نحن الآن في خاتمة هذا الحوار . سنعود ونطرح مسألة المنهج ، التي لم أزل أصر أنها السبب الرئيسي في عدم وصول مثل هذه الحوارات إلى نتيجة . وهذه هي الأسباب :
1-عدم الاستيعاب . وهذا أكبر عائق للحوار . أن يرد أحدنا قبل أن يستوعب فكرة المقابل . يرد لوجيكال بردود كبيرة كـ " تناقض " ، " بطلان " ...إلخ ، دون أن يفهم الفكرة التي أحاول ايصالها . حتى لا أكون متهما سأعطي عدة أدلة :
أ- يقول لوجيكال :
اقتباس:العاقل ما زال يصر على موقفه الاصلي و هو أن "النظام يستوجب وجود ارادة" و لا يوجد اي امكانية اخرى او احتمال اخر لتفسير وجود النظام. و يتجاهل العاقل تعليقي الاساسي على قضية النظام، و هو تعليق مبني على معرفة العلماء المعاصرين، و تتلخص في كون النظام في بقاع منتشرة في الكون امر ينتج تحت تأثير القانون الثاني للديناميكا الحرارية، في حيز مفتوح غير مغلق، و متمدد في نفس الوقت، اذن انا وافقته على وجود النظام، و لكن موافقتي كانت مقتصرة على ذلك و ليس على زعمه بأن الكون "محكوم" بنظام، فقد بينت له أن العلماء يستعملون كلمة "قانون" للكناية عن طبيعة الاشياء الظاهرة و تصرفاتها، و ليس بمعنى سُنّة تحكمها. و بهذا، علميا لا حاجة لفرضية الارادة اصلا. و لكن نتابع الحوار.
هو يتهمني بالتحريف ، والتجاهل . وأنا أقول أنه لا يستوعب كلامي :
-بخصوص تحريفي لموافقته . فأنا سألته سؤالا واضحا ، بعد أن شرحت قوانين الديناميكا الحرارية الأربعة ، ووضحت معنى النظام سألته :
اقتباس:: ألا يعني ازدياد الفوضى تناقص النظام ، والا يعني هذا كله وجود النظام ؟
بغض النظر عن دقة المعلومات ، هل استدلالي باطل ؟
أنا عندما أسأل هل توافق على أن النظام موجود . فأنا أسأل عن شيء شرحته ووضحته من قبل ، في أول مداخلة ، عندما قلت :
اقتباس:القضية الأولى : محكومية الكون بنظام وقوانين . وهذا أمر تثبته العلوم . ونجد هذا الإثبات واضحا في القانون الثاني للديناميكا الحرارية ، الذي ينص على أن الانتروبي ، درجة الفوضى ، هي دائما في ازدياد . وإذا كانت الفوضى تزداد ، فهذا يعني أن النظام يقل ، وهذا يعني أن النظام موجود ، وحاكم للكون وهو في تناقص .
وبعد كل هذا ، وعندما يجيب لوجيكال بالموافقة . وأبني على هذه الموافقة عدة أمور . يعود ويتنكر لها قائلا : أنا عندما أوافقك على وجود النظام ، فأنا لا أقصد موافقتي على محكوميته بالنظام ، والقوانين لا تستخدم بمعنى تشريع . وأنا وضحت ان النظام ، كما عرفته ، يحتوي محكوميته للكون . وبخصوص القوانين والطبائع فقد وضحت انه خلاف لفظي بفقرة كاملة ، لم يعلق عليها لوجيكال بحرف واحد . هذه هي :
اقتباس:هنا نصل لنقطة أثارها لوجيكال ، وهي معنى " قانون " واستبداله إياها بـ" طبيعة " . أولا لأقرر ان الأمر لا يخرج عن كونه خلافا لفظيا ، أنا أقصد بالقانون ما تقصده انت بالضبط من الطبيعه . بل ان استخدامك للفظ " طبيعه " ، فيه وفاء للتراث الإسلامي والعربي .. إذ أنهم قديما كانوا يستخدمون لفظ " طبائع " في الحديث عن القوانين .
لكل شيء طبيعة ، هذا أمر متفق عليه . يقوم العلماء بملاحظة الظواهر الطبيعة ، وطرح افتراضات لتفسيرها .. افتراضات مبنية على ملاحظات . تأتي التجربة لتدعم هذا الافتراض أو ذاك . هنا تتحول الفرضية إلى نظرية ، قد تتطور إلى قانون إذا كانت اكثر عمومية وشمولية .
ما أريده انا من هذا كله ، هو أن الكون يخضع لنظام من " الطبائع " أو "القوانين " ، إذا استطعنا معرفتها .. نستطيع التنبؤ من خلال هذه المعرفة ، بما سيحدث لحالات ، ونستطيع الاستفادة من هذه المعرفة بالقوانين ، بتوظيفها لمصلحتنا . التيار الكهربائي خاضع لقانون الحفظ ، أي انه لا يفنى ولا يظهر من العدم . خضوعه لهذا القانون ، او طبيعته هذه ، تجعلنا نصنع أسلاكا كهربائية متأكدين من أن التيار سيسير من خلالها حسب قوانين كيرشوف . التيار لا يملك أن يغير طبيعته ، بل هو خاضع لها ، ودور الانسان هو اكتشاف كيفية خضوعه لهذا القانون ، او معرفته طبيعة هذا التيار ، لا فرق بين الجملتين .
هذه الظاهرة لا تفسير لها ، إلا أن لوجيكال يرد علي دون ان يستوعب كلامي .
ب-أقول أنا :
اقتباس:عند حدوث حادثة ما ، فحدوثها هذا أمر واقع . ولأنه واقع ، فتفسيره لا يخرج عن إطار الإمكان . الاحتمال ، هو ترشيح أحد التفسيرات الممكنة لتلك الحادثة . هو ، إذن ، لا يُشترط شيئا سوى أن يكون الاحتمال ممكنا. والإمكان هو نظر عقلي ، لا يستلزم الاستناد على معطى واقعي . هذا هو الاحتمال ، مجرد افتراض عقلي ممكن.
التفسيرات الممكنة للحادثة ، أي إحتمالات الحادثة ، هي – بالضرورة – متناهية ، لأن دائرة الممكن غير مطلقة. فحصرها هو أيضا أمر ممكن ، من ناحية المبدأعلى الأقل . يبقى الحديث حول ما إذا كان الحصر : أمر متيسر أم لا . ورأيي : أنه متيسر لبعض الأفراد ، وغير متيسر للآخرين . فالقدرة على الحصر ، هي عمل عقلي ، تعتمد على مدى قدرة الفرد على التجريد والتخيل والافتراض في حدود الممكن. فالقدرة على الحصر، إذن ، هي إشكالية ذاتية ، ليست موضوعية .
أنا هنا وضحت أن كلامي ، يتعلق حول حدوث حادثة ، وحول تفسيرات حدوثها . أنا حددت النطاق الذي يكون فيه حصر الاحتمالات متناهيا . ماذا فعل لوجيكال ؟ تجاوز هذا الإطار .. وأتى بمثال لا ينطبق عليه وصف حادثة ولا احتمالاته اللانهائية تعتبر تفسيرات لحدوثه . قال :
[QUOTE]هذا كلام خاطئ. ليس كل الامور لها احتمالات تفسير متناهية. و ابسط مثال على ذلك هو المثال التالي: أ - ب = 2. يا ترى كم هي احتمالات قيمة أ و قيمة ب التي تجعل هذه المعادلة صحيحة؟ الاحتمالات لامتناهية. طبعا هذا مثال تجريدي رياضي، و لكن بما أن العاقل يعترف بأننا لا نعرف شيئا عن الاكوان و تكوينها، و يكتفي بقدرة العقل على التصور و التخيل، على الاقل من ناحية تجريدية تصورية، فهذا خير مثال على فشل هذا الاسلوب.
نعم ، أنا قلت أن وضع الاحتمال هو فعل عقلي مبني على التخيل والافتراض وما إلى ذلك . لكن لم أقل أن حصر الاحتمالات في كل الأمور . انا قلت انها محصور في الحوادث الواقعة ، وفي احتمالات تفسير هذه الحوادث . هنا نجد أنفسنا أمام عدم فهم جديد .
ج- مثال أخير ، يقول لوجيكال ردا على وصفي لحوارنا بانه مسرح جريمة ، كالتالي :
اقتباس:يا عزيزي لو فرضنا اننا محققين في مكان جريمة. و وجدنا مثلا عينة معينة لنوعية دم مثلا لا يمتلكها في العالم إلا ثلاثة اشخاص في العالم بينهم رجل اسمه عدنان. ستقول أنت، "هناك احتمال ان يكون عدنان شخصيا قام بالجريمة." عندها سأقول لك، "حسنا، و لكن هناك حقيقة ان عدنان متوفى من عدة سنوات، و بالتالي فمن المستحيل ان يكون هو المجرم." عندها، حسب منطقك الخاطئ، ستقول لي، "أنا غير ملزم في الحديث عن صفات عدنان او اي شيء خارج موقع الجريمة. العينة هنا قد تعود لعدنان، و بالتالي من المحتمل ان يكون هو المجرم."
وأنا كنت واضحا منذ البداية . قلت أن " عملنا محدد بشيئين اثنين : أولا ، بالموضوع ، مسرح الجريمة أو الكون . ثانيا ، بالإمكان العقلي " . فعدنان ليس بوارد ، لأنه لا يحقق الشرط الثاني ، وهو الإمكان العقلي .
أظن هذه الأمثلة كافية لتوضح أن لوجيكال .. يرد علي بكل استسهال ، ولا يكلف نفسه عناء استيعاب ما أقول .
2-
السبب الثاني ، هو طريقة لوجيكال في الرد . يمسك ردي ، يأخذ سكينا ، يقطعه إلى أجزاء صغيرة .. ويحاكم كل جزء بمعزل عن الآخر . لا يأخذ أفكاري كنسق مترابط ، يدعم بعضه بعضا . أنا أتعب في تجميع أفكاره المبعثرة في الأجزاء ، لأضعها في نسق ، وأحاول نقدها . وهو يقوم ببعثرة الأفكار . يكاد يكون الحوار .. مقصورا على هذا التجميع والبعثرة .
أعطي مثالا واحدا :
أ-أقول أنا :
3-نفي استلزام هذا كله بالإرادة ، برفع خيار الصدفة . وهذا باطل لثلاثة أسباب : الاول ، في تعريف الصدفة - كما حددناه سابقا - أنها تنتج عن إرادة. الثاني ، أن الصدفة ولو فرضناها أي شيء آخر ، فلكي تعمل عملها ، تستلزم ثلاثة امور : زمان ، وعشوائية ، ووجود مادي ؛ وهذه كلها منفية ، فالزمان يولد مع هذا الكون ، والعشوائية منتفية باعتبار انها تبدأ مع الكون ، والوجود المادي مرتبط مع الزمان ، فقبل اللحظة الأولى ، لا وجود له ، بل قولنا : "ما قبل الانفجار " هي – ماديا ، وماديا فقط . إذ إن الفيزياء موضوعها العالم المادي – لا معنى لها . الثالث ، الصدفة لا تنتج نظاما ، كما حددنا سابقا .
هذه فقرة كاملة ، نسق كامل . أفكار تدعم بعضها بعضا . أقول أن هناك من ينفي الإرادة ، بوضع الصدفة بديلا . أنا ألطل هذا .. بان أسترجع احتمال الصدفة كما وضحته ، وأجيب على اعتراض مفترض مبني على أي تعريف يضعه الخصم للصدفة .
ماذا فعل لوجيكال ؟
قسم كلامي إلى أجزاء . جعل الجزء الاول مناقضا لتعريفي للصدفة . وجعل استدلالي بالتعريف مناقضا للكلام الذي سبقه . كأن كل جزء مستقل بنفسه . هذا مثال صارخ ، يوضح لماذا لا نصل الى نتيجة .
ماذا بعد ؟
أنا كان لي عدة أهداف من هذا الحوار ، أرى أني حققتها :
1-توضيح أن الإلحاد هو ايوديولوجيا ، وليس نظرية علمية .
2-كما رأينا ، الملحد لا يستطيع أن يكون أكثر من " لا أدري " ، ولا يستطيع انكار كون للكون خالق بالكلية .
3-الالحاد مرتبط بالغرب . فالملحد لا يستطيع أن يكون ملحدا ، إلا انطلاقا من مقولات غربية ، كما رأينا في تسليم لوجيكال ملقولات العلماء وهو الذي ملئ الموضوع قائلا ان اجتماع الناس على شيء لا يعني صحته ، واذا سألأته عن التطور .. أجابك : بأن كل المؤسسات العلمية تقول به .وهذا نضع تساؤلا مفتوحا : هل من المصادفة المحضة أن يكون الملحدد العربي مشدودا للتراث الغربي ؟
في الختام ، أشكر زميلي لوجيكال على المشاركة في هذا الحوار ، كما اتوجه للزميل جقل ، على إنجاحه للحوار وضبطه بكل صرامة . واشكر كل من تابع ، واعتذر عن كل تقصير وإطالة .