عزيزي neutral

لا أعتب عليك ألا تصدق برواية، فالخبر أيا كان هو خبر في النهاية، ونحن لا ندعي العصمة لغير معصوم.
كما لا ألومك في أن تنتقد شخصية عامة بما شئت من ألوان النقد الموضوعي..
وأحفظ لك حقك في أن تخص سيد قطب بجام قذائفك، فقد حمل الرجل اليوم كل أوزار القاعدة ووالتكفيريين والجهاديين والغلاة، وأصبح الأصل أن نشنع على فكر الشهيد لا أن ندرسه بموضوعية!
غير أنني أحاول قراءة مقالك قراءة مستوعبة، وأملي أن تتقبل رأيا آخر بما تطرحه على إخوانك...
بدأت بداية جميلة من وحي الفيلم الذي أنتجته الـ BBC عن القاهدة وعرضته الجزيرة قبل أسابيع..
فعرفتنا على المرحلة التي ذهب بها سيد إلى أمريكان ثم قفزت سريعا إلى حادثة رواها رحمه الله أو نقلت عنه- ولم نكن من أنصار نظرية الأصل في الناس بأنهم كذبة ما لم يقم الدليل على صدقهم، فقبلنا منه حكايته دون أي أبعاد أو دلالات غير ما تشحن به بعض القلوب من راحة واطمئنان، بينما تبقى حتى حجج القرآن نفسها لا تزيد الظالمين إلا ضلالا! (يهدي به من يشاء ويضل من يشاءن وما يضل به إلا الفاسقين)
ولا أدري ما حكاية الإسناد والحديث وعلم الرجال في أقصوصة لا يترتب عليها حكم ديني، أم لعله غاب عنك أن المنهج الذي اتبعه مؤرخونا غير المنهج الذي اتبعه محدثونا، وحتى لما كان البعض يقوم بالدورين في مصنفين متباينين، كنت تجد أن له نهجا في التاريخ غير نهجه في الحديث، وها أمامنا البخاري نفسه، لم يراع في مصنفه في التاريخ كل الاعتبارات التي ألزم نفسه بها في صحيحه.
وتأصيل ذلك لدى محققينا حديث لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج).
فكان المحققون في علم الرواية يتساهلون في الأقاصيص والحكايات والمغازي والسير، بينما يشددون في كل ما يتعلق بالحديث لأنه دين.
ومن هنا وجدنا أمثال ابن إسحاق والواقدي يحتج الرواة إلى روايتهم في السير والمغازي، بينما يضعفهم محققو الحديث في رواية السنة!
وها هنا القصة تتكلم عن رجل قابل ناسا في المستشفى وليس في سوق الخضار، وليس عجيبا أن يكون بعض هؤلاء الأطباء أو جلهم من الذين يفقهون طبيعة المنطقة، خاصة وأن الفترة كما تفضلت، هي فترة حرب عالمية، ولم تكن أمريكا في تلك الحرب غير معنية بما يجري في مصر، ولعل مراجعة لعبة الأمم لمايلز كوبلاند تدل على مدى ما توليه المخابرات الأمريكية لمصر خاصة ومنطقة الشرق الأوسط عامة من اعتبارات، وعليه، فلست أعجب أن يكون المخيال الأمريكي العام، والثقافة السياسية العامة أنضج منها اليوم لدى الأمريين وهم مخدرين بأفيون الغلبة والتفوق وخضوع العالم لهم وحدهم كقطب أوحد لا شريك له!
في ظروفنا الحالية ليس عجيبا أن يكون رجلا مرموقا كبوش يجهل الكثير عن تفاصيل منطقتنا، بينما ظرف الحرب العالمية الثانية مختلف والله أعلم.
تماما كما أصبح كل واحد منا يسمع عن بعقوبة والفلوجة وغيرها من أسماء المدن العراقية بينما كان الكثيرون منا لا يعرفون قبل سقوط بغداد كرخها من رصافتها!
ومع هذا فلنفترض أن القصة غير صحيحة البتة، ماذا يترتب على إنكارها؟
الرجل يقول أن من عوامل جذبه لجماعة الإخوان ذلك الحادث المميز لا أكثر، وما أظن أننا سنشبث بهذه الرواية كدليل على استهداف البنا من قبل قوى خارجية، وما أظن أن حادثة اغتياله التي أقر بها نظام عبد الناصر، وحسم الأمر بها، تحتاج من الإخوان أو من سيد فبركة قصة كهذه حتى يثبت تميز البنا رحمه الله، واستهدافه من قبل بعض الصليبيين والصهاينة وأشياعهم!
علما بأنني شخصيا لا أتحمس كثيرا لإثبات القصة، وإن كنت أتصور أن رواية قصة أخرى عن فرح مشابه يوم اغتيال أحمد ياسين هنا أو هناك من بلاد الدنيا لا يستأهل كل هذا الجدل حول مصداقية الرواية، وهو في النهاية خبر يصدق به من يعرف للرجل صدقه الذي بذل روحه لأجله، بينما يكذب به آخرون لا يعرفون للشهيد هذا المقام ولا يعترفون به...
هناك على طول الخط من يكذب مثل هذه الأخبار -صديقي المحترم-، وهناك من يصدق بعض المبالغات، بينما هناك أناس تدفعهم الأهواء لتصديق من يميلون إليه، ويكذبون من يكرهونه خاصة في ما لا يسنده غير رواية صاحبه، وكأن المطلوب منا على حسب نهجكم المبتكر أن لا نشهد على عصرنا بما رأينا حتى نأتي على كل حادثة مهما تكن عابرة بشهود نقبل بهم ونرتضي شهادتهم!
ولا أدري ما هي جدوى سؤالاتك عن اسم المستشفى وأسماء هؤلاء الذين كانوا يرقصون؟! إذ لو ثبتت هذه الرواية عن الشهيد فما عساه يقول لك بعد موته حتى يرضي فضول أسئلتك!
أما استهزاؤك وتهوينك بمن أسميته أبا علي، فلا أدري هل فاتك أن ترى على قناة الجزيرة احتفالات ثلة من المتطرفين باستشهاد أحمد ياسين، وإني سئلك ذات سؤالك: للدرجة دي الواد كان خطير قوي والصواريخ النووية إلي كانت في حوزة أبو علي مكنتش مخلية الشعب الإسرائيلي عارف ينام!
طبعا وجه القياس أنه حتى البنا اغتيل على إثر العمليات الفدائية التي قام بها جنوده على ثرى فلسطين المصابرة.

لا أدري ما الذي أردت توصيله حول موضوع عزوبية الرجل!
وما صلة هذا بعبقريات العقاد! إلا إن غدا الاستهزاء للاستهزاء غاية نبيلة!
ولماذا تقودنا إلى تخيلاتك وتهيؤاتك حتى تجعل الشهيد مادة لقصة طيش وجنس تفور بين جنباتك، ويفيض بها عالم خيالك! أكل هذا لتثبت أن الرجل شاعري عاطفي حساس، لن ننكر هذه، على أن نحفظ للأموات مقامهم، ولا أظن أن حق الإنسان يسقط بوفاته، فهلا نكرم الإنسان ما دمنا نعرف للأنسنة قدرها؟!

وبعيدا عن تهويماتك أيها الصديق، وتحليلك النفساني على طريقة فرويد الذي يعزو كل دوافع الإنسان إلى أصول جنسية! أجدني مضطرا لبيان وجهة نظر أخرى قد تكون الأليق في فهم تحولات سيد قطب في المجتمع الأمريكي...
أما حول موضوع الحب وتجربة الزواج التي تعرضت لها، فقد فكّر رحمه الله في الزواج وتمت خطبته إلى إحدى الفتيات.. ولكن لم تدم طويلاً!، ولكنها أثمرت فقط إحدى قصصه التي صورت شفافية روحه في علاقته القصيرة الطاهرة بهذه الفتاة..، ربما حمل اسم القصة "أشواك" ما تحملته مشاعره الرقيقة الدفاقة التي ساقها إلى الناس في إهداء ذلك الكتاب حيث قال: (إلى التي خاضت معي في الأشواك ، فدميت ودميت ، وشقيت وشقيت ، ثم سارت في طريق وسرت في طريق جريحين بعد المعركة ، لا نفسها إلى قرار ، ولا نفسي إلى استقرار).
أما موضوع التغير في توجه سيد نحو الأسلمة في الفكر (مع بقاء سيد الإنسان ذي المشاعر المرهفة والأحاسيس الخصبة كما هو-، فإن تحول سيد في الحقيقة بدأ قبل سفره لأمريكا ببضع سنوات!
حيث أنه ألف عام 1945 كتابا أسماه: "التصوير الفني في القرآن" ، ثم كتب: "مشاهد القيامة في القرآن" ووعد بإخراج: "القصة بين التوراة والقرآن" و"النماذج الإنسانية في القرآن"، و"المنطق الوجداني في القرآن"، و"أساليب العرض الفني في القرآن"، ولكن لم يظهر منها شيء! ولم يكن سيد آنئذ في عداد الملتزمين دينيا، وحتى كتبه المذكورة لم يبدأها ببسملة وإنما كان غارقا في دراسة النص القرآني بتجرد.. غير أنه ذكر في مقدمة التصوير الفني في القرآن أن روح أمه المتدينة قد طبعته بطابعها ، وفي مقدمة مشاهد القيامة قال أنه قد تربى في مسارب نفسه الخوف من اليوم الآخر من خلال الكلمات والتصرفات التي كانت تنطلق من والده من خلال ممارسته أعماله اليومية ، والقيام بضرورياته من طعام وشراب وغيرها ، فتركت شخصية الوالدين بصماتها واضحة على قلبه.

أضف لذلك أن دراسة النص القرآني أوقعته على غذاء روحي لنفسه التي لم تزل متطلعة إلى الروح. وهذا المجال الروحي شده إلى كتابة الدراسات القرآنية فكتب مقالاً بعنوان "العدالة الاجتماعية بمنظور إسلامي" في عام 1944.
ولما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها زادت الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية سوءًا وفسادًا وكانت جماعة الإخوان المسلمين هي أوضح الجماعات حركة وانتشارًا حتى وصلت لمعاقل حزب الوفد كالجامعة والوظائف والريف، وأخذت تجذب بدعوتها إلى الإصلاح وقوة مرشدها الروحية المثقفين، وأخذت صلة سيد قطب بالجماعة تأخذ شكلاً ملموسًا في عام 1946 ثم ازدادت حول حرب فلسطين 1948.
وفي هذا الاتجاه ألف سيد قطب كتاب "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وأهداه إلى الإخوان؛ ثم سافر إلى أمريكا وعند عودته أحسنوا استقباله، فأحسن الارتباط بهم وأكد صلته حتى أصبح عضوًا في الجماعة.
القصة المذكورة –إن صح أنه قالها- تبقى في إطارها المحدود، ولا يمكن أن نعول في التزامه ونهجه على مثلها، دون أن نكذبها ما لم يكن قالها...
وجد سيد قطب ضالته في الدراسات الاجتماعية والقرآنية التي اتجه إليها بعد فترة الضياع الفكري والصراع النفسي بين التيارات الثقافية الغربية، ويصف قطب هذه الحالة بأنها اعترت معظم أبناء الوطن نتيجة للغزو الأوروبي المطلق.
ولكن المرور بها مكنه من رفض النظريات الاجتماعية الغربية، بل إنه رفض أن يستمد التصور الإسلامي المتكامل عن الألوهية والكون والحياة والإنسان من ابن سينا وابن رشد والفارابي وغيرهم لأن فلسفتهم – في رأيه – ظلال للفلسفة الإغريقية.
فكان من المنتظر حين يوم 3/11/1948 في بعثة علمية من وزارة المعارف للتخصص في التربية وأصول المناهج ألا تبهره الحضارة الأمريكية المادية ووجدها خلوا من أي مذهب أو قيم جديدة، وفي مجلة الرسالة كتب سيد قطب مقالا في عام 1951 بعنوان: "أمريكا التي رأيت" يصف فيها هذا البلد بأنه: "شعب يبلغ في عالم العلم والعمل قمة النمو والارتقاء، بينما هو في عالم الشعور والسلوك بدائي لم يفارق مدارج البشرية الأولى، بل أقل من بدائي في بعض نواحي الشعور والسلوك".
إذن سيد لم يكن غريبا عن التفوق الغربي المادي، لكنه كان ينظر لعالم القيم بغير المنظار الذي تراه به أنت وجملة من المبهورين بالغرب...
كلا لم يكن سيد فريسة عقدة كراهية للغرب، ولا كان في الوقت نفسه نهبا لعبودية وتبعية عمياء له!
كان سيد مستقلا، لم يراهن على الجنسية الأمريكية، ولم يتنكر لما في عالم الغرب من علم وحكمة، بل أفاد وهضم كثيرا من هذه المعارف، ثم أعاد تشكيلها وصياغتها بقالب إسلامي طرحه في (خصاص التصور الإسلامي ومقوماته)، ونحو مجتمع إسلامي، وهذا الدين، والظلال و(معركة الإسلام والرأسمالية) و(السلام العالمي والإسلام) و(الإسلام ومشكلات الحضارة).

أتفق معك في أن الإسلاميين عموما وسيد قطب خصوصا حصدوا من وراء غباء النظم الشمولية المتطرفة تعاطفا كبيرا، وفي هذا دعني أؤكد أن نصف نجاحات الإسلاميين بل أكثر إنما كان بسبب سياسات الآخرين!
وأشاطرك في ضرورة التعامل مع أشد الأفكار نزعة نحو التطرف في إطار الحوار الفكري المباشر بعيدا عن الحلول الأمنية العقيمة، كما أتفق معك ومع غيرك في أن فكر سيد يحتاج لغربلة، ففيه الكثير من الأفكار المرحلية التي كانت تقابل انقلابية النظام وإقصائيته وثوريته برد فعل مضاد في الاتجاه ومساو في القوة!
على أنني ومن باب الأمانة لم أقرأ للشهيد سيد كلمة واحدة في التحريض على العنف، وليس يعني تمسح أيمن الظواهري والقاعدة والسلفية الجهادية بكلماته شيئا، يكفي أنه كان واضحا جدا بتبني العمل التربوي لإعداد المجتمع المسلم، وهو ما يعني تلقائيا عملا سلميا لا يقوم على الإكراه
دون أن أعتبر هذا مسوغا لأفكاره حول جاهلية المجتمعات المسلمة، وفكرة المفاصلة والعزلة الشعورية والتي جرت على الحركة الإسلامية حواجز عاقت مسيرتها الحضارية، وجعلتها تختطف بعض الوقت لصالح بعض تيارات العنف هنا أو هناك!!
غير أنني مع اتفاقي هذا أخالفك في امر هام، وهو تزكيتك لمركز ابن خلدون الذي نعلم جميعا مصدر تمويله، ونعلم كيف قام الأمريكان ولم يقعدوا بسبب اعتقال مديره بعض الوقت إثر تحريضه الأقباط بالثورة على مواطنيهم المصريين المسلمين!
نعم أراه أكثر اعتدالا من أكثر الليبراليين بشأن الحريات، وإن كنت أراه أكثر دأبا في أن يفجر الأزمات داخل المجتمع المصري من رغبته بحلها!
آمل أن اختلافي معك في الرأي لا يفسد للود قضية،
واسلموا لتواصل واحترام(f)