هل ما زال أحد يقرأ هذه الرواية ![[صورة: 4_12_61.gif]](http://i21.photobucket.com/albums/b258/georgios42/Emoticons%202/4_12_61.gif)
بكل الأحوال هذا الفصل التاسع منها وهو الفصل ما قبل النهائي ..!!
أعددته في فترة التوقيف :saint:
وسأكملها إلى النهاية بأذن الله ...
الفصل التاسع
المسارة
علم التكوين ولاهوت النفس
في منتصف شتاء سنة 512 ق.م، كان هناك رجل يدعى تيليس Telys وهو طاغية بدأ بثورة في سيباريس الجارة الشمالية لكروتونا، وراحت الأمور تأخذ منعطفاً سلبياً ذلك أن البعض من أعضاء حكومة تلك البلدة لاذوا بالفرار إلى كروتونا طالبين من فعاليتها منحهم حق اللجؤ السياسي. وإزاء لذلك، فما كان على الفعاليات الكروتونية إلا أن إستجابت مطلبهم مانحة إياهم الحماية اللازمة حيث سمح لهم بالإقامة في إحدى المعابد.
وفي تلك الأيام، كان هناك البعض من الإخوة البيثاغوريين في سيباريس، من أجل دراسة ذهنية شبيبتها، وعند سيطرة تيليس على المدينة راح يقوم ببسط نفوذه بطريقة تعسفية لأنه بشخصه طاغية وديكتاتوري. فتبعته الغالبية من سكان سيباريس كحاكم، ومنهم من فعل ذلك بدافع الإعجاب به، وبعضهم الآخر خوفاً منه. أما الوزراء الديبلوماسيين التابعين لهذا الحكم الجديد، فقد قاموا بأعمال شنيعة ومنها خطفهم الإخوة البيثاغوريين الذين كانوا في المدينة، فوضعوا قسماً منهم في السجون وقتلوا البعض الآخر منهم. ومن ثم قاموا بإرسال البعض من الموفدين مع السفير الكروتوني في سيباريس إلى كروتونا بغية الطلب من سلطاتها تسليمهم اللاجئين السياسيين ، وهنا قرر بيثاغور التدخل لإقناع القوى الحاكمة لكروتونا بعدم تلبية مطالب اؤلئك المجرمين. وتوالت المفاوضات بين المدينتين حتى جاء وقت أدرك فيه تيليس بأن الكروتونيين لن يلبوا له مطلبه، لهذا السبب قام بإرتكاب مجزرة بقتله السفير الكروتوني والموفدين المفاوضين والبيثاغوريين السجناء لديه. وبعد تصرفه الإجرامي هذا، إنقطعت العلاقات بين المدينتين الجارتين، في حين أن اللاجئين السياسيين ظلوا في كروتونا تحت كنف حماية سلطاتها، وسادت أجواء التيقظ في المدينتين.
* * *
لم يكن لاهوت الأرقام هذا العلم الصوفي سوى مدخل إلى حقيقة أكثر سمواً برفعه روح التلميذ عالياً في عالم ذو أشكال مرئية وبفتحه عيناه إلى النار الذكية، الموناد الإلهي الخالق تلك الأشياء والأشكال والمغيّرها.
وفي داخل معبد الحوريات في السرداب، تابع بيثاغور بسرية تامة أعطاء المسارة لدائرة الماتيماتيكوي في الدرجة الثالثة التي هي درجة الكمال حيث فيها تقسم التعاليم إلى شقين يحويان علوم التكوين وعلوم النفس. هذه العلوم الباطنية الكامنة في قلب الأسرار، أسرار الحياة.
- وبدأ بيثاغور بتعاليمه:" إنه ليس بالهواء الذي أتنفسه، وليس أيضاً بالمياه التي أشربها، ألوم نفسي على كشفي لكم الأسرار يا أيها الإخوة. فكرّموها بقلب هادئ.
ففي وسط الكون توجد النار، والشمس ليست سوى إنعكاس لها. والنار هي العقل الكوني الواعي الموناد، ومن الشمس إنبعثت الكواكب التي راحت تدور من حولها لتشكل بذلك كوناً صغيراً ( النظام الشمسي ). وإن أول تلك الكواكب الدوارة من حول الشمس هو كوكبُ مضاد للأرض غير مرئياً، إنه الأرض الروحية. ومن ثم تأتي بعده الأرض- فالقمر- وأخيراً الشمس التي هي نقطة الوسط بين تلك الكواكب المعطية الحياة والمولدة النار والطاقة بمعيار نسبي. ومن بعد الشمس يأتي كوكب الزهرة- فعطارد- المريخ- المشتري- زحل- وأخيراً منطقة الأبراج.
وأعلموا بأنه توجد نار خارجية تحيط بهذا الكون الصغير ( النظام الشمسي ) الممتد خلفه الفراغ أللانهائي الذي من خلاله يتنفس الكون الهواء أللامتناهي المالئ الفراغ أللانهائي.
