قلقيلية... لن تكون النهاية!!
بقلم : د. نادر سعيد
أتحفنا هاني حبيب، الكاتب الذي أحترم ويحترمه كثيرون، بمقالته حول (قلقيلية... لم تكن البداية!!) والتي نشرها يوم أمس في صحيفة "الأيام" الموقرة، والتي أصبحت مكاناً رحباً للتعبير الحر وللفكر الإنساني المتقدم. لقد أعادني الكاتب إلى نقاشات حميمة دارت طويلاً مع والدتي (80 عاماً)، وهي مناضلة وطنية واجتماعية، ومتدينة أيضاً، حول (برنامج سوبر ستار) الذي تمكن من خلاله الفنان الفلسطيني عمار حسن من الحصول على المرتبة الثانية بشرف. فقالت: إن عمار قد شرفنا بتمثيله لفلسطين في هذا البرنامج، لقد غنى بوعي والتزام وجمالية وفن راق. ولذلك فإنها (أي والدتي) ستقوم بواجبها الوطني تجاهه، وتجاه حبها لفلسطين، من خلال التصويت له على الأقل، فأنفقت مبلغاً (معقولاً) من أجل تشجيع صغار العائلة على اجراء المكالمات الهاتفية والتصويت له. محبو عمار حسن جاءوا من كل المناطق والأجناس والفئات العمرية، وبغض النظر عن محاولات هنا وهناك لتشويه فكرة وجمالية تمثيله لفلسطين. لم يكن لعمار أن يحصل على أكثر من مليوني صوت في الحلقة الأخيرة دون دعم جماهيري واسع من داخل الوطن وخارجه، ومن المؤكد من قلقيلية نفسها.
من الواضح أن هناك تجاوزاً خطيراً قامت به بلدية قلقيلية التي تمثل تياراً دينياً معيناً يتحدث باسم حركة حماس، والأسئلة التي تلح بنفسها على جميع من يحرصون على وطنهم وشعبهم هي: هل وصول حماس، أو أي فصيل آخر، للبلدية (أو أي موقع لصنع القرار والتحكم بمصادر القوة) يعني أنها تمثل ناخبيها فقط؟ أم ان عليها أن تمثل كافة أطياف المجتمع المحلي؟ وماذا عن الراغبين في حضور حفل يغني به الفنان عمار أو غيره من الفنانين الفلسطينيين؟ وهل ستقوم البلدية من الآن فصاعداً بمنع كل نشاط لا تتفق معه، مع أن جزءاً من المجتمع يؤيد تنظيمه؟ وهل يحق لبلدية يسيطر عليها فصيل آخر أن تقوم بمنع حركة حماس من تنظيم مهرجانات تقوم فيها بالتعبير عن رأي مخالف لرأي السلطة وآخرين يخالفونها الرأي؟ وإلى أين ستصل بلديات مثل بلدية قلقيلية في منعها للحريات من الآن فصاعداً، هل ستقف في وجه محمود درويش وفرقة الفنون الشعبية وفرق الفلكلور والمعارض الفنية والمسرحيات المختلفة سواء محلية أو دولية؟ وهل ستقوم بمراقبة كل عمل فني وثقافي إذا لم يتفق مع أفكارها، وهل ستقوم بمنعه؟ ألا يمكن لبلدية قلقيلية أن تعبر عن رأيها ولكن أن لا تفرض رأيها على الآخرين؟ أليس من حق من لديه الرغبة في الحضور القيام بذلك دون أي قمع أو خوف، كما هو حق من لا يرغب في الحضور عدم الحضور؟ ألم يتم انتخاب ممثلي "حماس" من خلال الانتخابات الديمقراطية (وهو نظام غير اسلامي)؟ أو لن يستخدموا نفس الأسلوب مع غيرهم ممن يختلف معهم في الرأي؟ ماذا يستدل مما حدث في قلقيلية حول (حكم حماس) في حالة وصولها للسلطة؟ وأين سيكون موقع الفلسطينيين الوطنيين والديمقراطيين والعلمانيين ومؤيدي فتح والشعبية والديمقراطية والنساء غير المحجبات ومسارح رام الله وشعراء طولكرم وغيرهم؟ وهل ستلجأ للقوة في فرض رأيها؟ وأخيراً هل يمكن أن يقوم بعض الفلسطينيين باختزال الوطن من جديد لفضاء ضيق ـ أضيق من جغرافيته التي فرضت علينا ـ تتنازعه المصالح الفئوية الضيقة، وتتحكم فيه أحادية الرأي والتوجهات والسلوك.
