نتحدث عن الشرف في آخر صفة له أطلقت على واحد من اشكال المقاومة المسلحة في
العراق التي تقول انها تستهدف إخراج القوات الاجنبية المحتلة والغازية..حسنا،
من هو الذي يجيز لنفسه ولغيره حمل السلاح؟ وما الذي يميز هذه المقاومة التي
تسمى بالـ"الشريفة" عن تلك المقاومة غير الشريفة؟ انه سؤال مركب ومترابط، ومعقد
ايضا، لكنه ليس عصيا على الجواب إذا ما استرشدنا بحكمة التحليل الموضوعي
الهادئ، واستعنا بعلم السياسة وتجارب مقاومة الاجنبي.
يكرر انصار الخيار المسلح في العراق، وبخاصة المتحدثون باسم هيئة علماء
المسلمين وبعض الشخصيات القومية والبعثية، نظرية تقول"ان مقاومة الاحتلال
الاجنبي، بالسلاح، حق مشروع تبرره جميع القوانين والاديان" "ويضيفون" ليس هناك
شعب لم يقاوم محتليه بالسلاح" حسنا، لنتجاوز موضوع المسؤول عمن أوصل العراق الى
حالته هذه، وموضوع الطبيعة القانونية الدولية، وفق قرارات مجلس الامن، للقوات
الاجنبية في العراق، ونفترض ان القوات الامريكية والبريطانية غزت العراق
لانه(وفق منطق الجماعة) كان(في عهد صدام طبعا) يشكل بؤرة إلهام وإشعاع للحرية
ولشعوب المنطقة وخطر على اسرائيل ومصالح الغرب، لكن الحالة التاريخية هذه توجب،
أولا، صياغة الارادة الوطنية لمجموع الفئات الشعبية لجهة اختيار اسلوب التحرير،
بالعمل العسكري أم بالعمل السياسي.
فلا يحق لفئة او شريحة ان تملي شكلا من اشكال العمل لاخراج القوات الاجنبية
من البلاد، اخذا بالاعتبار بان العمليات المسلحة بدأت، لا من الشعب العراقي
الذي خرج توا من كابوس نظام القمع والابادة والشوفينية والطائفية، بل من اكثر
انصار النظام السابق التصاقا به وشعورا بالمهانة من انهياره المخزي والمدوي،
بالاضافة الى مجموعة صغيرة من الارهابيين المطاردين في بلدانهم المجاورة بقيادة
ابو مصعب الزرقاوي، قبل ان تتدفق الى العراق اعداد كبيرة من المسلحين العرب في
ظروف تداعي الدولة وتبخر جيشها وانفراط نظم الامن والحراسة على الحدود
والسيادة.
بكلمة : لم يقرر الغالبية الساحقة للشعب العراقي، باحزابه السياسية ومراجعه
المختلفة، اعتماد سبيل المقاومة للقوات الاجنبية، ليس اقتناعا بمشروعها ولا
ضعفا في وطنية الشعب، بل لأن سبل العمل السياسي لم تستنفذ بعد لجدولة انسحاب
القوات الاجنبية، سيما بعد ان تحولت "المقاومة" منذ انطلاقتها الى عامل لاطالة
امد الاحتلال، والىعملية تدمير ما تبقى من بنى الدولة وشبكة الخدمات، وصارت
بمرور الايام كابوسا للملايين وحياتها الزاخرة بالمصاعب، اصلا، وليس من دون
مغزى ان هذه المقاومة لم تعلن اي برنامج سياسي لمرحلة ما بعد التحرير، بل ان
فصائلها الرئيسية تجاهر بالعمل على اعادة نظام صدام الكارثي الى السلطة بقوة
السلاح.
ولا ينبغي ان نبتعد كثيرا عن التجربة الفلسطينية لكي نرد على الزعم بان كل
الشعوب تلجا الى مقاومة المحتل بالسلاح، فانه بعد رحلة طويلة في دروب الكفاح
المسلح ضد الاحتلال الاسرائيلي اكتشف قادة منظمة التحرير الفلسطينية، الآن، بان
التفاوض، لا المقاومة المسلحة، افضل السبل لنيل حقوق الشعب الفلسطيني واقامة
دولته الوطنية، فهل يكفي هذا المثال لاخضاع حق المقاومة المسلحة للاحتلال الى
طبيعة الظروف ونسبية ووجاهة الحق نفسه في اللحظة التاريخية المعنية.