وأعلموا بأنه توجد أعداد لامتناهية من الأكوان الصغيرة ( الأنظمة الشمسية ) الخاضعة لنظام الأرقام تماماً كما هي الحال عندنا. ولكل نظام منها دوره الخاص في هذا الكوزموس الدائم الإتساع. أما إستخدامي لكلمة كوزموس فكان لأجل أن أشير إلى كون فائق التنظيم والتناغم. وبعد خلقه، إستمر الكوزموس في الوجود تبعاً لخطة إلهية، والبعض من الكواكب المتواجدة في أكوانها الصغيرة توجد عليها حياة مادية جسدية كالأرض التي هي دائرة التوالد. في الحقيقة إن الكون كله مملؤٌ ذكاءً وأرواح وحياة، فعلى الأرض حيث دائرة المرئي تحصل كل عمليات تقمص الأرواح التي تترك الأجساد بالموت. أما في الدوائر الأخرى في القمر والشمس، تتواجد المخلوقات الروحانية الأكثر سمواً لعدم إلتصاقها بالمادة".
وبهذا ختم المعلم درسه الأول في معرفة الكوزموس.
وعلى طول الشاطئ ليلاً، كان الماتيماتيكوي من النساء والرجال يتمشون على الرمال الناعمة في وقت كانت فيه السماء صافية ومبرزة ما فيها من أجرام وكأنها تحف فنية معلقة بطريقة غريبة في الفراغ الشاسع مبهرة البشر الناظرين إليها والمتأملين بها من على الأرض. وكان بيثاغور بلباسه الأبيض وردائه الأرجواني يتقدمهم بإتجاه معبد ساريس – عشتروت ، فخاطبهم قائلاً:
" تطلعوا في السماء، إن كل شيء يتحرك في الكوزموس إذ لا شيء فيه جامدٌ وعديم الحركة. فالأرض فيه كروية ولديها دورتين الأولى حول محورها، أما الثانية فحول الشمس التي هي كرة النار المرئية. والأرض كما سبق لي أن أشرت سابقاً، هي مقسمة إلى خمس مناطق وهي:
1- المنطقة الباردة الشمالية.
2- المنطقة الباردة الجنوبية.
3- منطقة الصيف.
4- منطقة الشتاء.
5- المنطقة الإستوائية.
إن كل الكواكب تتحرك دوارة على خط دائري حول الشمس بإتجاه غربي – شرقي بسرعة ثابتة متتابعة.
في الحقيقة أقول لكم بأن كل الكواكب من حول الأرض تقوم بإحداث أصوات محددة وهي تتحرك نسبة إلى مدى سرعة دورانها. وإن تلك الأصوات تزداد علواً كلما إبتعدت تلك الكواكب عن الأرض. فالمسافة بين الأرض والقمر هي نغمة واحدة، ومن القمر إلى عطارد نصف نغمة، ومن عطارد إلى الزهرة نغمة واحدة، ومن الزهرة إلى الشمس نغمة ونصف نغمة، ومن الشمس للمريخ نغمة واحدة، ومن المشتري إلى زحل نصف نغمة، ومن زحل إلى منطقة الأرباج نغمة واحدة. ومن تلك النغمات المختلفة البالغ عددها السبع تشكل إتحاد الأصوات الذي هو لحن كامل سباعي في الطبيعة. إنه التناغم " وموسيقى الدوائر " التي لا يمكننا سماعها لأننا دوماً نسمعها. وإذا أردتم الآن الإستماع إليها، يجب عليكم أولاً أن تسمعوا صوت نبضات قلوبكم، ومن ثم صوت الأرض الدوارة حيث بإمكانكم القيام بذلك إذا تأملتم وأحدثتم بداخلكم فراغاً كاملاً يسمح لكم بدوزنة نفوسكم حتى يضع كل واحد منكم نفسه على إتصال بموسيقى الأرقام العائدة للأجرام السماوية".
وأنهى كلامه بالقول:" من الأرض تذهبون للقمر، أنظروا إليه، فالقسم الظاهر لنا منه الآن يكبر ويصغر تبعاً لزواياه المواجهة للأرض، وتبعاً لنصفه الاخر المواجه للشمس. وفي أحيان معينة يحدث الكسوف القمري، وذلك لدى وقوف الأرض أو غيرها من الكواكب بينه وبين الشمس".
وكان القمر منيراً ذاك القسم من الأرض في الوقت الذي فيه المد راح يداعب شاطئ كروتونا على أنغام ترددات صوت الأمواج الآتية من وسط المحيط إلى الشاطئ.
وكان الصمت يحدث سلاماً في قلوب كل الماتيماتيكوي.
هل بإمكانهم الإستماع لنبضات قلوبهم؟
هل بإمكانهم الإستماع لصراخ أمهم الأرض؟
هل بإمكانهم سماع صوت " موسيقى الدوائر "؟
وبتنهد إختفت الملكة الليلية من برجها السماوي وتحوّل الليل لنهار سامحاً للملك بأن يشرق عالياً وللأحياء بأن ترى.
وفي وسط " المدينة البيضاء " كان بيثاغور في منزله يعزف نغماً صوفياً مسموعاً في كل مكان، وأتته إمرأة مريضة فكلمها وهو لا يزال عازفاً على القيثارة:" يا أيتها السيدة العزيزة أنت تظنين بأنك مريضة، إذ قال لك البعض من الناس أنك كذلك. لكن أنا أقول لك لا تخافي، فالحاصل معك هو خلل في نظامك المؤلف من ترددات، وما النغمات التي أعزفها الآن على قيثارتي إلّلا ترددات أيضاً، وعليه فبالتالي ما سيحصل في هذه الأثناء أن الترددات الصوفية التي أقوم بإرسالها عبر قيثارتي ستقوم بمخاطبة تردداتك لتعيد لها نظامها".
