بدأ ذلك كله مع دخولنا مرفأ نيويورك على متن الباخرة "ساتورنيا" مطلع تموز/يوليو 1948. كانت فلسطين قد سقطت ونحن غافلون عن حققة ان حيواتنا تقودنا إلى الولايات المتحدة حيث سنعيش أنا وأمي ونُصاب بمرض السرطان الذي ينهي حياتينا في "العالم الجديد". لست أملك صورة واضحة عن وصولنا إلى الرصيف الخاص بخطوط النقل البحري الايطالية في نيويورك.وليست لدي فكرة عن شعوري تجاه مشهد فضاء اجنبي جديد نَلجه لأول مرة. كل ما أذكره هو الكآبة الرازحة على ردهة الاستراحلة لمسافري الدرجة الاولى وقد تحولت إلى مكان رث تملأه المكاتب والكراسي المعدلة لمفتشي الجمارك ولمجموعة لا يستهان بحجمها من الركاب الداخلين إلى البلاد وقد تجمعوا معا لأول وآخر مرة.

في المقابل، أحتفظ بانطباع قوي عن الفجائية والاحباط (والتعبير لأبي) اللذين هيمنا على أول مشهد رأيناه لأمريكا الشمالية بسبب الريح والضباب يجرفان باخرتنا نحو أقصى الشمال على نحو غير متوقع. وفي الصباح الباكر، قبل يومين أو ثلاثة أيام من نزولنا إلى نيويورك، صعدنا أنا وأبي إلى سطح الباخرة وهي تدخل مرفأ هاليفاك. كان الضباب كثيفا، إلى درجة أن الرؤية لا تتجاوز بضعة أمتال من فيدوم السفينة، وكان جرس يقرع حزينا في البعيد. على خريطة عبورنا المحيط، المعلقة قرب الجسر، شاهدت انعطاف سيرنا نحو نوفا سكوشيا الشديد الانحدار عن مسارنا الجنوبي الوجهة. كنا ندخل الغرب الامريكي الذي طالما لحمت به لكنه لم يكن "غرب" هوليوود ولا "غرب" المضائق الأسطورية لمدينة نيويورك، بل بلدة صغيرة يلفها الصمت، تبدو غير مأهولة، استحال علي تمييز طابعها في ذلك الصباح على سطح ساتورنيا.

في نيويورك، أقمنا في فندق كومودور الحديث، ذي الإدارة الكفؤة، في الشارع رقم 42 الشرقي، والذي أقام فيه أبي عام 1946 لقربه من مكاتب شركة "رويال" للآلات الطابعة الواقعة عند تقاطع رقم 2 بارك افنيو مع الشارع رقم 34. انبهرنا جميعا بالكفوف البيضاء في أيدي عمال المصاعد، وطبعا بالسرعة المذهلة التي نصعب إلى الطبقة الخامسة والثلاثين وننزل. وكانت حنفية الماء المثلجة موضع اندهاش كبير ("وديع" قالت أمل، "لماذا لا يكون لنا مثلها في القاهرة؟ إنها تجعل الحياة أكثر يسرا بكثير" ولكن أبي، كعادتي به وعادة أمي، طوال حياتنا، لم يكن يجاوب إذا اعتقد أن السؤال سخيف). الطرقات المستقيمة وغابات البنايات الشاهفة والمتر الضاج السريع واللامبالاة العمقة لمشاة نيويورك، وطبعهم الجلف أحيانا –كل هذا تتناقض تناقضا شديدا مع طابع القاهرة، الإنسيابي، اللاهي، الاقل تنظيما في نيويورك وإن يكن أكثر منها أمانا. في نيويورك، لم يأبه بنا أحد، وهو إن فعل، كما تقول أمي، فإنه سوف يعاملنا باستعلاء بسبب الاعاقة التي تنم عنها لهجتنا ومظهرنا الفائق التأنق. وهذا ما شعرت به عند زيارتنا الخامسة إلى محلات "هورن وهاردات للخدمات الآلية" في الشارع رقم 42، حيث قمت رحلات متكررة إلى آلة تصريف الحليب ونسيت لمرتين متتاليتين إن أضع كوبا تحت الحنفية، فصرت فرجة لمن يتفرج فيما أنا أشاهد الحليب يتبدد في وعاد التصريف، ولمرتين متتاليتين أيضا حسبت الزبدة المصفاة حليبا عاديا فتركت الكوب الي دفعت ثمنه قابعا بلا سبب على الكونتوار.

