النهايات - عبد الرحمن منيف
هكذا بدأت الرحلة. وأي محاولة لاستعادة تلك اللحظات تقف عاجزة بائسة أمام هذا الملكوت الشامخ الذي يملأ كل شيء.
فالسيارتان حين بدأتا الحركة تملَّك كل مَن فيهما خوف مفاجئ, ولم يستطع أي إنسان من البشر السبعة الذين كانوا محشورين فيهما أن يقول شيئًا ذكيًّا أو أن يتصرف تصرفًا واضحًا مقصودًا.
كانت حركة السيارتين بطيئة أول الأمر, وبلا اتجاه. وكان السائقان, وكل واحد في أي من السيارتين, ينظر إلى الآخرين, ينظر إلى الذين حوله وينظر إلى السيارة الأخرى, ولقد امتلأ بمشاعر الخوف والانتظار, وتملكته في لحظات معينة مشاعر الندم أنه جاء إلى هذا المكان, وإلى هذا النوع من الصيد. وبرغم أن المسافة بين السيارتين لم تكن بعيدة. ولا تزيد على بضع مئات من الأمتار, فإنَّ حالة أقرب إلى العجز سيطرت على الجميع في الوقت الذي ظلَّ فيه عساف مزروعًا في الصحراء وشبحه يبتعد ويختفي كل لحظة. أمَّا كلبه الذي كان واضحًا خلال بعض الوقت, فقد أخذ يبتعد ويصغر حتى تلاشى تمامًا!
في إحدى اللحظات العمياء, وعلى غير انتظار, انفجر رفّ من الكدري. بدا في عتمة النور الأولى أشبه بالطيور الأسطورية. كان لانفجاره دوي هائل, وظلَّ هذا الدوي وقتاً طويلاً, لا يملأ الآذان والعيون فقط, بل أيضًا يستقر في القلوب ويسيطر عليها. أمَّا الطلقات الخائرة المرتجفة التي توالت, الواحدة بعد الأخرى, فلم تخلف شيئًا سوى موجة من الدخان الأزرق تلاشى تدريجيًّا مع رياح الصباح.
إنَّها المفاجأة الأولى. وإذا كان كل واحد من الصيادين الذين كانوا في سيارة الجيب, والذين التقوا بهذا الرفّ, قد امتلأ إصرارًا وتملكته مشاعر الخيبة, فقد قال الجميع كلمات بائسة لتبرير الفشل. أمَّا صيادو السيارة الأخرى فنظروا بحسرة وحقد, وقرَّروا في أعماقهم ألاّ يكونوا خائبين بهذا المقدار. والكلمات العرجاء التي تبادلها ركاب السيارة الجيب, فيما بينهم, لتبرير هذه الخيبة, قابلتها شتائم وتحديات من ركاب السيارة الأخرى!
إنَّها التجربة الأولى. ومثل كل التجارب الفاشلة, وفي جميع المجالات, يتولّد في الإنسان نوع من الإصرار أقرب ما يكون إلى الرعونة, إذ ما كاد ذلك الرفّ يتلاشى في الأفق مبتعدًا حتى أسرعت السيارتان معًا, وخيَّم التحفّز الحذر على الجميع. امتدت البنادق أكثر من السابق, وبرقت العيون بالحقد.
