[CENTER](5)
تـقـنـيـة الـغـرب : كـل الـحـكـايـة[/CENTER]


هنا سنعرض ، بإيجاز شديد ، قصة التقنية في الغرب . وبسبب المساحة المتاحة ، لن نستطيع الوقوف عند كل اختراع باحثين عن تأثيراته وما احدثه من تغير في المجتمع والأيديولوجيا الغربية. وسنبدأ القصة ، من بدايتها ، من المطبعة .

هناك من يجعل عام 1450 هو خاتمة عصور أوروبا الوسطى، معتبرا أن ما قام به غوتنبرغ في هذا العام من اختراع للمطبعة ، قد كتب النهاية لتلك العصور . وبغض النظر عن صحة هذا الرأي ، إلا أن الطباعة كانت ، بلا شك ، أحد أسباب انتهاء القرون الوسطى . كانت الوسيط الذي من خلاله ، او بمساعدته ، تشكلت اهم الأحداث التي أدخلت أوروبا عصورها الحديثة . فحركة الإصلاح الديني بقيادة مارتن لوثر : لا يُعلم هل كان سيكتب لها النجاح لولا المطبعة ؟ فآراء لوثر ، التي دعى لها ، لم تكن جديدة بل سبقه إليه من كانت الكنيسة الكاثوليكية من تصنفهم كـ"مهرطقين " . الجديد في حركة لوثر : استغلاله للوسيط الجديد، والذي مكنه من مجابهة الكنيسة الكاثوليكية . فالكنيسة الكاثوليكية كانت تمارس ما يسمى بـ"احتكار للمعرفة " باحتكارها لأصول هذه المعرفة وتسلطها على التعليم ، كما أنها رفضت تبني المطبعة ، وأيضا كانت تعتمد اللاتينية لغة دينية ، لا تقرأ النصوص المقدسة إلا بها . لوثر ، حطم كل هذا ، فاحتكار المعرفة قابله بترجمة الكتاب المقدس للهجة محلية ونشر هذه الترجمة باستخدام المطبعة ، كما أن انتقاداته بدل أن يوصلها بنفسه عن طريق الخطب ، جعل كتبه التي تنتشر بسرعة عبر المطابع تنوب عنه في ذلك . وباستغلاله لهذه التقنية الجديدة ، تحول من مجرد مهرطق إلى مصلح عظيم ، قام عالم الاجتماع الكبير ، ماكس فيبر ، برصد علاقات الأخلاقيات التي انتجتها حركته ، خصوصا الكالفينية ، مع روح الرأسمالية الحديثة.

هذا الدور الذي قامت به المطبعة كوسيط لنشر الأفكار المعارضة ، لعبت مثله في الحروب الدينية والأهلية التي تلت ذلك في انجلترا وفرنسا وهولندا ، بأن كانت مجالا لكثير من المعارك الكلامية في المنشورات والصحف التي بدأت تولد في تلك الايام . وكما اعانت المطبعة لوثر من قبل ، فقد أعانت "فولتير " و " روسو " و " ديدرو " وغيرهم من مفكري " التنوير" ، في نشر التنوير ، ونقد السلطة السياسية .وفي ظل الرقابة ظهر نوع من الكتب ، يسمى بالكتب " الفلسفية " ، كانت توزع بسرية ، وكانت هذه الكتب تحتوي على أعمال هرطقية وأخرى سياسية ناقدة .. اضافة إلى أدب إباحي .

وكان للطباعة دور مهم في الثورتين الأمريكية والفرنسية . كانت هناك صحف في أمريكا ، كصحيفة " نيويورك جورنال " و " فيلادلفيا إيفننغ بوست " وغيرها ، تصف ما تسميه " الفضائع التي ارتكبها الجيش البريطاني" . وكانت الصحف الأمريكية تعيد نشر كتاب توماس بين " التعقل " الذي يدافع فيه عن حقهم في الاستقلال ، وتضخم عدد الصحف التي تنشر في أمريكا إلى 1780صحيفة أسبوعية و 24 صحيفة يومية .واعتمد الثوار الفرنسيين على وسيط الطباعة لإكساب القوانين التي يصدرونها الشرعية ، كما أن تحرير الصحافة وما أدى إليه من نمو الوعي السياسي زاد عدد القراء الفرنسيين ، وكانت الثورة تزود الأميين بالصور المطبوعة مخاطبة وجدانهم عن طريق أعينهم . والتقنية ليست فقط مؤثر في الأحداث الاجتماعية ، ولكنها متأثر أيضا ، فقد ساعدت الثورة والامبراطورية النابولونية فيما بعد بتشجيع العلم ، فتأسست معاهد للهندسة ، كما قامت بتبني نظام " سيمافوري " لنقل الرسائل يمكنه أن يتلقى ردا سريعا من برج إلى برج .

