اما بعد - بقلم: سعاد جروس
الأمم المثقفة
في كتاب «المستطرف الجديد» الذي انتقى نصوصه بمعيار نقدي معاصر الباحث هادي العلوي رحمه الله, ورد تعريف القفطي للأمم المثقفة جاء فيه: «الأمم التي عنيت بالعلم واستنباطه هم الهند والفرس والكلدانيون واليونانيون والروم وأهل مصر والعرب والعبرانيون. وباقي الأمم لم تعن بشيء من ذلك ولا ظهر لها شيء فيه, حالها كحال البهائم تأكل وتشرب وتنكح لا غير».
كلما مررت على هذا التعريف اعتراني الخجل, أين العرب اليوم من الأمم المثقفة؟! سؤال شغل النهضويين من المفكرين العرب, فأعملوا فيه بحثاً وتمحيصاَ على مدى قارب قرناً من الزمن, وما زال مستمراً على أيدي المتنورين الجدد, رغم الرياح التي تعصف بأفكارهم لتنتهي بها إلى زوايا الكتب البائدة, فيما تتقدم ثقافة الاستهلاك على جناح التقنيات البراقة والآسرة, محتلة الشارع والعقول الفتية.
لؤي الذي لم يتجاوز بعد الحادية عشرة من عمره, طالب بحقه ­ المكفول من اليونيسكو ­بحيازة «موبايل» عفريت, لأنه ليس أقل من زميله ابن الطحان!! فتاة لم تتسلل بعد المراهقة إلى طفولتها, جاء نجوم الغناء المفرقعين كالفتّيش €الألعاب النارية€ في ليلنا الطويل وعلبوا مراهقتها المقبلة, فبدأت تؤرجح قوامها البرعمي على الكعب العالي, وتحشره في بنطال ضيق, مفسحة للبطن والصدر والظهر التنفس بلا تحفظ, فلم تقل عن أحلى الراقصات, سوى من جانب الإثارة غير البريئة, ترقع بالضحكة, وتفرقع العلكة, تلف ساقاً على ساق وتعلق الحذاء على أطراف القدم وهي تقلب «المسجات» و«حبك بطحني عالحشيش... أنا وأنت جوز كنادر فردة وحدة ما تمشيش».
جوجو ونانو وسوسو وعلا وحمودي... لكل رغباته وطموحاته وشكواه ومشاكله, واحد لا تسليه ألعاب الكومبيوتر لأنه حفظها عن ظهر قلب ويريد الأحدث؛ والأحدث يتطلب تحديث جهاز الكمبيوتر لمواكبة عصر يُحدث نفسه كل شهرين وأحياناً كل أسبوعين, وآخر يقلقه ما يتركه «الجلّ» الوطني على شعره من آثار, ويبحث عن ماركة أجنبية تثبت ولا تترك أثراً. للأسف الدولة لم تستورد هذا النوع بعد, مسكين ليس لوالده زيارة قريبة إلى السوق الحرة. بنت يعجبها ابن الجيران الذي يضع عينه على أعز صديقاتها, تقع بصراع عاطفي مكسيكي مديد يحرمها النوم وأفلام الكرتون. صبي لا يتزحزح من تحت البلكون حتى تطل بدر الزمان وترميه ببلوتوث من الشباك, يحمل فيديو كوميدي رزيل «شوي», يبقى أحد أسرارهما الدفينة التي يجب ألا تتسرب, لئلا يخدش حياء أهلهما... والأهل, الغافلين منهم والمغفلين, لهم الله».
أطفال ليسوا كالأطفال... أو ربما نحن دهمنا الهرم مبكراً, وكأن أجيالاً كثيرة تفصلنا عنهم, فأصبحنا لا نعرفهم ولا يعرفوننا, لا يفهمون لغتنا ولا نفهم لغتهم, يتحدثون عن أشياء مازلنا نقرأ عنها في الانترنيت نعتقدها من الخيال العلمي, انتزعوها من الواقع اللاهث قبل أن تطير إلى النسيان.. مع تردد صدى عبارات «سلغون» إحدى قنوات الأفلام العربية «هو أنت لسه شفت حاجة؟! حنورّيك اللي عمرك ماشفته» ماذا سنرى بعد أكثر مما نرى, من مسلسلات غربية على مكسيكية باتت واقعاً يمارسه أطفالنا ومراهقونا بمتعة تفوق تلذذ طفولة جيلنا التائه بهايدي وريمي وساندي بل. جيلنا المتهم بأنه نبت بالعراء دونما ثقافة وبلا طموحات.
ماذا سنرى أكثر من كليبات تتمثل واقعاً بموضات تقفز سريعاً من الميني الى الميدي ومن البودي الى الفلو, ومن التحرر إلى التزمت حتى وصلنا إلى وادي هيفا فقفز الدجاج والبقر والماعز, من الحظائر إلى تحت الأضواء في الاستديوات والصالونات, هل ثمة ما لم نره بعد؟ الآتي على الطريق, والطريق عريض وفسيح.
أي شيء يخبئه المستقبل لأمة سقطت من تعريف الأمم المثقفة, فلم يخجلها تخلف, ولم يعوقها جهل عن استغلال احدث تقنيات الاتصال والمعرفة, لتبديد القرش الأبيض على الفراغ الأسود, في وقت يتراجع فيه الإنتاج ويتقدم الاستهلاك ويتفاقم؛ أمر لا يضر في بلدان تغفو على بحار النفط, أما في بلد كسوريا ليس له سوى أن يأكل مما يزرع ويلبس مما يصنع, ما ذنبه في تحول أبنائه إلى مستوردين ومستهلكين؟
أسئلة برسم الإجابة ليس من المفكرين, لأن الفكر أتعبنا وأتعبهم, وإنما من الدولة التي تفكر وتنفذ؛ من مؤسساتها وأجهزتها ومسؤوليها, ومعهم العميان والمتعامون والنص نص عن اجتياح ثقافة الاستهلاك, وازدهار سياحة الكرش الفجعان للمقادم والجقات بطبعاتها الغربية. ومعهم نحن المتعيشين على الإعلام, المرتاحين جداً للحكي وبس, لسان حالنا قول المعري:
أنا أعمى فكيف أهدي إلى المنهج والناس كلهم عميان

سعاد جروس