وأبناء الطيبة الذين عرفوا أنماطًا كثيرة من الصيادين, وكانوا شديدي الحذر والدقة في أن يطلقوا أي كلمات أو أوصاف لتقييم الصيادين الآخرين, كانوا متأكّدين من شيء واحد: مَن لا يعرف الصحراء, مَن لم يرَ هذا الطير, لا بدَّ أن يُصاب بالخيبة بعد الرحلة الأولى. لم يقولوا هذا الكلام مباشرة, لكنَّهم كانوا واثقين بهذا الاقتناع, خاصة وأن أغلب الضيوف الذين جاءوا, وادَّعوا كثيرًا, وأسرفوا في الحديث عن الطيور التي صادوها, وعن الأماكن التي ذهبوا إليها, أثبتت التجربة شيئًا مختلفًا. إذ كثيرًا ما ادَّعى الصيادون أن جبال الطيبة أقسى من أي جبال رأوها, وأن حجل الطيبة ملعون إلى درجة أنهم لم يروا حجلاً آخر مثله. كانوا يقولون ذلك حين يصعدون إلى الجبال. أمَّا إذا ذهبوا إلى ممرات الترغل, وعادوا بصيد قليل, فكانوا يعزون ذلك إلى أسباب وهمية وأقرب إلى الغباء. الآن, في هذه الصحراء الفسيحة, هذا الطير الذي يرونه ينفجر أمامهم ويثير استفزازهم, لا يعرفون أي أكاذيب يمكن أن يقولوها لتفسير هذه الخيبة! ولكنها عادة من عادات الصيادين, حين يندفعون برعونة زائدة إلى التحدي, ثم إلى التبرير, وأخيرًا إلى الكذب!
بعد الرفّ الأول طار رفّ ثان. ومثلما واجهت سيارة الجيب عددًا من الرفوف وطار بعضها حول السيارة, وكأنَّه كان داخل قفص ثم انفلت فجأة, فإنَّ السيارة الأخرى قابلت عددًا مماثلاً, وربما أكثر قليلاً. وإذا كان لصيادي هذه السيارة بعض المعاذير, حول ضيق الشبابيك, وعدم إمكانية التحرُّك بسهولة, فإنَّ صيادي سيارة الجيب كانوا أقل قدرة على التبرير.
كانت السيارتان, وهما تبحثان عن دائرة لتدورا فيها, تمتلئان بنوع من الحرج أقرب إلى الخجل, وفي بعض اللحظات أقرب إلى الخوف. فبعد أكثر من ساعة, وبعد أن طارت عشرات الرفوف من الكدري, وكانت الحصىلة ثلاثة طيور في الفولكس فاكن, وطيرين في سيارة الجيب, تملكت الجميع رغبة في توسيع قطر الدائرة, في محاولة لاكتشاف مجال واسع والعودة بصيد أوفر. كانوا يشعرون بنوع من الخجل, وكان كل واحد متأكدًا أنهم لو عادوا إلى عساف بهذه الحصىلة, بعد كل الطلقات المجنونة التي ملأت الفضاء, فسوف يسخر منهم. وهذا الشعور لم يقتصر على ركاب سيارة واحدة, أو على واحد من الصيادين فقط. كان شعورًا ضمنيًّا صامتًا, لم يستطع أحد أن يقوله, لكن كل واحد تصرَّف بدافع منه وتحت تأثيره. حتى الرغبة أو الكلمة, التي يقولها أي واحد في الذهاب إلى هذا المكان أو ذاك لم تكن تجد اعتراضًا من أحد. كان الجميع يمتلئ خوفًا, خاصة وأن كل واحد قدَّر أن عسافًا قد اصطاد مئات الطيور!
وعلى الرغم من قوة هذه المشاعر وسيطرتها الغامضة, فإنَّ مشاعر أخرى كانت ترفع رأسها بين لحظة وأخرى: الخوف من الصحراء, والتيه في هذا البحر القاسي الذي ليس له بداية وليس له نهاية!
حين ارتفعت الشمس في السماء بضعة أذرع, وارتفعت معها الحرارة وارتفع الغبار, شعر الجميع برغبة اللقاء مرة أخرى, مهما بدا هذا اللقاء قاسيًا مريرًا, خاصة وأن عسافًا كان قد نبَّههم إلى أن الكدري مع تقدم النهار يرحل, وأنه يذهب إلى أماكن بعيدة بحثًا عن الماء والطعام. وأن الصيد خلال النهار من الصعوبة وعدم الجدوى إلى درجة كبيرة.