قد يقول قائل: ما الفائدة في هذا الجدل طالما في الضفة الثانية سفاح ادمن القتل
والذبح مثل الزرقاوي، ولا يعنيه ماذا يقول التاريخ، بل لا يعترف بالتاريخ.




ومنذ حوالي عام دخل الى سوق التداول الاعلامي والسياسي مفهوم جديد
عن"المقاومة الشريفة" الذي حير المحللين والمتابعين، وشغل اللغويين بين من يبحث
عن ملموس الصفة ومن يبحث عن ملمس الموصوف، كما اثار طائفة من الاسئلة عن حقيقة
وجود مثل هذه المقاومة وشعاراتها، والاهم، عما يميزها عن المقاومة غير الشريفة.
ولم ينبري احد من الذين يفترضون وجود مقاومة شريفة الى ترسيم حدودها على ارض
الواقع، في وقت يتابع العالم يوميا بهلع انباء سقوط المدنيين الابرياء ورجال
السياسة والمجتمع والثقافة برسم رجال ملثمين، انتحاريين أو مخططين لهم، او
ممولين لجرائمهم، وانتشرت صور ووقائع حفلات ذبح اجانب وعراقيين على واجهات
الفضائيات العربية مع ذباحين من "المقاومة" لا أحد يعرف صفتها، شريفة كانت أم
غير شريفة.
وحاول فصيلان مهمان من المعارضة، هما الحزب الاسلامي العراقي وهيئة العلماء، ان
يقدما، بين آونة واخرى، شروحات عما يفرق بين المقاومة الشريفة ونقيضتها غير
الشريفة، فمن يتعرض للمدنيين المارة غير شريف، ومن يوقع بالامريكان ورجال
الشرطة العراقية والمترجمين يكون مقاوما شريفا، فجاءت تلك الشروحات متضاربة
وشبحية وبعيدة عن واقع الامر حين صار يسقط من المواطنين الابرياء 40 ضعفا من
جنود القوات الاجنبية.
وفي غضون ذلك تسربت معلومات صحفية متضاربة عن مقاومة شريفة يقودها شيوخ قبائل
عربية وسياسيين قوميين وبعض مشايخ الجوامع في غرب العراق وقياديين وكوادربعثيين
سابقين، وقيل ان رئيس الحكومة السابقة الدكتور اياد علاوي فاوض ممثلين عنهم،
وانه كاد ان يتوصل الى اتفاق معهم بالقاء السلاح(اقول: كاد) لكن انتخابات كانون
الثاني طوت الملف لشهور، قبل ان يعود، مرة ثانية، قبل شهرين على واجهات
ومانشيتات الصحافة، فيما نأت صفة الشرف كثيرا عن الموصوف الذي خوض في بركة الدم
"حتى الحزام" كما يقول الجواهري.
لست اشك ان ثمة مقاوم شريف، إذا كان الشرف يلتزم تعريفه الاخلاقي، بمعنى ان
القاتل يأسف لفعلة القتل حين ينزل بحافلة تحمل اربعين طفلا من اطفال روضة في
البصرة، لكن الشرف سيبقى بانتظار لفتة الاسف من الموصوف ..لفتة الاسف التي لم
نسمع بها، ولا مرة واحدة، حتى الآن عن اية مذبحة.
ثم، تعالوا نفكك هذا الالتباس: يضع مقاومون (لا يحملون حتى الان صفة الشرف أو
نقيضه) سيارة مفخخة في شارع عام، فاذا انفجرت قرب دبابة امريكية وقتلت ثلاثة من
جنودها فان المقاومة التي دبرت العمل تكون شريفة، وتستمد شرعيتها من الاديان
السماوية والقوانين الدولية وشرعة حقوق الانسان،حسنا، وإذا انفجرت قرب سيارة
تقل عمالا عراقيين وقتلت عشرين منهم فانها، نفسها، تعد مقاومة غير شريفة، ولا
تستحق صفة الشرف، أما اذا انفجرت السيارة المفخخة قرب دبابة وقتلت جنديا
امريكيا وثلاثين من النساء والاطفال العراقيين فما هي الصفة التي يستحقها موصوف
المقاومة هنا؟
انا اعرف الجواب: كل هذه المقاومة غير شريفة، حتى يثبت المقامون الشرفاء انهم
لم يزهقوا روحا عراقية.
ــــــــــــــــــــــــــ
..وكلام مفيد
ـــــــــــــــــــــــــ
"كلما لم يكن، فكان، فله سبب".
الفارابي
aalassam@hotmail .com