النهايات - عبد الرحمن منيف
الناس, وأبناء الطيبة الذين أحسُّوا بغريزتهم أن كل شيء قد تغيَّر في البلدة, وأن الأيام التي يعيشها أهلها من القسوة إلى درجة لم يكونوا يتصورونها, ورأوا التغيُّرات العميقة التي دخلت في كل شيء يلمحونه. شعروا أنهم أذنبوا كثيرًا, وأن أي كلمات تقال الآن لا بدَّ أن تكون عاجزة ولا تعبِّر عمَّا تفيض به قلوبهم. ولأنَّ الضيوف قد أتوا, ولأنَّهم تعوَّدوا على شكل معين من التصرفات, فقد فهموا من النظرات, من الإشارات, وحتى من لمسات الأيدي, أن الطيبة تغلي ولا بدَّ أن تنفجر بشكل أو آخر, لكن هذه المشاعر تُركت جانبًا, لأنَّ الضيوف بدا لهم كل شيء غريبًا وطريفًا!
أمَّا حين انعقد مجلس السمر فقد تركَّز الحديث على الصيد, لأنَّ الضيوف جاءوا لهذه الغاية. وما دام الضيوف يريدون هذا, فإنَّ هذا ما حصل!
وأهل الطيبة الذين كانوا قادرين على التحدِّي والغضب في أوقات معينة, كانوا قادرين أيضًا على الصبر, ويلجأون إلى كل الوسائل لمواجهة الجوع والموت. وحين يُذكر الصيد وسيلة لمواجهة المجاعة, وإنقاذ ما يمكن إنقاذه, تتردّد كلمة واحدة, وكأنَّها كلمة السر: أين عساف? ودون عناء كبير يتبرع الكثيرون لمناداته, لإحضاره. وفي غمرة الحزن والجوع والتحدِّي ومواجهة الموت, ومن أجل التغلُّب على الحزن والجوع والموت, تفلت كلمة ساخرة, أقرب إلى الدعابة. يقول أحد الحاضرين, ليتغلب على المناقشة الحادة التي بدأت ولا يعرف كيف ستنتهي:
- نريد عسافًا, احضروا عسافًا حيًّا أو ميتًا!
دخل عساف عصبيّا مخطوف الوجه, وبغمغمة لا تكاد تُفهم, ألقى التحية, وجلس قريبًا من الباب. وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا على عساف, وقبلوا جنونه, رفضوا بكثير من الإصرار أن يصطحب كلبه معه إلى سهراتهم وإلى مجالسهم. وهذا الرفض الذي آذي عسافًا كثيرًا, قابله برفض أشد قسوة وأشد إصرارا, حتى انتهى الأمر إلى ذلك الاتفاق الضمني بأن يدخل عساف إلى المجلس دون أن يصافح أحدًا, وأن يبقي كلبه قريبًا من الباب. وإذا كان عساف قد قَبِلَ هذه الشروط مكرهًا, فإنَّ علاقته بمجالس البلدة وأحاديثها قليلة إلى درجة أن الناس لا يرونه إلاَّ نادرًا. أما إذا جاء ضيف إلى البلدة من أجل الصيد, فقد كان أوّل الذين يجب دعوتهم وحضورهم هو عساف. وعساف الذي لا يحب حضور المجالس, يكره أيضًا هؤلاء الضيوف, ويًعُدُّهم, في أغلب الأحيان, ثقلاء شديدي البلادة والخور, لكن مثلما علّمته الطيبة, كان مضطرًّا إلى مصاحبتهم وإلى مجاملتهم, ومن أجل ذلك كان يتحمَّل الكثير!
في هذه الأمسية, وحين أتوا بعساف, أحسَّ أن الأمر غير عادي. أمَّا حين جلس قرب الباب وأجلس كلبه إلى جانبه, فقد سمع أكثر من صوت يدعوه إلى صدر المجلس, وإزاء رفضه, نهض واحد من أبناء الطيبة القادمين مع الضيوف, ومدَّ يده يحيِّي عسافًا بحرارة أول الأمر, ثم يسحبه بقوة لكي يغيِّر مكانه. استمر الأمر بعض الوقت, بين القبول والرفض, إلى أن اقترح أحد المسنِّين انتقال عساف وبقاء الكلب حيث كان.
إن في حياة كل إنسان لحظات من الخصوبة لا يدركها, ولا يعرف متى أو كيف تأتيه أو كيف تنفجر في داخله. إنَّها تندفع فجأة, تعربد مثل الرياح أو مثل الأمطار الغزيرة المفاجئة, وتطغى على كل شيء, ومثلما تأتي فجأة تنتهي كذلك, وكأنَّها مياه غارت لتوّها في أرضٍ رملية عطشى!
