{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #8
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
أعتذر للتأخير وذلك لأسباب عاطفية :emb:


نكمل


الفصل الثاني
الولادة ( 1 ) والتأهيل الإبتدائي

في " الأغورا " بأثينا، كانت الجموع محتشدة. وفي ناحية من إحدى نواحي الساحة العامة، كانت هناك مسرحية تؤدى. في إطار نوع من العروض المسرحية البدائية، مليئة بالمشاهد الدراماتيكية المخبرة عن حياة الأثينيين الإجتماعية.
وكانت بارتينيس مع زوجها منيساركوس تشاهد تلك المسرحية، يصحبهم طاليس وفيريسيد وهملكون. وجلس الجميع على مائدة واحدة لتناول طعام العشاء، وشرب النبيذ. وراحوا يراقبون الممثلين والممثلات اللاعبين لأدوارهم السرحية بدقة. . .
إنها ليلة مرحة جداً.

وعبّرت بارتينيس عن مشاعرها نحو طاليس وأخوها فيريسيد بقولها لهما بأنها كانت جد فخورة بهما عندما شاهدتهما في الساحة وهي تستمع لأقوال صولون وهو يلقي خطاباته الإصلاحية في الإجتماع، والإقتصاد. منوّهةً بتأثيرهما الكبير عليه.
- فقال لها فيريسيد:" أشكرك يا أختاه، هذا فخر لنا".
- فأجابته وهي مغمورة بحس الإنتماء للعرق الكنعاني الفينيقي:" نعم بالتأكيد يا أخي العزيز".
في حين كان كل من طاليس ذاك العالم، وهملكون قبطان السفينة، يتحاوران بأمور متعلقة بعلم الفلك. هذا لأن للأثينيين معرفة واسعة بالسماء وأجرامها. فطاليس كان قد تنبأ منذ 15 عاماً بحدوث كسوف شمسي، موجهاً النصح لهملكون القبطان بأن يتّبع عربة النجوم المعروفة بالدب الأصغر، عوضاً عن تتّبعه للدب الأكبر في إبحاره.
وكان الزوجان وفيريسيد يتحدثون عن ما يلزم من ضروريات وحاجيات للطفل المتنظر المنبئ عنه. لاحقاً، وفي تلك الليلة، ولدى مغادرتهم المسرح بغية العودة إلى النُزُل، توقفوا تحت إحدى الأشجار لبرهة من الوقت، وقبل ذهاب هملكون إلى وجهته، قال لهما:" إننا سنعود بعد يومين لصيدون، فإذا كانت ما تزال عندكما بعض الأمور التي ما قمتما بها بعد، فعليك بإتمامها يا منيساركوس قبل صبيحة يوم الأربعاء القادم".
- فرد عليه منيساركوس:" شكراً لك يا هملكون على إعلامنا بذلك، إنني وزوجتي منتظريّن بفارغ الصبر عودتنا إلى الوطن، لأنه علينا واجب التحضير لشيء مهم جداً منتظرين تحققه".
فهزت بارتينيس برأسها موافقة زوجها القول. وإبتسم كل من طاليس وفيريسيد لهما، وراحا يرفعان الصلاة بقلبيهما من أجلهما. أما هملكون، فلم يدري ما الذي قصده هؤلاء. إذ أنهم ما أطلعوه على ما كانت قد أنبأت به بيثيا لهما.
* * *

لقد كانت السقينة الفينيقية مغمورة بسكينة المياه اليونانية. وعلى متنها كان الزوجان واقفين يلوحان بالأيدي مودّعَين الحكيمين طاليس وفيريسد الذين كانا يقفان قبالتهما على الشاطئ. وراحت السفينة تبتعد شيئاً فشيئاً عن الأرض اليونانية محتجبة في ضباب الزمان، إلى أن وصلت لمكان إختفت فيه اليونان ومعها دلفي عن مجال النظر. ولم يبقى للزوجان من اليونان سوى الذكريات الجميلة. أما النبؤة التي تنبأت الكاهنة العرافة في دلفي، فقد رتبت على بارتينيس مسؤوليات عظيمة وجمة، وهي الحاملة في أحشاءها رجل المستقبل العظيم الشبيه بالمخلّص. وكانت بارتينيس مؤمنة بكل تلك الأمور، مفكرة بها في كل مرة كان فيها الجنين يتحرك في داخلها.
- وكانت دوماً تسأل نفسها:" لماذا أنا؟ هل بإمكاني تحمّل ذلك؟
في الليل، كانت نجمة الصبح المعروفة في اليونان " بالنجمة الفينيقية " تتلألأ بضوء عظيم في المملكة السماوية.
بارتينيس وهي على سطح السفينة، كانت تنظر إلى إنعكاس نور تلك النجمة على سطح المياه الهادئة، إذ أن هملكون كان قد قال لها سابقاً، بأنهم كم كانوا يعتمدون على النجوم في إبحارهم، وتذكرت ذلك عندما كانت تفكر باحثة عن إسم لإبنها. وكان الإسم مكتوباًعلى النجمة، نجمة البحر، وكم حاولت جاهدة قراءته لكنها ما كانت لتتمكّن من ذلك، لأن أحرفه كانت منقوشة في داخل " نور تلك النجمة ". لذلك كانت محتاجة لزوجها ليكون معها، فمعاً ويداً بيد، كواحد في الفكر والروح سيكون بمقدورهما فك رموز إسم ثمرة حبهما.
في اليوم التالي وهم في طريق عودتهما لفينيقيا، أخبرت بارتينيس زوجها عن ما كانت تحاول فعله في الليلة السابقة.
- فقال لها مطمئناً:" بارتينيس، يا حبيبتي، ما زال أمامنا شهران، فأنا أعقد بأننا في حينها سنجد له إسماً".
ومن ثم إبتسم.
لاحقاً، وفي اليوم الثالث، عند حلول المساء. كان السكون العظيم مخيماً على مرفأ صيدون الجميل. وكانت المعابد والمدينة تقف مغمورة بالغموض والقداسة، القداسة فعلاً كانت قائمة، أما الهدؤ، فأبداً. ففي الحقيقة، إن الهدؤ الذي كان بادياً بأنه مخيّمٌ على المدينة، تبدد عند وصول السفينة للمرفأ. فظهرت الناس في كل مكان، وخاصة التجار منهم، الذين كانوا منتظرين بفارغ الصبر وصول بضائعهم الجديدة، هذا فضلاً عن العائلات التي أتت المرفأ للترحيب بعودة أبناءها من الغربة والسفر.

وسار منيساركوس وزوجته بارتينيس عبر الرواق المضيء، مبتعدَين عن رصيف الميناء، قاصدَين منزلهما في المدينة، ومرّا بمحاذاة السوق. بارتينيس كانت مشتاقة لكل ما تراه، وخاصة لبيتها. أما منيساركوس الذي كان قد تعوّد على السفر كثيراً للتجارة، لم يكن كزوجته متشوقاً.
وعند وصولهما البيت، وما أن فتحا بابه الخشبي المصنوع بإتقان حتى فاحت الرائحة الجميلة لخشب الأرز مالئة المنزل بعطر شذاها الذي إنساب إلى عمقيهما، وشعرا بأنهما في بلادهما.
لقد كان منيساركوس ضعيفاً أمام تلك القوة الللامرئية العابرة في الزمن. إنها قوة الإنتماء، فليس مهماً المكان الذي يذهب إليه الإنسان مسافراً، ما دام في النهاية سيعود دوماً لمسقط رأسه حيث أبصرنوره الأول.
باكراً، وفي صبيحة اليوم التالي، ذهب الزوجان للسوق بغية شراء الثياب والأشياء الأخرى الضرورية لطفلهما المنتظر. وفي كل أنحاء السوق كان خبر حملها تتناقله الناس إذ أن الخبر إنتشر بسرعة كبيرة. وعبّر لهما الكثيرين من الناس عن سعداتهم لذلك سيما وأن ذلك المولود سيكون بكرهما.
- وكان البعض من الناس يقول بحماس كبير، ليس في صيدون فقط، بل في صور أيضاً مسقط رأس منيساركوس:" سيولد لمنيساركوس هذا التاجر العظيم، ولزوجته بارتينيس هذه السيدة الرائعة طفل".
لقد كانت الأيام تمر ببطء، والليالي بسرعة. أما الزوجان، فلم يكونا قد باحا بسرهما بخصوص تلك النبؤة لأي من الناس على إمتداد الشاطئ الفينيقي. وبالرغم من ذلك، فقد عَلِمَ بها البعض من أقاربهما. فمنهم من آمن بها، ومنهم من لم يؤمن.
وفي مرة من المرات، كانت بارتينيس لوحدها في البيت تحيك قطعة من الثياب لإبنها المتشوقة لولادته، وهي في شهرها الثامن من حملها. فسمعت صوت خفيفاً لوقع خطوات آتٍ من صوب الجهة الخلفية لباب الحديقة. فتوقفت عن عملها مترقبة. . .
ثلاث طرقات على الباب أفقدتها الصبر. فنهضت عن الأريكة متوجهة صوب الباب لتفتحه. وما إن فتحته حتى وقع نظرها على شخصين كان يلبس كل منهما ثوباً أبيضاً طويلاً، وعلى رأسه إسكيم بشكل مثلث ازرق اللون، وحول خصره حزام أزرق. وعندما وجداها مشدوهة بهما، ومرحبة في آن، نزعا عن رأسهما الإسكيميّن ودخلا المنزل. وقال لها احدهما:" لا تقلقي يا أيتها السيدة".
أما الثاني فقال لها بنغمة روحية:" لقد اتيناك من جبيل، بعد أن وصلتنا رسالة خاصة فحواها، بأنك حاملة بأحشائك طفلاً مميزاً. حيث فيه ستتجسد روحٌ متطورة لتصبح من خلاله رجلاً عظيماً، فمباركةٌ أنتِ من بين كل نساء كنعان – فينيقيا".
فالرجلان، كانا كاهنان.
فأغمضت بارتينيس لتوها عينيها، محنية رأسها كعلامة إحترام لتلك الرسالة الروحية التي حملها إليها هذان الكاهنان، وإضطربت للحظات. ومن ثم حل سكون مهيب في الغرفة. وأرادت بارتينيس أن تسوضحما المزيد، لكن الهدؤ الذي كان بادياً على وجهيهما، جعلها على يقين تام من حسن سيّر تحقق تلك الأمور والأشياء، فإبتسمت راضية بما قدّر لها ولعائلتها. وبهدؤ غادر " كاهنا معبد أدونيس " المنزل. أدونيس هذا الإله الشاب الجميل من جبيل المجسّد لدورة الطبيعة، وخاصة الربيع الذي فيه تتجدد كل ذرة في ممالك الحياة.
. . . وعاد منيساركوس إلى البيت، فوجد زوجته مرتاحة وعلى ثغرها إبتسامة لطيفة. فأخبرته عن زيارة الكاهنان لها، فأخذته الدهشة ولم يعلّق. فرفع رأسه ناحية السماء، ومن ثم نظر بعمق إلى عيني زوجته، وأغمضَ عينيه متمنياً بصمت تحقق تلك الأمور.
وفي الليل إتفق الزوجان بأن لا يخبرا أحداً عن زيارة الكاهنين لبيتهما.
وكانت الإبتسامة لا تفارق وجه بارتينيس أبداً، منذ سماعها لتبريكات الكاهنان لها.
وراحا يفكران ملياً لساعات طوال بالإسم الذي سيطلقانه على إبنهما، إلى أن قررا أخيراً تسميته " بيتثاغور ". ( 2 )
. . . وبعد مرور ما يقارب الشهر تقريباً، أبصر بيثاغور النور. فأحاطه أهله والأقارب كما الجيران متحلقين حوله. وكانت رائحة البخور وشجر الأرز تفوح في كل أرجاء ذلك البيت الساحر. وكانت السعادة الممزوجة بدموع الفرح تعلن عن هذا الحدث المميّز. ففي كل مكان من صور وصيدون كانت الناس تتناقل الخبر السعيد. أما في جبيل، فكان الكهنة وحدهم مدركين سر هذا المولود العظيم.
وكانت على بارتينيس ومنيساركوس مهمة خاصة جداً، عليهما واجب القيام بها خير قيام، بالعناية والتربية والرعاية كما يفعل كل الأباء والأمهات مع فارق كبير أساسه في تلك النبؤة التي كانا مغموران بها طيلة الأشهر الثلاثة الماضية من الحمل ومن ثم الولادة. لذلك كانا دوماً يقظين، وجد مهتمين بطفلهما، طفل النبؤة. تلك النبؤة التي ما كانت إلا مجرد وحيّ فكري أوحت به الآلهة المجهولة في رجاء كوّن قناعة بأن رجلاً عظيماً قد أتى وهو سيفعل الخير للبشرية جمعاء كونه سيكون بمثابة مخلّص لها، حيث هنا تكمن مسؤولية أبواه بجعل ذلك الرجاء حقيقة محققة. وكان أهله دوماً حاملين ذاك الوحي في مملكتهما الداخلية، وبات بالنسبة لهما جوهر حياتهما التي أخذت طريقاً آخر مختلف بتحولها من تربية طفل عادي، إلى طفل سيصبح في المستقبل رجلاً مملؤاً من الألوهة وجديراً بالإكرام.
وبعد كل هذا.
- أفلم تكن الألوهة جزءاً أساسياً من كل كائن حي في الكون؟
- ألم تكن الألوهة طريقاً مخفياً لتطور الطبيعة وتجليات الله؟

بارتينسي ومنيساركوس، جاءهما الكثيرين من الناس للتهنئة بولادة طفلهما. وباتت رحلات منيساركوس وسفراته قليلة كي يتسنى له لبقاء بجانب طفله وزوجته قدر الإمكان من الوقت.
وفي مرة من المرات، كانا يتناولان الطعام بصمت، وهما جالسان على الطاولة بقرب النافذة، متحدثان مع بعضهما بلغة العيون، وإلى جانبهما طفلهما الصغير في مهده باكياً.
لقد كان ينموا في جو محاط بالأنوار والهواء العليل، سامعاً الأصوات ورائياً الأشياء المتحركة. وكان أحياناً ينتابه الشعور بالبرد كما بالجوع. وهو الذي كان قبل ولادته في أحشاء أمه مغموراً بالمياه والظلمة، ولم يكن ليسمع سوى صوتها العذب شاعراً بالدفء والحنان.
- وللحال نهضت بارتينيس عن الطاولة، فأعطته طعامه ومن ثم همست:" نمّ وإهدء يا طفلي العزيز، فلماذا البكاء"؟!
فشعر بالأمان، وإرتسمت على محياه الصغير إبتسامة جميلة.
وعلى مر الأيام والليالي، كانت تلك اللحظات تتكرر غامرة حياة تلك العائلة الصيدونية بالسعادة.
* * *


في الإتجاهين المتعاكسين للوادي، وفي قلب الجبال المحيطة. كانت الطبيعة كما اليد البشرية قد حفرت كهوفاً لحماية الكائنات الحية من الشتاء والمخاطر الأخرى المتعددة. ولاحقاً، سكن الرجال والنسوة في تلك الكهوف بغية التنوّر روحياً.
هناك، في الأعالي وعلى قمة ذاك الجبل الذي منه كان يتدفق النهر المقدس. كان ينتصب معبدان أساسيان للعبادات التي كانت سائدة في جبيل. وإن واحداً من هذان المعبدان كان مكرساً لعشتروت إلهة الخصوبة، اما الآخر فكان مكرساً لحبيبها أدونيس إله التجدد.
ولقد كانت العادة السائدة في كنعان فينيقيا آنذاك أن تقوم العائلات الكنعانية الفينيقية بأخذ أولادها الصغار الحديثي الولادة إلى ذلك الجبل للتبرك من تلك المعابد. ففي معبد عشتروت، كانت كاهنة " إيل " تبارك الفتيات. أما في معبد أدونيس فكان " كهنة إيل " يباركون الفتيان الذين كانوا مخيّرين لاحقاً عند بلوغهم سن الرشد بالخدمة في الهيكل، أم لا، كلٌ حسب رغبته.
وفي يوم من الأيام، وفي داخل معبد أدونيس كان دخان البخور عابقٌ أريجُ شذاه إحتفاء بالمُقَدَس على أنوار الشموع. ودخلت بارتينيس وزوجها منيساركوس المعبد متوجهان صوب المذبح الذي كان يقف على كل جانب من جانبيه عشرة كهنة بلباسهم المعتاد، وهو الرداء الأبيض، ويعلوا فوق رأس كل واحد منهم إسكيم أزرق. وكانوا متمنطقين على خصورهم بالأحزمة الزرقاء، أما رؤوسهم فكانت محنية كعلامة من علامات الإحترام وهم يرتلون التراتيل التي كان صدى صوتها مالئاً المكان المقدس، إذ أن الطقس بذلك كان قد أوشك على الإبتداء. ووقف الزوجان أمام المذبح، وطفلهما الصغير بيثاغور بين ذراعيهما. ورفع الكاهن الأكبر ذو الرداء الأبيض، والمتوّج بإسكيمه الذهبي بإحدى يديه كأس النبيذ، وباليد الأخرى قطعة من الخبز، وقال ( 3 ) :" إيليم شلام ليكوم. بإسم الإله إيل العلي أباركك يا بني الصغير بيثاغور إلى الأبد". ومن ثم جمد الكاهن للحظة، وبعدها وضع على المذبح كأس النبيذ وقطعة الخبز، ومزجهما ببعضهما.
* * *
كان بيثاغور طفلاً جميلاً ومهذباً. فقد سافر مع أبيه عدة مرات إلى جزيرة ساموس، إذ كان للعائلة منزلٌ فيها. وكانت ساموس مشهورة بمناجمها وتجارتها الذائعة الصيت.
وفي ذات مرة، وقعت فيها مجاعةٌ شديدة، فقام منيساركوس بإحضار الذُرة إليها، فأكرمته سلطاتها بأن منحته جنسيتها. وبذلك أصبح بيثاغور مواطناً ساموسياً بفضل أبيه!
وكانت حشرية بيثاغور الثقافية منعكسة في عيناه اللامعتان، وكان كلما تقدم في العمر، كانت عبقريته تنموا معه وطاقاته الخفية مغلفة إياه. ولم يكن أهله ليعترضوا طريقه في أي بحث من أبحاثه العلمية. لا بل على العكس من ذلك، فقد كانوا يشجعونه عليها كثيراً. فعلمّه أباه عن السفن وجغرافية البحر المتوسط والتجارة. كما، وقابل خاله فيريسيد، وتحدّث مع كل أؤلئك الذين كانوا حماة المعرفة المقدسة. ومع مرور الوقت، بات بيثاغور متفوقاً على كل أترابه من التلاميذ الشباب في إستعابه للحكمة الإلهية. وهو الذي كان عندما يتحدث، كانت كلماته تظهر هدؤه، وتواضعه، وهي كانت مكرّمة من كل الذين كانوا يستمعون لها. وكان بيثاغور بالنسبة للبعض من الناس إبن منيساركوس، أما بالنسبة للسواد العظم منهم فكان معروفاً بإبن ساموس ذو الشعر الطويل.

وفي ليلة من الليالي، كان منيساركوس نائماً في سريره غير أنه لم يستفق من نومه هذا. لقد مات بعيداً عن وطنه. فبكاه إبنه البكر بصمت، أما الأهل والأصدقاء الذين كانوا وعدوا منيساركوس في حياته بأنهم سيقومون بدفنه في مدينة صور بجوار اجداده عند وفاته، قد أبَرّوا بوعدهم له. وبعد إنقضاء ثلاثة أيام على موته، وصلت السفينة التي كانت تحمل جسده البارد إلى صور التي لاحقاً فيها، أقيمت له مناحةٌ عظيمة، فرثاه أقاربه كلهم. وما هي إلا هنيهات حتى بدأت جنازته الحافلة، وبعدها وضع الكهنة على وجه منيساركوس قناعاً مذهباً، ومن ثم أنزلوا نعشه داخل الأرض التي ضمته إليها للأبد، فباتت مثواه الأخير الأبدي. وبعد هذا كله، أقاموا فوق قبره نصباً من المرمر يحمل صورته التي حفروا تحتها الكلمات التالية:" منيساركوس هذا التاجر الشهير والغني".

لقد بكت بارتينيس كثيراً على فراق زوجها الأبدي لها، والناس كلها كانت في غاية الحزن على رحيله.
منيساركوس الزوج المحب، والأب الفاضل لم يعد بجانب بارتينيس، ولا بالقرب من بنيه الثلاثة.. ( 4 )
- وكان أن قال في جنازته كاهن بعل ملقارت بنغمة معزية": هذا هو بيت إيل منزل الله منتصباً فوق جسد فقيدنا الغالي منيساركوس حامياً له، وموجهاً روحه الطيبة في رحلتها الأخيرة. إن الموت ليس إلا مجرد عبور من مرحلة إلى أخرى في الوجود"!
ودوّى صدى كلاماته تلك، في عقل بيثاغور.
ولم يكن موت منيساركوس مانعاً لبارتينيس من متاعبة الوعد لإبنها بيثاغور. فكلّمت أهم الناس بشأنه في إيونيا، وفينيقيا بغية مساعدنه في متابعة تأهيله الإبتدائي.
وللغاية، فقد سمح له أؤلئك بالإضطلاع على أهم الكتابات في كل المسائل المهمة في الحياة. فقد علمه هيرموداماس Hermodamas إبن أخ كريوفيلوس من ساموس الموسيقى والشعر، وملاحم " الإلياذة – والأوديسة "، إذ كانت علومها مُعتَبَرَةً ضرورةً حتميةً للعلوم الروحية المقدسة. ولم يكن هناك من شيء ليخفف من حماسة بيثاغور، أو ليروي ظمأه في أبحاثه عن الحكمة .

إن أول خيوط أشعة الشمس المشرقة بدأت تشع فوق أرض لبنان القديم. وكانت الطيور تعزف بسلام نغماتها محوّلة الصمت إلى تعابير خفية، فوحدها الطيور بإمكانها فَهم معناها.
وإستفاق بيثاغور من نومه مسرعاً إلى خارج المنزل، محاولاً فك رموز غناء تلك الطيور. وراح يراقبها متنفلة من شجرة لأخرى، ومتوجهة صوب الأعلى نحو مملكة السماء الرحبة. وقد مكّنه إحساسه المرهف من فَهم إلحانها العذبة. إنها تنشد الحرية. بإبتسم بيثاغور، وراح يصفّر لها في محاولة منه لإدراك حريتها مع علمه بأنه ليس بإستطاعته أن يحزوا حزوها في الطيران. فمشى بعيداً في الحقول الشاسعة أمامه، وتوجه شمالاً، ودخل " بستان الشيخ " الذي كانت رائحة أزهار الليمون فواحة في أرجائه. وراح يتسمع على صوت خرير مياه النهر المتردد بالقرب من " معبد أشمون " الجليل. ( 5 )
ودخل بيثاغور المعبد، ليحضر صلاة الشفاء التي كان يتلوها كبير الكهنة الذي كانت تظهر خلفه على الحائط صحفة معلقة من الذهب تظهر عليها صورة أشمون وهو حاملٌ بيده العصا الملتفة حولها أفعى حمراء اللون. وبدى أشمون، إله الشفاء ظاهراً بكل عظمته. فقدم أهل أحد الأطفال المرضى تمثالاً منحوتاً ممثّلاً إبنهما المريض للمعبد كرجاء بالإله. ومن ثم أخذ الكاهن الصبي وغطسه مرات سبع في حوض مليء بمياه الشفاء التي جُرّت إلى المعبد من النبع المقدس القائم بجواره، إتماماً لطقس الشفاء المقدس. وبعد ذلك، قدّم الكاهن الصبي لذويه الذين أسرعوا بتجفيفه من المياه، ومن ثم غادروا المعبد بعد أن أعلمهم كاهنه بأنه عليهم واجب الإنتظار لبضعة أيام كي يشاهدوا أثار رتبة الشفاء تلك.
وكان بيثاغور ينظر إليهم، مراقباً إياهم وهم مغادرين وعلى وجوههم بدت ظاهرة بوضوح علامات الرجاء، والأمل، والإيمان باشمون إله الصيدونيين الذين أعلنوا ألوهيته بسبب ما كانوا يحصلون عليه من شفاءات بشفاعته. وتبسّم بيثاغور لهم مشاركاً إياهم الأمل بالشفاء. ذاك الأمل الذي قد يحرر إبن تلك العائلة من مرضه. فأدرك بيثاغور، أن كل ما كانت الناس ترجوه هو في أن تتحرر من أي شيء قد يضعفها. فالبعض من أؤلئك، كان متعبداً للإله الواحد. أما البعض الآخر منهم فكان متعبداً لعدة آلهة. وكل ذلك ما كان ليكون عند الفئتين من الناس لو لم يكن لديهم أملٌ كبيرٌ بالخلاص.
غادر بيثاغور المعبد وقلبه مغمور بالأحزان، والقلق والإضطراب. إذ أنه وجد نفسه غير قادر على القيام بأي شيء لذاك الولد المريض ولأهله. فعاد أدراجه إلى البيت ووجد أمه وأخوته متحلقين حول المائدة يتناولون طعام الغداء.
- فسألته والدته:" أين كنت يا بني؟
- أجابها:" لقد كنت في معبد إله الشفاء".
- ومن ثم سألها بفضول:" من المؤكد يا أماه أنني وعندما كنت صغيراً كنت في بعض الأحيان أمرض، فهل كنتما أنتِ وأبي تذهبان بيّ لذاك المعبد من اجل إيفاء النذور عني بغية أن أشفى"؟
- ونظرت إليه أمه كما إخوته متعجبين، وللحال أجابته:" لا يا حبيبي، فأباك لم يكن يفعل ذلك مطلقاً، غير ان هذا لم يكن يعني أنه ليس بمؤمن، بل كان غير مقتنعاً بأن لذاك الطقس فعالية إحداث الشفاء. وفي مرة من المرات يا بني الحبيب، إنتابك المرض، فأحضرنا لك أهم الأطباء وأكثرهم براعة. ولم تكن في طفولتك تمرض كثيراً، ولم تصل بك الأمور ولا في اي مرة من المرات إلى حد الخطورة".
فنظر إليها بإحترام، وتبسّم لها. وفي قرارة نفسه شكر أباه لأنه كان يفعل الصواب.
- ومن ثم قال بنغمة حزينة:" إنه لأمر مؤسف جداً حال تلك العائلة التي شاهدتها اليوم في المعبد. فقد بدى لي أنه ليس بمقدورهم أخذ ولدهم للطبيب. إنهم فقراء الحال يا أمي".
- ومن ثم، تنهد وقال:" أوَه، يا لسخرية القدر".
وإنسابت دمعة حزينة على مقلتيه. وظلّت أمه كما أخوته صامتين.

وفي ذات مرة، كان بيثاغور جالساً على الشاطئ الرملي لصيدون مستظلاً تحت شجرة النخيل، وبيديه قيثارته التي كان قد إبتكرها هرمس أخنوخ بحسب ما يقوله التقليد. وكانت تلك القيثارة ذات أوتار أربعة ممثلة لعناصر الطبيعة الأربعة. ولاحقاً، أضيف إليها ثلاثة أوتار أخرى فبات عدد أوتارها بذلك سبعة. فالوتر السابع أضافه عليها الموسيقار اليوناني تيرباندريس من لسبوس Terpandres – Lesbos . وكان بيثاغور قد إضطلع على كل تلك الأمور المتعلقة بالقيثارة في أثناء دراساته للموسيقى.
وراح بيثاغور يعزف أنغاماً تحفز في النفس الرغبة بالتأمل في وقت كانت فيه الكرة البرتقالية اللون في السماء تتوارى شيئاً فشيئاً غائصةً في قلب البحر المتوسط. وكان لإيقاع موسيقاه صداه الناعم في صمت الليل المنسدل، وقلبه مغمورٌ بالهدؤ والسلام. وهو الذي كان، وكلما إضطربت أحاسيسه كان يلجئ للموسيقى واجداً فيها ملاذه الوحيد لإستعادة صفاءه وسكينته. ولذلك كان بيثاغور معروفاً في صيدون بالموسيقار ذو الشعر الطويل.
وكان في كل مرة ينتهي فيها من العزف، يتمدد مستلقياً على ظهره، محدقاً بالنجوم المتلألئة في قبة السماء، مدركاً بأنه لا حدود لعدد تلك النجوم المنتشرة في الفضاء. وكانت لديه تساؤلاته عن طبيعتها، وعمرها، وحركاتها. إنها تساؤلات صعبٌ عليه إجابة نفسه عنها الآن. إنه لحق لغز كبير في عالم الأشكال، وإبتسمت عيناه. وبعد مرور ما يناهز الساعات الخمس، عاد إالى البيت مغموراً بالسلام الداخلي في عمق أعماق كيانه، وأحلامه كانت طاغية على تخيلاته الكثيرة.

وتحت إشعة الشمس الأولى المتماوجة بتداخل مع أمواج شاطئ صيدون. وقف بيثاغور على رصيف ميناء صيدون وهو حاضنٌ أمّهُ مداعباً كتيفيها. وإنسابت ببطء دمعة سخية على وجهها الباسم، وإنتابها الشعور بالحزن لفراقه القريب لها. ولكنها في الوقت عينه كانت سعيدة لعلمها بقدره المحتوم.
- فقال لها:" لا تكوني منشغلة البال بشأني، ولا تقلقي عليّ، فسأكون بخير"!
إنها كلماته الأخيرة التي تفوّه بها في ذاك النهار الجاف والشديد الحر.
- فأومئت برأسها مفكرة، ثم قالت:" أنا أعرف ذلك يا بنيّ ".
ومن ثم إبتعدت تاركة المكان بصحبة ولدَيها الآخرين.
* * *


تحركت السفينة عابرة البحر المتوسط بإتجاه ساموس، التي فيها كان الحاكم بوليكرات Polycrates الظالم على وشك البروز في الحكومة والمجتمع. وفكر بيثاغور بأن الإضطرابات هناك ستمنعه من متابعة دروسه في تلك المدينة، وكان له من العمر وقتئذ 18 عاماً. وفي ليلة من الليالي، غادر بيثاغور ساموس موطنه الثاني، بغية الإنضمام لخاله فيريسيد الحكيم الكنعاني الذي كان متوقعاً قدومه إليه. فحضّر نفسه، وهو المتأثر بتعاليم كهنة مصر وفينيقيا ليعلّم أبن أخته. ولدى وصوله إليه، أستقبله بحرارة في منزله بجزيرة ساموس التي كانت مستوطنة فينيقية تقع قبالة مدينة ميلاتوس Miletus.
وتحت أشعة الشمس كان بيثاغور وخاله فيريسيد يسيران جنباً لجنب بين النباتات الغريبة التي كانت نابتة في تلك الجزيرة. وراح بيثاغور ذو الرداء الأرجواني يتعرف من خاله فيريسيد على نظرية الكون التي كانت واحدة من النظريات التأملية عن كيفية تكوّن الكون.
- وقال فيريسيد:" دعني بني أخبرك عن آلهة الخلق، فزن ( زوس ) هو الأثير. أما كرونوس فهو الوقت، وكتوني هي إلاهة الأرض. وكلهم أزليين.
- وكانت عيناه مغمضتين، ومن ثم رفع يده للأعلى وأضاف:" زن الخالق، زيّن كتوني ( المادة ) بالأشكال والأحجام والصوّر المالئة الكون. أما كرونوس ( الزمان ) فوقف منتظراً بفارغ الصبر إتمام عملية الخلق"
- فسأله بيثاغور متعجباً:" كيف تم ذلك الخلق يا خالي العزيز"؟
- فأجابه:" زن الإيروس الكوني خلق الكون بجمعه كل الأضداد في المادة القديمة مكوّنا بذلك الوجود الكامل بتناغم شديد".
- فهمس بيثاغور:" أواه".
لقد كانت مخيلة فيريسيد وأفكاره الغريبة تنال إعجاب بيثاغور، كونها معقدة نوعاً ما، وفي الوقت عينه بسيطة في البحث عن أسرار المجهول. وكان فيريسيد المؤمن بخلود النفس قد عرّف بيثاغور على فكرة التقمص مبيناً له إحدى حيواته السابقة التي كانت بشخص إيتلايدس Aithalides إبن هرمس. الأمر الذي أيقظ في بيثاغور ذاكرة حياته الحالية، محفزاً فيه قوة إسترجاعه لذكريات ما مر به سابقاً من حيوات. وعلاوة على ذلك فقد حدثه عن الكهوف والمغاور التي من الضروري ومن وقت لآخر أن يسكن فيها المرء، لما لها من دور فاعل بإلتقاط التنوّر بالألوهية.
ويوماً بعد يوم، كان بيثاغور يدخل إلى أعماق أفكاره مكتشفاً رويداً رويداً الخطوات الأساسية التي ستساعده على السيطرة والتحكم بمجريات افكاره في عقله المفكر. وربما كان ذلك بالنسبة له نقطة البداية كما لكل تلميذ من التلاميذ في عالم الحكمة.
وفي إحدى الأمسيات، كان بيثاغور الموسيقار ذو الشعر الطويل جالساً على المقعد الخشبي على شرفة منزل خاله فيريسيد وهو يعزف على قيثارته، وكانت نغمات عزفه يتردد صداها في الفضاء الجامد والمفعم بالسكون، على الرغم من أنه لم يكن هناك من شيء جامد. إذ كان كل شيء في الوجود الرحب متحركاً، وآخذاً شكلاً مختلفاً عن سواه. وفي هذا الجو التأملي، راح بيثاغور يفكر بأباه متذكراً إياه وانامله السحرية تحرك اوتار القيثارة بدقة مخرجة أعذب الألحان. إنه فعلاً مشتاقٌ لأباه. وفي تلك الأثناء خرج فيريسيد إلى الشرفة وجلس بقرب إبن أخته، ذلك أن موسيقاه الحزينة قد جذبته إليه. ولم يقل شيئاً، بل ظل يستمع لموسيقاه منصتاً لصدى نغماتها بإعجاب.
- وسأله بيثاغور:" ماذا يحدث برأيك يا خالي العزيز للأموات بعد موتهم"؟
- فنظر إليه خاله، ليجده محدقاً أمامه في المحيط، ولتوّه أدرك بأنه كان يفكر بأباه.
- وقال:" إن لحظة الموت في هذا العالم يا عزيزي، هي في الوقت عينه لحظة الولادة في العالم الآخر المختلف عن عالمنا هذا. وأعلم أنه ليس بإستطاعتنا إدراكه بمشاعرنا وأحاسيسنا المادية، فهو قائم بذاته وبحقيقته. فالنفس يا أيها العزيز بيثاغور هي أزلية وأبدية".
ولدى سماعه لكلمات خاله تلك، تذكر أقوال ذاك الكاهن، كاهن بعل ملقارت في جنازة أبيه. تلك الأقوال التي هدّأت من روعه آنذاك. وفتحت كلمات خاله مخيلته على عالم مجهول الإحتمالات. فأطلق أفكاره خارج الحواجز الجسمانية، داخلاً في حالة من التأمل الهادئ.

لقد أصبح الليل في آخره، وبيثاغور منهك من التعب.
* * *

لم تكن الرحلة إلى مدينة ميلاتوس Miletus شاقة، فوصل بيثاغور إلى منزل طاليس في الصباح الباكر. وكان صيت طاليس الرجل الحكيم شائعاً في كل أرجاء المتوسط. ذلك أن أسلوبه في التعليم كان له الأثر الكبير على قسم من الناس ومن بينهم فيريسد نفسه.
طاليس، هذا الشخص الهادئ بطبعه، رحب ببيثاغور قابلاً به كتلميذه لإدراكه مثلما كان فيريسيد قد أدرك سابقاً بأن الرجل ذو " الرداء الأرجواني " كان مالكاً لطاقة هائلة تملئ كيانه.
وفي الأيام اللاحقة، لم يكن عقل بيثاغور يتوقف عن خلطه الأشياء والأفكار ببعضها عن كيفية تكوّن الكون وموت الكائنات الحية. ولذلك كانت الحياة كما الموت بالنسبة له من أهم الأمور التي أثارت إهتماماته.
وتحت ظلال الشجرة كعادته، جلس بيثاغور وراح يعزف على قيثارته في محاولة منه لإيجاد مخرج له من هذا العالم التحليلي، ليدخل في حالة فكرية مُريحة، إلى عالم الموسيقى الذي كان بالنسبة إليه كالتأمل العميق بحد ذاته.
طاليس الرجل الكهل، إقترب من بيثاغور وجلس بمحاذاته بصمت، وراح يستمع للأنغام السحرية التي كان يعزفها بقيثثارته.
وفي ليلة من الليالي، وتحت أشعة نور القمر، كان بيثاغور مستلقياً على الشاطئ الرملي لمدينة ميلاتوس ومياه البحر الإيجي محيطة به، وهو يتأمل السماء وأجرامها. فسأل نفسه بصوت عالٍ:" ما هو يا ترى الأساس الكامن لكل ما تراه عيناي"؟ وما إن سأل نفسه هذا السؤال، حتى سمع صوتاً واضحاً من ورائه خارقاً الصمت:" إنها المياه الأبدية ( 6 ) التي هي الأساس الكامن وراء كل ما هو قائم وموجود من المادة". ولتوّه أدرك بيثاغور بأن هذا الصوت هو صوت طاليس، آتياً من خلف الشجرة.
- وسأله بإستغراب:" المياه"؟
- فرد عليه:" أجل يا بيثاغور، إن الكون بحد ذاته هو كائن حي يتغذّى من الأبخرة التي تتصاعد من المياه".
- فسأله ثانية:" كيف إستطعت الوصول إلى هكذا إستنتاج"؟
- قال:" أنا لم أستشر الآلهة مطلقاً، ولم أبحث عن إستنتاجات خارج عن الطبيعة نفسها التي كنت دوماً أراقبها إلى أن تبيّن لي ما للمياه من أهمية فيها"
ووافقه بيثاغور الرأي على ما للمياه من دور فائق الأهمية، لكن هذا وبرأيه لا يعني بالضرورة أن المياه هي الأساس الكامن للوجود المادي.
- وقال بيثاغور لمعلمه متحدياً:" يا معلمي طاليس، من المفروض ان يكون هناك ثمة شيء ما، لا نعلمه ذو طاقة أوسع واكبر وأسمى من المياه".
- ودنى منه معلمه طاليس وقال:" المياه هي مجرد مياه بنظر الإنسان الجاهل، غير أنها بالنسبة إليك وأنت المتجرء لا يجب أن تكون إلا مجرد رمز للروح الأولى، وإن كل شيء قائمٌ وموجود هو من طبيعة روحية. فللعالم روحٌ كونية". ( 7 )
وبعد تلك المحاورة، إختفى طاليس، وإبتسم بيثاغور بصمت.
ومع مرور الأشهر وتعاقب الأيام، كان طاليس يترك تأثيراته في عقل بيثاغور. فعلّمه الإعتدال، وكيفية السيطرة على الأفكار والمشاعر.
وطاليس كان له الفضل الكبير في إزاحة الخرافات، ودوره كبيرٌ في إحلال العقلانية والمنطق مكانها.
وهكذا، بات بيثاغور مهتماً بالعلوم، كالرياضيات ( 8 ) ، وعلم الفلك الذي كان قد تطوّر من علم التنجيم الموغل في القدم. وبفضل طاليس الذي تعلم في مصر والشرق، دخلت كل تلك العلوم إلى العالم اليوناني.
وفي مدينة ميلاتوس، كان بيثاغور قد إستمع لمحاضرات أناكذيماندر Anaximander وهو واحدٌ من تلاميذ طاليس، فكان يحاضر في علم الهندسة، وعلم التنجيم، وعلم التكوين. أما الأرض بنظره فهي ثابتة في وسط الكون. وكان البعض من أفكاره ذو أهمية عابرة بالنسبة لما كان يقوم به بيثاغور من أبحاث، أما البعض الآخر منها فكان إلحادياً لا سيما في تعريفه للطريقة التي تكوّن الكون بها. إذ كان يعتبر أنه لا يوجد إلهٌ خلق الكون، بل كان مؤمناً بالمطلق الغير محدود مصوراً إياه الإله الحقيقي. فالكون بنظره لم يخلق أبداً، ولن ينتهي مطلقاً، وهو ميت وأعمى. وكان أناكذيماندر قد عبّر عن أرائه تلك في إحدى محاضراته التي كان يلقيها، وكان بيثاغور من بين المستمعين لها، ولم يعد من بعدها يحضر أيأً من محاضرات ذاك الرجل، مكرساً وقته للإهتمام بتعاليم معلمه طاليس، لأنه وجد فيها عمقاً وذكاءً متأصلان في العالم الحقيقي. فالكون عند طاليس متحركٌ ونابض.
وبعد العيش زهاء خمس سنوات مع خاله فيريسيد ، ومعلمه طاليس، كانت ما تزال لديه بعضٌ من الأسئلة العالقة بذهنه.
وتحت أشعة نور شمس الظهيرة، في الباحة الخارجية لمنزل طاليس. كان بيثاغور ومعلمه يجلسان سوية جنب لجنب. إنه اللقاء الأخير بينهما.
وراح بيثاغور يطرح اسئلته بتتابع على معلمه الذي أجابه عليها بدقة بالغة، وبحكمة:"

- ما هو برأيك أصعب شيء في الحياة "؟
-" أن يعرف الإنسان ذاته ".
- " ما هو الأكثر حكمة "؟
- " إنه الوقت، لأن بمروره تُكتَشَف كل الأشياء. وإن السيطرة عليه هي واحدة من أحكم القدرات في الحياة ".
- " ما هو الأسرع في الحياة "؟
- " إنها الروح، لأنها جوالةٌ في كل الإتجاهات . إنها في كل مكان ".

وكان هناك صمت لبرهة من الوقت.

- " ما هو الله "؟
- " الله هو الذي لا بداية له ولا نهاية. وهو الأزلي السرمدي الأبدي ".
- " ما هو الأجمل "؟
- " إنه العالم، لأنه عمل الله ".
- " ما هو اكبر شيء "؟
- إنه الفضاء، لإحتواءه الكل ".

بيثاغور نظر إلى طاليس وإبتسما لبعضهما.

- " ما هو الأقوى "؟
- " إنها الإرادة، لأنها دوماً تأتي في بداية كل شيء مرغوب ".
- " ما هو الموت "؟
- " الموت ليس مختلفاً كثيراً عن الحياة. إنهما متشابهان لحد ما ".
- " كيف يكون بإستطاعة الناس ان تحيا حياة عدالة وإحترام "؟
- " عندما لا نعمل بما لا نلوم الآخرين على فعله معنا ".
- " ما هو أهيّن الأشياء "؟
- " إعطاء النصائح للآخرين، وعليه. فأنا أنصحك يا أخي العزيز بأن تعود إلى فينيقيا، ومن ثم إذهب إلى مصر لكي تحصّل فيها المزيد من العلوم عن المعاني العميقة للحياة".

وبكلاماته تلك، أنهى طاليس المحاورة، ومشى بعيداً.
* * *


عندما كانت الشمس ملامسة الأفق، كان بيثاغور على متن السفينة عائداً لفينيقيا، متأملاً بكل المعارف التي كان قد إكتسبها.
وإن كل ما كان قد إكتسبه من علومٍ لم يكن إلا مجرد تعريف عن عالمٍ آخر ذو طبيعة مختلفة. هذا العالم، قليلون هم الذين غامروا بالدنو منه لسبر أغواره وخفاياه. وكثيرون هم الذين حاولوا الإنتماء إليه، لكنهم لاقوا الفشل في محاولاتهم تلك. هذا لأن " الخوف " كان يقيّدهم في مملكة الأوهام، أوهامُ عالمٍ خلقته نفوسهم الضعيفة التي جعلت منهم مستسلمين لكل ما هو سائدٌ وشائع. فهم وبكل بساطة ذوو عقول نائمة ومخدرة.

وفي مرة من المرات، كانت والدته بارتينيس قد أخبرته عن تلك النفوس التي كانت قائمة فوق أبواب معبد دلفي. وتبيّن لبيثاغور من خلال ما قام به من قراءات ومطالعات بأن تلك الحكمة كانت تُعَلّم منذ القدم في أسرار مصر، وكنعان – فينيقيا، والهند، وبابل. وكان أوَل من علّمَها بداية أخنوخ – هرمس ــ تاوتوس أبو الحكمة. وكان بيثاغور مؤمناً بهذا، مريداً إكتشاف ذاته أُسوَةً بالمسارون القليلون قبله. ولكن طريق معرفة الذات ليست سهلة، إذ يتوجب على الباحث الراغب بها أن تكون لديه الإرادة والإيمان . ولم يكن هناك أدنى أي شك عند بيثاغور بأن الوصول لذاك الهدف يتطلّب منه الإلتزام الكامل. وإن الدراسات البسيطة التي كان قد قام بها في الشعر، والموسيقى، وعلم التكوين، وعلم الهندسة، وعلم الفلك، وعلم التنجيم، واللاهوت أظهرت له جانباً من الحقيقة.

- كيف يعمل العالم الظاهري؟
- ما هو الأساس الكامن في ممالك الوعي واللاوعي؟
- كيف يكون بإستطاعة أحدهم توجيه الطاقة المحركة والكامنة فيه؟
- كيف السبيل أمام المرء للوصول إلى المستويات المتفتحة في العقل كما في الروح؟

إن معرفة كل هذه الأمور، وبلوغ كوامنها هي مخفية بين سطور تلك الدراسات التي أتمّها. إنها أحاجي بالإمكان حل رموزها وفكها.

ففي داخل تأملاته، ومع الهواء النقي الذي كان يتنشقه، كان بيثاغور متأكداً من أنه عليه واجب السير على دروب الحكمة. وعليه أيضاً إدراك المزيد على ما كان قد أدركه سابقاً في عقله المنوّر الصامت الواجب عليه إيقاظه. ميقناً بأنه إذا تمكن من معرفة ذاته، فإنه عند ذاك سيتمكن من معرفة أسرار الآلهة والكون.



**********************

يتبع .. وأتمنى أن تكون القرأت على ما يرام ولن أتأخر عليكم في الفصل الثلث بأذن الله ...

أشكر حسن المتابعة (f)(f)(f)




07-22-2005, 04:51 AM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس ) - بواسطة Georgioss - 07-22-2005, 04:51 AM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  برنامج حمية السبيل-لوريل ميلين. السلوك السوي - كتاب يلبي رغبة الساعين إلى حياة أفضل ali alik 0 970 01-25-2012, 06:27 AM
آخر رد: ali alik
  رواية عالم صوفي/ عرض للدكتور محمد الرميحي بسام الخوري 1 2,585 06-15-2011, 08:50 AM
آخر رد: بسام الخوري
  رواية اسمها سورية - 40 كاتب ومؤلف في 1585 صفحة ، ملف واحد بحجم 25 ميجا مع الفهرسة ali alik 10 4,846 04-09-2011, 11:21 PM
آخر رد: kafafes
  رواية فنسنت فان جوخ - رائعة ايرفنج ستون في 772 صفحة .. لأول مرة ali alik 2 4,211 12-25-2010, 02:04 PM
آخر رد: kafafes
  مغامرة الكائن الحي _ جويل دو روزناي - و رواية يوم في حياة ايفان - الكسندر سولجينيتسين ali alik 1 1,879 10-26-2010, 04:48 AM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 2 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS