{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
النهايات - عبد الرحمن منيف
bassel غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #23
النهايات - عبد الرحمن منيف
هذه هي السيارة!

لحظات قاسية من التوتر أقسى من أي لحظات أخرى وأشد عذابًا من عمر بأكمله. لم يبقَ أحد في مكانه, حتى أولئك الرجال المتعبون, والذين لفَّت على رؤوسهم الخرق المبللة, شعروا بنوع من التحدِّي والقوة, فمَن لم يستطع النهوض والركض مع الآخرين تجاه السيارة, تحرَّك في مكانه أو غيَّر جلسته ليشهد عسافًا وهو ينزل.

كانت وجوه الرجال وهي تطل من فوق شديدة القسوة والصرامة, وللحظات والسيارة تقترب ثم تتوقف, تأكَّد الجميع أنهم لم يجدوا عسافًا. لقد غمرته الرمال وابتلعته الأرض ولم يبقَ منه أثر, لكن فجأة, والمختار يمسك الحديد الأمامي, ويهزه بعصبية أول الأمر, ثم يصرخ ويشير إلى الخلف.

ترك الرجال يستديرون حول السيارة. التفت بصلابة وبطء, حتى إذا نظروا ورأوا عسافًا هكذا, صرخ, كان صراخه أقرب إلى الشتيمة:

- راح عساف ... ونحن الذين قتلناه. راح الغالي.

كان منظرًا مفجعًا مليئًا بكآبة خرساء وأقرب إلى عدم التصديق.

كان عساف في قاع البيك آب, كان هناك, كان يابسًا متخشبًا وقد تقلَّصت عضلات وجهه وبدت على أطراف الشفتين ابتسامة هي مزيج من الألم واليأس والسخرية, وبدا كأنَّه يريد أن يتكلم! وحين استمر المختار في الهياج ثم البكاء, واتضحت الصورة حادة نازفة متجبرة, سمعت أصوات نشيج مكتوم, وتساقطت الدموع. كان لسقوط الدموع رنين قوي موجع وكأنَّه نهاية لفترة طويلة من الزمان!

كيف يمكن للبشر أن يصمتوا بهذا المقدار ولهذه الفترة الطويلة? كيف يستطيعون نسيان جميع الكلمات والأصوات التي بدأوا الحياة بها وهم ينقذفون من الأرحام?

كيف, كيف يمكن ذلك?

طوال الطريق الذي استمر أكثر من ساعتين, ظلُّوا صامتين!

والمختار الذي ظلَّ واقفًا في مكانه, قابضًا بقوة على حديد القمرة, وناظرًا إلى الأمام باستمرار, طلب من قائد السيارة العسكرية التابعة لقوة البادية, بكلمات متلجلجة, لكن واضحة أيضًا, أن يذهب الجميع إلى بيته. حصل ذلك حين توقَّفت السيارة في مدخل الطيبة, وحين بدت جموع الناس وهي تنتظر, وتحاول أن تعرف أي شيء حصل.

قال المختار, في الظلمة التي تخيّم على كل شيء, ولا يستطيع الإنسان أن يميِّز الآخرين إلاَّ من أصواتهم:

- تعالوا إلى بيتي, هنالك سوف نلتقي.

وبطريقة خفية حافلة بالحنان والعذوبة والخوف والتقديس, حُملت جثة عساف إلى الداخل. وُضعت في صدر المضافة, ووضع إلى جانب الرأس فانوس, وقريبًا من يده اليمنى وضعت البندقية, وبحركات آلية, كأنَّها رُتِّبت منذ وقت طويل, وبعد أن تمَّ ذلك بهدوء وإتقان, طلب المختار من الجمع أن يجلسوا.

الصمت, الصمت, ولا شيء غير الصمت, وما عدا النظرة الثقيلة الحافلة بالحزن, والمرتسمة على تلك الوجوه الملهوفة المتسائلة, فإنَّ الطيبة من أعجب الأماكن وأكثرها غرابة, لا تستطيع أن تفضح عواطفها بسهولة, وحتى لو أرادت أن تقول شيئًا فإنَّها كثيرًا ما تقول ذلك الشيء بطريقتها الخاصة, والتي قد لا تبدو مألوفة أو مفهومة!

لم يتجرأ أحد أن يسأل المختار, أمَّا رجال البادية الذين ساعدوا في حمل الجثة, فقد قال العريف الذي يقودهم:

- سوف نذهب ونجهز التقرير لرفعه غدًا صباحًا.

ودون انتظار تحرَّكت السيارة, وغادرت المكان!

والمختار الذي كان بادي العصبية, ومحمرّ العينين, والذي كان يتحرَّك في بعض الأحيان حركات طائشة لا تعني شيئًا, كان يقاوم في نفسه ذلك الكابوس الذي لا يطيق أن يحتفظ به ولا يقوي أن يعبِّر عنه. وهو إذ كان قد برع في كل الأوقات على أن يدير الحديث, وأن يتكلم بطريقة لا يحسنها غيره في الطيبة, والذي كان يوصف بأنَّه قادر على أن يرشّ على الموت سكرًا, ويقدم أصعب الأمور وأكثرها مشقة, بأيسر الوسائل وأكثرها قبولاً, بدا تائهًا ضائعًا خائفًا, وبدا شديد العصبية بحركات يديه ووجهه. أمَّا حين انتظم مجلس الطيبة, كما لم يحصل ذلك من قبل, ووسط الصمت القاسي الذي خيَّم على كل شيء, انفجر صوت المختار, دون أن يطلب إليه أحد, ودون مقدّمات من أي نوع:

- هذا عساف... إنه أمامكم, انظروا إليه.