هذه اللحظات لا يخطط لها أحد ولا يدبرها أحد, حتى لو أراد. وعساف الذي جاء مكرهًا, ليلتقي ببعض الوجوه التي لم يرها من قبل, وقد لا يراها مرة أخرى بعد أن تغادر الطيبة, والذي أغضبته كلمة أحد المسنِّين حين طلب منه أن يُبقي كلبه عند وصيد الباب, وجد نفسه فجأة في عالم من الوجد وأقرب ما يكون إلى التجلِّي, إذ ما كاد يُسأل عن الصيد, وعن عدد الطيور التي صادها ذلك اليوم, وكيف كان الموسم بصورة عامة, حتى أحسَّ بالاختناق, وتمنَّى لو أنه لم يأتِ, وتمنَّى أكثر من ذلك لو يستطيع مغادرة المجلس. لكنه كان يعرف أهل الطيبة, يعرف مقدار الود القاسي الذي يكنُّونه له, ويحس أن رابطة عمرها مئات السنين تربطه بكل ما حوله من أرض وبشر وأشجار ومياه, وأن هذه الرابطة تكون أشد وأقوى حين تمر سنة صعبة مثل هذه السنة التي تمر على الطيبة.
كان مصممًا, أول الأمر, ألاّ يتكلم, فإذا حاصروه بالأسئلة, ولم يجد مجالاً للهرب, فلا أقل من بضع كلمات يقولها, لكن فجأة امتلأ بشعور الألفة والتحدِّي معًا, وأحسَّ أن قلبه يخفق بضربات سريعة أكثر مما تعوّد حين يكون في مثل هذا الموقف, وقرَّر أن يفعل شيئًا لم يفعله من قبل.
يتذكّر هو نفسه, ويتذكّر كل مَن كان موجودًا, أنه لأول مرة في حياته, قرَّر أن يخوض معركة لم يخض مثلها من قبل, رغم ما يُقال دائمًا من أن حياته منذ بدأت معركة متصلة, إذ ما كادت الأسئلة تنهال عليه, وكلها عن الصيد, حتى صرخ بتحدِّ:
- تعال... تعال يا حصان!
وانتفض الكلب فجأة, ومثل حية ملساء, انسل ليجلس عند أقدام عساف.
كانت الحركة مفاجأة, لم يتوقعها أحد, وللحظات خيَّمت الدهشة وعمَّ الذهول. والمسنّون الذين يملكون, أغلب الأحيان, الحق بالأمر والنهي, أحسُّوا أن صوت عساف, وهو يدعو كلبه, غير مألوف, ولا يمكن مقاومته. تبادلوا النظرات فيما بينهم, ونظروا إلى عساف, لكن لأول مرة في حياتهم الطويلة الحافلة يكتشفون في عينيه بريقًا قاسيًا وحشيًّا, ودون وعي أو إرادة, تراجعت كلمات الاعتراض لتحل مكانها هزات الرؤوس تعبيرًا عن الأسف وشيء من العتاب.
لم ينتظر عساف, اعتدل في جلسته, أجال نظرة طويلة في وجوه الناس الذين خيَّم عليهم الصمت, وبطريقة مليئة بالمحبة والحنان معًا, امتدَّت يده إلى الكلب, مسَّد على ظهره أكثر من مرة, ودون أن ينظر إلى أحد, وكأنَّه يخاطب نفسه, بدأ:
- ماذا تظنُّون يأهل الطيبة? هل تظنّون أن هذه السنة مثل السنين القاسية التي مرَّت عليكم? هل تظنون أنَّكم ستواصلون الحياة حتى تأتي الأمطار مرة أخرى? إن مَن يظن ذلك أقرب إلى الجنون.
توقف لحظة. عبَّ نفسًا عميقًا من سيجارته, وتطلع في وجوه الرجال مرة أخرى, ثم تابع:
- قلت لكم ألف مرة: لم يبقَ بيننا وبين الموت إلاَّ ذراع, وهذه الذراع هي الصيد الذي نستطيع أن نوفره حين تأتي الأمطار مرة أخرى. قلت لكم مئات المرات وأنتم لا تسمعون هذا الكلام, وبدل ذلك تزدادون حماقة يومًا بعد يوم. قلت لكم: اتركوا إناث الحجل للسنوات القادمة, إنها رزقنا الباقي. قلت لكم: وفّروا الخرطوش ولا تُفزعوا الطير, وعندها سيأتي إليكم بدل أن تذهبوا إليه, لكنكم يومًا بعد آخر تزدادون عنادًا وتحدّيًا. قلت لكم: انقلوا من النبع حِمْل حمارين أو ثلاثة حمير وارموا بها في الخوابي القريبة, ثم اربضوا هناك حتى تأتي الطيور, فامتلأت وجوهكم بالابتسامات الساخرة, وقلتم: عساف انهبل, لأنه يطلب منا أن نبذر ما تبقَّى لنا من الماء ونرميه في الصحراء. والآن تأتون بهؤلاء الأفندية وتتظاهرون بالنبل والكرم وتطلبون من عساف أن يصطحبهم إلى الصيد, وأن يجعلهم يصيدون! ماذا يستطيع أن يصيد هؤلاء أو غيرهم ما دمتم ملأتم الدنيا بالطلقات المجنونة تبذرونها في الهواء, حتى لم يبق طير من طيور السماء أو حيوان من حيوانات الأرض إلاَّ وسمع عددًا لا حصر له من الطلقات?
وحرَّك يديه بطريقة يائسة, وتطلّع في وجوه الضيوف, ثم تابع بلهجة جديدة:
- يا سادة, كان الحجل يصل إلى أبواب البيوت. كانت الغزلان والأرانب تملأ السهل كله. كانت ممرات الترغل كثيرة إلى درجة أن عسافًا نفسه يحتار إلى أين يذهب وأي الممرات يفضّل. هكذا كان الأمر في الأوقات السابقة, وأهل الطيبة بدل أن يحافظوا على هذه النعمة, لم يتركوا أي ابن عاهرة ولمسافة ألف كيلو إلاَّ ودلُّوه على الطيبة. اعذروني, أنا لا أقصد أي واحد منكم, أنتم على عيوننا وعلى رؤوسنا, لكني أقصد الصيادين الآخرين الذين يأتون من كل مكان, وكأن ليس في الدنيا سوى الطيبة, وهؤلاء الذين يأتون لا يعرفون سوى شيء واحد: القتل. كانوا يقتلون كل ما تقع عليه أعينهم. كانوا يقتلون إناث الحجل قبل ذكورها, لأن الذكور وهي تجفل وتطير من الخوف, كانت تخلّف في قلوب هؤلاء الصيادين خوفًا كبيرًا, وبعد أن يستعيدوا شجاعتهم تطير الإناث فيضربونها. والشيء نفسه يفعلونه بالغزلان والأرانب وكل الحيوانات الأخرى, وحين يعودون محملين بالصيد الكثير لا يكتفون بأن يعودوا إلى هنا مرة أخرى. إنهم يدلّون أصدقاءهم وأصدقاء أصدقائهم, إلى عاشر جدّ, ويحضرون معهم أنواعًا من السلاح لا يتصورها عقل ولا يقاومها صخر. وبهذه الطريقة, وسنة بعد أخرى, أقفرت الطيبة. والآن تريدون من عساف أن يستولد لكم الطيور والحيوانات ولا أعرف أي عفاريت أخرى? ماذا يستطيع عساف أن يفعل? هل هو مسيح جديد? هل هو الذي يبيض ويفقس?).
ومن جديد امتدَّت يده لتستقرَّ على ظهر الكلب, وينظر إلى الوجوه التي اعترتها الدهشة وخيَّم عليها الصمت:
- لم يخلق الصيد للأغنياء أو الذين يقتلهم الزهق والشبع. لقد خلق للفقراء, وللذين لا يملكون خبز يومهم. وعساف الذي قضى حياته كلها في البرية لا يصيد في مواسم الخير إلاَّ ما يملأ معدته ومعدة هذا الحيوان. أمَّا في مواسم الجفاف, ولكي لا يموت الناس في الشوارع, فيمكن أن يكون الصيد حلاً, كما هو الحال ونحن نستبدل بخبز القمح خبز الشعير, لكن لا أحد يفهم في الطيبة وفي غيرها من المدن والقرى. إن الإنسان في هذه الأيام يمتلك روحًا شريرة لا تمتلكها الذئاب أو أي حيوانات أخرى, ولهذا السبب نواجه اليوم الجوع, وسيكون الجوع غدًا أشد وأصعب. إنَّني أرى ذلك كما أراكم الآن. وإنَّني أخاف من الغد أكثر مما أخاف اليوم الذي أعيش فيه. هذا ما صنعناه بأيدينا!
وبطريقة أقرب إلى الفظاظة واليأس تحرَّك عساف يريد أن ينهض ليمشي. وإذا كان كلامه قد
|