وبطريقة غامضة مليئة بالتردُّد, بدأت السيارتان تتجهان إلى منتصف الدائرة. وإذا كان لكل مكان في الدنيا دائرة, ولها منتصف, فإنَّ الصحراء ملعونة إلى درجة الرجم, لأنَّ كل ذرة منها دائرة, ولأنَّ كل مكان منتصف الدائرة. ومع ذلك, وبمعرفة أبناء الطيبة باتجاه الريح, وتذكّرهم أن ريحًا غربية كانت في بداية الرحلة, بدأت الدائرة تضيق تدريجيًّا, وبعد ساعة من البحث, ومن النظر المدقق, رأت سيارة الجيب زوالاً بين السواد والزرقة, ودون تردُّد قال أحد أبناء الطيبة:
- عساف... ذاك هو عساف!
وبلهفة أقرب إلى الوجد, ودون تساؤل أو انتظار, اتجهت السيارة نحوه, وبعد دقائق كانت السيارة الأخرى قد وصلت.
كان عساف منبطحًا على الرمل, والكلب قريبٌ منه, وكانت البندقية ملقاة إلى جانبه, وكأنَّها لا تعنيه. كان يعبث بالرمل ويبتسم ابتسامة خفيفة, أمَّا الطيور التي اصطادها فقد كوَّمها مثل تل صغير إلى جانبه, وكانت مناقيرها باتجاه واحد...
حين نظروا إلى تل الطيور أُصيبوا بذهول حقيقي, كانت بالنسبة لهم تلاًّ مستحيلاً, رقمًا مستحيلاً. أمَّا حين بدأوا بإنزال الطيور من السيارتين فقد نظر إليها عساف بدهشة أقرب إلى الاستغراب, لكنه بسرعة لملم دهشته, وقال بطريقة أبوية للتخفيف عنهم:
- الصيد في السيارة يحتاج إلى التعوُّد, والرفوف التي كانت تطير من عندكم كانت تأتي إلى هنا!
أمَّا حين سأله أحد الضيوف عن عدد الطيور التي صادها فقد قال بتواضع:
- حوالى العشرين, لم أعدّها.
ولم يسأل عن العدد الذي صادوه, كان همَّه الأساسي أن يتأكّد إذا قابلوا رفوفًا كثيرة أم لا? وإذا كانت قريبة أم بعيدة, وهل ضُربت من قبل أم أنها طارت بعد أن وصلوا إليها?
عند هذا الحد كان من الممكن أن تنتهي رحلة الصيد. ولو ترك الأمر لأبناء الطيبة أو لعساف لاقترح أن يعودوا, وإلى جانب صخرة في الوادي الذي اجتازوه يمكن أن يستريحوا, وأن يأكلوا, وكان من الممكن أن يقال إن هذا الصيد كافٍ, وسوف تنظّم رحلة صيد ثانية, في مرة أخرى. لكن الأمور, في أغلب الأحيان, تسير بطريق لا يقدره الإنسان ولا يتوقعه. وإذا كان الضيوف هم الذين يحكمون, وهم الذين يقرّرون, فإنَّ أهل الطيبة امتلكوا خلقًا رفيعًا بحيث لا يمكن أن يفصحوا عمَّا يريدونه مباشرة. وعساف الذي قال مجاملة ولكي يبعد أي إمكانية للبقاء:
- الصيد انتهى, فمنذ الآن وحتى الغروب, لن نجد رفًّا واحدًا, وإذا وجدنا أي رفّ فسوف يطير من مسافة بعيدة, ولا يمكن لأي إنسان أن يأخذ منه طائرًا واحدًا.
وبعد أن تبادل أبناء الطيبة النظر فيما بينهم, ومع عساف, نظروا في وجوه الضيوف, ثم اقترح أحدهم اقتراحًا وجد هوًى عند الضيوف دون تردُّد:
- يمكن أن نذهب الآن حيث يريد عساف, وبعد أن نتغدى ونستريح نقوم بمشوار صغير قبل الغروب, وبعدها نعود إلى الطيبة.
|