ساعدت المطبعة بتقليل تكلفة الكتب ، وزيادة انتشارها ، مما ساعد على نشر المعرفة وتوفير الآراء المتصادمة ، لتدفع المجتمع للإنتقال من الثقافة الشفهية والبصرية ، إلى ثقافة مكتوبة . وأظهرت القراءة النقدية المدققة ، بدل القراءة المتلقية . كما شكلت المطبعة ، وسيطا ممتازا ، شجع الكثيرين على مهاجمة الحكومات والسلطات القائمة من خلالها . وأخيرا ، كان للطباعة ، الدور الأكبر في حفظ المعرفة من الضياع والاندثار ، وساعدت في تراكمها وتضاخمها .

وشيئا فشيئا أصبحت الطباعة ، متمثلة بالصحف والكتب وغيرها ، مجالا لثلاث أهداف : المعلومات ، التأثير والتسلية . فتبادل المعلومات ، سواء كانت معلومات ثقافية أو عسكرية أو اجتماعية ، كان يزداد ويقوى كلما كانت مقدرة الوسيط على دعم هذا الهدف أقوى وأكبر . والتأثير ، من خلال محاولة الدعوة لرأي ما أو التبشير بمذهب ، او صناعة الرأي العام ، او تشكيل جماهير ، كان يعتمد اعتمادا كبيرا ، على نوع الوسيط الذي يجذب الناس . والتسلية ، فقد كانت تقدم في البداية داخل إطار الغاية الأخلاقية أو الفكرية ، أو التجارية فيما بعد ، كمركب جذبي وتشويقي للناس ، الذين لا يستهويهم الخطاب المباشر والمركز والمتعالي .وهذا الكلام المطول عن الطباعة ينطبق ، نوعا ما ، على باقي الوسائط الأخرى كالتلفاز والمذياع والانترنت وغيرها. قد تختلف طرق توصيل المعلومات ، وجودتها ، من وسط إلى وسط ، لكن يظل " توصيل المعلومات " غاية بشرية تحدد استخدام الوسائط . و التأثير ، سواءا كان تعليما أو إثارة أو غيرها من أنواع محاولة التأثير في أفكار الآخرين ، يلعب نوع الوسيط الذي يتم من خلاله هذا التأثير ، أهمية كبيرة تتجاوز بكثير الكيفية التي يتم بها التأثير . والتسلية ، تحررت من جميع الأطر التي تقدم من خلالها- ماعدا الإطار التجاري ، وكفت من ان تكون مجرد وسيلة لجذب الناس لغاية أهم . أصبحت هدفا في حد ذاته ، ومصدر كسب مضمون .


ننتقل الآن إلى انجلترا ، حيث استطاع جيمس واط في عام 1763 اختراع المحرك البخاري. ومع هذا المحرك ، بدأت أوروبا تتغير وتدخل العصر الصناعي . عبر كارل ماركس عن الفرق بين نوع الصناعة الجديد والصناعات القديمة بقوله : ( الطبيعة لا تصنع ماكينات أو قاطرات أو سككا حديدية ... إلخ، فهذه نتاج لكد الإنسان ، بمعنى أن المواد الطبيعية تتحول إلى وسائل للإرادة الإنسانية ) . كان ماركس هنا واصفا لعصر الصناعة ، قبل أن نعود إليه كنتيجة لتأثير التقنية عليه نعلق على كلامه قائلين : بالفعل ، تم تجاوز المهارة البشرية إلى الوسيلة الميكانيكية ، وأصبحت القوة الميكانيكية بديلا عن القوة الحية . كان المحرك البخاري ، كالقضاء على الباستيل ، رمز " الثورة " الصناعية . فمعه انتشرت المصانع في انجلترا ، واستحدثت وسائل نقل قللت من سعر الحديد ، فزادت استخدماته . وانتقل الناس من الأرياف والمزارع الصغيرة ، للعمل في المصانع والمزارع الصناعية الكبيرة . كانت الثورة الفرنسية هي التي أفسحت المجال لظهور الطبقة البروجوازية ، وكانت هذه الطبقة هي التي استفادت من المحرك البخاري وراحت تبني المصانع ، وتستغني عن القوى الحية ، بالقوة الميكانيكية . وهي بانشاءها للمصانع ، انشأت طبقة جديدة هي طبقة العمال ، الذين كانوا يعملون مدة نصف يوم ، وكانت القوانين في خدمة البروجوازيين ، إذ أنه كان " تخفيظ الراتب" أسهل بكثير من رفعه ، واشترك الأطفال والنساء في العمل . كان المحرك البخاري ، نقطة حرجة تغيرت بعدها دالة الحياة في الأوروبا .

