شخصان، موتان والقاتل واحد
2005/06/02

أمجد ناصر
لم استطع ان اتفادي اوجه الشبه المتعددة بينه وبين ميشيل النمري التي هالتني عندما رأيته علي شاشة تلفزيون المستقبل مؤخرا:
البشرة البيضاء، الوجه المستــــطيل، الجبين العالي، حركة اليدين، السحنة المعبرة، وفوق ذلك كله، الروح الحــيوية التي تتدفق في الاعضاء والكلام صانعة حضورا وجاذبية يصعب تجاهلهما.
اتحدث، هنا، طبعا عن الكاتب والصحافي اللبناني الشهيد سمير قصير.
فهذان شخصان متشابهان في الطلة، والحيوية، والجرأة، والصلابة والميتة.. وليس مستبعدا ان يكون القاتل الذي صرع الصحافي الاردني ميشيل النمـــــري مؤســـــس الموقــــف العربي و النشرة امام مكتبه في اثينا عام 1985 هو نفسه الذي صرع، في ربع الساعة الاخير من عمره الشبحي، صاحب قلم جريء، قبل ان تكنسه حركة التاريخ المتسارعة الي مصيره المحتوم: المزبلة.
عشرون سنة تفصل بين مقتل ميشيل النمري الاردني الذي التحق بالمقاومة الفلسطينية، وبين سمير قصير السوري الأب والفلسطيني الام واللبناني ـ العربي الحياة والانتماء..
عشرون سنة حصد خلالها هذا القاتل الشبحي ارواحا عديدة تحب الحياة بقدر محبته للموت، وتعيش في الضوء بقدر تلطيه في الظلام، وتعمل للحرية بقدر عمله علي تكميم الافواه .. وها هو القاتل الشبحي يصل، كما نأمل، الي نهاية مهنته السوداء.
ميشيل النمري وسمير قصير روحان حرتان اجهز عليهما، باكرا، القاتل المجهول نفسه.
رجلان متشابهان في العمق، حتي وان كان تشابههما شكلا مجرد رغبة ارادية من قبلي.
فهما صاحبا قلم، وموقف، ورؤيا، وشهادة.
رجلان مزعجان لهذه الانظمة العربية المختلفة شكلا المتشابهة جوهرا.
لا يطيق النظام العربي اقلاما ولا رجالا من هذا الطراز.
رائحة هذا النوع من الحبر، وليس تحبير الكتبة المرتزقة، تثير عند النظام العربي شهية وحشية لرائحة اخري:
رائحة الدم.
ركب انتفاضة الشباب اللبناني، بعد مقتل الرئيس الحريري، الكثير من المدعين والقتلة السابقين، الذين ارادوا ان يغسلوا ايديهم من دماء اخري، تشبه دم الحريري، سفكوها في معاركهم الزواريبية ، وبدا، للحظة، ان هبَّة الشباب اللبنانيين من صنعهم، هم الذين لم يكونوا قادرين علي جمع حفنة من المناصرين قبلا.
وفي ظل التقاطر الزواريبي و الميليشياوي علي ركوب موجة الانتفاضة الشبابية غاب، عن الواجهة، ابرز صناعها الذين عملوا طويلا، وفي ذروة سنين الخوف في لبنان، علي ارساء مفهوم لبناني ـ عربي جديد للحرية.
سمير قصير هو احد ابرز صناع انتفاضة الشباب.
فهو يشبههم في حبهم للحياة.
ويشبههم في تطلعهم للتخلص من النزعات المناطقية والطائفية التي ما تزال تعشش في عقول وارواح ورثة الاقطاع السياسي السابق ـ المتجدد.
الذين ركبوا موجة انتفاضة الشباب هم الذين فرطوا في هذا المكسب الوطني الذي يتجاوز حدود المنطقة والطائفة، وعادوا، سريعا، الي قواقعهم الطائفية ما ان بدا لهم ان هذه الموجة ستتجاوزهم، وراحوا يثيرون المخاوف والاحقاد القديمة التي زرع بذارها المرة آباؤهم وغذوها بأضيق النزعات الانسانية.
سمير قصير، والخارجون من جلود طوائفهم مثله، هم الذين اصيبوا بالاحباط العميق لانكفاء حركة الشباب الذين انتفضوا علي الترسيمة الطائفية والمناطقية اللبنانية المتخلفة، بعد ان استغل ورثة الاقطاع السياسي وقادة الميليشيات انتفاضتهم اسوأ استغلال.
كل منتفخي الأوداج الذين رأيناهم علي الشاشات اللبنانية والعربية، بعد انتفاضة الاستقلال عادوا الي طوائفهم ومناطقهم، الا من كان علي شاكلة سمير قصير.. لا طائفة له.. لأنه ابن عملة سحرية لم تتداولها اسواق الطوائف والملل في لبنان تسمي: الوطن.
لم يكن سمير قصير من طينة المعارضة اللبنانية.
رأيته علي شاشة تلفزيون المستقبل (الذي اعاد بث آخر حلقة تلفزيونية شارك فيها الشهيد مع عدد من الشباب اللبنانيين) [SIZE=6]يتحدث عن مفهوم للحرية لم اسمع احدا من السياسيين او المعلقين اللبنانيين يتحدث به. قال ان حرية لبنان لن تكون قابلة للحياة من دون ان يتحرر عالمه المحيط. فأي حرية حقيقية قد تحدث في لبنان لن تكون ناجزة وراسخة ما لم تدعهما حرية موازية في الجوار العربي.
حرية لبنان هي جزء لا يتجزأ من حرية العالم العربي.
هذا، للمفارقة، امر بديهي.
ونحن الذين عشنا في لبنان نعرف ان عالم القمع العربي لم يطق تلك الفسحة البسيطة من الحرية التي عرفها لبنان وشعَّ بها عليه، فأدخلوه في حروب لم ينج منها حتي اليوم.. هذا العالم العربي لم يتغير كثيرا.. لذلك لن يترك لبنان يصنع حرية قد تكون مثالا يطالب به ابناء الشعوب العربية المقهورة.
كيف يمكن للحرية ان ترفع تمثالها الكبير في قلب بيروت والقهر ما يزال في عواصم العرب القريبة والبعيدة؟دم سمير قصير الذي كان ينبغي ان يوفر من اجل الحياة التي احبها ودافع عنها، يأتي علي اعتاب هذه الحرية الموعودة.
ولا نامت أعين القتلة والجبناء.
0