سمير عطا الله


دماغ على النافذة

تعرفت الى اسم سمير قصير للمرة الاولى في «الموند ديبلوماتيك» حيث كان يكتب في القضية الفلسطينية. وعندما بدأ يكتب في «النهار» التقيته شخصيا وقلت له: من الخسارة ان تكتب بالعربية، فالقضية في حاجة الى اصدقاء في الخارج. وعندما عدت الى بيروت نهائيا التقيت الاستاذ غسان تويني صاحب «النهار» وقلت له: هناك اسماء لا يجوز ان تبقى في الصفحات الداخلية بل يجب اعطاؤها حقها بنقلها الى الصفحة الاولى. وقال، «مثل من؟» قلت: ليس في ذهني الآن سوى سمير قصير.

وبانتقاله الى الاولى، احدث سمير قصير تغييرا جذريا في اسلوبه وموضوعه. ولم يعد يهتم بالشؤون الثقافية بل انصرف الى الكتابة السياسية في الشأن اللبناني والسوري. وكان قلمه حادا. وكنت نادرا ما التقيه، لكن عندما اراه كنت اقول له:«الجرأة حق، لكن حاذر خطوط التجاوز. وكان يضحك. وذات مرحلة تعرض لملاحقة يومية من رجال الأمن العام. وعندما رأيته قلت له: الق عن ظهرك عبء حرية لبنان. انك ترعب عائلتك واطفالك. وهذا بلد الأحلاف فيه قصيرة العمر. ومن عادة الناس ان تتبرأ من الضحية وتبرر للقاتل». وضحك ايضا.

وعندما تزوج من الزميلة والصديقة جيزيل خوري التقيته للمرة الأولى في لقاء دام اكثر من دقيقتين. فقد دعوت العريسين الى غداء في «السيتي كافيه» واكتشفت ان سمير قصير ليس حاد القلم فحسب، بل هو حاد الحوار ايضا. وزاده زواجه من جيزيل حدة ونقمة على الأوضاع السياسية وسخرية من يومياتها. وما كان يفوته من نقد لتردي الحياة الوطنية، كانت تلفته اليه زوجته الجديدة التي من اجلها طلَّق والذي من اجله طلّقت.

ازداد حدة مع الايام. في المعارضة وفي الدفاع عن فلسطين التي جاء اهله منها. ويبدو انه كان لاذعا في افتتاحياته ومجالسه الخاصة على السواء. وكان يشعر ان حمايته في صداقاته: رفيق الحريري ووليد جنبلاط. كما كان يشعر ان «النهار» حماية في حد ذاتها، فلن يجرؤ احد على التعرض لهذه الجريدة التي تسقط الرؤساء والعهود عبر العقود. وكلما دخلت السجن خرجت اقوى عوداً واوسع عطرا. وقبل ان يصل سمير قصير من مقاعد الدراسة الى مقاعد الصحافة كانت «النهار» تخوض المعارك ضد العسكر والديكتاتوريات والاستبداد.

من الصعب ان نعرف لمن وجّه ساعي البريد الرسالة التي حمَّلها جثمان سمير قصير وروحه. فهو لم يترك لنا سوى جثة تنحني على مقود وقد تطاير دماغها من النافذة المقابلة. ولا شك انها قطعة من دماغ حرّ يحمل بصمات دماغ إجرامي فاجر. دماغ خلاق. لقد كان سمير قصير الحاد الافتتاحية، مؤرخا بالغ الهدوء والجماليات. ومنذ عام انجز بالفرنسية كتابه «بيروت» مؤرخا المدينة التي احب ازقتها الصغيرة التي قتل في احدها، وصار صفحة اخرى من تاريخها المعذب.