وما هي إلّلا بضع دقائق حتى خرجت المرأة من منزله سليمة ومعافاة من مرضها وباتت على تناغم مع ذاتها.
وفي البعض من الأحيان كان المعلم يقول لإخوته بأنه ما أتى فقط من اجل التعليم، بل من أجل الشفاء أيضاً.
في الأسفل وفي داخل السرداب . . . تابع المعلم تعاليمه:" إن الكون ليس كالنهر متتابعاً ومستقيماً في الجريان، بل إنه دائري ودوار في الوقت عينه كالبيضة والطبيعة في حد ذاتها. فقط من خلال الأفكار النقية يمكنكم إستخلاص ما للطبيعة من قوانين.
إن كل شيء في الوجود يكرر نفسه، وإن تكرار الأشياء في الكوزموس يحدث لأن النجوم والكواكب تدور في مدارات من حول الشمس التي هي ليست إلّلا عاكس بلوري للنار الوسطى أي الموناد وأؤكد لكم يا أيها الإخوة الأعزاء بأن الرياضيات ستظهر لكم كوناً نقياً ممكن إدراكه في عقلكم حيث الأرقام والأشكال متصلة بشكل كامل مع ما للوجود من نظام طبيعي.
إن الدائرة هي شكل كامل، لأن كل النقاط المتواجدة على مدارها هي على نفس المسافة من وسطها. وهكذا، فإن أرضنا كاملة كما كل الأجرام السماوية.
أما إذا أخذنا مثلثاً قائم الزوايا وقمنا بجمع زواياه القصيرة، وكل واحدة منها مضروبة بإثنان نجد أنها معادلة للزاوية الأطوّل المضروبة بإثنان ليصبح لدينا بذلك: a2 + b2 = c2.
أما الآن فأقول بأنه توجد أعداد لامتناهية من الأشكال المنتظمة والمتعددة الزوايا والأضلاع في هذا الكون الفسيح. وهنا أود التشديد على إثنان من أصل خمسة أشكال جامدة كنت قد حدثتكم عنها في السابق، فالمكعب مثلاً لديه ست زوايا وهو يرمز للأرض، فإذا قمنا بفتح زواياه سوف نحصل على صليب مؤلف من سبع مربعات وهو رمز المساري، أما شكله فهو على النحو التالي:
( صورة الصليب ذو السبع مربعات )
وكما كنت قد قلت سابقاً، فإن الأرض هي دائرة التوالد حيث الأرواح دوماً تنزل إليها بالولادة لتغادرها لاحقاً بالموت تبعاً لحركة دائرية ونظام حتمي. ولكي يصبح المرء مسارياً عليه الخروج من تلك الحركة وذاك النظام. وفوق المكعب أي الأرض أضع السماء أي الدوديكاهيدرون المؤلف من إثنى عشر بينتاغون ( شكل ذو خمسة زوايا ) مشركاً إياه بطريقة صوفية مع أثير الكون الذي هو العنصر الخامس بشكله الأساسي والأكثر نقاوة في الكون.
إن الأثير مرن وبإمكانه المرور من خلال كل الأشياء المرئية حيث بواسطته يستطيع العقل الكوني أن يقوم ببسط سلطانه على العالم. فالأثير هو الوسيط الكبير بين المرئي وأللامرئي، وبين الروح والمادة. وحقاً أقول لكم، أنه ليس من اللازم على من هم خارج الدائرة الداخلية معرفة الدوديكاهيدرون وما بداخله من أسرار".
إن اؤلئك البيثاغوريين كانوا يفهمون جيداً بأن الأسرار العميقة للطبيعة كما للحياة التي علمهم إياها معلمهم من الواجب عليهم إحترامها والحفاظ عليها مستورة عن العالم الدنس. وإن عدم بوحهم لتلك الأسرار والعقائد المقدسة كانوا يرمزون له بعبارة " ثور على اللسان " ( والتي تعني بأن لسانهم مثقل وليس بإمكانه إفشاء تلك الأسرار).
- وتابع بيثاغور التعليم:" يوجد في الكون سلسلة من الأشياء والأمور التي هي على طرف النقيض مع بعضها البعض في قلب الوجود، وبما أن الرقم [ 10 ] هو رقم كامل كما سبق لنا أن رأينا سوية، فإن ذلك يجعلهم على تناسب مع بعضهم البعض بالتناغم الكوني الوجودي تماماً مثلما هي الحال في الوسيقى.
متمم غير متمم
محدود غير محدود
مفرد مثنى
واحد جماعي
يمين يسار
ذكر مؤنث
جامد متحرك
مستقيم معوج
نور ظلام
خير شر
مربع مستطيل
إن كل تلك الأمور التي هي على طرف النقيض والتي إن إجتمعت مع بعضها تنتج بذلك عنصراً مادياً ثالثاً يدمج فيما بينها، ذلك أن كل شيء في الطبيعة هو قائم على الإزدواجية. إذ ليس بإمكان أحدها أن يكون كاملاً بمنأى عن الثاني المناقض له حيث أنهما بإتحادهما مع بعضهما يشكلان إتزاناً كاملاً في حالة الثبات بإتحاد طبيعي في الطبيعة مع التأكيد على أن هذا الإتحاد ليس إتحاداً فوق طبيعي بالمعنى الروحاني مع الموناد الكبير الواحد".