في هذا العصر ألف آدم سميث " ثروة الأمم " مؤسسا الاقتصاد الرأسمالي ، إذ بعد غلاء المصانع وتكلفتها احتيج لمؤسسات تقوم بإقراض الأموال اللازمة لذلك ، وتجميعها ، هذا العمل الذي تكفلت به " المصارف " لتؤسس من خلال هذا العمل موقعها داخل النظام الرأسمالي . هذا النظام الذي كان كارل ماركس ، بكتابه " المدخل إلى نقد الاقتصاد السياسي " ، الصرخة المعارضة ضده ، صور هذا النظام داخل التاريخ ، وأرجع مفاهيمه التي كانت تعطى كبديهيات إلى مفاهيم لعب تغير المجتمع دورا بارزا في تشكيلها . وصف هذا التغير الإجتماعي بحركة " التشيؤ " ، يقول عبد الله العروي : ( تغيرت مادة الاستهلاك إلى بضاعة ، تقتضي البضاعة التبادل ، يستلزم التبادل معيارا عاما هو النقد ، يتحول النقد إلى رأسمال ، الرأسمال هو الاقتدار على تشغيل الانسان وتملك الفائض عن حاجاته الأولية الضرورية .بدأت حركة التشيؤ بقوة الإنسان على العمل وانتهت بظهور الرأسمال كأساس للعمل . إن التشيؤ ظهور انتاج العمل الانساني في صورة شيء ( الرأسمال ) يخلق فرصة العمل وينظم أطواره.) . بهذا الشكل الدقيق قيد ماركس ما صورته البروجوازية أنه مطلق ، وحدد ما كان مبهما . وكان على هذه الأفكار أن تنتظر أكقر من 35 عاما حتى تتمثل كواقع ، ثم تتحول هي أيضا إلى مفاهيم مطلقة ومبهمه . كان المحرك البخاري ، مقوضا فعليا – بعد أن كان التقويض نظريا – لكل ما هو قديم .

مع المصانع ، والمزارع الصناعية التي كانت كبيرة الحجم ، كثيفة الإنتاج ، لم تجد الأسر التي كانت تعيش على المزارع الصغيرة خيارا سوى الإنتقال للمدن والعمل في المصانع . كانت عملية الإنتقال هذه تعني أكثر من أمر : توسع المدن وزيادة كثافتها السكانية ، انحسار الإقطاع وموارده ، انفصال العامل عن انتاج عمله ، التحول من الأسرة إلى الفرد . بمعنى آخر : تعني إعادة تشكيل جديد للمجتمع . في المزرعة كانت الأسرة تتكافل فيما بينها ، وكان للأب سلطته الاجتماعية المستمدة من سلطته الاقتصادية ، وكان الفارق بين نضج الفرد اقتصاديا ونضجه بيولوجيا متقاربا جدا . في المصنع والمدن ، أصبح على المرأة أن تعمل كما الرجل ، وكان الابن كذلك عليه أن يعمل أيضا ، كانت الأسرة تتحول من تجمعها التكافلي ، إلى مجموعة من الافراد المستقلين اقتصاديا ، هذا الاستقلال الذي تبعه تقلص لسلطة الابوين على الابناء ، وزيادة الفارق بين نضج الفتى بيولوجيا ونضجه اقتصاديا ، مما يعني ان احتمالية المحافظة على العفة قليل جدا . والمرأة التي كانت " مدرسة " ، انحسر دورها في النظام الجديد الذي يحسب الأمور دائما بتكلفتها ، فلأن انجاب الأطفال أضحى مكلفا ، انتشرت فكرة تحديد النسل ، مما خفف من مسئولية الأم ، وفي القرن الثامن عشر كان أجر المرأة أقل بكثير من أجر الرجال ، مما جعل الدعوة إلى " تحرير " المرأة جارية على قدم وساق ... فانتقلت للمصنع والمكتب . حققت الثورة الصناعية الكثير من الرفاهية ومكنت الناس من الحصول على سلع كثيرة ، إذ أن بقاء النظام الاقتصادي وقوة انتاجيته تعتمد اعتمادا كاملا على قوة الطلب.

غيرت المحركات الكثير ، فاستخداماتها امتدت للكثير من المجالات : كالسفن ، وسكك الحديد ، والطباعة ، وصناعة النسيج وغيرها .كمما أدت إلى استحداث وسائل نقل جديدة تتميز بالسرعة ، و انعدام الحياة فيها مما يعني قابليتها للإصلاح . كما أن الربح الذي تحقق من خلالها أدى إلى تشجيع العلم ، فازدادت البحوث العلمية ، وتكاثرت الاختراعات تكاثرا كبيرا ، وتسارع الزمان تسارعا غير معهود .

وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر أدى اختراع التلغراف وتمديد الكابلات بين المدن وعبر المحيطات إلى فتح جديد في مجال التقنية . فتح أدى إلى تسهيل نقل المعلومة وتقليص الوقت بين حدوثها ووصولها وقام بربط الأسواق القومية والعالمية. وأدى التلغراف إلى وجود وكالات الأنباء التي كانت أولاها " Agence Havas " المؤسسة عام 1835 ، تلتها شركة " Reuters " عام 1851. وكان التلغراف هو التقنية الجديدة المساعدة في حرب القرم والحرب الأهلية الأمريكية . وكما تعتمد امراطورية الولايات المتحدة الامريكية اليوم كثيرا على الانترنت والاقمار الصناعية ، كانت الامبراطورية البريطانية ، تلك التي لا تغاب عنها الشمس ، تعتمد على التلغراف .

وقبل أن يسدل الستار على القرن التاسع عشر ، كان جراهام بل يسجل براءة اختراعه الذي اسماه بـ"التيلفون" ، كوسيط جديد لا ينقل شفرات كالتلغراف بل ينقل الصوت. ثم تسارعت الثورة في الاتصالات والوسائط ، فبعد التلفون ، استطاع المهندسون ارسال نبضات كهربائية لاسلكيا ، مما مهد لاختراع الراديو .. الذي كان يقوم بنفس الدور- من تأثير وتعليم وتسلية – الذي تقوم به الفضائيات في هذه الايام . بعد الراديو ، وصل التطور المتسارع لاختراع الكاميرا إلى الطور السنيمائي ، الذي بدأ صامتا ، ثم أدخل عليه الصوت فيما بعد . وبعد السينما ، وتحديدا ، في العام 1907 اخترع التلفاز .

كانت الدراجة ، التي كانت تقدم كوسيلة ترفيهية لأكثر منها كوسيلة نقل ، هي الملهم لاختراع السيارة . وكان العام 1903 هو الذي شهدت فيه السماء انتقال الاخوان " رايت " باول طائرة ديزلية . وأدى تغير النظرة للحاسب ، من كونه مجرد آلة حسابيه ، إلى تقدم هائل في استخداماته . كل هذا التقدم السابق ، جاء " الترانزيستور " ليحوله إلى عالم صغير وأسرع وأكثر كفائة في منتصف القرن العشرين . بعد ذلك انطلقت الاقمار الفضائية للسماء ووصل الإنسان للقمر ، وصنع الإنسان عالما جديدا رمزيا اصبح جامعا لكل الوسائط المتعددة هو عالم الانترنت .

قد يستغرب تركيزي على الطباعة والماكينة البخارية أكثر من باقي الاختراعات التي نعيشها الآن كالتلفاز والراديو والحاسب وغيرها . يعود هذا التركيز إلى الاعتقاد أن الآثار التي انتجها أول وسيط جديد هي مماثلة لكل الوسائط التي جاءت من بعدها والاختلاف بينها في الدرجة لا في النوع . ووسائل النقل لا تختلف فيما بينها هي أيضا إلى اختلافات نوعية ، من ناحية السرعة والكيفية . كما أن التأثيرات الإجتماعية التي احدثتها الاختراعات التي تلت المطبعة والمحرك البخاري كانت امتداد لهذه ، فالنظام الرأسمالي والشيوعي كانا نتيجة تغير مفهوم العمل الذي أحدثه وجود المصانع نتيجة اختراع المكاينة البخارية . وهذان النظامان هما الذين سيرا حركة التاريخ الاوروبي في صراعهما وسيرورتيهما .

كانت هذه جولة سريعة ، خاطفة ، التقطت شيئا من هنا وشيئا من هناك، في محاولة لإيصال صورة شبه تقريبية لكيفية تطور وتراكم التقنية في الغرب . لا أدعي فيها الشمول والاستيعاب .. لكنها تساعدنا في موضوعنا الذي لا يتعلق بالغرب ، بقدر ما يتعلق بتقنيته المنتقلة لغيره ، وهذا موضوع المداخلة القادمة .