(10-04-2010, 10:04 PM)أرمـانـد كتب: مستغرب من هذا التمجيد لشخصية سياسية وعبادة الفرد مهما كانت تلك الشخصية عظيمة أو حققت إنجازات في تاريخ العرب.
أرى أمامي من ينكرون محمد ويسوع فقط لأنهم يمجدون مخلصا آخر هو ناصر.
والحرب الفكرية التي كان يفترض أنها بين التطرف الديني والفكر الحر المستقل اتضح لي فجأة أنها غير موجودة هنا.
ولكن ما يوجد هنا هو حرب بين مجموعات مختلفة من المؤمنين المتطرفين بمجموعة من المخلصين الميتين والجميع في انتظار عودة مخلصه الشخصي لينتشل البشرية من تدنيها الحالي. وكل واحد يضع الترانيم والقصائد والأغاني لمخلصه ويكيل الشتائم واللعنات لأي شخص يحاول أن يمس مخلصه بانتقاص أو انتقاد.
أن تمدح شخصاً أو تكرمه وأنت تتذكر "محاسنه" فإن هذا لا يلغي عيوبه ولا مساوئه ولا عثراته.
قلنا أن لعبدالناصر أخطاء ليس أقلها "الإستبداد" السياسي، ولا فساد الحاشية، ولا المغامرات المتعثرة هنا وهناك. ولكن أن نضع أمامنا "استبداد عبدالناصر" و"فساد شلة عبدالحكيم" وبعض المغامرات غير المحسوبة هنا وهناك ونترك هذا يغطي على تجربة عبدالناصر كلها فهذا أيضاً يشي "بعدم الذوق" وليس من الإنصاف في شيء.
قلت في مداخلة سابقة أن لا أحد منا (على الأقل العبد لله) يريد "استنساخ التجربة الناصرية" ولن أقبل اليوم إلا بدولة "علمانية ديمقراطية"، ولكن الموضوع هو "لتكريم عبدالناصر" في الذكرى الـ"40" لوفاته بصفته زعيماً عربياً أحدث "دوياً وصدى" لم يحدثه أي زعيم عربي خلال مئات السنين. وفي موكب "التكريم" و"الذكرى" فإننا نستعيد "المحاسن والحسنات" ونصدف عن ذكر السيئات، ونعتني "بالمدائح" ونترك "الأهاجي". "فعبدالناصر" منذ أيام "السادات" أصبح هدفاً لحملات التجريح والنيل من الكثير من الفئات. والناظر إلى هؤلاء الفئات فإنه سوف يجدهم طيفاً من ثلاثة أطياف:
1) الإخونجية وتوابعهم "وضواحيهم" ومن والاهم من "الفاشيين الدينيين".
2) أصحاب المشاريع المعادية "للقومية العربية" الذين يظهرون أكثر ما يظهرون عبر طائفتين:
أ) القوميون السوريون وأصحاب مشروع "سوريا للسوريين والسوريون أمة واحدة" (أو أصحاب "فينيقيا للفينييقيين والفينيقيون هم موارنة لبنان

).
ب) المصريون "الفراعنة" الذين يرون خلاص "مصر" عبر قطع صلة الرحم بينها وبين محيطها العربي (ويرون بالتالي في "النهج القومي لجمال عبدالناصر" همزة الوصل بين "مصر والعالم العربي" وإفشالاً لحلمهم الفئوي القطري الضيق).
3) بعض "الساداتيين" و"المباركيين" (إن صح التعبير) من المتسلقين وأيتام "أمريكا وبريطانيا" في المنطقة.
الموضوع إذاً كما وضحنا ليس لتقييم تجربة عبدالناصر، ولذلك تم وضعه في ساحة "قضايا اجتماعية". وهو "للأغاني والأشعار والأناشيد" واسترجاع شيئاً من عصر أدركت شخصياً أواخره وما زال بي حنين إليه. عصر كانت فيه القاهرة قلباً للعرب جميعاً من المحيط إلى الخليج (أتحدث هنا عن الشعوب وليس عن الأنظمة)، وكانت إذاعاتها تفتتح برامجها بعبارة "أخي العربي في كل مكان"، وكان مذيعوها يحيونا جميعاً بتحية "العروبة"، فكنا نحس أننا في "وطن كبير" يمشي إلى الأمام ويهتف مع إذاعة صوت العرب في كل فجر "أمجاد يا عرب أمجاد".
لا أعتقد حقاً بأن "بهجت" أو "العلماني" بحاجة لتذكيره "بسيئات ذاك العصر وعثراته"، فنحن نعرف هذا جيداً، ونعلم أن "عبدالناصر" ليس "إلهاً" ولا "نبياً" ولا "ولياً" ولا "أمير مؤمنين" بل بشر مثلنا يصيب ويخطيء، وينجح ويفشل، ويتذكر وينسى، وله مواطن قوة وله مواطن ضعف، وفي عصره تم إنصاف الكثيرين وتم ظلم كثيرين. ولكنا أيضاً نعلم بأن عصر "عبدالناصر" شرّع لنا أبواب الأمل والتفاؤل، ووسع من حلمنا، ونسج نسيجاً قومياً جمّد فيه الكثير من المشاريع التفتيتية الصغيرة التي تنهش أوطاننا ومجتمعاتنا وعلى رأسها الحركات الفاشية الدينية التي شدتنا إلى الخلف منذ أربعين سنة حتى طغت الطائفة على الوطن في الداخل، وأصبح اسمنا مرادفاً للتخلف والقروسطية والإرهاب في الخارج.
فشل "المشروع الناصري" لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بسوء الإدارة والتدبير (أسباب داخلية) ، ومنها ما يتعلق بإرادات عربية تتناحر على نهج "شيوخ قبائل الجاهلية"، وأخرى خارجية لا تريد للعرب أن يتوحدوا أو حتى أن يتفقوا، لأن الصوت الذي أطلقه "عبدالناصر" على القنال سنة 1956 كان صوتاً يخيف الكثير من الدول الأجنبية وعلى رأسها الغرب عامة وأمريكا خاصة.
فشل "المشروع الناصري" ولكن بذور "المشروع القومي" التي "سقاها" واعتنى بها "عبدالناصر" لن تموت، فهي عندي وعند الكثيرين مثلي الأمل الوحيد الباقي الذي يستطيع أن يجعلنا "نعيش ونحيا ونتكاثر". إنها المشروع الوحيد القابل للعيش اليوم وغداً والذي بإمكانه أن يعزز التلاحم الوطني على الصعيد القطري، وأن يعزز النسيج الوحدوي على الصعيد العربي.
الاحتفال بعبدالناصر اليوم ليس من أجل شخص اسمه "جمال عبدالناصر"، ولكن من أجل بعض القيم السامية - عندي - التي مثلها "جمال عبدالناصر" أصدق تمثيل: ولعل أهمها "الوطنية ونظافة اليد والتقدمية والعنفوان والإصرار على الندية في التعامل الخارجي والحلم الكبير والأمل العظيم" ... وكما يقول المتنبي:
وتكبر في عين الصغير صغارها
وتصغر في عين العظيم العظائم
واسلموا لي
العلماني