وبهذا أنهى بيثاغور تعاليمه السرية بدقة من الهيروس لوغوس – خطابه المقدس.
أما من الناحية الأخرى، كان الأكوزماتيكوي أي السامعين يتلقون تعاليمهم من المعلم بواسطة الأمثال ذات الرموز المجازية. وكان عددهم آنذاك ما يقارب الألف مستمع، أما الماتيماتيكوي فكان عددهم حينها مائتان تلميذاً. وإن اؤلئك الذين قادتهم حكمة بيثاغور شكلوا المجتمع الكامل الذي هو " الهوماكويون Homakoeion " أي المكان المشترك حيث يجتمعون في للإستماع لتعاليم معلمهم وآرائه.
إن الليل والنهار يشكلان معاً حالة من الإتزان الكامل في إنارة الفضاء والأرض، غير ان ذلك الإتزان ليس بأبدياً.
أما تعاليم المعلم فكانت مقسمة إلى قسمين، الأول منها كان يعطيه في الليل، أما الثاني ففي النهار.
وفي إحدى الليالي الممتعة في الربيع في ساحة المعبد سأل أوبسيموس من ريجيوم وهو واحد من تلاميذ الماتيماتيكوي المعلم:" لأية غاية سأكلف نفسي عناء البحث عن أسرار النجوم والكواكب والكون، ما دام الموت دائم المثول أمام عيناي"؟
- فأجابه المعلم:" بالحقيقة أقول لك، أن الكوزموس أي العالم المادي مع كل ما فيه من نجوم وكواكب هو ليس حقيقياً، بل هو طيف وهمي في الوجود، وهو شكل متحرك أبدي التغيير للنفس الكونية مايا التي قامت بتوزيع المادة في الفضاء أللامتناهي، ومن ثم حوّلته إلى أثير كوني".
وتركت كلماته صدى عميقاً.
- وبعد ذلك، وجّه بيثاغور إلى تلميذه سؤالاً:" هل نسيت قسمك يا أخي"؟
وللحال، إنتاب أوبسيموس الشعور بالخجل وظل صامتاً.
- ومن ثم، أضاف بيثاغور:" لا تخافوا الموت، لأنه وَهمٌ أو حالةٌ دائمة التغيّر في الوجود".
وهز كل الماتيماتيكوي برؤوسهم موافقين معلمهم القول.
- وسأله بفضول ألكميون Alcmaeon من كروتونا:" أه، يا أيها المعلم، ففي إحدى المرات بدى لي وكأنني قد تخاطبت مع أبي الذي مات منذ ردح طويل من الزمن. فماذا يعني ذلك حسب رأيك"؟
- أجابه:" إن ذلك يعني فقط بأنك فعلاً خاطبته، إنها الحقيقة".
وكان هناك صمت.
- وتابع بيثاغور تعاليمه:" يا إخوتي، إن الكون ليس إلّلا إنعكاساً غير كاملٍ لمملكة الآلهة. فالكون هو صورة ناقصة عن النماذج الإلهية التي هي الأرقام والحقيقة الكاملة المعطية إيانا الومضات من خلال الرياضيات. فالحقيقة المطلقة إذن ليست مادية بل روحية، وهي مكوّنةٌ من عالم الأفكار الموجودة في الأرقام، ولذلك باتت تلك الأفكار مقدسة، وأكثر سمواً من الأشكال المتجسدة.
إن كل كون صغير ( نظام شمسي ) في الكون، هو حاملٌ لعنصر جزئي من النفس الكونية التي تطورت في شمسها الوسطية خلال الملايين من السنين بواسطة قوة محركة، ومقياس خاص بالعقل الإلهي. إذ تتواجد هناك قوى إلهية، اي أرواح متجلاة بالنجوم والكواكب وهي آتية من نظام فائق الدقة من الله الأب الموناد الكبير. وإن تلك الأرواح الآلهة الغير مرئية والأزلية، هي التي تقوم بإدارة تكوين عالمنا الذي كوّنوه هم بواسطة العناصر الخمسة التي هي:
1- الأرض الحالة الجامدة.
2- المياه الحالة السائلة.
3- الهواء الحالة الغازية.
4- النار الحالة المعبرة عن الطاقة.
5- الأثير الحالة الشفافة وأللاذرية للمادة.
إن كل الكواكب إنبعثت من الشمس وهي تحت إدارة قوى الجذب والدوران، فكل واحد منها هو معبّر عن العقل الكوني، وحاوٍ على الطاقة الما قبل نفسية المختلفة ما بين كوكب وآخر، ولها دورها الخاص بها لتطوّر الكون.
