توقفت "ساتورنيا" في أثينا ونابولي وجنوا ومارسيلين وجبل طارق. وباستثناء هذه الأخيرة، كنا نُقاد في جولة لبضع ساعات في أنحاء مدن كئيبة خرَّبتها الحرب، يعقبها غداء مضجر في مطعم محلي قبل أن نعود إلى الباخرة لاستئناف الرحلة. وحدها نابولي امتعتنا، لأننا بعد زيارة عجولة لبومباي مُنعنا خلالها من النظر إلى الفسيفساءات "غير المناسبة للأطفال" ، تناولنا وجبة سباغيتي قرب المبيناء حيث ترامى إلينا صوت بحار يغني "سانتا لوتشيا" وهي من الأغاني الأثيرة لدى أبي في تسجيل صوت بصوت كاروزو. إلا أني أكثر ما أستذكر من تلك الجولات النهارية احساسنا بأننا زمرة صيرة مغلقة على نفسها، بل ما كان أشبهنا بمنطاد مغلق فوق أمكنة غريبة نجتاز مدنا أجنبية من غير ما تماس فعلي معها.

عند وصولنا نيويورك، عاودتنا بإلحاح مسألة الوضع القانوني لأمي التي أضحت شخصا بلا جنسية بعد سقوط فلسطين. والصعوبة الرئيسية في الأمر أنه كان يتوجب عليها الإقامة في الولايات المتحدة سنتين متواليتين لكي يحق لها الحصول على تأشيرة أمريكية طويلة المهلة، وهذا ما كانت ترفضه. وقد أفادتنا كل دائرة حكومية وكل مكتب محاماة في نيويورك أن الاقامة ضرورية. ومفهوم أن يلقى هذا الشرط معارضة أمي وأبي معا، وإذا ببحثنا عن وسيلة ما للتحايل على شرط الاقامة لمدة سنتين يجري بحمال لا يلين على مدى السنوات السبق أو الثامني اللاحقة.

والمفارقة في أمر سعي أمي العبثي إلى الجنسية أنها نجحت بعد العام 1956 في الاستحصال على الجنسية اللبنانية بتدخل من السفير اللبناني في القاهرة. وإلى حين وافتها عام 1990 ظلت تسافر بجواز سفر لبناني استُبدل فيه مكان ولادتها، على نحو ملغز، فحلت القاهرة محل الناصرة. تأملت في الأمر: ففي الخمسينيات نفسها وقد بُذرت فيها بذوب الحرب الأهلين قبل اندلاعها بعشرين سنة، كان أقل إثارة للاعتراض أن يكون المرء مصري الأصل من أن يكون من أصل فلسطيني. ثم سارت الأمور على أتم وجه إلى اواخر السبعينيات، بعد عقد من الزمن على وفاة أبي أو يكاد، عندما صار حمال جواز السفر اللبناني يتعرض لمضايقات جمة للحصول على تأشيرات دخول إلى أوروبا أو الولايات المتحدة الأمريكية ولاجتياز صفوف الانتظار أمام مكاتب الهجرة. أن تكون لبنانيا أضحى فجأة معادلا لمشبوه بممارسة الإرهاب. وهكذا، لسبب غير مفوم، وجدت أمي المكابرة الصغبة الإرضاء نفسها تحول حولها الشبهات من جديد. عاودنا الاستفسار عن إمكانية حصولها على الجنسية الأمريكية، فهي في حصيلة الأمر أرملة أحد قدامى محاربي الحرب العالمية الأولى وأم لخمسة مواطنين أمريكيين، ولذلك تبدو مستحقة كل الاستحقاق لذلك الشرف. ومجددا قبل لها إن عليها الاقامة في الولايات المتحدة الامريكية. فرفضت مرة أخرى مؤثة مشقات الحياة في بيروت المحرومة من خطوط الهاتف والكهرباء والماء على رفاهية نيويورك أو واشنطن. ثم عاودها سرطان الثدي وقد اجرت له جراحة في كانون ثاني/يناير 1983 على يد جراح بيروتي، ولعلها أدركت أن النهاية قد دنت، مع انها رفضت العلاج الكيميائي مجددا، مخافة مضاعفاته الجانبية، حسبنا أسرَّت لي فابتاعت لنفسها شقة في بناية "تشيفي تشايس" في ولاية ماريلاند عام 1987 وكانت تأشيرة الدخول المؤقت لها بوصفها زائرة تسمح لها بقضاء مهل متطاولة من الوقت. ثم أخذت تزور بانتظام طبيبها الذي تكن له محبة لكنها ترفض نصائحه بعناد. وقد انقضت مهلة إحدى التأشيرات حين كانت في غيبوبة. في آذار/مارس 1990، فإذا شقيقتي غريس، الساكنة معها والمعتنية بها بتفان كبير، تجد نفسها في غمرة دعاوى قضائية لترحيل أمي من البلاد، وهي تشارف أيامها الأخيرة. أخيرا حجم قض غضوب برفض الدعوى وأنَّب دائرة الهجرة وإدارة التجنيس لمحاولاتها ترحيل امرأة في غيبوبة تبلغ منتصف السبعين من العمر.

توفيت أمي وقد رفضت تأشيرة إقامة قصيرة الأجل، فدُفنت في أمريكا التي كانت تتحاشاها دوما وتكنُّ لها الكراهية أساساً، ون تكن ارتبطت بها ارتباطاً لا فكاك منه من خلال زوجها أولاً، ثم من خلال أولادها، قبل أن ترتبط بها من خلال مرضها الأخير.

يتبع إن شاء الله...



دكتور نديم (f)