتي (العامة) بصداقة الهويدي للقرضاوي أن القرضاوي لا يأنف من هذا الاقتباس خاصة أنه ورد في مقالة لا كتاب، ومرة أخرى أرى بالفعل أن كلمة لصوصية في هذا المقام كبيرة جدا، ألا تتفقون معي في الرأي؟

واسلموا لود واحترام(f)