حزب التماسيح.....تحذير..هذا المقال محزن ومبكي ..فقط عنوانه ساخر
التين والطين .. بقلم سعاد جروس
صَعُب علينا فهم سبب أسفه وألمه الشديدين, فالقصة كما رواها اقل من عادية, لا تحتمل ألماً ولا تأسفاً, كل ما هنالك انه اضطر لمراجعة احدى الدوائر الحكومية لمتابعة معاملة روتينية فطلب منه الموظف «إكرامية» تحفظ عليه كرامته بتجنيبه مذلة الانتظار الطويل لمعاملة قد تموت في الادراج ما لم يدعمها بالبرطيل. ومن طرف آخر, تقي الاكرامية الموظف المسكين ذل الحاجة. ومع ذلك رفض الضابط المتقاعد سهيل العشي الذي سبق له واحتل عدة مناصب عسكرية في الجمهورية السورية فجر الاستقلال, ومن ثم محافظاً لحلب, قبل أن يدخل السلك الدبلوماسي في الستينيات من القرن الماضي. رفض العشي تسمية الرشوة بغير مسمياتها, فما يتعارف عليه باسم «البرطيل» هو ثمن لشراء الذمم, ولا يصح عليه تسمية «إكرامية». أين الكرامة في الكسب الحرام؟!
كيف يقبل المتقاعد العشي بدفع إكرامية وهو الذي حين كان محافظاً لمدينة حلب, عاقب شرطياً بالسجن لمدة شهر ونقله إلى منطقة نائية, لأنه تقاضى من مراهق ليرة سورية رشوة للسماح له بالدخول إلى حي «بحسيتا» حي بنات الهوى, الذي كان محظوراً على من هم دون سن الثامنة عشرة!!
ليست مشكلة العشي في رفض نمط اصبح سارياً فقط, بل وأيضاً في عدم الاقرار بأن العقود التي تفصله عن ذلك الزمن الغض قد أشبعت بالفساد, وتحولت خلاله الرشوة إلى إكرامية, وإذا أزعجه وجودها, فإن عدم وجودها لاشك يقلقنا ويتعبنا. بعدما غدت أسلوب حياة, ونهجاً لتسهيل الأعمال, وسبيلاً للارتزاق, واكتسبت نوعاً من الشرعية العملية والأخلاقية عبر مجموعة مقولات عامية تعتمد على «الإطعام» كسلوك انتفاعي له حيله «طعمي التم بتستحي العين» ويؤمن بالمشاركة «طعمي التسعة حتى تأكل العشرة» ولا يخلو من خير يفيض على الجميع «عيش وخلي غيرك يعيش» و«نفع واستنفع»... إلخ, حتى بلغت التفسيرات الرؤومة حد اعتبارها صدقة جارية, أو حسنة لوجهه تعالى مضادة للفقر, في تجاهل تام لشريعة «الراشي والمرتشي في النار». اليوم, ما العمل حين يصبح المرتشي عبداً محتاجاً والراشي محسناً باراً؟! هذا ما يدعونه بانقلاب القيم.
حين حذر مدير المصرف التجاري موظفيه من تقاضي الرشوة مساوياً بينها وبين العهر على ذمة صحيفة «المبكي» التي نقلت الواقعة ورد الفعل المستنكر للموظفين والموظفات فيما اعتبروه طعناً بـ«شرفهم» الذي لا تشوبه شائبة, دافع بعضهم عما اُعتبر ضرباً من العهر بأنه في حقيقته «إكرامية» استحقوها بكد يمينهم وعرق جبينهم في تسيير عشرات المعاملات وقضاء أشغال آلاف الزبائن في جهاد يومي دؤوب على امتداد ساعات دوام طويل غير مسلٍ, تعجز عن تبديد ملله وسقمه النمائم بكل ما تحمله من اثارة وتشويق.
طبعاً من غير المستحسن استخدام مدير المصرف لتلك اللغة القاسية, لكن ما يجدر التوقف عنده أخلاقنا الحساسة جداً التي تخدش اللغة حياءها, ولا يؤثر فيها واقع يومي نمارس فيه كل ما ينافيها, طالما هي ممارسة مسكوت عنها, جرياً على «وإذا أبتليتم بالمعاصي فاستتروا» وكأن تفسيرها «افعلوا ما شئتم من المعاصي, لكن لا تتركوا وراءكم أثراً, المهم أن تكون مستورة, فالجريمة أن تكون مكشوفة»!! في مجتمع بات يشجع المعاصي ويشارك فيها بالتغاضي عنها, وغالباً بالتجاوب معها. في حين لا يقدم ظهورها للعلن, أو يؤخر في الأمر شيئاً, مادامت تعمل في ظل قناعة وطنية بأن «الكل فاسد» ولا فاعلية لسلطة القانون.
المفارقة في تعاطينا مع فضائح الفساد الدائرة رحاها الآن في سوريا, على النقيض مما يحدث في مجتمعات أخرى تعاني مثلنا من الفساد بلا تشابيه إنه عندما بدأت الأرقام تتكلم, أصابنا الرعب وتملكتنا الهواجس والقلق على سلامة الوطن والبشر والمستقبل. والمطلوب الآن من مواطننا الحصيف الذي لا يعبأ بفضح ما يعرفه, ويشكك في غايات طرح الملفات السرية للتداول العام, مندهشاً ايما اندهاش من التجروء على تناول ابطالها من أولياء الأمور المحصنين, بدل استنكار هول ما خلفه فسادهم من خراب في البنى التحتية والفوقية. المطلوب, ألا يسكت عما يرتكب من جرائم في حقه.
ولعل سؤال: لماذا الآن, وأيضاً لماذا المواطن؟ يؤشر إلى أن المجتمع نفسه بات شريكاً حيوياً في الفساد, وجزءاً لا يتجزأ منه, خصوصا حين تنعدم المبادرة إلى استغلال الظروف لمواجهة مرض استفحل وأتى على الأخضر واليابس في حياتنا, في ظل قوانين معوقة وبيروقراطية قاتلة؛ كانت مرتعاً لشطارات الابتزاز والهدر والنهب؛ فساد توسعت دوائره وتفشت نتائجه خارج مجتمع العمل وانطلق بلا حدود في استباحته للمال العام والخاص, كأن ثوراتنا الأبية استبدلت الجلاد برئيس البلدية, والإقطاعي بالمحافظ, والوالي بالوزير, بالإضافة إلى حاشيتهم من المدراء وجيوش الموظفين. وحسبنا ما طالعتنا به جريدة المبكي الأسبوع الماضي من صحائف أعمال سوداء ما كانت لتنشر, لولا صحافيون مغامرون وجدوا أنفسهم في خضم صحافة وليدة ومستقلة طالما حلموا بها, فأقبلوا عليها كـ«عديم وقع في سلة تين», ولعلهم يعرفون, وربما لا يعرفون, أن الثمن الذي رفضوا تقاضيه للتوقف عن التهام التين, قد يدفعون مقابله أضعافاً مضاعفة حين لا ينفع بستان تين بأكمله في معركة شرسة تغرق الوطن والمواطن في الطين, طالما مجتمعنا ينعم بصمته, وهو يتابع أخبار الفساد كما يتابع فيلماً أجنبياً غير مترجم.
الكفاح العربي
|