إن خطورة ما حدث في قلقيلية لا ينبع من الحدث نفسه فقط، بل ينبع مما يمثله من توجه، فمن ناحية تقبل "حماس" المشاركة في انتخابات ديمقراطية بهدف الوصول للسلطة، ولكن عند وصولها للسلطة تعمل على فرض رأيها على الآخرين. إن ما يحدث في قطاع غزة عبر السنوات الأخيرة وبشكل يومي يولد تخوفاً حقيقياً مما ستؤول إليه الأمور في ظل حركة سياسية تستثمر الدين للوصول للسلطة، حيث تقوم حركات دينية هناك بالتحريض ضد العلمانيين والفنانين ومراكز البحث وجمعيات أهلية تعمل مع الأطفال والنساء، فإن ذهبت الى غزة تجد اعلاماً خضراء (وصفراء أيضاً) تنتشر في كل مكان، ولا تجد إلا بعض الأعلام الفلسطينية عند مواقع الأمن والشرطة، وتجد مساجد تسيطر عليها مجموعة معينة، ومساجد أخرى تسيطر عليها مجموعات أخرى. لقد أدى هذا التحريض لقمع غير مسبوق للتعبير عن الرأي والتصرف ومطالبات بالإعدام لبعض العلمانيين، وتجلى ذلك أيضاً في العديد من المناسبات منها قتل الفتاة واطلاق الرصاص على خطيبها وأختها وتركهم ينزفون لمدة طويلة، وكذلك حرق بعض المؤسسات السياحية والفندقية (كفندق الطاحونة)، وتأثير كل ذلك على الحريات الشخصية ووضع المرأة. وقد يكون مجدياً في هذا الصدد أن نتذكر ان الاحتلال لا يعني استلاب الأرض فقط، بل مصادرة الحريات جميعها، وتخريب كل مبادرات الابداع الفلسطيني، فجميعنا يذكر كيف كانت قوات الاحتلال الاسرائيلي تقوم وبشكل ممنهج باقتحام جامعاتنا ومؤسساتنا لتعطيل نشاطات ثقافية وفلكلورية هدفها التمسك بهويتنا وتراثنا. ولهذا قاوم الشعب الفلسطيني لقرن مضى من أجل حريته وكرامته.
لم تكن قلقيلية البداية ولن تكون النهاية، فقد قامت قوى دينية، وخلال السنوات الأخيرة بمحاولات شتى للدخول في اختبارات قوة مع فصائل منظمة التحرير، وقد حذرنا من ذلك سابقاً، كما كان الحال أثناء انعقاد نشاطات (البرلمان الصوري) والذي تم الهجوم عليه وعلى المؤسسات التي تبنت تنظيمه في ذلك الحين. وكانت تلك المعركة من قبل رجال دين على شكل هجمة ضد الحركة النسوية الفلسطينية، ولكنها كانت في حقيقة الأمر موجهة أساساً ضد حركة فتح وباقي فصائل المنظمة. ولم يدرك خطورتها في حينه الا أقلية من السياسيين والإعلاميين والذين وقفوا الى جانب النساء ادراكاً منهم لمقولة (أكلت يوم أكل الثور الأبيض)، حيث يتم استهداف الحركة النسوية أولاً، ومن ثم الفنانين والكتاب والإعلاميين، ولاحقاً المنظمات التي تعمل في مجال حقوق الإنسان ويليها الأحزاب اليسارية، وأخيراً وليس آخراً أي قوى وطنية أو توجهات تعارض النهج الذي تختاره هذه الحركات. من يريد القبول بالديمقراطية لا يستخدمها فقط من أجل الوصول للسلطة والنفوذ، ولكن لا بد أن يقبل بباقي استحقاقاتها، وخصوصاً في مجال حرية التعبير والحريات الشخصية، وتمثيل ليس فقط مجموعة حزبية بعينها، أو تمثيل جزء من المجتمع، أو القبول برأي معين (حتى لو كان رأي الأغلبية)، فباقي المواطنين هم أيضاً لهم نفس الأهمية حتى ولو كانوا أقلية.
ومن هنا، وإذ أشيد بالموقف المتقدم للسلطة الوطنية ومجلس وزرائها، وكذلك موقف وزارة الثقافة والشاعر محمود درويش وباقي مؤسسات المجتمع والمفكرات والمفكرين، إلا أن الضروري هنا يتجاوز حد الخطابة والبلاغة، إن مثل هذه المواقف تعني الكثير وتترك آثاراً وأسبقيات تؤثر على المدى البعيد. ومن هنا فإنني أدعو كافة القوى المحلية في قلقيلية وقراها وباقي المنطقة في شمال الضفة الغربية للوقوف بشكل واضح وعملي ضد موقف البلدية، من خلال تنظيم العديد من النشاطات الثقافية والفنية في المنطقة ككل. وهذا يتطلب دعماً واضحاً من قبل مؤسسات السلطة وخصوصاً وزارة الحكم المحلي، وكذلك المؤسسات الأهلية، وذلك من أجل وضع برنامج فني ثقافي متكامل في قلقيلية والمنطقة ككل.
لدينا جميعاً الكثير لنتعلمه من التجربة، ولأن بعض الحركات السياسية، وخصوصاً الدينية منها ما زالت في بداية الطريق في العمل المؤسسي وخصوصاً الحكومي منه، فمن الممكن تلمس بعض العذر لها بشرط أن تتعلم هي أيضاً أن هناك فرقاً بين أن أكون فصيلاً سياسياً أمثل فقط مصالح وأفكار المنتمين لي، وبين أن أمثل في مؤسسة عامة مجتمعاً متعدداً يأتي مواطنوه من مشارب متعددة.
لقد ذكرتني والداتي بالمعنى الحقيقي لحب الوطن، فالحب الذي عبرت عنه بوعي بسيط المظهر عميق المعنى اعادني حتى لو كنت لم ابتعد سوى القليل الى قناعتي الراسخة بأن الوطن وإن تشوهت بعض ملامحه نتيجة تخريب الاحتلال وبعض جوانب القصور في مسؤولية الأطراف المجتمعية تجاهه، ما زال منبعاً لكل صور الجمال، في موسيقاه وشعره وفلكلوره وذكريات مسنيه، نعم، ان احب وطني بمعناه ان أتلمس فيه أرحب فضاءات الجمال والحرية. قلقيلية وأهلها ـ كما باقي أهل فلسطين ـ يستحقون الأفضل، ولا يحتاجون للمزيد من الحواجز والجدران والمعيقات، فلندع الهواء النقي والنور العذب يصلان الى القلوب والعقول.
http://www.al-ayyam.com/znews/site/templat...&Date=7/14/2005