والحق أقول لكم، إن كوكبنا الأرض قد مرّ بعدة مراحل خلال تطوّر الحياة الحيوانية عليه ليس فقط بواسطة قانون الطبيعة، بل أيضاً بواسطة قانون التوالد الإلهي الأبدي. فالوقت إذن هو دائرة ( روح ) العالم. ولدى ظهور اي نوع جديد من الكائنات على وجه الأرض، فإن تلك الكائنات بالحقيقة تمثّل عرقاً معيناً من الأرواح ذو عقول فائقة كانت قد تجسدت سابقاً بأوقات معينة في ذرية من الكائنات القديمة وذلك من أجل رفعها خطوة واحدة لجعلها على صيرورتها. ويندرج كل ذلك في السياق التطوري ذو الذكاء المتدرّج من الحيوان للإنسان، ومن الإنسان بإتجاه الله".
وبهذا ختم بيثاغور خطابه المقدس.
* * *
. . . وكسرت الشمس ضباب الصباح عابرة بنورها إلى المدينة حيث كان هناك موكب من المؤمنين باللباس الأبيض سائراً عبر الممر الضيق حول التلة قاصداً المعبد، إنفاذاً لقانون المجتمع. وكسلسلة من اللؤلؤ كان واحدهم مرتبطاً بالآخر مبرهنين عن ما لهم من مشاعر تجاه الوجود، ودخلوا المعبد من الناحية اليمنى له هذا لأن تلك الناحية فيه كانت تعتبر سامية وخيّرة وإلهية.
أما في المعبد الآخر، معبد ساريس – عشتروت، كانت النساء البيثاغوريات صديقات تيانو يقمنّ بطقوسهن المقدسة بتقديمهنّ الحلوى والزهور. وبعد ذلك، خرجن من الناحية الشمالية الرامزة إلى الإنحطاط والشر والمادية. وبعدها تجمعنّ في ساحة المعبد ورحنّ يتكلمنّ عن الحياة وما تأتي به من خيرات وشرور. وكانت تيانو هذه الفتاة الإيطالية الجميلة بشعرها الأسود الطويل اللامع تحت أشعة الشمس قد أصبحت عضوة في جماعة الماتيماتيكوي، وتلميذة في الدائرة الداخلية، وهي ذات الشكل المتناسق والروح النقية والوجه الأسمر، وعيناها اللامعتان الناظرتان إلى مكان بعيد، إنه البحر، منجذبة إلى داخل جوهر الحياة وهي تتأمل في داخل نفسها، محلقة بعقلها إلى المستويات الأكثر سمواً وعمقاً في الوعي، داخلةً إلى مملكة الأرقام – الآلهة، ومستمعة إلى موسيقى الدوائر، متذوقة ثمرة شجرة الحياة، وملامسة النور الإلهي. ورأت عيناها بيثاغور مُشتَمّةً رائحة الحب الفواحة.
- وسألتها بإحترام إحدى صديقاتها:" هيا، يا تيانو. أين أنتِ".
فلم تجبها لإستغراقها في التأمل العميق، ولإدراكها بأن الزواج هو حقيقة لا مفر منها حيث من الواجب عليها إتخاذ القرار الحاسم بشأنه في أقرب وقت.
- ثم قالت لها صديقة أخرى ممازحة إياها:" تبدين يا تيانو وكأنك غارقة بحب عميق".
تيانو، لم يكن بإستطاعتها إخفاء حقيقة مشاعرها عن صديقاتها، فهزت برأسها مبتسمة لهن، وبادرنها الإبتسام.
- عندها، تحدثت برقة محدثة بكلامها صدى ٍ في قلب الوجود:" إن الحب هو كالنفس المثقلة والمرهقة من عناء الإنتظار".
وفي غضون ذلك داخل الكهف، كان بيثاغور متأملاً تحت نور الشمس الخافت المنساب إلى كهفه من خلال فتحة صغيرة، وكوّنه إبنٌ وإله فقد سمع تناغم الدوائر وأكل من شجرة المعرفة، فلامس الخلود. ورأت عيناه تيانو، فأدرك ما للحب من رغبات مشعة في عيناها.
ولا حظ بيثاغور بأن النظام الإلهي للأرقام ربما يكون هو الذي خطط لإتحادهما سوية بالزواج بما أنهما صورتان ناقصتان منبثقتان عن الواحد! وأمام ذلك، كان عليه إتخاذ القرار. . .
وراح بيثاغور الذي تمّ رفعه كمساري خارج دائرة الوجود الحتمي يضعف. فيا للأسف. . .
* * *
إن العالم كما تحدده العلوم الباطنية تحكمه الحركات المتضادة، ولكنها متوازية ومتصلة ببعضها البعض.
إن آلية الإزدواجية وهي التطوّر المادي والروحي تعمل على كل المستويات في الحياة.
وإن تجسد الله الموناد الكبير في المادة بواسطة الطاقة النارية التي تغذيها تعتَبَر بأنها " التطوّر المادي " للكون والحياة المتوالدة فيه. ومن ناحية أخرى، " فالتطوّر الروحي " هو عملية متكاملة لتطوّر الوعي عند الموناد الشخصي ومحاولاته المتتابعة في التحرر من " دائرة الولادة والموت " التي هي " دائرة الوجود الحتمي " حيث بذلك تتحقق العودة إلى الموناد الكبير – النار الوسطية التي بعثته.
وبعد أن علّم بيثاغور بسرية لاهوت الكوزموس تابع تعاليمه للماتيماتيكوي بتقديمه لهم العلم النفسي المقدس.
- من أنا؟
- ما أنا؟
- ماذا أفعل هنا؟
- أين سأذهب؟
هذه هي الأسئلة الكامنة بما للإنسان من فضول داخلي عميق.
إنه اللغز الأكبر في الحياة في معضلة أبدية بالنسبة للنفس التي ترى ذاتها غارقة في إزدواجية الظلام ( شر )، والنور ( خير ).
وفي أسفل سرداب بروزرباين في معبد ساريس - عشتروت دعى بيثاغور تلاميذه المقربين إليه للدخول عبر البوابة الضيقة المؤدية إلى العالم أللامرئي بعد أن قاموا بتنقية أجسادهم بإمتناعهم عن تناول اللحوم والأسماك، والبعد عن الرغبات الجنسية وإمتلاك الثروات، مدربين أجسادهم لتكون صورة متناسقة للطبيعة، هذا فضلاً عن تنقيتهم لعقولهم من خلال معرفتهم العقلية للحكمة والموسيقى والرياضيات الباطنية أي الأرقام المقدسة.
- ودعاهم المعلم بما له من سلطان للدخول في علاقة مباشرة مع النفس بقوله لهم:" إعرف نفسك، وسوف تعرف أسرار الكون والآلهة".
وبكلامه هذا، أدركوا وآمنوا بأن الحقيقة، السر المطلق للوجود هو كامن في داخلهم.
- وقال لهم مؤكداً:" أيها الإخوة الأعزاء ليكن معلوماً لديكم أنه في عمق وأعلى شيء في داخلكم ينبض قدس الأقداس".
فآمنوا بأن كل ما هو خارجي هو صورة ناقصة عن النور الإلهي المشع في داخلهم.
- وعاد بيثاغور من جديد ليعلّم:" إن كل نفس إنسانية هي جزءٌ من النفس العظمى التي للعالم، وأقصد الموناد الكبير . حيث كل نفس مرّت بكل ممالك الطبيعة مبتدئة كقوة عمياء بالجماد ( التراب )، مروراً بالنبات حيث كانت تقوم بحركة معتمدة فيها على ذاتها، وصولاً للحيوان حيث ترددت في الأحاسيس عن طريق التصرفات الغرائزية، فإنتهاءً بالإنسان لتتجه صوب الموناد الواعي. وإن كل المستويات التي تأخذها أشكال الحياة تمكّن الروح والنفس من التطوّر المتدرّج بنسبية من خلال سلسلة من التقمصات، وكلما إرتقت الكائنات الحية صعوداً في المستويات، كلما طوّر الموناد قدراته النائمة إنطلاقاً من العماء فإنتهاءً بالذكاء.
فالنفس في كيلا مستويات الجماد والنبات تكون على ترابط مع عنصرا المياه والأرض، أما في حياتها الحيوانية فهي تنتقل بعد الموت إلى الهواء حيث تكون منجذبة بقوة لما للحياة الأرضية من قوة جاذبة، فتعود لتأخذ جسداً جديداً لتصبح بشرية إذ تصبح مرتبطة بعنصر النار الذي إليه تعود بعد الموت".
- وسأله:" بفضول دينوكراتس من تورنتوم:" كيف تطوّرت النفس الحيوانية إلى نفس بشرية"؟
- أجابه:" إن هذا التحول ما كان ليحصل لو لم تكن هناك في دوائر أخرى من الوجود أنفسٌ بشرية ذات تكوين جيّد كانت قد طوّرت في النفس الحيوانية أساها الروحي بفرضها ألوهيتها في جوهرها".
- وسأله تلميذٌ آخر وهو هيبوستينس من كروتونا:" كيف ذلك يا معلم؟ هل نحن أتينا من الفضاء الخارجي؟ فأنا لا أفهم".
- أجابه:" إن نفسنا البشرية على وجه التأكيد ليست آتية من الأرض، وعليه فبالتالي، إن النفس التي كوّنت بشريتنا كانت قد وُجِدَت منذ زمن بعيد في دوائر أخرى حيث كانت المادة ذات كثافة ضعيفة، لذلك كانت أجسادهم نصف مادية ونصف روحية، أما قدراتهم الروحية فكانت كبيرة، وذكائهم شبه بدائيّ. ودخلوا في تقمصات عدة حدثت ببطء من دائرة لأخرى في هذا الكون العظيم، وراحت تتغيّر كلما إزدادت كثافة الدائرة حتى بات للبشرية أجسامها الكاملة الأمر الذي أدى بها إلى فقدانها لأحاسيها الروحية، إنه سقوط اإنسان القديم من جنة عدن إلى الأرض التي هي المستوى الأخير في النزول المادي .
وإن هذا الإنسان الذي سقط، قد تمّ تشكيله جسدياً من خلال إرتباطه بالأنسجة المادية للشكل الحيواني والعناصر المتصلة به. أما من ناحية أخرى، فإن نفس ذاك الإنسان القديم قامت بتلقيح الأساس الروحي للنفس الحيوانية بما لديها من ألوهة، وعليه، بتنا أبناء الأرض والسماوات في آن واحد نحن الذين كنا أساساً من العرق السماوي، وليكن ذلك عندكم معروفاً. وهكذا، وفي دائرة التوالد بات الإنسان في صراع دائم مع العالم المادي مطوّراً عقله أي ذكاءه من خلال سلسلة من التقمصات من أجل إستعادته لروحيته وألوهيته ليصبح عند ذاك إبن الله.
وكانت الحياة في " المدينة البيضاء " محكومة بسلوك يوميّ قائم على المساواة والعدالة والحرية، وراح عدد أعضاء المجتمع البيثاغوري يزداد عددهم دوماً يوماً بعد يوم لإيمانهم بالصداقة والمحبة والسلام.
وهبط الليل والنجوم مالئة السماء مرصفة الطريق أمام القمر ليظهر في قبتها مشعاً بنوره الخجول على طرقات ومعابد وبيوت تلك المدينة.
وفي ساحة معبد الحوريات، حيث قام بيثاغور سابقاً بإستدعاء " النسر البيض " لينزل إليه أرضاً من الأجواء، كان المعلم على أهبة الإستعداد وفي أتمّ جهوزية لمتابعته قصة " النفس الإلهية " وصعودها إلى الأعلى بإتجاه السماوات"
" إن النفس هي وحدة أي رقم، ومحركة ذاتها ومنقسمة إلى ثلاث عناصر:
1- ألنوس أي العقل، ( الذكاء ).
2- ألفرين – المشاعر، ( الغريزة ).
3- ألتوموس – العمل، ( الإدراك ).
أما المبدأ الحيوي فهو قائم بذاته في القلب، وهو مع العمل والإدراك على شراكة مع الحيوانات ذات العناصر المشابهة لعناصرنا في تشكيلها، مشاركة إيانا الحياة. وحده العقل هو النفس الأساسية للإنسان، وهو أبدي مع الله. فالنفس هي الأساس الأثيري للجسد الفاني المالك بذاته الروح الأبدية التي هي الجسم الروحاني للروح التي كوّنتها بما لديها من قوة فعالة. وهكذا، فالنفس بعملها على المستوى الحسي تعمل كآداة محركة للجسد، ذلك أنه وبدون النفس يبقى الجسد بلا حراك. لذلك، فقد أسميتها المركبة الخفية الذاتية لقيامها برفع الروح من الأرض بعد الموت إلى المملكة السماوية المتجسدة فيها السعادة الإلهية.
أما العمل والإدراك، أي الجزء الثالث من النفس فيعود إلى الأرض، ويلغى المبدأ الحيوي الذي هو الجزء الثاني منها.
والنفس لدى تركها الجسد، تصبح في حالة من الإرتباك والضياع عن ذاتها، غير عالمة ما إذا كانت ميتة أم حية، وتكون أيضاً في نشوة روحية تستمر فيها وهي تقوم بالدوران الروحي في حركة تناغمية مع الموسيقى الكونية الأثيرية لتصبح بذلك " موسيقى الدوائر " مسموعة عندها بوضوح تام، إذ لا يوجد هناك من حواجز، والأرض باتت خلفها. هناك، في تلك الحالة الجديدة من الوجود، تبدأ بإدراك الحالة التي آلت إليها هي بأنها حالة إلهية. وهكذا، تشرع بالتأمل في الآلهة والأرقام المقدسة لتلتقي معهم أخيراً وهي مغمورة بالحب والسلام والتنوّر".
- وسأله آخرٌ من تلامذة الماتيماتيكوي وهو ليوقريطوس من قرطاجة بإهتمام شديد:" إذن، كيف تتم محاكمة النفس يا أيها المعلم"؟
- رد عليه:" أقول لكم يا إخوتي الأعزاء، أنه وعندما تقف النفس ماثلة أمام الآلهة في الأثير تتمّ إزانتها على ميزان الحياة. فإذا وجدت أعمالها بارة بفعلها ما هو حسن في الحياة من محبة وسلام، فإنه عند ذاك لا يكون من الضروري لها العودة إلى الأرض لتتجسد في جسم جديد، فتنضم إلى الآلهة. أما في حال كانت أعمالها ليست ببارة، فإنها تنزل إلى الأرض التي هي دائرة التوالد لتأخذ جسماً جديداً كعقاب لها، وطريق أمامها لتتطهّر من خلال عملية الولادة فالموت. ولكن لا يمكنها التحرر من هذه المعادلة إلا عندما يحين لها الوقت ساعة بلوغها التطهير الكامل من كل الأعمال الشريرة والسيئة، وعندما تتمكن من السيطرة على ما للمادة من أوهام، عائشة الفضائل الخيّرة والحسنة. ولدى إتمامها لكل ذلك، تكون قد قامت بتطوير كل ما لها من قدرات روحية، مدركة بذلك البداية والنهاية. وكونها بذلك قد أصبحت نقية ومقدسة، فهي ترتفع لتدخل في الحالة الإلهية للنفس الكونية – مايا منصهرة مع نور تلك النفس، لتصبح بذلك موحدة مع الموناد العظيم أي العقل الإلهي".
وكان كل أعضاء الدائرة الداخلية مأخوذين بنشوة روحية، مسحورين بكلمات معلمهم بيثاغور.
- وعندها، سأله ليون من ميتابونتيوم:" يا أيها المعلم، عندما تصبح النفس متحدة بالواحد، فهل تفقد شخصيتها"؟
- ونظر إليه معلمه بإحترام كبير، ومن ثم نظر للآخرين، وكانت عيناه تلمعان بارقة وجسده مشع نوراً، وقال:
" بالحقيقة أقول لكم، إن التطوّر الأرقى للإنسان هو ليس بالإنصهار في لاوعي العقل الكوني، بل في المشاركة في الوعي المطلق بفعل خَلقي. فالنفس تصبح روحاً نقية وقوة فاعلة غير فاقدة لشخصيتها، بل على العكس من ذلك، فهي تتممها عندما تنضم بذاتها إلى الله. وإن تلك الحالة من الرقي التي يبلغها الإنسان هي حالة الإنسان الكوني على المستوى النصف إلهي المتغذي من النور الذكي للموناد الكبير. وبهذا، فالمعرفة تصبح إرادة، والمحبة خلقاً، والكينونة تشع بالحقيقة والجمال لصيرورتها إلهاً".
وأنهى المعلم المسارة للدرجة الثالثة بخطابه المقدس.
وعم صمت عظيم ذاك المكان.
لقد أعلنت الحقيقة، وكان الشعور بالإعجاب كما التعجب غامراً التلاميذ جميعاً لإدراكهم بأن نهاية الإنسان هي في أن يصبح كالله إلهاً كما هو حال وقدر كل ذرة أخرى من ذرات هذا الكون.
وكانت النجوم تتلألأ بقوة مقلدة القمر.
وكان بيثاغور على الأرض اليونانية السباق في إستخدامه لعبارة" أقول لكم الحقيقة ".
وهكذا تشكل الرابط القوي بين السماء والأرض، والآلهة والإنسان منصهرين جميعاً في مجتمع من الصداقة والعدالة والحكمة.
لقد كان ذلك نظاماً مُجَسِداً " للمدينة الكونية ".
إن المجتمع البيثاغوري كان إتماماً للإختبار البشري الأول الرابط بين ما هو باطني وما هو ظاهري، وبين ما هو عام في القدسية وما هو خاص فيها.
أما البيثاغوريون فكانوا سائرين على الطريق الوسطى، ليقفوا كمعلمهم وسط الدائرة وهم مغمورين بخصوصيتهم متجهين صوب المدار الذي هو الكونية الشاملة لكل شيء. فعاشوا حياتهم كمفكرين متأملين وفلاسفة وعلماء وعلمانيين في رابط حقيقي من الصداقة الحقيقية بتحقيقهم وحدتهم الذاتية مع الحكمة في تعاملاتهم المشتركة فيما بينهم.
* * *
لقد حدد موعد النهار السعيد، وكانت أشعة الشمس مكللة " المدينة البيضاء " حيث كان كل أعضاء المجتمع البيثاغوري منتظرين بفارغ الصبر بداية الإحتفال. وظهر موكب من النسوة بلباسهنّ الأبيض وهنّ مغادرات معبد ساريس – عشتروت على الشاطئ ماشياً صعوداً بصمت عبر معبر ضيق ملتف حول التلة.
أما في ساحة معبد إيل – أبوبلو كان بيثاغور مع أصدقائه وإخوته منتظرين بحماس كبير. ولدى ظهور النسوة الآتيات من إحدى أطراف المدينة شرع كل الواقفين على الطرقات يحيّون وصول العروس بفرح كبير مقدمين لها الزهور لدى مرورها أمامهم. وعند دنوها من معبد إيل – أبولو تحلق البعض من البيثاغوريين مشكلين دائرة وراحوا يرقصون رقصة الدوريان المقدسة مرحبين بها للدخول بواحدة من الدوائر داخل الدائرة الكبرى للضرورة الحتمية وهي دائرة الزواج.
وكانت تيانو جميلة كالملاك، وعلى صدرها النجمة الخماسية ظاهرة وهي سائرة على وقع إيقاع نغمات القيثارة.
بيثاغور الآن في عمر يناهز أواخر الخمسينيات ولحيته بيضاء كالثلج، وهو مرتدٍ معطفه الأرجواني. فدنى منها آخذاً إياها بيديها الناعمتين ليدخلا سوية إلى معبد النور.
وتوقفت الموسيقى، وتوقف الرقص.
وقام ثمانية من البيثاغوريين من الدائرة الداخلية بتلاوة البعض من التراتيل المقدسة لإيل – أبولو وهم مرافقون للعروسان من الباب ولغاية المذبح. أما في الخارج، فكان الجميع منتظراً بشغف وصمت.
هناك في الداخل، وقف بيثاغور وعروسه أمام المذبح وأيديهما متشابكتان، وقام بيثاغور بتلاوة الكلمات المقدسة – الإسم المخفي، مستدعياً روح الواحد لتحل عليهما. ومن ثم إلتفتا إلى بعضهما ويداهما ما زالتا متشابكتان. فتخيلا بان الحقيقة الأبدية تتجسد الآن بإتحادهما.
بيثاغور، وكنتيجة لزواجه من تيانو ( 1 ) حقق ذروة إدراكه للحياة المادية المتجسدة. فبزواجهما تمّ إتحادهما ككائنان بعد أن إعتقدا بأن حبهما برر لهما هذا الزواج. . .
وبعد ذلك أدرك بيثاغور أنه وفي صميم نفسه قد إستسلم للمرأة. . .
لقد سقط!
وفي تلك الليلة خارجاً، كان المجتمع البيثاغوري يحتفل بالمناسبة حتى ساعات الفجر الأولى. . .
-----------
يتبع