على هامش الحداد التلفزيوني
الكاتب: رشا الأطرش المصدر: السفير
كشفت الأيام السابقة أشياء مهمة: <<معلومة>>، أو بالأحرى بداهة ذات دلالة، وأسلوب حياة ربما لم نكن لننتبه إلى تفاصيله لو أنه لم يتعرض ل<<انقطاع>> مفاجئ: الترفيه، لا سيما الغنائي والدرامي، يحتل حيزاً كبيراً من مدة زمنية يومية، غالباً ما لا تكون قصيرة، يقضيها كل فرد عربي أمام شاشة التلفزة.
ففي سياق الحداد الذي تمارسه، على الملك السعودي الراحل، شبكات تلفزيونية ترفيهية أساسية، هي <<أوربت>> و<> و<<روتانا>> و<<إم بي سي>> السعودية، يدرك المشاهد حقيقتين ليستا جديدتين، لكنهما كانتا دائماً حاضرتين إلى الحد الذي تغيب معه إرادة التفكير فيهما: إن معظم المشهد الترفيهي (برامج، فيديو كليب، أفلام، مسلسلات، فنانون، الخ..) تسيطر عليه ذائقة سعودية، إنتاجاً، واختياراً، وبثاً. إن الاعتياد على إرهاق <<الريموت كونترول>> تقليباً بين القنوات، للتوقف لبرهة أمام فيديو كليب تحبه، أو للركون لساعة أو أكثر أمام فيلم عربي أو أميركي يغريك أنه بدأ لتوه، ما عاد حالة مفروغ منها. فالنقص الذي اختبره المشاهد في هذا المجال مؤخراً (كما لم يختبره في فترات حداد أخرى كانت محصورة) ينبئه بالحاجة الكامنة لديه إلى ما أضحى جزءاً من دورة حياته. يتذكر فجأة كم هو جزء ورئيسي.
تسأل نفسك: لو أن الوضع كان مقلوباً، لو أن القنوات المصرية مثلاً (<<ميلودي>>، شبكة <<النيل>>، الفضائية المصرية، الخ..) هي التي عاشت الحداد لأيام، فيما استمرت التلفزيونات سعودية المنشأ في بثها، فهل كنت لتشعر بكل هذا <<الفراغ>> التلفزيوني؟ هل كنت لتسأم خلال تناول وجبة طعام ليلية في حال لم تقدم قنوات <<شوتايم>> مثلاً (<<موفي تشانل>> أو <<الشاشة>> أو <<تي في لاند>>) ما يجذب انتباهك؟ الأرجح أن لا. لكن معظم ما نستهلكه ترفيهاً، كل يوم، هو في الغالب مصري أو لبناني الهوى أو اللهجة الخ.. فإذاً؟ تتذكر: أنت تستهلك المصري واللبناني من على <<رفوف>> سعودية في الغالب. السعودية التي لا يسع أحد ذكرها (بعيداً من السياسة والعناوين الأمنية) من دون أن يستحضر صرامة العيش في مدنها، والمجتمع <<الحديدي>> بضوابطه الكثيرة المفروضة على أفراده لا سيما النساء، السعودية قِبلة فريضة الحج، ومحط أنظار ترددات بث عدة كل صلاة جمعة، وإحدى المنابع الأولى للقنوات الإسلامية الدينية، هي السعودية التي تفتح لك أبواب الفضاء كل مساء، وتشغل سهراتك بخيالات ما أنتجته أو اشترت حقوق بثه: أحدث الأفلام العربية أو الهوليوودية (أو أرشيفها)، صور الفيديو كليب، والأجساد والأصوات والبرامج والموضة، وأفكار <<كوول>> من كل صنف ونوع. أي مفارقة! أي <<سحر>> يمارسه رأس المال المستثمر في الترويح عن الأنفس العربية المتعبة! وفوق ذلك هو رأس مال قلما يعبّر عن هويته، أو بالأحرى جنسيته. يبقى خفياً إلى حد ما. يرضينا كما يظن أننا سنرضى، وكما يظن أنه سيربح تجارياً. عدل.. ربما. ملاحظة محيرة نوعاً ما، لكنها واقعية. ثم.. مستوى ثان من واقع الأيام القليلة الماضية. أنت لا تفتقد الراهن وحسب، بل أيضاً الماضي، الأبيض والأسود من الأفلام والمصوّر من المسرح. راهنية التلفزة باتت أكثر شمولية زمنية مما نتصور. خذ فيروز مثلاً. ثمة من كان يدمن الاستماع إليها <<تزقزق>> كل صباح عبر الإذاعة، ولا يستقيم له يوم من دون أن يستهله ب<<بكتبلك بس>> أو <<لملمت ذكرى لقاء الأمس>> أو حتى <<تك تك يا ام سليمان>>. وثمة من يدمنها اليوم مقطعاً من فيلم أو مسرحية أو حفلة رحبانية، في فقرة دائمة على <<روتانا طرب>>. دخلت فيروز الصوت الذهبي عصر الصورة من حيث لا تدري. وقفتها اللذيذة في استديو ذي خلفية سوداء وفي شعرها وردة، كما حضورها أمام لوحة مرسومة للكعبة وما حولها وهي تخاطب قلبك قائلة <<غنيت مكة>>، يجاريان زمن الفيديو كليب، وقد تم استحضارهما كالروح الطيبة من زمن موسيقي آخر تماماً، بلونين فقط. كيف كان لك أن تستمتع بهذه التوليفة لولا منفذ بصري للأغنيات خصص لفيروز، بل لك، كهدية يومية؟
كرّست الكثير الأيام القليلة الماضية.
ليت <<الفيروزة>> تظهر الآن، بفستانها ملوكي الزرقة ووشاح الريش من مسرحية <<ميس الريم>>.. <<بديت القصة تحت الشتي.. حبوا بعضن.. تركوا بعضن>>.