قمنا بجولات سياحية أسبوعا بأكمله زرنا خلاله متحف المتروبوليتان ومرصد هايدن الفضائي وكاتدرائية القديس باتريك وسانترال بارك. وحدها قاعة الاحتفالات الموسيقية في راديو سيتي استحوذت على اهتمامي، لا للعرض المسرحي الباهر بقدر ما كان ذلك لفيلم" موعد مع جولي" من تمثيل جين باول وجورج برنت وكارمن ميراندا ولويتز ميلتشيور. هذا ما توسمته في أمريكا: عالم مصور بالتكنيكالر الباذخ. وفيما أنا أهرع لاحتلال مقعدي المخملي الوثير في الظلمة المغرية، سرعان ما نسيت أمريكا البرانية وقد باتت إشكالية بسبب الخبر عن حاجة أبي لإجراء عملية جراحية في أيلول/سبتمبر والضرورة الملحة لتدبر أمر الأولاد خلال الشهر أو الأسابيع الخمسة القادمة. وأذكر زيارة طويلة الى مجلة ييرانتس في جادة فاندربلت، تصفحت أمي خلالها دليلين للتخييم، وأحدها للصبيان والآخر للبنات، واختارت فيهما معسكرين اثنين (مارانكوك، في ملاية ماين، لي ويمويمادايو أيضا في ماين لروزي وجين) وسجلت طلبات سريعة بواسطة الهاتف ثم قمنا بالتسوق في محلات "بست آند كو" حين تجهزنا بما يلزم من معدات تخييم. وفي اليوم التالي، كنا نستقل قطاع بوسطن اند ماين الليلي، المتجه نحو بورتلاند، من محطة غراند سانترال.

ذاكرتي عن وصلنا الى مقصدنا باكرا صبيحة اليوم التالي يشوبها التشوش. لم يعلق بها غير نوع من الخدر، هو شعور بالوهن باهت، لأنها ال مرة في حياتي انفصل فيها عن والديّ كليهما لفترة من الزمن. قارنت بين زيّ والديّ ولهجتهما ووقفتهما الممئنة وبين آي.بي. دول (مساعد قائد المخيم: المُكنى آي.بي) والمستر هايلمان اللذين استقبلانا في بورتلاند لاصطحابي إلى ونثروب، على مساقة بضعة أميال من المخيم، وهما مرحان بالتأكيد ولكنهما منفران كليا، كلاهما يرتدي بذلة قطنية مخططة وحذاء أبيض. تمت عملية التسلم والتسليم: قبلة من أمي وعناق وجيز ومعانقة غامرة من ابي مرفقة بـ "حطا سعيدا يا بني" ثم قادني الرجلان في صمت كامل، أنا في مؤخرة سيارة الستايشن، وهما في المقدمة.

امضيتُ شهرا كاملا في مارانكوك وصلني لخلاها من والدي مالا يزيد عن رسالتين وبطاقة بريدية واحدة (من شيكاغو). أقمت في كوخ خشبي مع ستة صبيان آخرين من عمري 12 سنة، والمستشار جيم مواري في الساعة عشرة. وجدتني أنساق مسرورا مع الروتين اليومي: ممارسة الحرف، ركوب الخيل، السباحة لعبة الحدوة والوتد، السوفت بول، التجديف، وبدا التتتابع المتواصل للاحداث كأنه تكرار لحياتي العجولة المرتبكة في القاهرة. ولما كنت أضخم وأقوى بنية من معظم المخيمين "التكمليليين" فسرعان ما اكتسبت سمعة اللاعب القوي في فرقة السباحة والسوفت بول وسُميت "إد سعيد، المعجباني" اثنان من زملائي في الكوخ تركا انطابعا طويل المدى علي، هما جون بايج، النيويوركي الحنون، وتوم ميسر المتكلف العصبي والمهذار الذي يبلل سريره كل ليلة فيلزم تزويده بخدمة خاصة لتغيير الاغطية. وساد التجربة لون من البلادة إلى أن أعاد حوار مقتضب تذكيري بهويتي الأجنبية القلقة والمؤقتة جدا.

يتبع إن شاء الله...

(f)