وهزَّ رأسه بلوعة, دون أن يلتفت, ثم تابع بلهجة يخنقها البكاء:

- عساف الحصان, عساف الغيمة, أبو الفقراء, الذي لا ينام ساعة في الليل من أجل أن تعيش الطيبة وتبقى... عساف الذي يحب الجميع, ويقتل نفسه حتى يستمرّ الناس... عساف زينة الرجال, ترككم الآن, ترككم وحيدين تحاربون (...) العسكر والجراد, ولا أحد يعرف أي قوي أخرى, وماذا سيحصل!

كاد أن يواصل, خاصة وأن كلماته نزلت إلى قلوب الرجال وكأنَّها السكاكين الملتهبة, فحركت الرؤوس ودفعت حبات من الدموع لكي تتساقط بصمت, لكن فجأة تغيّرت أفكاره واضطربت:

- ما فائدة الكلمات الآن? يمكن أن نكرز من هذه اللحظة وحتى يوم القيامة, لكن كل يوم يسقط منا الرجال, وتسقط البيوت فوق رؤوسنا وتقطع الأشجار بأيدينا, ولا يتغيّر شيء!

قال رجل مسنّ يريد أن يغيِّر الموضوع:

- حتى هذه الساعة لا أصدّق أن الرجل مات.

قال المختار:

- انتظر, وسوف ترانا, واحدًا بعد آخر, نهوي على وجوهنا وتطمرنا الرمال, وقد لا نجد مَن ينقّط في حلوقنا قطرة ماء.

وقَهقَهَ المختار بطريقة تختلط فيها السخرية بالنشيج, وبالحزن الكاوي, ثم أضاف:

- تمامًا كما حصل مع هذا الحصان!

قال رجل وهو يصوِّب عينيه إلى عساف ولا يرفعهما:

- لكن كيف مات? كيف حصل ما حصل?

قال المختار وهو يغيِّر جلسته, لأن الموضوع يحتاج إلى بعض الحركات والإشارات, ولكي يخلق في نفوس الناس التأثير المناسب:

- اسمعوا, كدنا نعود, يئسنا من البحث, درنا في كل مكان, بحثنا في كل الأمكنة التي تصوّرنا أنَّ عسافًا ذهب إليها, خاصة وأن السيارات لم تذهب بعيدًا, ومقبل, الذي يعرف الصحراء شبرًا شبرًا, قال إن هذه هي أماكن الصيد, وعساف باعتباره صيادًا يعرف أين يذهب, ولا يمكن أن يذهب أبعد من ذلك. بحثنا, بحثنا, وقائد البادية, وقف أكثر من مرة على ظهر قمرة السيارة وتطلع في كل الاتجاهات مستعملاً ذلك المنظار الذي يرى الإبرة من مسافة طويلة, لكن لا شيء. ومقبل, الذي يملك عيون صقر, تطلع في كل الاتجاهات, ولكن لا شيء. كدنا نعود. كنا متأكّدين أن عسافًا دُفن تحت الرمال ولا يمكن لأحد أن يراه. لكن فجأة بدأ مقبل يخبط قمرة السيارة بقوة.

توقَّفت السيارة, نزل القائد, ونزل السائق, ومقبل ظلَّ ينظر باتجاه معين. بدا متردّدًا أوّل الأمر, لكن فجأة صرخ:

06-15-2005, 07:23 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:45 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:46 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:47 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:47 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:48 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:49 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:51 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:53 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:54 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:55 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:57 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 05:58 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:15 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:16 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:16 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:17 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:18 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:18 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:20 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:20 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:21 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:21 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:23 PM
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:23 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:24 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-15-2005, 07:25 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة Arab Horizon - 06-16-2005, 05:50 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-16-2005, 06:05 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة إبراهيم - 06-16-2005, 06:42 PM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-18-2005, 11:42 AM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة bassel - 06-18-2005, 11:44 AM,
النهايات - عبد الرحمن منيف - بواسطة Samer Almasri - 06-28-2005, 12:59 PM,

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  طلب كتب لعبد الرحمن بدوي غاندينو 0 395 06-21-2014, 07:02 PM
آخر رد: غاندينو
  اللغة العربية أم اللغات... كتاب منن الرحمن غالي 3 3,964 08-01-2010, 12:39 AM
آخر رد: غالي
  ومن سلسلة الأعمال الخالدة .. * أسفار شيلد هارولد * _ لورد بايرون _ ترجمة عبد الرحمن ب ali alik 0 1,248 07-04-2010, 03:39 PM
آخر رد: ali alik
  " المختار في كشف الأسرار وهتك الأستار " للشيخ عبد الرحمن الجوبري louis 1 2,974 03-09-2009, 01:56 PM
آخر رد: louis
  عبد الرحمن شكري (المؤلفات النثريه كامله) moh3774 6 1,608 04-21-2008, 09:25 PM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS