{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
Georgioss غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 1,434
الانضمام: Jan 2005
مشاركة: #13
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس )
نكمل :

ــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الفصل الخامس


رؤية المعلم


إن المسارة التي قام بها بيثاغور في مصر والتي أوصلته إلى أعلى الدرجات، قليلون هم الباحثون عن الحقيقة الذين وصلوا إلى حيث هو وصل. فعاد إلى ممفيس وظل هناك في المعابد ككاهن أعلى لأوزيريس.

إن الألغاز التي لفّت مصر، مع كل الأسرار التي كانت تخفي العقيدة الباطنية للحقيقة، خلقت عند غالبية الأمم الأخرى شعوراً بالفضول والغيرة التي أثارت في نفوسهم الأحقاد، مما دفع بكامبيس الثاني Cambyses II إبن وخليفة قورش الثاني الملك الكبير على بلاد فارس إلى شن هجوم كبير على مصر. وكان ذلك في حوالي سنة 525 ق.م. حيث قامت قوات فارسية شرسة مؤلفة من جيش عظيم بإجتياح أرض حام. فأحرقوا المدن الدينية مدمرين معابد أمون – رع في ممفيس وطيبة. أما الأهرامات فقد ظلت منتصبة هذا لأنها كانت محمية من قوة خفية هي قوة الطبيعة الباطنية! . . .
وإقتيد الفرعون بساميتيكوس الثالث وعائلته الملوكية مع كل أفراد الحاشية وهم موثقوا الأيدي والأرجل بين الدمار إلى حيث قطعت رؤوسهم. وكانت تلك الواقعة بمثابة الإعدام الديني والسياسي لرموز مصر. . .
وبعد مرور ما ناهز أل 15 عام في مصر على الوقت الذي قضاه بيثاغور فيها إقتيد هو الآخر إلى بابل مع كهنة آخرين لأوزيريس. وكان لبيثاغور حينها ما يناهز أل 45 عاماً من العمر. فوصلوا إلى بابيلون، تلك المدينة التي باتت في حوالي سنة 539 ق.م. مقاطعة للأمبراطورية الفارسية.
وكانت مدينة بابيلون محاطة بجدران كبيرة وضخمة عليها صوّر فسيفسائية لحيوانات وأبطال وآلهة. وكانت تماثيل الآلهة المجنحة مطلة على تلك الأرض المأهولة.
أما بوابة عشتار، مدخل المدينة ففتحت ذراعيها مرحبة بالقادمين الجدد إليها الذين مروا بجانب القلاع الكبيرة، والقصور الضخمة، والمنصات المقامة فوق بعضها البعض. هذا فضلاً عن الجنائن المعلقة التي أخذت أنفاسهم، ومن ثم إقتيدوا إلى المعابد.
ففي معابد عشتار وبيل التي كانت نُسَخٌ بابيلونية عن الآلهة عشتروت وبعل ( أدونيس ) الكنعانية – الفينيقية، كان بيثاغور والكهنة المصريون يقيمون فيها كأسرى دينيين.
بابيلون ( 1 )، بابل: " باب إيل "، باتت كعاصمة روحية تعيش فيها عدة شعوب مختلفة بلغاتها وعباداتها ودياناتها في معمعة من الأفكار المتناقضة بين العقائد الدينية المختلفة لكل من الكلدان البابلييين، والمجوس الزردشتيين – الحكماء النصف عراة الصوفيين الهنود.
وفتحت أمام بيثاغور آفاق جديدة، إذ قد وجد أمامه بأن الفرصة سانحة لدراسه تلك العقائد بغية التمكن من الإضطلاع على أسرارها من معلميها.
فدرس بيثاغور مع العلماء الكلدانيين بالأسرار الباطنية الكابالا ( 2 ) القائمة على المعاني الخفية للأحرف والأرقام المتعلقة بالكتابات القديمة العائدة لسنين عدة في الماضي، وهو الذي كان قد تعرف سابقاً على نموذج مشابه لها في كل من جبيل وممفيس. وكانت الكابالا الكلدانية ضامة لواحدة من أقدم اللغات على وجه الأرض مكتوبة بطريقة طلاسمية أو مرتلة كالتراتيل حيث كانت تستعمل لإستحضار الأرواح. فتعلم بيثاغور هذا الفن الباطني وسيطر عليه.
لاحقاً، إنضم بيثاغور إلى زراتاس Zaratas المجوسي المساري في الديانة الزردشتية حيث علمّه علوم السيطرة على القوى الباطنية للطبيعة بواسطة النار الروحية التي هي النور الأثيري المنتشر في كل مكان.
- وفي إحدى الزوايا المنعزلة من بابيلون في قلب الطبيعة، دوّت كلمات ذاك المجوسي في أذني بيثاغور:" هناك سبيين وراء وجود الكون، هما الأب والأم. فالأب هو النور وإله النار " أهورامازدا " الإله الخيِّر، أما الأم فهي الظلمة الباردة " أهريمان إلهة الشر".
- فسأله بيثاغور:" لما الأم هي الشريرة يا زاراتاس"؟
- أجابه:" إنها ليست شريرة بالمعنى المجازي للكلمة، إما قصدت بذلك . . . أهورا مازدا الأب هو الإله السماوي مكوّن الروح، أما الأم فهي إلهة سفلية كوّنت الحياة الجسدية على الأرض".
- بيثاغور:" تقصد بقولك هذا بأن الروح هو كالنار مبدأ الحياة في الكون الواقف ضد الأجساد الفانية للأحياء".
- زاراتاس:" نعم يا بيثاغور، إنه الأساس الكامن لكل الأشياء، وإن المبادئ الميتافيزيائية للكون هي مؤلفة من الجنة والجحيم ( الأرض )، الذكر والأنثى".
كما وكان زاراتاس عالماً بالتنجيم أيضاً، فعلم بيثاغور علم الفلك والكواكب مع أعدادها وتأثيرها الجاذب الكهربائي على حياة الكائنات البشرية. مع العلم بأن بيثاغور كان قد تعلم أيضاً ما كان مشابهاً لتلك العلوم في مصر.
- وعندما كان يمضي أوقاته الأخيرة مع المجوسي زاراتاس في قلب الطبيعة، إستمع بيثاغور لكلاماته:" لا يوجد من المادة الشريرة ما بإستطاعته تدمير الحكمة التي لديك والروح التي بداخلك. ولذلك سوف أقوم بتعليمك كيفية تنقية نفسك من أرجاس حيواتك السابقة التي مررت بها".
وإنتظر بيثاغور. . .
لاحقاً، في الليل بدأت الطقوس المسارية على أصوات قرع الطبول الخفيفة. فقام بيثاغور بطقس الإطهار في وقت كان فيه المجوسي مستخدماً الأعشاب والنباتات السحرية للتَطَهُّر. وكان لبيثاغور إيمانٌ بما لتلك الطقوس من قدرات باطنية.
وأنهى زاراتاس أخيراً طقسه معمدّاً بيثاغور بمياه نهر الفرات.
وبعدها، إلتقى بيثاغور بالسادو الهندي الذي علمه طيلة سنوات تقنيات اليوغا – العلم المقدس الغير مشتمل للروحانيات ولا لما هو متعلق بالكواكب.
فاليوغا، علم يعتمد على الإنسان الذي هو الكون الصغير في الكون الكبير.
- وقال له الحكيم الهندي بحماس شديد:" إن جسدك يا بيثاغور هو مؤلف من سبع شاكراز، أي المراكز السبعة للطاقة. وهنا يجب عليك إستنهاض الأفعى أي النور الأثيري - الأكاسا لخلود النفس والحكمة. فأرفع هذا النور الأثيري على إمتداد عامودك الفقري كي تصل إلى تَفَتُّح اللوتس في رأسك الإلهي لتندمج بذلك مع الوعي المطلق".
ومن قبل، كان بيثاغور قد تعرف في مصر على علم وظائف الأعضاء الخفية الشبيه باليوغا التي تعني الإتحاد.
على كُلٍ هذا ما كان يتوق إلى تحقيقه كل مساري في خلق إتحاد أبعاده الثلاثة وإتحاده مع العالم المحيط به والأساس الكامن للحياة.
وحقق بيثاغور هذا الإتحاد عندما كان في غرفة الملك حيث دخل الأبدية في قلب نبع الحياة بإرادته محلقاً فوق جسده المادي، إذ كان بمقدوره الرجوع إليه ساعة يشاء محققاً لنفسه الخلود بذلك.
- وتذكر بيثاغور أقوال كهنة ممفيس له:" إن علم الأرقام والسيطرة على الإرادة هما مفاتيح العلوم بالأسرار الباطنية الحقيقية الفاتحة أبواب الكون.
وبعد قضاءه لما يقارب السنوات الخمس في بابيلون، تبيّن له بأن كل الديانات تنبع من حقيقة واحدة هي الهرمسية فيما مضى من الزمان، وقد توارثتها الشعوب كُلٌ حسب مستوى ذكائه وتركيبته الإجتماعية. وإنقسمت الحقيقة بذلك لقسمين، أولهما الإكزوتيريك، أي الشكل الخارجي للديانة المُعَدّ للجهلة جيلاً فجيل. أما ثانيهما، فهو في الإيزوتيريك، أي الشكل الداخلي الخفي والمستور والسري في الديانة الذي يعطى للمسارين نخبة بعد نخبة.
وكان بحوزة بيثاغور المفتاح، أي العلم الباطني الملخّص لكل العقائد، فبات مدركاً الماضي، وفاهماً الحاضر، ومستشرفاً المستقبل.
وشهد التلاعب بالبشرية، الذي كان يقوم به الملوك – الكهنة بإدعائهم الحق في " إمتلاك الحقائق الدينية ". وأمام ذلك، فقد تكوّنت لديه إرادة تغيير هذا الواقع المغلوط بتحريره البشرية من القيود التي كانت معيقة تطوّرها وقاطعة أنفاسها.

أما الآن فقد حان الوقت به ليعود إلى اليونان لإتمام رسالته، متذكراً أقوال أمه الحبيبة بارتينيس عن نبؤة دلفي.
إنه قدره المكتوب خلف ذاكرة العالم المادي حيث لا حدود للوقت، فالماضي والحاضر والمستقبل هم مندمجين في إطار الوجود الآني.
فالذاكرة الكونية أكاشيك Akashic هي التي كانت قد أبانت للعرافة بيثيا في معبد دلفي بأن بيثاغور سيكون رجلاً عظيماً للبشرية كمخلص لها. ولم يكن لديه هو أي شك بذلك لإدراكه معاني حياته وأبعادها، إذ لا شيء بنظره ممكن حدوثه من باب الصدفة.
- وقال في قرارة نفسه:" يجب علي إتمام مهمتي".
ولم يكن بالأمر السهل عليه تركه لبابيلون وإستعادته لحريته من دون أن يكون هناك من أمر صادر عن ملك الفرس. وراح يفكر ملياً بإيجاد مخرج له منها صارفاً البعض من وقته في البحث عن الوسيلة الفضلى لتحقيق ذلك.
ولحسن حظه، أو ربما بإرادة إلهية. وجد بيثاغور سبيل الخروج، إذ كان هناك شخص يدعى ديموسيدس Democedes وهو ساموسي من ساموس كان مقرباً جداً من الملك كونه طبيبه الخاص، فقام بعرض الموضوع على الملك بأن يحرر بيثاغور. وبعد أيام عدة، أصدر الملك مرسوماً أجاز فيه لبيثاغور بالرحيل معيداً له حريته. فاغتبطت نفسه لذلك موقنا بأن روح التغيير قد إنتشرت مالئة الهواء الذي تتنشقه البشرية.
* * *


كانت السفينة متجهة إلى ساموس والمسافرون على متنها سعيدون، ووصل بيثاغور إلى موطنه الثاني بعد غيابه عنه لمدة ثلاثين عاماً وهو له الآن من العمر أل 51 عاماً، وكان ذلك في حوالي سنة 520 ق.م.
وشد ما كانت صدمته قوية عندما شاهد أحد الحكام ممارساً لسلطاته تحت وصاية ملك الفرس الذي ألحق الخراب بمدينة ساموس. فكل المدارس والمعابد تمّ إغلاقها، أما العلماء والشعراء فقد لاذوا بالفرار هرباً من جور ديكتاتورية الأمبراطورية الفارسية. إنها كارثةٌ ثقافية وحضارية بالفعل.
وكانت الغالبية من الناس في ساموس تظن بأن بيثاغور قد مات، وحدهم المسنون كانوا على يقين تام بمعرفتهم له عندما راح يتكلم متحدثاً بلياقته المعهودة والفائقة، إذ أن حضوره كان دوماً مغموراً بصفاء عظيم، وكلامه لا يخلوا مطلقاً من الحكمة. وبان للجميع بردائه الأبيض، وهو متشح على خصره بحزام أرجواني معبّراً خير تعبير عن الوحي الإلهي بطبيعته الساحرة التي كان يمتاز بها عن الآخرين الكثيرين.
ولاحقاً، طلب منه المسنون في ساموس بأن يتحدث للجموع في مكان عام عن معارفه التي أدركها، فلم يرفض لهم ما طلبوه منه، معتبراً دعوتهم له بأنها في غاية النُبل وهي بالأمر المُشَرّف له، وكان جد مغبوطاً لأنه وجد في ذلك خير وسيلة ليساعد بها أبناء ساموس. . . فذهب المساري إلى ساحة المدينة، ووجد الجموع محتشدة وراح يخاطبهم بالطرق الرمزية محدّثاً إياهم بالأمثال حيث كان هذا الأسلوب في التعبير مشابهاً للأساليب المصرية. غير أن أبناء ساموس لم يكونوا متفهّمين لما كان يتفوه به من كلام عميق إذ أن الغالبية الساحقة منهم كانوا تجاراً متحدرين من الطبقة الإرستقراطية الإجتماعية الحاكمة على تلك المدينة، ولم يرق لهم أبداً أسلوبه الكلاميّ، وذهبوا إلى حد عدم الإعتراف به كرجل ذو حكمة عميقة هذا لأنهم كانوا عاجزين عن مواكبة أفكاره النَيّرة، ولم يكونوا مؤهلين كفاية للإلتزام بتعاليمه. فالطريقة الروحية والرياضية التي كان بها بيثاغور محاولاً تعريف اليونانيين عليها بشتى الوسائل لم تكن مرغوبة لديهم على الإطلاق، ولم يعد يأتي أحدٌ من الناس لحضور عظاته، ذلك أن تعاليمه لم تنل القبول بها عندهم.
وأمام هذا الواقع، لم يفقد بيثاغور الأمل، إذ كيف له أن يفقده وهو إبن النبؤة الذي بات معلماً ورائياً.وبعد بضعة أيام من التأمل، أدرك بيثاغور بأنه عليه بدلاً من مخاطبته للجموع، أن يقوم بتركيز كل طاقاته على الأفراد الذين تكون لديهم الرغبة في التعلم.
وعاد مجدداً للمدينة، وراح ينتظر مراقباً الناس التي كانت تسير أمامه، وهو ذو العينين الثاقبتين كعيني النسر. وما هي إلا هنيهات، حتى حط نظره على رجل شاب بدى ظاهراً لديه بأن ثمة نور يحيط جسده المادي كعلامة وإشارة إلى أن هذا الشخص هو قابلٌ لتلقي العلوم وفهمها. وللحال، ناداه بيثاغور وعرفّه على نفسه ومن ثم طلب إليه الجلوس بجانبه.
- وسأله:" ماذا تفعل في حياتك يا أيها الرجل الشاب"؟
- أجابه:" أنا رجلٌ رياضيٌ مولعٌ ببمارسة الرياضة البدنية بشغف كبير".
بيثاغور:" إنه أمرٌ جيّدٌ أن يمرّن المرء جسده، ولكن إعلم بأن هذا ليس بكافياً".
- الشاب سأله بإستغراب ودهشة:" ما هو قصدك بكلامك هذا".
- بيثاغور:" لماذا أنت ممارسٌ للرياضة البدنية؟ أليس لأنه لديك الرغبة في أن تصبح رياضياً ماهراً وجيّداً"؟
فهز الشاب برأسه.
- وتابع بيثاغور:" إن الإنسان يا أيها الأخ هو كائن بثلاثة أبعاد وأعلم جيداً بأنه لا يمكنك الدُنوّ من الكمال عبر بُعد واحد فقط بمنأى عن الأبعاد الأخرى المتبقية. ولذلك، فإلى جانب تمرينك لجسدك عليك أيضاً أن تمرّن كل من عقلك وروحك، وإذا كان عقلك وروحك في مستوى ليس بجيّد فالأمر عند ذاك سيرخي بظلاله السلبية على جسدك أيضاً. فالإنسان الكامل هو الذي بمقدوره أن يتمم توازنه الكامل بتوحيده عقله وروحه وجسده في ذاته الواحدة".
وبدت على ذاك الشاب علائم القلق والتعجب، إذ أن الذي كان يخاطبه ليس رجلاً كسائر الرجال، فهو مختلف كل الإختلاف عن كل الذين كان قد إلتقاهم في حياته.
- وطرح الشاب سؤالاً على بيثاغور:" هل تعرف الطريقة التي يتم بواسطتها تدريب العقل والروح معاً"؟
ولم يجبه، وراح الإثنان يتبادلان النظرات العميقة.
وتوقف الزمن.
ولاحظ الشاب في عيني بيثاغور نوراً عظيماً إستكان له بالهدؤ، ففهم.
- ومن ثم قال:" هل تعلمني"؟
لقد كان بيثاغور محقاً، إذ ليس بإستطاعة أي معلم أن يخاطب جمعاً غفيراً بغية تعليمه، وذلك مَرَدُهُ إلى أن أفكارهم قد تشرد بسهولة.
على أي حال، لقد نجح بيثاغور في جذب تلميذه الأول إلى دائرة الإستنارة بالحقيقة، وهنا فعلاً بدأت مهمته. وهكذا، شرع المعلم جاهداً في تعليمه العلوم الهندسية والحسابية مظهراً له البراهين القاطعة بالشروح العميقة بإستخدامه لآلة خاصة للعد. ( 3 ) Abacus.
ويوماً بعد يوم، كان التلميذ يزداد إنجذاباً لما كان يقوم به من دراسات مع معلمه ممرناً له عقله بعلم الأرقام بإتباع نظام عميق ومحكم يُفضي إلى تهذيب العقل.
ومر وقت طويل قبل أن غادر المعلم وتلميذه جزيرة ساموس عابراً البحر في رحلة إلى المدن اليونانية التي وصلاها بعد مرور يومين، فإستراحا ليوم واحد، ثم تابعا رحلتهما عبر جبال عالية مهيبة عابرين الأحراج المحيطة بنهر بليستوس Plistus حيث كانت رحلتهما تلك مليئة بأحاسيس الإعجاب والتعجب.
وظهر أمامهما معبد دلفي منتصباً في قلب الجبل، وكالإله الجالس على عرشه كان المكان الأكثر قداسة في اليونان يستقبل نور أبولو إله العالم الهليني الممثل لحقيقة باطنية تجسد ألغاز الحياة بماضيها وحاضرها ومستقبلها بتعبيره عن التناغم القائم بين الأرض والسماء، وما بين الجسد والروح الممكن تحقيقه بواسطة التطبيق المباشر في حياة البشر عامة، وفي حياة المسارين منهم خاصة.
وقام بيثاغور، يصحبه البيثاغوري الأول بزيارة كل المعابد المهمة في اليونان تقريباً حيث كان يرحب به كمعلم، إذ وفي الكثير من الأحيان كان المعلمون الكبار يخلون أمكنتهم لبيثاغور عندما كان يئم معابدهم بإجلاسهم إياه على مقاعدهم الخاصة.
ها هو الآن في دلفي، لا ليستشير العرافة بل ليعيد إحياء طاقات الكهنة وعرافي الهيكل تاركاً الأثر الكبير في نفس اليونان.
وإلتقى بيثاغور في داخل الهيكل بثيوكليا Theoclea، ومن نظرته الأولى إليها وجد فيها روحاً حية متماوجة في أعماقها إذ كانت لديها موهبة إستشراف المستقبل منذ طفولتها، إلا أن موهبتها تلك لم تكن بعد قد بلغت مداها الأقصى، ولذلك فلم يكن بعد قد تم القبول بها كعرافة الهيكل.
أما ثيوكليا من جهتها، فقد شعرت بأن بيثاغور الواقف أمامها هو مساري حقيقي ومعلم كبير سيقوم بإحداث تغييرات جذرية. وكان لقاءهما محاطاً بطاقة عظمى، فراحت تنصت لكلماته بإحترام كبير وإنتباه شديد وظلت صامتة كما الليل إذ لم يكن لديها ما تقوله.
وفي الصباح الباكر كانت شمس أبولو تشع من خلف الجبل ضاربة قلب المعبد في الوقت الذي كان فيه بيثاغور يتمشّى في قلب قاعته الكبرى مرتدياً ردائه الأبيض الناصع ومتشحاً على خصره بحزامه الأزرق مخاطباً كهنة أبولو طالباً منهم قبول ثيوكليا كاهنة عرافة وذلك بعد أن يكون قد لقنها تعاليمه السرية وتأهيله إياها لتلك المهمة.
وكان بيثاغور كعادته في كل يوم يدخل المعبد من أجل تعليم المسؤولين الكبار فيه ليس فقط العقيدة الباطنية، بل أيضاً مستقبل العالم وقدر البشرية إذ كانت لديه رؤية المعلم.
وراح بداية يحدثهم عن مسارته في الأسرار الكنعانية – الفينيقية، وعن ألغاز مصر التي كشفت له أسرار إيزيس ونور أوزيريس حيث الإنسان يصبح كوناً صغيراً في الكون الكبير، وحيث الآلهة تنزل لملقاة الإنسان، والإنسان يصعد لملاقاتها.
ودخلت كلمات المعلم الصيدوني في عقول سامعيه، كدخول الهواء لرئتي كل متنفس.
وكان بريق عينيه يحيطهم بالدفء وكأنه لهيب نار مشتعلة، إنه لهيب الحكمة. أما الكاريزما الإلهية فكانت لديه.
وباللهيب نفسه، طبع ذاته الكامنة في قلب ثيوكليا التي شعرت بإنتمائها لتعاليمه فراحت مخيلتها تتسع، وعقلها يسبح محلقاً في الدائرة اللامتناهية التي تعيش فيها الأرواح والآلهة. وبدا لها العالم اللامرئي كحقيقة جوهرية متشابهاً بشكل نسبي مع العالم المرئي، غير أن ما يفرّق بينهما هو في مستوى الترددات إذ أن التوازن المطلوب لإدراكها العالمين هو كامن في عقلها الواعي واللاواعي على السواء.
- وتكلم بيثاغور عن الحروب والدمار التي كانت البشرية قد قامت بها، فقال:" لقد كان وما يزال فصلاً شريراً في ذاكرة أمنا الأرض وفي عيني خالقنا أبانا الذي في السماوات. إن نور الخلاص هو في أيديكم وهو بمتناول كل اؤلئك الذين أدركوا الوحي الإلهي. إنه أنتم يا أيها الأنبياء والحكماء الذين كشفت لهم الآلهة عن نفسها. إن صوفيا ( الحكمة ) تشع بنورها على كل الذين يطلبونها ويبحثون عنها. أما الآخرون المساقون خلف أهوائهم ومصالحهم المادية هم دون ريب عميان وسيبقون سجناء في ظلمات جهلهم".
وكان كل الحاضرين هناك منصتين لكلمات خطبته بتركيز تام وكامل وهم صامتون ومنجذبون إليه. أما حياة ثيوكليا فقد تبدلت وباتت البيتيا أي عرافة الهيكل بفضل ما علمها إياه المعلم.
- وفي ذات ليلة من الليالي في عيد أبولو، داخل المعبد كانت ثيوكليا مستسلمة لنوم عميق واعٍ. إنها في إنخطاف روحي، فدنى منها معلمها بيثاغور وقال لها:" أين أنت يا ثيوكليا"؟
- أجابت:" أنا في الأعالي أعوم في المملكة السماوية".
- سألها:" ما الذي تشاهدينه هناك"؟
- قالت:" إنني أرى الآلهة ونور أبولو. إن البشرية سوف تعاني حروباً من وقت لآخر، ولكن ستكون هناك بعضٌ من الفسحات الزمنية للسلام بين الفينة والأخرى، وستظل الأمور هكذا إلى الأبد إذ لا مفر من تلك المعادلة. أنت يا معلم رسول أبولو وسوف تقوم بإصلاح الأمور لكن ذلك لن يدوم، لكن على الأقل فأنت قد حاولت".
وهكذا تنبأت ثيوكليا.
وهي، ولدى عودتها من إنخطافها الروحي كانت الدموع تسيل على وجنتيها، فإقترب منها بيثاغور ملامساً بيديه دموعها الساخنة جداً متزوقاً طعم مرارتها. إنها حزينة وباردة، فضمها إليه ملقية برأسها على صدره بشدة. وراح يربّت بيده على ظهرها مراراً ومراراً محاولاً التهدئة من روعها، فشعرت بالآمان والراحة بين ذراعيه.
وبصمت، هز بيثاغور برأسه لإدراكه في أعماقه بأن ما قد رآته بيثيا من مستقبل للبشرية هو حتمي الحدوث، وهو الذي سبق له أن شاهد أيضاً المصير القاتم الذي تنتظره الإنسانية وذلك من خلال ما قام به من تأملات عميقة.
لاحقاً، غادر المعلم مع تلميذه معبد دلفي بأمل كبير وحذر شديد.
لقد أعطى المسارة للكهنة وللعرافة محدداً لهم العقيدة المقدسة متمنياً في قلبه أن يشع نور إيل – أبولو من جديد على اليونان من خلال تعاليمهم وهم الذين باتوا واعين لتلك المهمة.
* * *


لقد عاد المساري وتلميذه إلى ساموس وأختار مكاناً جميلاً خارج المدينة، وهو كهف بأسفل جبل ( على الأرجح جبل كركيس Kerkis ) جاعلاً منه منزلاً له. فأمضى أياماً وليالٍ بداخله منكباً على وضع قوانين حبه لصوفيا
( الحكمة ). وكان معه تلميذه حيث كانت الطاقة المنبعثة من المعلم منيرة ظلمة الكهف ومثيرة شغف ذاك التلميذ.
وكان المعلم يتأمل جالساً بصمت عميق بالأشياء التي ستساعده في تأسيس عقيدته وهو في حالة عقلية مختلفة ما وراء عالم الأحاسيس محلقاً في البعد السماوي مدركاً ومضات العقل الكوني المحدث التشكيلات والصوّر المرتبة في الخطة اللامتناهية للحياة الكونية، وكان إتصاله بذاك العقل قوياً للغاية في هذه المرة.
ولم يكن قد شعر بمثل هكذا شعور من قبل، إنها علاقة تجاذبية روحية مع الإرادة الإلهية. وبات كل شيء من حواليه في كل الإتجاهات والأبعاد حقيقة واحدة هي نقطة وحدة العالم المتجسد والغامض، للمخلوق واللامخلوق، شعت بلمعان برّاق لامعة في الداخل كما في الخارج رابطة الحقيقة المطلقة مع الحقائق النسبية في حالة واحدة من الإتزان الأبدي.
وفي تأملاته الأخرى، طوّر وأتم علومه عن الكواكب متتبعاً ومعتمداً على الشروح الماتيماتيكية، مما سمح له بأن يقوم بوضع سُلَم موسيقي إختلفت فيه النغمات بإختلاف الكواكب، إذ كان لكل كوكب منها نغمته الخاصة، معتمداً على حساباته للمسافات الفاصلة بين بعضها.

إن معرفة الحكمة كانت في غاية الوضوح في كنعان – فينيقيا، ومصر. غير انه لم يكن مقبولٌ بها بتاتاً في اليونان. وفي خضم المعمعة الثقافية التي كانت محيطة بالبحر المتوسط، بدأت معرفة الحكمة بصعودها السريع في تلك الأيام باليونان، وراحت شهرة بيثاغور وصيته ينتشران خارج المدن لتصل إلى قلب العالم اليوناني.
وبات كل اليونانيين معجبين بحكمته، فتحولت النتيجة في ساموس من سلبية إلى إيجابية. وراحت الجموع تتقاطر لدائرة الحكمة في كل أرجاء اليونان مواظبة على القدوم إليه يومياً وهم على آمل كبير بتعلم المبادئ الأساسية للحياة الكاملة.
وما هي إلا بضعة أسابيع حتى إنضم إليه في كهفه المزيد من التلاميذ. وكان الكهف يرمز للمادة التي منها تشكل العالم الذي كانت فيه تتحرك النفوس المأسورة في بحثها عن النور والحرية، إما عن طريق الموت، او من خلال المسارة.
وكانوا حوالي الثلاثين تلميذاً يجتمعون إليه للإستماع إلى تعاليمه وعقيدته، وهذا ما شجعه أكثر للمضي قدماً في متابعته لمهمته محولاً رؤياه إلى حقيقة محققة بإعداده مبنىٍ بشكل نصف دائري Hemikyklion وهو كناية عن مدرج صخري طبيعي مكشوف يشرف على المدينة. وهناك، على قمة الجبل، وبهدؤ وصفاء تام جمع بيثاغور من حواليه البعض من تلاميذه:
ميليسوس - Melissus
لاكون -Lacon
أرخيبوس- Archippus
كلوريبوس-Glorippus
هيلوريس-Heloris
هيبون-Hippon
وراح يعلمهم أسس الحياة الروحية.
أما مواطني ساموس فقد سألوا بيثاغور أن يقوم بتمثيلهم أمام الحاكم الفارسي لبلادهم بغية أن يكون السامع لهم مطاليبهم ملحين عليه بالإنضمام إليهم لإدارته أعمالهم. فهم، وبكل بساطة أرادوا منه أن يكون قائدهم السياسي. وهو لم يرفض ذلك فأراد مساعدتهم لأنه كان مواطناً أيضاً له رغبته في أن تتحق العدالة. وكانت الناس كلها واثقة به، ولذلك فقد شرع بالعمل بكل ما له من طاقات بغية النجاح في مهمته تلك.
ومرّت الأيام بسرعة، وبيثاغور يواجه المصاعب العديدة هنا وهناك. هذا لأن معرفته بالقوانين المدنية كانت بسيطة جداً، فوجد نفسه غير قادرٍ على الدخول في المساوامات السياسية ولا على التكيّف مع القوانين المدنية التي كان المجتمع ساعياً لبلوغها، هذا فضلاً عن كونه كان مريداً صرف الوقت بالتأمل في الحكمة في كهفه خارج ساموس، كما كان عليه أيضاً واجب الإهتمام بتلاميذه.
وإزدادت عليه الضغوط، وراح يسأل نفسه، كيف سأتخلى عن ما للناس من مشاكل . وإنتابه الشعور بالثقل في رأسه وضميره. أما أبناء ساموس بالمقابل فلم يكونوا على إستعداد لتلقيهم حكمته الإلهية وتطبيقها في حياتهم الإجتماعية، فراحوا يتجاهلونها غير راغبين في خلق التوازن بين ما للآلهة من قوانين وما للبشر.
- وكان المعلم في داخل كهفه المُنار بواسطة مشعل معلق جانباً يتأمل بقدره متسألاً:
" ما هي مهمتي يا ترى؟
ما هو معناها إذا ما كنت قادراً على مساعدة الناس الذين هم بحاجة للمساعدة"؟
وبإنخطاف عميق، توصل للقرار وباتت رؤياه واضحة في عقله. إذ رأى بطريقة غامضة ما عليه القيام به للنجاح في مهمته. وللغاية فقد قرر تأسيس مدرسة للحياة وللحكمة والعلوم تكون بمثابة المكان الذي فيه يتحقق الإتزان لإستنهاض الآلهة الكامنة في كل كائن بشري. إنها مدرسة لا تخرج سياسيين ولا رجال أعمالن بل مساريين حقيين من رجال ونساء، أباءٌ ملهمين، وأمهات مباركات.
- وأحتار بأمره، قائلاً في قرارة نفسه:" أين سأقيم تلك المدرسة يا ترى"؟
- وأجاب نفسه:" على التأكيد ليس في ساموس".
لقد أراد تحقيق رؤياه في مكان أكثر حرية وإنفتاح على كل ما هو جديد من أفكار وتعاليم حيث لا قيود مفروضة من أي نظام إجتماعي مرتبط بالزعامات السياسية.
وهو لم تكن مطلقاً فكرته في الإصلاح نوعاً من الثورة ضد الأنظمة، بل كانت في تعليم الشبيبة وخلق حياة مثالية . إذ أن رؤياه ما كانت لتسمح له بالقيام بحركة تمردية ثورية من المحتمل أن تأخذ شكلاً غير منظّم وفوضوي مما قد يؤدي إلى صدامات ليست بحضارية. بل على العكس من كل ذلك، فهو أراد أن يعمل على تنظيم نوع من المسارة العلمانية تستمد غذائها من تصوّر قائم على تحويل النظام السياسي الجائر في مدينة ما من المدن إلى نموذج مثالي متجسد بمعرفة الحكمة. وبمعنى آخر أكثر وضوحاً، بإقامة مدينة كاملة يتوحد فيها ما هو إلهي مع ما هو إنساني ومدني في العقل الإجتماعي.
ولم تكن مدينة ساموس على إستعداد للقبول بهكذا تصوّر، ولا حتى آية مدينة أخرى من المدن اليونانية التي كانت خاضعة لحكم المتعصبين المدّعين بأنهم المجسدين لعقيدة الحق الإلهي التي تحكمت بنفوس البشر دافنة إياهم في لحد المكان والزمان.
وفي داخل كهفه تصوّر أيضاً تحريراً للبشرية يطلقها خارج دوائر الوجود الحتمي حيث هي مأسورة، لتحلق عالياً في الدوائر الأبدية لكي تصبح آلهة تطفوا بحرية كومضات في " العقل الكوني ".
- وعند حلول صباح النهار التالي، إستفاق بيثاغور من نومه وفي ذهنه وجهةٌ. فقال لتلاميذه بجدية:" جهزوا أنفسكم للرحيل".
- وسأله أركيبوس بقلق شديد:" ولكن ماذا عن ساموس"؟
- أجابه:" إن قلبي مع أبناء ساموس أما عقلي فهو مع ماكنا – غريسيا Magna – Graecia، حيث هناك يوجد العديد من الرجال والنساء العطاش للمعرفة".
وبعد مضي البعض من الوقت، غادر المعلم وتلاميذه الكهف متوجهين صوب الشاطئ حيث كانت ترسوا إحدى السفن الكنعانية – الفينيقية.
وما هي إلا بضع دقائق حتى أبحروا متجهين إلى إيطاليا.

************

يتبع ..... مع الشكر لمتابعتكم الغالية (f)
07-24-2005, 07:38 PM
زيارة موقع العضو عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الردود في هذا الموضوع
رواية صوفية عن حياة الفيلسوف اليوناني ( فيتاغورس ) - بواسطة Georgioss - 07-24-2005, 07:38 PM

المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  برنامج حمية السبيل-لوريل ميلين. السلوك السوي - كتاب يلبي رغبة الساعين إلى حياة أفضل ali alik 0 970 01-25-2012, 06:27 AM
آخر رد: ali alik
  رواية عالم صوفي/ عرض للدكتور محمد الرميحي بسام الخوري 1 2,585 06-15-2011, 08:50 AM
آخر رد: بسام الخوري
  رواية اسمها سورية - 40 كاتب ومؤلف في 1585 صفحة ، ملف واحد بحجم 25 ميجا مع الفهرسة ali alik 10 4,845 04-09-2011, 11:21 PM
آخر رد: kafafes
  رواية فنسنت فان جوخ - رائعة ايرفنج ستون في 772 صفحة .. لأول مرة ali alik 2 4,211 12-25-2010, 02:04 PM
آخر رد: kafafes
  مغامرة الكائن الحي _ جويل دو روزناي - و رواية يوم في حياة ايفان - الكسندر سولجينيتسين ali alik 1 1,878 10-26-2010, 04:48 AM
آخر رد: إبراهيم

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS