{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
النهايات - عبد الرحمن منيف
bassel غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #21
النهايات - عبد الرحمن منيف
الشمس تنزلق من السماء مثل رصاص مصهور, والرمل أكثر سخونة من الجمر, حتَّى الكلب وهو ينقل أقدامه تصدر عنه أصوات ضعيفة أقرب إلى الاستغاثة أو الاحتجاج, أو كأنَّه يمشي على أشواك حادة أو زجاج مكسور. وحين أقلعت السيارتان بسرعة خلفتا وراءهما سحابة كبيرة من الغبار, لفَّت عسافًا فبدا جزءًا من الصحراء الممتدة بلا انتهاء. أمَّا الكلب فقد عوى احتجاجًا وركض لمسافة وراء إحدى السيارتين, ثم عاد ببطء.

وإذا كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود, في البحار والمحيطات, على قمم الجبال وفي أعماق الأودية, في الأصقاع المتجمدة وفي ظلمة الغابات- إذا كانت الطبيعة في كل هذه الأماكن تنذر بالتحول وتبعث بإشارات من نوع ما, بأن ذلك العنفوان الداخلي لم يعد يقوي على الاحتمال وسوف يقلب جلده في اللحظة التالية, فالصحراء الغامضة القاسية الموحشة المفاجئة تتجاوز قوانين الطبيعة لتثبت هذه القوانين. فلم تمض ساعة حتى جُنَّت الدنيا: هبَّت ريح قوية عاصفة غيَّرت كل شيء. كانت الزوابع تدفع الكثبان الرملية وتسفّها كما تفعل الرياح بالأمواج, فتتدحرج الرمال بسرعة كما لو أنها كتل من القطن الهش أو بقايا أوراق محترقة, حتى إن الإنسان ما أن يستدير قليلاً ليتَّقي هذا الجنون المفاجئ حتى يمتلئ حلقه وتمتلئ عيناه بذلك الجمر الصغير الناعم وكأنَّه سقط من نار لا تعرف التوقف أو الانطفاء.

إن ما حصل في ذلك اليوم الصيفي, في أعماق الصحراء, وعلى مسافة غير قصيرة من الطيبة, لا يمكن أن يستعيده أحد دون أن يبكي. فالخوف الذي ملأ الدنيا خلال تلك الساعات كان من القوة والذهول إلى درجة أن لا أحد يستطيع أن يتذكر ما حصل. حتى الكلمات تبدو باهتة عاجزة, ولا تعبِّر عن أي شيء. وأبناء الطيبة الذين كانوا يعرفون بغريزتهم طبيعة الصحراء وقسوتها, من رائحة الهواء, من لمعان السماء القاسي, من الزوابع التي تجاوزت الوادي وعبرت السهل كله حتى وصلت إلى الطيبة... إن هؤلاء لم يصدقوا الهول الذي يرونه أمام عيونهم. إنَّه شيء لم يشهدوا مثله طيلة حياتهم. والضيوف الذين أصابهم الهلع, والذين فقدوا القدرة على التصرُّف, تحولوا إلى مجموعة من الدمى المتوسلة الباكية. كانوا يريدون شيئًا واحدًا: ألاّ يموتوا!

وفي غمرة الخوف يفقد البشر القدرة على التصرُّف, فبدل أن يوقفوا السيارات وينتظروا, كانت العواصف الرملية القاسية هي التي تحرّكهم, هي التي تقودهم. وفي المرات القليلة التي توقفوا فيها وجاءت الزوابع حاملة الرمال الساخنة, صرخوا برعب, وشعروا بالموت يطبق على رقابهم. ودون انتظار وبدوافع غريزية حاولوا الهرب. وإذا كانت الجيب قد ظلت محتفظة بقوتها وقدرتها على السيطرة, فإنَّ السيارة الأخرى بدت مثل سلحفاة ضالة لا تعرف إلى أين تذهب أو متى تموت. وحين قال أحد أبناء الطيبة بأنَّ الأمر أصبح خطيرًا إلى درجة تتطلب بقاء السيارتين معًا, فقد شعر الجميع بنوع من الراحة. ولم يكتف سائق الفولكس فاكن بأن يبقي قريبًا, بل أصرَّ على أن يمشي قبل الجيب, وعلى مسافة أمتار قليلة منها.

انتظار الموت في هذه الصحراء أصعب من الموت آلاف المرات. فالموت هنا لا يأتي فجأة, لا يأتي متنكرًا, ولا يأتي بسرعة ويقضي على كل شيء, وإنَّما يكشر عن أنيابه في البداية ثم يقف على شبابيك السيارات, وبين لحظة وأخرى يعربد, يصرخ, يلطم الوجوه, يسفّ حفنة من الرمال في الأفواه والعيون. وبعد أن يمل من هذا المزاح يتراجع قليلاً, ليُقعي مثل ذئب, انتظارًا لجولة أخرى. والجولة الأخرى لا تنتظر طويلاً, إذ تصعد مثل البخار مسرعة جارفة قوية, فتولد يبوسة في الحلوق, هلعًا في العيون, انتظارًا آخر قاسيًا ممضًّا, بالخشونة الكاوية نفسها, بالجبروت نفسه الذي لا يعرف التراجع, يدقّ الشبابيك مرة أخرى دقّات قوية متواصلة.

وبين انتظار وانتظار يموت الإنسان, يموت ألف مرة, يفقد الثقة, تتلاشى إرادته, يسقط, ينهض, يترنح, يمتلئ حلقه بأدعية خائفة لا يعرف كيف أتت, يصرخ دون صوت, ينظر في وجوه الآخرين ليرى وجهه, يتذكّر, يقاوم, ينهار, يسقط. يموت مرة أخرى, ينهض من الموت, يتأمل الأمتار القليلة التي يمكن أن تُرى عبر الشبابيك, يلامس حبات الرمل المتسربة في كل مكان, يملأ حلقه بجرعة ماء ويستبقيها لأطول فترة لعلَّها تمدّه بمزيد من القوة على المقاومة, على الصمود, يفقد القدرة على الحديث, يفقد القدرة على ابتلاع الماء, يتحوّل الماء إلى ملح, يتحول الزبد إلى زبد, يريد أن يصرخ, أن يموت تمامًا, يريد أن تنشقّ الأرض فجأة وتبتلعه, يريد ماءً, ظلاًّ, وينتظر!

حتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر, يتحوّل إلى ذرات صغيرة, الثانية, والدقيقة هي كل الزمن. ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية, كالصحراء بلا نهاية, ويطبق كالخيط المبلول القاسي, يشدّ دون توقف على الرقبة, يحزّها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها, ويظل هكذا موتًا مؤكّدًا منتظرًا ساخرًا مؤجّلاً, فيحسّ الإنسان بالاختناق, وتتصاعد ضربات القلب, وترتفع درجات الحرارة, ويتحوّل لون الوجوه إلى الزرقة, ولا يستطيع الواحد أن ينظر إلى الآخر خوف الانفجار أو العويل.

والحرارة المنبعثة من الأرض أو المنزلقة من شمس السماء المتوحشة لا تترك للإنسان لحظة من التوازن والتفكير. فالظلمة حين تطبق تجعل الإنسان يحس بضآلةٍ متناهية, ويتضاعف رعبه مئات المرات.

فبعد انتظار طويل طويل, لعل الريح تهدأ وتصبح الرؤية ممكنة, بدت الشمس تميل نحو الغروب, لم يرها أحد تفعل ذلك, لم يرها أحد تنزلق مثلما تفعل في البحر, لكن من النور الباهت المتداخل مع ذرات الرمال, من ذلك الانكسار التدريجي في الحرارة, يتولّد شعور بأن الشمس أخذت هذا السمت بعد أن ظلّت مثل حبل المشنقة فوق الرؤوس طوال ساعات النهار.

أي حوار في مثل هذه اللحظات مستحيل, لأن الصراعات داخل قلب كل إنسان كانت من الكثافة والتناقض إلى درجة يمكن ان تولد الشيء ونقيضه, وتدفع الإنسان لأن يفعل الشيء ونقيضه. فالحرارة المنبعثة من الشمس, والتي كانت أشد الأعداء, بدت حنونًا مضيئة حين أخذت الشمس ذلك الميل منذرة بالانتهاء. أمَّا النور الوهاج الذي كان ينفجر من كل الأشياء خلال ساعات النهار كلها, فقد أصبح حلمًا ضائعًا والظلمة تطبق تدريجيًّا. والرياح التي كانت تحدّد الاتجاهات, ويمكن أن تقود الإنسان إلى مكان معين, تحوَّلت في ظلمة المساء الأولى إلى عويل ولطمات عمياء.

إنه الموت ولا شيء غيره, هكذا قال كل واحد في نفسه. والإنسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق على كل شيء, حتى على الموت, فإنَّه يريده صاعقًا كاملاً نهائيّا, أما ذلك العري الحاد الفاضح في كل شيء, الدمار الذي يفتّت الخلايا بقسوة تشبه النهش, فإنَّ هذا النوع من الموت لا تمتلكه سوى الصحراء في الليل, وفي فيضان الرياح الذي لا يعرف التوقُّف أو الراحة.

هذا هو الإنسان, ذلك المخلوق الضئيل المتلاشي, في مواجهة قوة غاشمة لا تدمّره ولا تتركه!

قال أحد أبناء الطيبة بصوت مخنوق:

- الله يساعدك يا عساف.

قال الذي جلس إلى جانب السائق مكان عساف:

- صحيح, أين عساف?

وغاصت الكلمات في الأفواه مرة أخرى, وخيَّم الصمت, لكنه ذلك الصمت المدوي الذي ينفجر في كل لحظة, في كل شيء, والذي تسمع ولولته في كل الخلايا.

في وقت ما, ولا أحد يمكن أن يحدّد متى كان ذلك الوقت, وكم من الزمن قد مرَّ, بدأت الريح تتراجع, وبدأ عصف الرمال يخف شيئًا فشيئًا, وإن ظلّت السماء مكتنزة بذلك السواد الثقيل القاهر, وحين بدأ سائق السيارة الجيب يشعل الأضواء ويطفئها, فقد بدت حركة ذكية مليئة بالمعاني. قال الجالس إلى جانبه:

- لا بدَّ أن يرانا أحد ويأتي لإنقاذنا!

قال ابن الطيبة الذي يجلس في المقعد الخلفي وراء السائق:

- يجب أن تشغل السيارة وتدور عدة مرات لعلَّ عسافًا يرانا أو نراه فنذهب إليه أو يأتي إلينا!

دون مناقشة ودون تساؤل, بدأت السيارة تدور مثل حيوان مربوط. وبين لحظة وأخرى, كان السائق يشعل النور ويطفئه, لعلَّ شيئًا يحصل وتكون فيه النجاة.

قال ابن الطيبة:

- إذا وجدنا عسافًا يمكن أن ينقذنا ونعود إلى الطيبة بسهولة, أما إذا لم نجده...

وسكت. تطلعت إليه العيون دون أن تراه. وإذا كانت الظلمة قد خلقت خوفًا من نوع جديد, وإذا كان الشعور بالنجاة بدا مثل خفقات قلب مريض, فإنَّ هذه الكلمات انفجرت داخل السيارة وكأنَّها نهاية كل شيء!
06-15-2005, 07:21 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:45 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:46 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:47 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:47 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:48 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:49 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:51 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:53 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:54 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:55 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:57 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:58 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:15 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:16 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:16 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:17 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:18 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:18 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:20 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:20 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:21 PM
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:21 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:23 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:23 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:24 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:25 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة Arab Horizon - 06-16-2005, 05:50 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-16-2005, 06:05 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة إبراهيم - 06-16-2005, 06:42 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-18-2005, 11:42 AM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-18-2005, 11:44 AM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة Samer Almasri - 06-28-2005, 12:59 PM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  طلب كتب لعبد الرحمن بدوي غاندينو 0 395 06-21-2014, 07:02 PM
آخر رد: غاندينو
  اللغة العربية أم اللغات... كتاب منن الرحمن غالي 3 3,965 08-01-2010, 12:39 AM
آخر رد: غالي
  ومن سلسلة الأعمال الخالدة .. * أسفار شيلد هارولد * _ لورد بايرون _ ترجمة عبد الرحمن ب ali alik 0 1,248 07-04-2010, 03:39 PM
آخر رد: ali alik
  " المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار " للشيخ عبد الرحمن الجوبري louis 1 2,974 03-09-2009, 01:56 PM
آخر رد: louis
  عبد الرحمن شكري (المؤلفات النثريه كامله) moh3774 6 1,608 04-21-2008, 09:25 PM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS