لا تفزعوا

إنه الختيار يُبعث من القبر ثانية :)


منذ فترة و أنا أفكر في العودة إلى هذا النادي و تلك الحوارات القديمة ، التي جمعتني بأجمل الأصدقاء الذين تبادلت معهم الكثير الكثير من الحوارات التي كانت تهدف إلى إضاءة ما أعتم في عقولنا عبر رواسب التاريخ السميكة .

نعم ، لقد اشتقت إليكم جميعاً ، و إلى من حاورت على اختلاف الرأي و المنطلق بيننا ، إلا أنني أكنّ لهم كل المحبة و الاشتياق .

لذلك

قررت أن أوجع راسكم ببعض الأفكار التي راودتني خلال فترة السبات الشتوي و الربيعي و الصيفي التي مررت بها .

سأردف خواطري بخاطرة جديدة ، عسى أن تفتح شهيتي و شهية الرعيل القديم و الجديد لنتبادل بعض الحديث حولها .

منذ فترة طويلة و أنا اسعى لدراسة شاملة لشيء أسميه مبدئياً "الرواية في القرآن" ، تحمس بعض الأصدقاء و شجعني ، فقمت بجمع بعض المواد ، و لكن للأسف ، لم أجد وقتاً للبداية الجادة ، فعلقت الموضوع كما علقت الكثير من قبل .

ثم قررت أن أبدأ دراسة الرواية في القرآن من خلال قصص الأنبياء ، و قلت سأبدأ بأقدمهم "آدم" ثم نأخذهم واحداً تلو الآخر ، و نقارن بين ما قالوه في قصصهم المتناثرة هنا و هناك على مدى 114 سورة .

و لكن حين بدأت بقصة آدم استوقفتني بضعة آيات في سورة البقرة ، تصلح لأن تكون خاطرة مستقلة . فاسمحوا لي أن أشرككم معي فيها .

خاطرة رقم 20

ورد في سورة البقرة حوار بين الله و ملائكته حين فكّر الله في جعل خليفة في الأرض .

تقول الآية :
" وَإِذْ [COLOR=Blue]قَالَ البقرة 30

حوار بدأه الله بإخبار ملائكته بما ينوي فعله ، و هو أنه سيخلق في الأرض خليفة .

فردت عليه الملائكة مستنكرة أو متعجبة بأن هذا الذي ستخلقه سيسفك الدماء و يفسد ، ثم فاضلت نفسها على هذا الذي سيتم خلقه فقالت أنها تسبح له و تنزهه و تقدسه . و كأنها تقول لله : ما حاجتك بهذا الخليفة و نحن نكفيك التسبيح و التقديس !!!

فرد عليهم الله بأنه : يعلم ما لا يعلمون .

إذاً فهذه هي الحكاية ، و لا تحتاج لأي شرح و تفسير / حوار واضح و سلس ضمن سياق مترابط .

الله يعرض فكرته (خلق خليفة)

الملائكة تعترض و تذكر حجتها في ذلك (أن هذا سيؤدي إلى سفك الدماء و الإفساد)

الله يُسكتهم بإخبارهم أنه يعلم ما لا يعلمون . ثم يدلّل على نقص علمهم من خلال امتحان الأسماء الذي وضعهم فيه أمام آدم كما تبيّن الآيات اللاحقة في سورة البقرة .

إذاً السياق يقول أن فكرة الملائكة عن الخليفة أنه مفسِد و سافك للدماء ، لكن فكرة الله عنه أنه ليس كذلك ، لأنه يعلم ما لا تعلمه الملائكة ، و كأنه يقول لهم : يسفك الدماء !!! و يفسد !!! من قال لكم هذا !!!! أنتم لا تعلمون ما أعلمه ، إنه غير ذلك . و يثبت لهم ذلك من خلال امتحان الأسماء .

و السؤال الذي يطرح نفسه :
أي الفكرتين كانت هي الأصح عن هذا الخليفة الذي استخلفه الله في الأرض ؟؟؟

فكرة الملائكة المتشائمة التي تقول بأنه سيفسد و يسفك الدماء ؟؟؟؟؟

أم فكرة الله المتفائلة التي ترى غير ذلك ؟؟؟؟؟

و حتى نتمكن من الإجابة عن هذا السؤال ، لنراجع التاريخ - حسب الرواية القرآنية - و نرى ما هي الفئات التي استخلفها الله في الأرض ، لنأخذ عينات من القرآن :


1- آدم

"إني جاعلٌ في الأرض خليفة ........ و علّم آدم الأسماء كلها ...... يا آدم أنبئهم بأسمائهم ...... اسجدوا لآدم ...... و قلنا يا آدم ....." البقرة 30-38



2- المؤمنين من قوم نوح

"فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ" يونس 73



3- عاد
يقول القرآن على لسان نبيهم هود :
"وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً " الأعراف 69

"فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ * وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ" هود 57

* هنا المقصود أنه سوف يستخلف ثمود من بعدهم ، لأن الآية التالية توضح أنه استخلف ثمود من بعد عاد .



4- ثمود
يقول القرآن على لسان نبيهم صالح :
"وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ" الأعراف 74


5- بني إسرائيل
يقول القرآن على لسان نبيهم موسى :
"قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" الأعراف 129


6- المسلمون
"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ " النور 55

"وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ " النمل 62

" وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِف الْأَرْض وَرَفَعَ بَعْضكُمْ فَوْق بَعْض دَرَجَات " الأنعام 165

"ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ" يونس 14

"هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا" فاطر 39


ترى من الذي أثبتت الأيام صدق توقعه ؟؟؟

الملائكة المتشائمة أم الله المتفائل ؟؟؟

هل يوجد من بين هذه الفئات باستثناء آدم (لنبوته) مَن لم يُفسد أو يسفك الدماء أو يجمع الأمرين معاً ؟؟؟؟؟

هل هم بني إسرائيل الذين "يقتلون النبيين بغير الحق" ؟؟؟؟

أم هل هم عاد قوم هود الذين "جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" ؟؟؟

أم هل هم ثمود قوم صالح الذين "كَفَرُوا رَبَّهُمْ " ؟؟؟؟؟

أم هل هم المسلمين الذين افترقوا مللاً و نحلاً تصارع بعضها البعض ؟؟؟؟

ما هي هذه الخلائف التي لم تفسد و لم تسفك الدماء و أين هي ؟؟؟؟


و كيف يقول الله لملائكته أنه يعلم ما لا يعلمون !!!!


فهل كانت الملائكة أعلم بالغيب من الله الذي راهن بعلمه على خلافة الإنسان للأرض ؟؟؟؟؟؟


و هل نصدّقه حين يقول في آية لاحقة من البقرة على لسان الملائكة "قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم" البقرة 32 ؟؟؟؟؟

فهل حقاً كان علمهم أنقص من علمه الكامل الذي تفاءل بمن يستخلف و هم تشاءموا ؟؟؟؟





تحياتي لكم جميعاً