تحقــــيــــق ميلـــيـــس والشـــائعــــات


ادرك الامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله فور اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في 14 شباط الماضي خطورة الجريمة والانعكاسات التي قد تكون لها على الوضع الداخلي اللبناني، فبادر الى إطلاع اللبنانيين على اجتماعات طويلة وعميقة عقدها الحزب مع الشهيد في الاشهر التي سبقت اغتياله وشارك هو في بعضها، كما شارك قياديون حزبيون في بعضها الآخر. وكشف بذلك ليس فقط عن تواصل قام بين الفريقين بل ايضا عن توافق بينهما على عدد من الامور والقضايا الجوهرية والوطنية وعلى سياسات معينة من شأنها مساعدة البلاد على الاستمرار في عملية النهوض وتجاوز "الافخاخ" السياسية والامنية المحلية والاقليمية والدولية. وجاءت مواقف مسؤولين من عائلة الحريري بعد ذلك لتؤكد ما اعلنه السيد نصرالله او على الاقل معظمه. اما الهدف من مبادرة نصرالله في حينه فكان تلافي الوقوع في فتنة مذهبية لا يقتصر ضررها على وحدة الموقف الاسلامي اللبناني بل على وحدة لبنان وثوابته الوطنية. وهي فتنة مؤشراتها موجودة في الداخل اللبناني، رغم اجتهاد كل القيادات والمراجع الاسلامية في نفيها. كما ان ما يجري في العراق منذ مدة من شأنه تعزيز اجواء الفتنة ويا للاسف.

لماذا هذا الكلام اليوم على موضوع خاض فيه علنا الامين العام لـ"حزب الله" قبل اشهر؟

لأن لجنة التحقيق الدولية في اغتيال الحريري التي يترأسها الالماني ديتليف ميليس اوشكت الانتهاء من عملها وصارت على اهبة وضع تقريرها النهائي ورفعه الى مجلس الامن بواسطة الامين العام للامم المتحدة كوفي انان.

ولأن هناك من بدأ يشير في الشارع اللبناني السياسي وغير السياسي وإنْ بالهمس حتى الآن، الى مسؤولية ما لـ"حزب الله" او لعناصر فيه في الجريمة المذكورة. علما ان اشارات من هذا النوع هُمس بها فور حصول الاغتيال لكن مجرى التحقيق مع المواقف الحازمة للسيد نصرالله اسكتتها في مهدها.

ولأن عددا من القادة في الحزب المذكور بدأ يدرس ، وعلى نحو بالغ الجدية، هذا النوع من الاشارات في محاولة لمعرفة مصدرها ومدى جديتها والاهداف المطلوب تحقيقها من ورائها.

ومعروف ان من يرمي تلك الاشارات او يوزعها يعرف تماما رأي الحزب في المنظمة الدولية، اذ يعتبر ان هناك سيطرة اميركية عليها واستطراداً سيطرة صهيونية عليها نظرا الى التأثير الكبير الذي لاسرائيل على اميركا ادارة ومؤسسات وشعبا واعلاما وحياة اقتصادية.

ويعرف ايضا ان من شأن الاشارات نفسها اطلاق موجة من الاتهامات في اتجاه لجنة التحقيق الدولية تشكك في حيادها وموضوعيتها وصدقيتها تمهيدا للتشكيك في تقريرها المتوقع، ولتعبئة الرأي العام اللبناني، والاسلامي تحديدا، ضدها. ويعرف ثالثا، ان هذه الاشارات قد "تستغل" بغية فرض اكمال تنفيذ القرار الدولي 1559 وتحديدا احد ابرز بنوده وهو نزع سلاح "حزب الله" وسلاح الفلسطينيين في لبنان، ولذلك لا بد من مواجهة اللجنة بحملة لبنانية واسلامية تشكك في حيادها وتصورها بانها لجنة سياسية شكلت لتنفيذ مهمة سياسية لا مصلحة للبنان فيها ولا للعرب والمسلمين.

هل لـ"حزب الله" ضلع ما في اغتيال الرئيس الحريري؟

هذا سؤال لا يملك احد جوابا عنه حتى الآن. فاللجنة لم تنه عملها بعد. ولا يمكن معرفة نتيجة هذا العمل قبل انتهائه، وهل يكون كاشفا وبحسم لهوية منفذي جريمة الاغتيال والمخططين لها والمحرضين عليها ومقرريها. لكن ما يمكن قوله في هذا المجال هو الآتي:

-1 لا تشير المعلومات المتوافرة عن لجنة التحقيق الدولية ورئيسها الى سياسة ما في مواقفهما او سلوكهما او تصرفاتهما. فالمهنية والاحتراف لهما الاولوية عندهما. ويفترض ان تكون نتائج التحقيق في هذه الحال بعيدة عن السياسة. طبعا لا يعني ذلك ان تسييس النتائج غير ممكن بعد صدور التقرير. لكن هذا التسييس، اذا حصل، تكون وراءه الدول المعنية او المهتمة، وليس اللجنة.

-2 لا يشير تاريخ "حزب الله" على الاقل منذ اتفاق الطائف الذي تم التوصل اليه في 1989 وبدأ تطبيقه في 1990، الى "ارتكابه" عمليات من نوع الاغتيال المروع للحريري. فهو انصرف كليا الى مقاومة الاحتلال، ولم يهتم بالداخل الا لتحصين نفسه ولمنع هذا الداخل من التأثير سلبا على مقاومته. والرئيس الحريري، كما كثيرون غيره ، ساعدوه في هذه المقاومة باعتراف الجميع. وفي تلك المرحلة حاول قدر الامكان تقليص المخاوف المسيحية منه ، كما الاسلامية، ونجح في ذلك وإن على نحو غير كامل.

طبعا قد يتحدث البعض عن اختراق ما للحزب سبب تورطاً في الجريمة الكبيرة. وهذا امر يحصل في كل الدول والاحزاب. وفي حال حصوله، علماً ان تاريخ الحزب لم يكن حافلا حتى الآن بالكثير من هذه الامور، فان الحزب لا يكون مسؤولا عنه وعمّا ادى اليه. علما ان ذلك لا بد ان يفرض عليه العمل والتعاون وبذل الجهود لكشف الحقيقة كل الحقيقة، اذ ان من يُقدم على خرق كهذا، ايا تكن هويته، لا يكون مهتما على الاطلاق بمصلحة الحزب.

-3 لا يفيد انكار وجود حساسيات ومشكلات مذهبية عند المسلمين في لبنان، كما يفعل كثيرون. مثلما لا يفيد انكار الحساسيات والمشكلات بين المسيحيين والمسلمين فيه ايضا. ولكن يمكن التأكيد ان الجميع يرفضون فتنة او حربا مذهبية او طائفية، لان نتائجها ستدمّر الجميع كما ستدمر الوطن على رؤوسهم. وانطلاقا من هذا الرفض، على كل القيادات والمراجع المتنوعة العمل لكشف الحقيقة في قتل الحريري، وعدم السماح للغرائز الطائفية والمذهبية بالانطلاق من عقالها عند كشفها لان مرتكبي الجريمة والمخططين لها ومقرريها لا يمثلون مذاهبهم وطوائفهم، وحتى شعوبهم واوطانهم ودولهم بل يمثلون مصالح خاصة او ضيقة او حتى واسعة لكنها تتناقض تماما مع مصلحة الوطن.

-4 ان الاشارات الى المسؤولية عن قتل الحريري لا تقتصر على "حزب الله" ، بل تطول جهات محلية اخرى، وجهات اقليمية متنوعة، بعضها صديق وبعضها شقيق وبعضها عدو. لذلك ليس هناك مبرر للتوتر او الاستنفار، الا اذا كان الاستنفار لتلافي الوقوع في مخططات التفتيت الجارية في المنطقة.


سركيس