bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
واستعانوا بكل الوسائل, لكي يضمنوا لأنفسهم زرعًا وفيرًا مثل غيرهم!
لكن مطر آذار بغزارته وجنونه لا يمكن أن يقنع المسنّين ولا يرضيهم. إن لهؤلاء مزاجًا يختلف عن غيرهم, وهذا المزاج ربما كوّنته الطبيعة والأيام الطويلة والمخاوف, وربما يتولّد لأسباب غامضة مجهولة! وقد تكون له علاقة بالأرض ذاتها, إذ يشعر أي واحد من هؤلاء بأن كل يوم جديد يقرّبه أكثر فأكثر من الأرض. وما دام الأمر هكذا, فإنَّ أمنية خفية تدفعه لأن يتمنى أرضًا من نوع ما يمكن أن تستقبل لحمه وعظامه, ويحس بنفس الخفاء أن هذا الجفاف الذي تسرّب عميقًا إلى الأرض, ثم تلك الرخاوة اللزجة التي جاء بها مطر آذار, لا يناسبان, ويتمنى لو أنه لا يغادر الحياة في مثل السنة القاسية. وحتى لو بلغ اليأس مبلغًا كبيرًا في قلوب المسنّين وأصابهم الغمّ والسأم من هذه الدورة العاتية للطبيعة, فقد كان كل واحد منهم يريد أن يموت موتًا كريمًا لائقًا, أن يموت في الوقت الذي أنهي كل ما يجب أن يفعله في هذه الحياة, وأن يغادر الدنيا بهدوء وسلام, دون جلبة, ولكن باحترام يناسب عمره. أما أن يموت مثلما يموت الصغار, أو مثلما تموت الدواب, بطريقة مفاجئة, ودون إنذار من أي نوع, فإن موتًا مثل هذا يدفعه إلى شعور عميق باليأس!
ومثلما توقّع المسنّون حصلت الأمور بعد ذلك: فالزرع الذي اهتزَّ في أعماق التربة من الأمطار الغزيرة التي سقطت في نهاية آذار, ما لبث أن شقَّ الأرض وبدأ ينمو. كانت الزروع بنموّها الزاهي, رغم المسافات المتباعدة فيما بينها, نتيجة لهجوم العصافير وتقليب المحاريث, كانت بنموها قوية واثقة, وما كادت شمس نيسان تحتضنها بالدفء حتى انتعشت وتحرّكت أكثر من قبل. وإذا كان الفلاحون, بتفاؤل موهوم, يردّدون بإصرار أن ما يحتاجون إليه مطرة أو مطرتين في نيسان, الأولى في النصف الأول, والثانية في نهايته, ثم مطرة أخيرة في منتصف أيار, رغم هذا التفاؤل الذي يحاولون من خلاله أن يقنعوا أنفسهم قبل أن يقنعوا غيرهم, فقد كانت مثل هذه الأمنيات مستحيلة, لأن السنة من بدايتها كانت تنذر بالقحط. قال هذا المسنّون في داخلهم, وقال هذا عساف بصوت عال وأمام جميع الناس. ولو أن أحدًا سأل عسافًا عن السبب الذي يدعوه لأن يقول مثل هذا القول, لم يكن يملك جوابًا واضحًا أو مقنعًا. كان يكتفي بأن يقول:
- انتظروا, هذا ما أقوله, وسوف ترون كل شيء بعيونكم!
والناس حين يسمعون هذا الكلام من عساف تتملكهم العصبية ويصبحون سريعي الغضب, وأقرب إلى التحدِّي, لكن في قرارة أنفسهم يحسون أن ما يقوله هذا المجنون لا يشبه الكلام الذي يقوله غيره. إن فيه شيئًا من الحقيقة, حقيقة خفية غامضة, وربما مرتبطة بأمر لا يعرفونه.
ومثلما أحسَّ المسنّون, ثم توقعوا, بدأت كلمات التحذير تتسرب من أفواههم, ثم كلمات الخوف, وفي وقت لاحق قالوا بوضوح شديد:
- ستكون هذه السنة من أصعب السنين التي مرّت على الطيبة!
وبعد لحظات من التفكير والتذكر الحزين يضيف أحد المسنّين:
- لا أتذكر أن سنة مثل هذه مرّت على الطيبة من قبل.
ومثلما توقع المسنّون, ومثلما قال عساف حصل كل شيء بعد ذلك!
في هذا الغمّ الذي يلفّ الطيبة من كل جوانبها, ويزداد يومًا بعد آخر, كان عساف لا يهدأ ولا يستريح, إذ ما يكاد يعود بعد الغروب, حاملاً معه عشرات الطيور, حتى يبدأ يدقّ بعض الأبواب. كان يختار تلك الأبواب بعناية, ويفكّر في ذلك من قبل طويلاً. كان مع كل طلقة ينوي حتى قبل سقوط الطير: (أنت لأُم صبري), (وأنت لداود الأعمى), (وأنت لسعيد الذي لا يتقن في هذه الدنيا سوى إنجاب البنات)!
هكذا كان يفعل وهو يطارد الطيور. وحين يدق الأبواب, ولكي لا يخلق ذلك الخوف الغامض المتربص في كل القلوب, والذي يعلن عن نهاية صديق أو قريب, كانت الكلمات التي يطلقها عساف في الهواء وقبل أن يفتح له الباب:
- أنا عساف, جئت لأمسي عليكم!
وقبل أن يسمع الكلمات التي تنهال عليه, يكون قد ألقى بعض الطيور ومشى!
كان يفعل ذلك كل ليلة, ولا يبقي لنفسه إلاَّ طيرًا, وفي بعض الأحيان لا يبقي شيئًا. وحالما ينتهي من هذه المهمة, وعلى ضوء فانوس صغير يبدأ بتحضير خرطوش اليوم التالي. يبدأ مهمة لا تعرف التعب أو التوقف, ولا يكاد يأكل لقمة في نهاية السهرة حتى يغط في نوم عميق. وفي هذا النوم يرى أحلامًا لا حصر لها, كانت تتراءى له آلاف الصور: كيف كانت الطيبة وكيف هي الآن?! ويسأل نفسه: لماذا تصبح الحياة أكثر صعوبة يومًا بعد آخر?! أما حين تظهر له صور الأشجار والطيور, ثم صورة الماء الجاري دون توقف, وصورة الربيع يغطي مساحات لا نهاية لها, فكان يرى كل شيء يطير. كانت السماء تمتلىء بالطيور, وكان الصيادون لا يصيدون إلاَّ في المواسم والطيور التي يجب أن تُصاد. ثم تظهر له صور الذين ماتوا, أمَّا حين يبدأ المطر بالسقوط ويخاف أن توحل الأرض وتمنعه من العودة فكان يركض, وعند ذلك يفزع ويستيقظ من نومه وقد امتلأ خوفًا أن يكون الوقت قد فاته. وحين يحس برائحة الغبار تملأ جو الغرفة يفرك عينيه لكي يتأكّد من الوقت. كانت له ساعة في داخله لا تخطئ. لم تخطئ مرة واحدة طوال هذه السنين, لا تخطئ في الصيف ولا في الشتاء. حتى الذين كانوا يأتون إلى الطيبة من المدينة, ويستعدون كثيرًا من أجل رحلة الصيد مع عساف, وينصبون الساعات المنبّهة, ويصدرون الأوامر الصارمة إلى المسنّين لكي يوقظوهم في الوقت المناسب, لئلا يتركهم عساف ويمشي, بحجة أن الشمس ستشرق ويضيع اليوم, ولكي يكونوا في (المقوس) عند الشروق, حتى هؤلاء كانوا يخطئون وعساف لا يخطئ ولا تخطئ ساعته!
وعساف الذي تعوّد خلال فترة طويلة أن يخرج إلى الصيد وحيدًا مع كلبه, كان يجد صعوبة في أن يردّ الذين يطلبون الخروج معه, خاصة من الضيوف, أو في سنة من سنوات القحط. كان يتمنى لو يبقي وحيدًا, لكن ماذا يستطيع أن يفعل وقد أمْحلت الأرض وابتعدت الغيوم ولم يعد عند الناس شيء يأكلونه? حتى أماكن الصيد التي خبأها لنفسه في فترات سابقة, وكان يردّد لنفسه بإصرار أنه لن يترك أحدًا يصِلها, ولن يدل أحدًا عليها, لا يستطيع أن يمتنع طويلاً في إخفائها, لكن كان ينبه بتأكيد حازم:
- لا تقتلوا الإناث, إنَّها رزقنا الباقي!
وحين لا يكون متأكدًا أنهم فهموا جيدًا يضيف:
- الإناث, إناث الحجل, صغيرة ولونها واضح.
أما إذا سألوه مزيدًا من التوضيح والمعلومات فكان يقول:
- ديك الحجل, مثل بعض الرجال, جبان.
وينظر في وجوههم ويضحك, ثم يتابع:
- إنه يخاف على نفسه كثيرًا, وهو بلون زاهٍ, ملوَّن أكثر من الأنثى, ويطير قبلها!
ويهزّون رؤوسهم دلالة المعرفة, لكن عسافًا يخاف هؤلاء الصيّادين, ويكره الجبناء والخبثاء منهم, ويخاف أكثر من ذلك أن يأتي يوم لا تجد الطيبة طيرًا تصيده. كان يقول بصوت ملئ بالأسى:
- هذه الطيور لنا, اليوم أو غدًا, وستبقي لنا إذا حافظنا عليها. أما إذا قتلناها كلها, إذا طاردناها كثيرًا, فسوف تنتهي أو تبحث عن مكان آخر.
ويصرخ بعصبية وقد تراءت له الأرض خالية تمامًا من طيور الحجل:
- اسمعوا, إذا انتهت هذه الطيور وجاءت سنة من سنوات المحل, وإذا ظلَّت الحكومة تكذب سنة بعد سنة ولا تبني السدّ, فتأكّدوا أن أهل الطيبة سيموتون على بكرة أبيهم. أنا متأكد من ذلك, فهل يستطيع ابن حرّة أن يقتل البشر والطيور?
هكذا كان الحديث يجري في بداية كل رحلة. ورغم ذلك يضطر عساف لقيادة قافلة الصيادين إلى أماكن الحجل, لكنه يلجأ إلى المكر أغلب الأحيان: كان يقودهم إلى الأماكن الصعبة, إلى الأماكن البعيدة والخطرة, وكان يعرف أن التعب أو الخوف إذا دخل قلب الصياد يفقده كثيرًا من قسوته ويجعله رحيمًا. هكذا كان يفعل في بداية الموسم. أما إذا قست الحياة على الطيبة أكثر من قبل وحاصرها الجوع وبدأ يفتك بها, فكان يتردّد في أن يتجاوز كثيرًا من القيود التي كان يفرضها على نفسه وعلى الآخرين, لكنه يتألم, يشتعل بالشتائم ويرتكب الكثير من الحماقات. كان يقول لنفسه لكي يبرّر هذه الخطيئة التي تعذّبه: (إذا لم يأكل الناس الحجل فسوف تأكله بنات آوى والذئاب, وحتى لو نجا بعض هذه المخلوقات الملعونة, فسوف يأتي الرعيان لكي يلتقطوا البيض. ويجب ألاّ يموت أهل الطيبة).
إن له فلسفة خاصة تكوّنت مع الأيام ومن التجارب, حتى لو أراد أن يقول بضع كلمات لكي يفسر ما يدور في عقله فلن يستطيع. أما إذا سأله أحد لماذا يفعل هذا الشيء, ولماذا لا يفعل ذاك, فكان يشعر بالحيرة والعجز. كان يقول:
- هذه هي طريقة الصيد, هكذا يفعل الصياد!
ولا يضيف شيئًا آخر!
بهذه الطريقة كان يتعامل مع الصيد, وبهذه الفلسفة الغامضة يتصرف, ويريد من الآخرين أن يتصرفوا. فإذا جاء موسم الطيور المهاجرة يشعر بغبطة داخلية عميقة. كان يقول بصوت عال واضح النبرات, ويريد من كل إنسان أن يسمعه:
- ليشمّر كل واحد منكم عن زنده, وليثبت الصياد نفسه!
كان يقول مثل هذا الكلام لكي يضلِّل الصيادين الآخرين ويصرفهم عن الحجل. وهؤلاء الصيادون الذين تعبوا كثيرًا من الحجل, وحفيت أقدامهم وهم يتسلقون الصخور العالية أو وهم يهبطون الأودية السحيقة, كانوا في قرارة أنفسهم يقبلون هذا الكلام ويوافقون عليه, وفي نطاق التبرير يقولون لأنفسهم ولبعضهم:
- ما دام شيخ الصيادين, عساف, يقول هذا فيجب أن نصدّقه وأن نتبعه!
وكي لا يترك الأمر مكرًا مجردًا, كان يسبقهم
|
|
06-15-2005, 05:57 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
إلى أماكن الطيور المهاجرة وممراتها, وكان لا يبخل عليهم بأي معلومات تساعدهم وتمكّنهم من صيد أوفر. وهم بتقدير غامض يندفعون, يذهبون حيث يريد, إلى الأماكن التي يحددها وفي الأوقات التي يحدّدها. بهذه الطريقة يضمن أن بعض طيور الحجل لا تزال حية في المعاصي. كان يقول لنفسه بثقة: (حالما تشعر بالأمن وبابتعاد أصوات الطلقات لا بدَّ أن تنزل إلى أماكنها وتعيش مرة أخرى بسلام. ومرة أخرى ستفقس وتبدأ الفروخ الجديدة تملأ الجبال والوديان)!
صحيح أن عسافًا في أعماقه يدرك أن كل حيوان وكل طير يعرف كيف يدافع عن نفسه وإلى أين يذهب, إلاَّ أنه حين يرى الصيادين الأغرار يزدادون قسوة ورعونة, ويخرقون كل قاعدة, كان يقول لنفسه بألم: (يقتلون الناس بهذه الطريقة. والحجل يعرف كيف يختفي ). ويضيف بعد فترة صمت طويلة: (حين طاردوا الغزلان وقتلوها كلها أصبحت الصحراء مثل قبر كبير, لا ترسل إلاَّ الغبار والموت, ويجب أن يكون أهل الطيبة أذكى من غيرهم فلا يقتلوا كل شيء).
كان الحجل, في مثل هذه السنين, وبغريزة غامضة, حتى بالنسبة لعساف نفسه, يعرف كيف يختفي , حتى ليبدو وكأنه انقرض نهائيًّا, ولن يأتي شروق أو غروب في يوم من الأيام القادمة ويسمع صوته مثل دجاجات تائهة في سفوح الجبال الشرقية. عند ذاك كان الصيادون, حتى الأغرار العنيدون, يتحولون. والذي يساعد كثيرًا في هذا التحول المفاجئ أن طيور الصحراء, خصوصًا القطا, تبدأ بالاقتراب يومًا بعد آخر من الطيبة, وباندفاعها الأرعن بحثًا عن الحب والماء تعرّض نفسها للهلاك, حتى الأولاد الصغار, في أوقات معينة, وبتلك الوسائل البدائية التي يملكونها, يستطيعون الاحتيال عليها واصطياد عدد منها!
لكن تبقي قوة الحياة هي الأقوى, إذ يتحول القطا, هذا الطائر الإبله, شيئًا فشيئًا إلى طائر جنّي, وبرغم الجوع والعطش فإنَّ قوة أخرى تسيطر عليه وتوجهه. فالقطا الطائش الذي يمكن أن يقتل بالعشرات والمئات في بداية الموسم, والذي لا يميز الصياد من الفلاح, لا يلبث أن يصبح طيرًا حذرًا. والصيادون الذين يبدون نوعًا من الترفع في بداية الموسم, ويصفون القطا بعشرات الأوصاف الرديئة, يصفونه بقسوة لحمه وغبائه, وبانعدام اللذة نهائيًّا في صيده, حتى هؤلاء يجدون أنفسهم يومًا بعد آخر وقد انساقوا إلى ملاحقته. وفي هذه الفترة, ولتبرير هذا السلوك, يقولون بصوت عال فيه تلك الكبرياء التي تميّز الصيادين المغرورين:
- ضُرب وتنكّح, وأصبح أكثر حذرًا من الطيور الأخرى.
ويضيف بعض هؤلاء بثقة كبيرة:
- إن صيده الآن أصعب من صيد الحجل!
هكذا تبدأ الدورة تتغير. والطيبة التي تعيش أيامًا صعبة مريرة, وتبحث عن طريقة لتواصل الحياة, تتغاضى عن أشياء كثيرة, بما فيها رعونة الشباب واندفاعهم إلى الصيد بهوس لم يتعوده أحد ولم يكن يميزهم من قبل.
- هذا الجنون الذي يملأ عقولكم لا بدَّ أن يقضي على الصيد كله.
وبكلمات قاسية, وفيها ذلك النزق الذي يميزه, يضيف:
- الأيام الصعبة لم تأتِ بعد, وعلينا أن نستعد لتلك الأيام!
فإذا سمع كلمات السخرية والتحدي, وإذا اتهموه أنه يريد التهرب, كان بانفعال يجيب:
- إذا وفّرتم الخرطوش, إذا كنتم أكثر عقلاً وصبرًا, فالقطا سيصل إليكم, ولن تحتاجوا لأن تذهبوا إليه!
لكن الشباب لا يسمعون, وتظل دوافع مشؤومة وقوية تدفعهم لأن ينتقموا, لأن يتباروا. وتحديات مثل هذه تدفع الطيبة ثمنها. فالطيور التي كانت تهجم برعونة في بداية الموسم, لا يلبث الخوف أن يتملكها, وتبدأ البحث عن أماكن أخرى, أو تغير مواعيد مجيئها وهربها. بكلمة; تغيِّر هذه الطيور طريقة حياتها, وتصبح الحياة لكل مخلوق أكثر قسوة وأكثر صعوبة. حتى عساف نفسه, الذي كان يعود بأعداد وفيرة من الطيور, يبدأ يواجه الصعوبة نفسها التي يواجهها الصيادون الأغرار, ويبدأ صيده يقل, ويصبح الصيد عملاً مضنيًا وأقرب إلى المغامرة.
لكن عسافًا لا يهدأ ولا يتوقف!
|
|
06-15-2005, 05:58 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
بدأت إذن الأيام الصعبة القاسية. ومثلما اختارت الطيبة أن تكون في هذا الموقع من العالم, على أطراف البادية, فقد اختارت الصيد والشجاعة, وعرفت كيف تتحمَّل كل ما يواجهها من مكاره وصعاب. وإذا كانت المجاعات تفرّق عادة بين الناس, وتجعل كل إنسان يبحث لنفسه عن طريقة يؤمِّن بها خبزه, فإنَّ المجاعات والأحزان تقرِّب بين الناس في الطيبة, وتجعلهم أُسرة واحدة وجسدًا واحدًا. وما عدا تلك الفئة الصغيرة التي جاءت من مكان بعيد, واختارت الطيبة سكنًا لها, وظلَّت تعمل وتتصرف بروح الغرباء وخوفهم, رغم ما قدَّم لها أهل الطيبة, فإنَّ البشر إذا واجهوا المصاعب بروح من التعاون والمشاركة, تبدو هذه المصاعب أقل قسوة, ويمكن التغلُّب عليها. وبهذه الطريقة الفذة المليئة بالبطولة الصامتة, لم يترك أحد يموت دون أن تقدم إليه أقصى المعونات, وأغلب الأحيان بشكل خفي لا يدركه أحد. فالأُسر الكبيرة العدد, والتي لا تقوي على مواجهة الحياة, كانت تفتح أبواب بيوتها, في ساعة من ساعات الليل أو النهار, ويُرمى داخلها بكمية من الحنطة أو قليل من السكر والشاي والصابون. والناس الذين فقدوا كل ما يملكون ثمنًا للبذار, ثم ثمنًا لبعض الأشياء التي اشتروها من المدينة, كان هؤلاء يجدون مساعدة لا تيسر للذين هم أكثر قدرة منهم. حتى المقعدون وذوو العاهات, قد تكفَّل بهم عدد من الشباب, وكانوا يقدّمون لهم الأكل المطبوخ, وغالبًا ما يكون حساء من الطيور أو الهريسة. أمَّا النساء الأرامل فقد كنَّ في هذه الفترة موضع رعاية كبيرة.
لكن الطيبة التي تستطيع أن تطعم أبناءها أجزاء من لحمها لا تقوي على مواجهة مثل هذه المصائب سنة بعد أخرى بصدرها المكشوف وإمكاناتها المحدودة. وبرغم أن المسنِّين حذّروا كثيرًا من الإسراف, وطلبوا من كل بيت أن يقتصد ما وسعه الاقتصاد, وأن يَعُدَّ الأيام التي لا تزال الطيبة تعيشها الآن أيامًا رخية, وبعدها ستأتي المصائب الكبيرة كثيفة متلاحقة, فإنَّ الطيبة ظلت تعيش على أمل غامض, وظلت تنتظر شيئًا ما, لكن هذا الأمل لم يتحقق كما توهَّمه الكثيرون, وأصبح الانتظار طويلاً ممضًّا!
والأبناء في المدن البعيدة لم ينتظروا صرخات الاستغاثة وإنَّما بادروا إلى تقديم كل ما يستطيعون. بعثوا بكميات من الحنطة والشعير, وبعثوا بالعدس والسكر والشاي والصابون, وبعثوا أيضًا يطلبون أن يأتي عدد من الأهل والأصدقاء, لينزلوا عندهم في المدينة. وأهل الطيبة, خصوصًا الذين تقدَّموا في العمر, لا يقوون على الاستجابة لمثل هذه الطلبات, ولا يتصورون أنفسهم يرحلون تاركين غيرهم للموت جوعًا وعطشًا. إن مجرد تصور شيء مثل هذا يولِّد في النفوس خجلاً لا يستطيعون احتماله, ولذلك لا يجيبون عن مثل هذه الرسائل, ولا يلبونها. والأبناء الذين رحلوا, وظلوا على صلة مع البلدة يعرفون جيدًا أن ما يطلبونه أقرب إلى المستحيل, ولن يستجيب إليه أحد, ولذلك بالغوا أول الأمر في إرسال كل ما يستطيعون, ثم بدأوا يتوافدون إلى البلدة, للزيارة أول الأمر, ثم للمشاركة بطريقة ما من أجل الوقوف في وجه هذا الكرب القاسي, لعلهم يستطيعون عمل شيء, أو أن يتعلموا شيئًا. كانت الزيارات تمتد أيامًا وتتكرّر في أوقات متقاربة, كما لا تقتصر على المشاركة الوجدانية أو الرغبة في تعذيب النفس, وإنما كانت ترافقها أشياء كثيرة: كميات إضافية من الحنطة والشعير, أثواب من الخام, وكانت تأتي معها الوعود والكلمات الكبيرة. وإذا كانت تلك الوعود أقسى الأشياء وأصعبها لكل إنسان في الطيبة, فقد أصبحت في هذه السنة عذابًا لا يطيق أحد أن يتحمله. (لم يبق إلاَّ القليل ويبدأ بعد ذلك بناء السد. والسد إذا قام لن تعطش الطيبة ولن تجوع. هكذا قال لنا الرجال المهمُّون في العاصمة), وقالوا أيضًا: (إنه قبل نهاية الخريف, وقبل موسم الأمطار, ستبدأ الآلات تشق التربة وتدفع أمامها الصخور, وسوف يأتي مئات العمال والمهندسين, وسترون ذلك بأعينكم!).
وأهل الطيبة الذين يقبلون الأشياء التي تأتي ويوزعونها بعدالة مفرطة, كانوا يسمعون كلمات المدينة الكبيرة, ويسمعون عن السد الترابي الذي سينشأ قريبًا من الطيبة, ليجمع المياه التي تتدفق سيولاً جارفة في بعض المواسم, ثم تنتهي إلى باطن الأرض. ولا أحد يعرف كيف تغور هذه المياه أو إلى أين تذهب, ولا تبقي من تلك السيول غير تلك الكميات الكبيرة من الحصى والمجاري العميقة التي جرفت أجزاء من الأراضي والبساتين! ولا تبقي أيضًا سوى الكلمات الكبيرة والوعود!
كان أهل الطيبة يسمعون ذلك بصمت حزين, ولا يدرون أيكذبون أبناءهم أو أولئك الرجال الرابضين هناك في الأبنية الكبيرة المغلقة? كانوا يقولون لأنفسهم: (لقد قيل لنا مثل هذا الكلام مرات كثيرة, وتنقضي السنوات, سنة وراء سنة, ولا شيء
|
|
06-15-2005, 07:15 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
يتغير). وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا نسيان السد والطريق والكهرباء في مواسم الخير, ولم يفكِّروا يومًا واحدًا أن يحصلوا على مثل هذه الخيرات, فإنَّهم في مواسم القحط يتذكرون كلّ شيء, يتذكرون هيئات الرجال الذين أتوا, والكلمات التي قالوها, ويتذكرون أن بعض الذين جاءوا زائرين مع أبناء لهم إلى الطيبة في سنوات سابقة, سنوات الخصب والمواسم الطيبة, وذهبوا إلى الصيد أيضًا في المناطق المحيطة بالبلدة, ورجعوا وقد امتلأوا بنشوة, وتصرفوا في لحظات معينة مثل الأطفال, وبدوا صادقين- إن بعض هؤلاء أصبح في المدينة البعيدة كبيرًا مهمًّا, بحيث لا يذكر اسمه إلاَّ كما تذكر أسماء الأنبياء والأولىاء. إن هؤلاء لم يعودوا يتذكَّرون الطيبة, ونسوا أصدقاءهم, وانتهى الأمر. والطيبة تعض على جراحها في مواسم القحط والجفاف. أما في مواسم الخير فلا تكف عن أن تبعث بسلال المشمش في بداية الموسم, ثم بسلال العنب والتين في نهايته, وبين الموسمين تبعث اللبن والجبن والبيض والخراف الصغيرة أيضًا, ولا تنتظر شيئًا من المدينة. تبعث الطيبة كل هذا برضا أقرب إلى الحبور. ويتصور الآباء والأمهات, وهم يبعثون بالسلال وأكياس اللبن في السيارة الصغيرة التي تذهب في الصباح الباكر, أنَّهم لا يقومون بواجب فقط, وإنما يحسّون بالمرارة والحزن إن تأخَّروا عن موعد سيارة الموظفين, أو إن لم يستطيعوا قطف التين في الوقت المناسب! والطيبة التي لم تتنكر ولم تتغير, وظلَّت وفية لكل شيء فيها ولكل إنسان عاش فيها أو مرَّ بها في يوم من الأيام, خلقت هذا الوفاء الفذ في أبنائها, والذي لا يوجد مثيل له فيما جاورها من القرى, ولا يوجد أيضًا في القرى البعيدة.
في هذه السنة القاسية الملعونة جاء عدد كبير من أبناء الطيبة, جاءوا دون طلب ودون إيعاز من أي نوع, وما كادت أرجلهم تطأ أرض الطيبة, وعيونهم تلامس بيوتها, حتى أحسُّوا بالحزن العميق, ولاموا أنفسهم كثيرًا على أنَّهم تأخروا حتى هذا الوقت, وشعروا بتأنيب الضمير حتى قارنوا حياتهم في المدينة بحياة الناس في الطيبة. لكن هذا الحزن وهذا الندم تراجعا بسرعة ليحل مكانهما الرغبة القوية في أن يفعلوا شيئًا, لعلَّ الطيبة تنجو هذه المرة, ولعلها تحيا وتستمر إلى أن يُبنى السد, أو يقع شيء ما في المدينة البعيدة, ويصبح من الممكن بعد ذلك مواجهة الطبيعة القاسية دون انتظار للوعود الكاذبة أو للمطر الإبله الذي يأتي سنة وينقطع سنوات.
نزع الذين وصلوا لتوّهم ملابس المدينة, ولبسوا مثلما كانوا يفعلون حين كانوا في البلدة قبل سنوات. وخلال اليوم الأول مروا على أكثر بيوت الطيبة, وسألوا عن الرجال والنساء, وحزنوا كثيرًا على الذين ماتوا, وفكّروا في أمور واقتراحات كثيرة, وقرَّروا بينهم وبين أنفسهم عدة أمور, إن هم عادوا إلى المدينة مرة أخرى. لم يكتفوا بذلك, بل وزعوا ما جاءوا به, وكتبوا رسائل عديدة إلى أقرباء وأصدقاء في المدينة البعيدة وفي المهجر. وفي الليل سهروا طويلاً يفكّرون ويتكلمون, لكنهم كانوا يحسون في أعماقهم بالمرارة تكوي لهاتهم مع كل كلمة يقولونها, لأنَّهم لم يكونوا متأكدين من شيء!
وإذا كانت الطيبة كثيرة الصبر والتسامح, وتغفر للغرباء مثلما تغفر لأبنائها, فإنَّها تعرف الغضب في مواسم الجفاف, وهذا الغضب الذي قد يأخذ شكلاً هينًا في بعض الأوقات يتحول في النهاية إلى جنون لا يطيقه ولا يتصوّره أحد.
قال أحد القادمين, وكان شابًّا يدرس في مكان بعيد:
- الناس هناك لا يفعلون كما تفعلون أنتم هنا, إنَّهم, هناك, يحوّلون الكلمات إلى قوة. قوة منظمة ومحاربة, ويجب أن نفعل مثلهم شيئًا عاجلاً قبل أن يلتهمنا الموت.
قال رجل مسنّ, وهو يقلب شفتيه باستنكار, ويقلب نظراته بين الأرض والسماء:
- وماذا تريدنا أن نفعل?
وقبل أن يجيب الشاب تابع الرجل:
- يجب أن تعرف, لا أحد يستطيع مقاومة الحكومة. علينا أن نكون عقلاء ونفكِّر فيما نستطيع عمله.
قال الشاب بعصبية:
- القحط إذا جاء تنامون سنةً كاملة, وإذا لم يجئ ترسلون الدعاء والرسائل ولا شيء غير ذلك, وبهذه الطريقة لن تبقي الطيبة!
قال والد ذلك الشاب:
- الطيبة, يا ولدي, باقية, لقد مرَّت سنوات صعبة كثيرة مثل هذه, تحمَّل الناس تلك السنوات وعاشوا بعد ذلك, وظلَّت الطيبة.
ردَّ الشاب بسخرية:
- الموت والحياة في مثل هذه الظروف متساويان. انظروا إلى الأرض والأشجار والدواب. وانظروا في وجوه البشر, إن كل شيء يموت, وإذا جاءت سنة مثل هذه السنة فلن يبقي شيء!
كان يمكن لهذا الحديث أن يستمر وأن يتطوّر لكن حين دخل الضيوف, الذين جاءوا عصر ذلك اليوم, إلى المضافة, تغيَّر الجو فجأة.
|
|
06-15-2005, 07:16 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
في عصر ذلك اليوم, في نهاية فصل الصيف تقريبًا, جاء أربعة من الضيوف, جاءوا مع أصدقاء لهم من أهل الطيبة, جاءوا في سيارتين, إحداهما سيارة جيب والأخرى فولكس فاكن صغيرة رمادية. وعلى الرغم من أن أبناء الطيبة, المقيمين والراحلين, يتميَّزون برهافة الحس ودماثة الخلق, ويعرفون كيف يعضُّون على جراحهم بصمت ويكتمون أحزانهم بصبر عجيب, حتى يخطئ الكثيرون في فهمهم أو تحديد مشاعرهم, فإنَّ الكثير من المتاعب والمشاكل التي يريدون بحثها والحديث فيها حين يخلون لأنفسهم, يتركونها جانبًا, ويتحدَّثون بطريقة مختلفة حين يأتي الضيوف. والمسنُّون الذين تعوَّدوا على كتم مشاعرهم وانتظار الأوقات المناسبة للحديث, يختلفون عن الرجال الأصغر سنّا, إذ يُصاب هؤلاء بنوع من الحمى ولا يقوون على كتم الأفكار والمشاعر التي تملأ صدورهم, خاصة في موسم مثل هذا الموسم.
كانت هناك رغبة لأن يتحدث بعض الرجال للمرة الأخيرة, أمام الضيوف. وإذا كان الكثيرون من أهل الطيبة قد انتظروا بصبر فارغ مجيء الأبناء من المدينة, لكي يتحدّثوا للمرة الأخيرة, في أمر السد, متى يجب أن يقوم وماذا فعلوا من أجل قيامه, وأنهم لم يعودوا قادرين على الانتظار أكثر مما فعلوا, وإذا صبروا وتحمَّلوا السنين الماضية بصمت فلن يستطيعوا بعد اليوم احتمال ذلك, وسوف يلجأون إلى وسائل جديدة لإقناع الكبار هناك في المدينة, بمدى القدرة التي يمتلكونها.
إذا كان أهل الطيبة قد انتظروا طويلاً, فقد خاب ظنُّهم تمامًا حين رأوا عصر ذلك اليوم سيارتين غريبتين تدخلان الضيعة. أمَّا حين تعانق الآباء والأمهات مع أبنائهم العائدين, فقد طغت للحظات قوة الحب على قوة العتاب, وجاشت الدموع في العيون وغلبت جميع المشاعر الأخرى. ونتيجة ذلك تراجعت الأفكار والكلمات الغاضبة لتحل مكانها مشاعر المودة وكلمات الترحيب. والضيوف الذين لم يروا الطيبة قبل هذه المرة, لم يروا فيها شيئًا مختلفًا, ولم يحسوا بذلك الدوي الداخلي الذي يولّده الجفاف. أمَّا حين قابلتهم الابتسامات الواسعة والترحيب الحار فقد أحسُّوا بدفء داخلي وحسدوا هؤلاء الناس على هذا الرضا الذي يمتلكونه!
بهذه الطريقة تأجَّلت أُمور كثيرة وحلَّت أخرى مكانها. فالأشياء التي حملها الأبناء من المدينة وُزِّعت بعناية, واختلى بعض المسنِّين لينصحوا بعضهم بعضًا أن يتصرفوا بحكمة, ولكي يطلبوا من الشباب احترام الضيوف مثلما تعوَّدوا دائمًا, دون إثارة لأي أحزان أو مشاكل. وقالوا في أنفسهم: (سيبقى الضيوف يومًا أو يومين ثم يرحلون, وبعد ذلك سوف نقلب الدنيا على رؤوس هؤلاء الأبناء العاقّين, الذين لا يعرفون شيئًا في الدنيا سوى إرسال بعض الحاجات في مواسم الجفاف, وكأن الطيبة أصبحت مأوى للمتسوّلين والجياع, ويجب أن تبقي كذلك). أما الوعود الكثيرة عن المياه التي ستتدفق طوال أيام السنة, أمَّا عن الأسماك التي ستزرع في البحيرة, عن القنوات التي ستمتد إلى مسافات بعيدة, فقد انتهى الأمر كله, ولم يبق إلاَّ صدى الكلمات يتردّد كل بضع سنين, شفقة أو حسرة على هذه البلدة التي تموت يومًا بعد يوم.
هكذا كانت الساعات الأولى, وهكذا كانت مشاعر
|
|
06-15-2005, 07:16 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
الناس, وأبناء الطيبة الذين أحسُّوا بغريزتهم أن كل شيء قد تغيَّر في البلدة, وأن الأيام التي يعيشها أهلها من القسوة إلى درجة لم يكونوا يتصورونها, ورأوا التغيُّرات العميقة التي دخلت في كل شيء يلمحونه. شعروا أنهم أذنبوا كثيرًا, وأن أي كلمات تقال الآن لا بدَّ أن تكون عاجزة ولا تعبِّر عمَّا تفيض به قلوبهم. ولأنَّ الضيوف قد أتوا, ولأنَّهم تعوَّدوا على شكل معين من التصرفات, فقد فهموا من النظرات, من الإشارات, وحتى من لمسات الأيدي, أن الطيبة تغلي ولا بدَّ أن تنفجر بشكل أو آخر, لكن هذه المشاعر تُركت جانبًا, لأنَّ الضيوف بدا لهم كل شيء غريبًا وطريفًا!
أمَّا حين انعقد مجلس السمر فقد تركَّز الحديث على الصيد, لأنَّ الضيوف جاءوا لهذه الغاية. وما دام الضيوف يريدون هذا, فإنَّ هذا ما حصل!
وأهل الطيبة الذين كانوا قادرين على التحدِّي والغضب في أوقات معينة, كانوا قادرين أيضًا على الصبر, ويلجأون إلى كل الوسائل لمواجهة الجوع والموت. وحين يُذكر الصيد وسيلة لمواجهة المجاعة, وإنقاذ ما يمكن إنقاذه, تتردّد كلمة واحدة, وكأنَّها كلمة السر: أين عساف? ودون عناء كبير يتبرع الكثيرون لمناداته, لإحضاره. وفي غمرة الحزن والجوع والتحدِّي ومواجهة الموت, ومن أجل التغلُّب على الحزن والجوع والموت, تفلت كلمة ساخرة, أقرب إلى الدعابة. يقول أحد الحاضرين, ليتغلب على المناقشة الحادة التي بدأت ولا يعرف كيف ستنتهي:
- نريد عسافًا, احضروا عسافًا حيًّا أو ميتًا!
دخل عساف عصبيّا مخطوف الوجه, وبغمغمة لا تكاد تُفهم, ألقى التحية, وجلس قريبًا من الباب. وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا على عساف, وقبلوا جنونه, رفضوا بكثير من الإصرار أن يصطحب كلبه معه إلى سهراتهم وإلى مجالسهم. وهذا الرفض الذي آذي عسافًا كثيرًا, قابله برفض أشد قسوة وأشد إصرارا, حتى انتهى الأمر إلى ذلك الاتفاق الضمني بأن يدخل عساف إلى المجلس دون أن يصافح أحدًا, وأن يبقي كلبه قريبًا من الباب. وإذا كان عساف قد قَبِلَ هذه الشروط مكرهًا, فإنَّ علاقته بمجالس البلدة وأحاديثها قليلة إلى درجة أن الناس لا يرونه إلاَّ نادرًا. أما إذا جاء ضيف إلى البلدة من أجل الصيد, فقد كان أوّل الذين يجب دعوتهم وحضورهم هو عساف. وعساف الذي لا يحب حضور المجالس, يكره أيضًا هؤلاء الضيوف, ويًعُدُّهم, في أغلب الأحيان, ثقلاء شديدي البلادة والخور, لكن مثلما علّمته الطيبة, كان مضطرًّا إلى مصاحبتهم وإلى مجاملتهم, ومن أجل ذلك كان يتحمَّل الكثير!
في هذه الأمسية, وحين أتوا بعساف, أحسَّ أن الأمر غير عادي. أمَّا حين جلس قرب الباب وأجلس كلبه إلى جانبه, فقد سمع أكثر من صوت يدعوه إلى صدر المجلس, وإزاء رفضه, نهض واحد من أبناء الطيبة القادمين مع الضيوف, ومدَّ يده يحيِّي عسافًا بحرارة أول الأمر, ثم يسحبه بقوة لكي يغيِّر مكانه. استمر الأمر بعض الوقت, بين القبول والرفض, إلى أن اقترح أحد المسنِّين انتقال عساف وبقاء الكلب حيث كان.
إن في حياة كل إنسان لحظات من الخصوبة لا يدركها, ولا يعرف متى أو كيف تأتيه أو كيف تنفجر في داخله. إنَّها تندفع فجأة, تعربد مثل الرياح أو مثل الأمطار الغزيرة المفاجئة, وتطغى على كل شيء, ومثلما تأتي فجأة تنتهي كذلك, وكأنَّها مياه غارت لتوّها في أرضٍ رملية عطشى!
هذه اللحظات لا يخطط لها أحد ولا يدبرها أحد, حتى لو أراد. وعساف الذي جاء مكرهًا, ليلتقي ببعض الوجوه التي لم يرها من قبل, وقد لا يراها مرة أخرى بعد أن تغادر الطيبة, والذي أغضبته كلمة أحد المسنِّين حين طلب منه أن يُبقي كلبه عند وصيد الباب, وجد نفسه فجأة في عالم من الوجد وأقرب ما يكون إلى التجلِّي, إذ ما كاد يُسأل عن الصيد, وعن عدد الطيور التي صادها ذلك اليوم, وكيف كان الموسم بصورة عامة, حتى أحسَّ بالاختناق, وتمنَّى لو أنه لم يأتِ, وتمنَّى أكثر من ذلك لو يستطيع مغادرة المجلس. لكنه كان يعرف أهل الطيبة, يعرف مقدار الود القاسي الذي يكنُّونه له, ويحس أن رابطة عمرها مئات السنين تربطه بكل ما حوله من أرض وبشر وأشجار ومياه, وأن هذه الرابطة تكون أشد وأقوى حين تمر سنة صعبة مثل هذه السنة التي تمر على الطيبة.
كان مصممًا, أول الأمر, ألاّ يتكلم, فإذا حاصروه بالأسئلة, ولم يجد مجالاً للهرب, فلا أقل من بضع كلمات يقولها, لكن فجأة امتلأ بشعور الألفة والتحدِّي معًا, وأحسَّ أن قلبه يخفق بضربات سريعة أكثر مما تعوّد حين يكون في مثل هذا الموقف, وقرَّر أن يفعل شيئًا لم يفعله من قبل.
يتذكّر هو نفسه, ويتذكّر كل مَن كان موجودًا, أنه لأول مرة في حياته, قرَّر أن يخوض معركة لم يخض مثلها من قبل, رغم ما يُقال دائمًا من أن حياته منذ بدأت معركة متصلة, إذ ما كادت الأسئلة تنهال عليه, وكلها عن الصيد, حتى صرخ بتحدِّ:
- تعال... تعال يا حصان!
وانتفض الكلب فجأة, ومثل حية ملساء, انسل ليجلس عند أقدام عساف.
كانت الحركة مفاجأة, لم يتوقعها أحد, وللحظات خيَّمت الدهشة وعمَّ الذهول. والمسنّون الذين يملكون, أغلب الأحيان, الحق بالأمر والنهي, أحسُّوا أن صوت عساف, وهو يدعو كلبه, غير مألوف, ولا يمكن مقاومته. تبادلوا النظرات فيما بينهم, ونظروا إلى عساف, لكن لأول مرة في حياتهم الطويلة الحافلة يكتشفون في عينيه بريقًا قاسيًا وحشيًّا, ودون وعي أو إرادة, تراجعت كلمات الاعتراض لتحل مكانها هزات الرؤوس تعبيرًا عن الأسف وشيء من العتاب.
لم ينتظر عساف, اعتدل في جلسته, أجال نظرة طويلة في وجوه الناس الذين خيَّم عليهم الصمت, وبطريقة مليئة بالمحبة والحنان معًا, امتدَّت يده إلى الكلب, مسَّد على ظهره أكثر من مرة, ودون أن ينظر إلى أحد, وكأنَّه يخاطب نفسه, بدأ:
- ماذا تظنُّون يأهل الطيبة? هل تظنّون أن هذه السنة مثل السنين القاسية التي مرَّت عليكم? هل تظنون أنَّكم ستواصلون الحياة حتى تأتي الأمطار مرة أخرى? إن مَن يظن ذلك أقرب إلى الجنون.
توقف لحظة. عبَّ نفسًا عميقًا من سيجارته, وتطلع في وجوه الرجال مرة أخرى, ثم تابع:
- قلت لكم ألف مرة: لم يبقَ بيننا وبين الموت إلاَّ ذراع, وهذه الذراع هي الصيد الذي نستطيع أن نوفره حين تأتي الأمطار مرة أخرى. قلت لكم مئات المرات وأنتم لا تسمعون هذا الكلام, وبدل ذلك تزدادون حماقة يومًا بعد يوم. قلت لكم: اتركوا إناث الحجل للسنوات القادمة, إنها رزقنا الباقي. قلت لكم: وفّروا الخرطوش ولا تُفزعوا الطير, وعندها سيأتي إليكم بدل أن تذهبوا إليه, لكنكم يومًا بعد آخر تزدادون عنادًا وتحدّيًا. قلت لكم: انقلوا من النبع حِمْل حمارين أو ثلاثة حمير وارموا بها في الخوابي القريبة, ثم اربضوا هناك حتى تأتي الطيور, فامتلأت وجوهكم بالابتسامات الساخرة, وقلتم: عساف انهبل, لأنه يطلب منا أن نبذر ما تبقَّى لنا من الماء ونرميه في الصحراء. والآن تأتون بهؤلاء الأفندية وتتظاهرون بالنبل والكرم وتطلبون من عساف أن يصطحبهم إلى الصيد, وأن يجعلهم يصيدون! ماذا يستطيع أن يصيد هؤلاء أو غيرهم ما دمتم ملأتم الدنيا بالطلقات المجنونة تبذرونها في الهواء, حتى لم يبق طير من طيور السماء أو حيوان من حيوانات الأرض إلاَّ وسمع عددًا لا حصر له من الطلقات?
وحرَّك يديه بطريقة يائسة, وتطلّع في وجوه الضيوف, ثم تابع بلهجة جديدة:
- يا سادة, كان الحجل يصل إلى أبواب البيوت. كانت الغزلان والأرانب تملأ السهل كله. كانت ممرات الترغل كثيرة إلى درجة أن عسافًا نفسه يحتار إلى أين يذهب وأي الممرات يفضّل. هكذا كان الأمر في الأوقات السابقة, وأهل الطيبة بدل أن يحافظوا على هذه النعمة, لم يتركوا أي ابن عاهرة ولمسافة ألف كيلو إلاَّ ودلُّوه على الطيبة. اعذروني, أنا لا أقصد أي واحد منكم, أنتم على عيوننا وعلى رؤوسنا, لكني أقصد الصيادين الآخرين الذين يأتون من كل مكان, وكأن ليس في الدنيا سوى الطيبة, وهؤلاء الذين يأتون لا يعرفون سوى شيء واحد: القتل. كانوا يقتلون كل ما تقع عليه أعينهم. كانوا يقتلون إناث الحجل قبل ذكورها, لأن الذكور وهي تجفل وتطير من الخوف, كانت تخلّف في قلوب هؤلاء الصيادين خوفًا كبيرًا, وبعد أن يستعيدوا شجاعتهم تطير الإناث فيضربونها. والشيء نفسه يفعلونه بالغزلان والأرانب وكل الحيوانات الأخرى, وحين يعودون محملين بالصيد الكثير لا يكتفون بأن يعودوا إلى هنا مرة أخرى. إنهم يدلّون أصدقاءهم وأصدقاء أصدقائهم, إلى عاشر جدّ, ويحضرون معهم أنواعًا من السلاح لا يتصورها عقل ولا يقاومها صخر. وبهذه الطريقة, وسنة بعد أخرى, أقفرت الطيبة. والآن تريدون من عساف أن يستولد لكم الطيور والحيوانات ولا أعرف أي عفاريت أخرى? ماذا يستطيع عساف أن يفعل? هل هو مسيح جديد? هل هو الذي يبيض ويفقس?).
ومن جديد امتدَّت يده لتستقرَّ على ظهر الكلب, وينظر إلى الوجوه التي اعترتها الدهشة وخيَّم عليها الصمت:
- لم يخلق الصيد للأغنياء أو الذين يقتلهم الزهق والشبع. لقد خلق للفقراء, وللذين لا يملكون خبز يومهم. وعساف الذي قضى حياته كلها في البرية لا يصيد في مواسم الخير إلاَّ ما يملأ معدته ومعدة هذا الحيوان. أمَّا في مواسم الجفاف, ولكي لا يموت الناس في الشوارع, فيمكن أن يكون الصيد حلاً, كما هو الحال ونحن نستبدل بخبز القمح خبز الشعير, لكن لا أحد يفهم في الطيبة وفي غيرها من المدن والقرى. إن الإنسان في هذه الأيام يمتلك روحًا شريرة لا تمتلكها الذئاب أو أي حيوانات أخرى, ولهذا السبب نواجه اليوم الجوع, وسيكون الجوع غدًا أشد وأصعب. إنَّني أرى ذلك كما أراكم الآن. وإنَّني أخاف من الغد أكثر مما أخاف اليوم الذي أعيش فيه. هذا ما صنعناه بأيدينا!
وبطريقة أقرب إلى الفظاظة واليأس تحرَّك عساف يريد أن ينهض ليمشي. وإذا كان كلامه قد
|
|
06-15-2005, 07:17 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
خلق جوّا متوترًا, شديد الحرج, خاصة لأهل الطيبة تجاه ضيوفهم, فإنَّ حركة غير عادية سرت في الجميع. كانت حركة سريعة غامضة, وفيها ذلك الاحتجاج اللذيذ الذي يشيع الاعتراف الضمني بأن ما قاله ذلك المجنون هو الحقيقة ذاتها, ولا يمكن لأحد أن ينكرها أو يتنكر لها, وأن ما قاله كان يجب أن يُقال!
قال نعيم, وقد جاء مع الضيوف من المدينة, وتحدَّث معهم كثيرًا عن الصيد في الطيبة, وعن عساف ومقدرته الفائقة في الصيد, وتحدّث أيضًا عن غرابة طبعه, قال ليخفف من كلام عساف:
- ما قلته, يا عم عساف, هو الحقيقة, لكن أنت تعرف أي جنون يعيش في قلب الصياد!
قال أحد الضيوف, بلهجة مستسلمة, وكأنَّه يدافع عن نفسه:
- لقد انقطع الصيد في كل المنطقة, وليس في الطيبة وحدها!
ولأول مرة يقهقه عساف, كما لم يفعل ذلك في حياته إلاَّ مرات قليلة, وقال بصوت مليء بالسخرية:
- ومَن قال إن الطيبة وحدها يسكنها المجانين?!
ولكي تفهم كلماته جيدًا أضاف:
- لقد وصل الجنون إلى كل مكان. وهذه الأسلحة الجديدة ما كان لها أن توجد, حتى لو صنعها بعض المجانين في الأماكن البعيدة, ما كان لها أن تصل, أو أن تستعمل في الصيد. إنَّها تقتل كل شيء, ولا تبقي شيئًا!
ومن جديد عاد إلى لهجة السخرية:
- إذا كانت المناطق الأخرى تنعم بالمياه والخضرة, وتحصل على ما تريده دون عناء, لأنَّ منها الحكام والعسكر, فإنَّ الطيبة بلدة مسكينة, إذا أمطرت الدنيا وجدت لقمتها, وإذا أمْحَلت مات الناس جوعًا!
ومرة أخرى تغيَّرت لهجته:
- فيما مضى, قبل سنوات كثيرة, كنا نحارب الجوع ونتغلب عليه بالطيور التي تأتي, بالحيوانات التي تقترب من البلدة, وكنا نقاوم الجوع حين نأكل الجراد والجرابيع, أمَّا هذه الأيام فلم يبقَ شيء. فإذا استمرت الحال هكذا فلن تمضي فترة قصيرة حتى تصبح الطيبة مأوى للبوم والوطاويط!
قال ضيف آخر بلهجة خجولة وهو يستعرض صورة الطيبة:
- سمعت أن سدًّا سيُبنى عندكم, وأن هذا السد سيروي مساحات واسعة, أليس كذلك?
قال أحد المسنِّين:
- مثلما سمعت, يا ولدي, سمعنا. الفرق بيننا وبينك, أننا سمعنا هذا منذ وقت طويل, ولقد قال لنا ذلك الكبار في المدينة, لكن مَن يدري!
وضحك الرجل بنوع من السخرية وهزَّ رأسه بأسف.
قال مختار الجهة الشرقية:
- اتركوا الآن هموم القرية. المهم أن ترتبوا مشوارًا مناسبًا للصيد, وهؤلاء الكرام لن ينسوا الطيبة, ولن يوفروا أي جهد من أجل إقناع المسؤولين لبناء السدّ بسرعة!
وتحوَّل الجو فجأة. هجم أحد القادمين على عساف, وقبَّله على رأسه, وقال بطريقة مغرية:
- ستكون قائد الحملة يا بطرس, وسوف نعود بصيد وفير غدًا!
قال أحد المسنِّين مازحًا:
- يجب أن تصيدوا صيدًا كبيرًا. إن الصيد وحده يمكن أن ينقذ الطيبة من الموت!
وتحلقت المجموعة, بمَن فيهم الضيوف, حول عساف, وبدأ الإعداد لمشوار الغد.
قال عساف ليؤكِّد اتفاق الليلة الفائتة:
- لو ذهبنا إلى الحجل فسوف نرجع بأيدٍِ فارغة. قتلوا الحجل لمسافة ألف كيلو. أمَّا الكدري فقد تنكّح, أصبح يخاف من الرجال والأشباح, ويطير من مسافات بعيدة. لذلك يجب أن نذهب إلى أقصى مكان, وما دام معنا سيارات فسوف تطيّر كل مجموعة للأخرى.
توقف قليلاً وأجال عينيه في الوجوه حوله. كانت العتمة تملأ كل شيء, ولا تبيّن من خلالها سوى برقات سريعة للعيون أو توهج السجائر المشتعلة حين تمصّها الشفاه, قال عساف وهو يتحرّك:
- أنتم وحظّكم, أنتم وشطارتكم!
في غبشة الليل المتأخر كانت رياح ناعمة تملأ الكون وتخلّف نوعًا من البرودة اللذيذة, والرجال الذين انحشروا في السيارتين, كانوا أميل إلى الصمت والتأمل. صحيح أنهم تبادلوا بعض الأحاديث السريعة, لكنها كانت في مجملها للتغلب على الصمت والسأم, وفي محاولة لخلق تحريض متبادل, وبدافع الأمنيات قبل أي شيء. وعساف الذي جلس في سيارة الجيب, وكانت في المقدمة, كان شديد الصمت, ولم يجب عن الأسئلة التي وُجِّهت إليه إلاَّ بكلمات قليلة, كان يكتفي بأن يقول:
- اصبروا وسوف نرى!
بين فترة وأخرى, ولأن عسافًا هو الذي يعرف الطريق, كان يحدّد ويصدر الأوامر:
- يمين.
- يسار.
- مرة أخرى إلى اليسار!
والسائق الذي يستجيب بطاعة ودون اعتراض, كان يخطئ بعض الأحيان, فبدل أن يستدير إلى اليسار, كما طلب منه عساف, كان يستدير إلى اليمين, لكن ما يكاد يفطن إلى خطئه حتى يستدير بقوة ليأخذ الاتجاه الصحيح. والسيارة الخلفية, التي كانت تسير على مسافة بعيدة نسبيًّا, لتتجنب الغبار الكثيف المتطاير من الجيب, كانت ترى في كل حركة, في كل التفاتة, مفاجأة أو صيدًا, وكانت تتوقع باستمرار شيئًا. لكن عسافًا الذي عرف هذه الأرض بشكل جيد, كان هادئًا. وحين سأله أحد الجالسين في المقعد الخلفي إن كان الوقت قد حان لإعداد البنادق, أجاب بعصبية:
- الصبر مفتاح الفرج. اصبر!
- ألا يحتمل أن نجد أرنبًا أو ذئبًا?
- وهل بقيت أرانب?
- أتصور أن هذه الأرض أرض أرنب!
- لا تتصور!
وانقطع الحديث مرة أخرى. لم يكن يسمع خلال هذا الصمت سوى الدويّ الصاخب لسيارة الجيب, ولم تكن ترى إلاَّ المساحة التي يولدها النور القوي المنبعث من أضوائها.
إنَّها إحدى المرات القليلة التي يتوغل أبناء الطيبة وضيوفهم إلى هذه المسافة البعيدة في الصحراء. ومع كل ميل جديد تتغير طبيعة التربة ويتغير الهواء. فالمنطقة المحيطة بالطيبة متنوعة التضاريس, متفاوتة أشد التفاوت, إذ تبدأ ببعض الصخور السوداء, وكأنَّها حدود الطيبة من هذه الناحية, ثم تليها الكثبان الترابية التي تتخللها بعض الصخور الكلسية, ثم الأرض الحصبة الشديدة التنوع. وتتساوى في هذه الأرض قطع الحجارة الصغيرة مع التربة. وتظل هكذا, مع تفاوت بسيط, مسافة طويلة, حتى يقطعها وادٍ, وهذا الوادي يصبح خلال فصل الشتاء مجرًى للسيول والأمطار, ولا يكاد الإنسان يتجاوزه, وينعطف فجأة ناحية الغرب, ولمسافة ميل أو اثنين, حتى تبدأ الصحراء تظهر.
تبدأ الصحراء أوّل الأمر بخجل, وكأنَّها تكوَّنت في التو واللحظة, إذ ما تزال تحمل بعض ملامح الأرض التي تجاورها, لكن تدريجيًّا تتغير الأرض, لتصبح نسيجًا واحدًا متشابهًا وأقرب ما تكون إلى راحة اليد, من حيث الاستقامة, مع التواءات صغيرة ومتفرقة, وكثبان رملية تظهر وتغيب, بين فترة وأخرى.
حين بدأت الصحراء, قال عساف بصوت واضح:
- الذين على الشبابيك يمكن أن يملأوا بنادقهم. هنا يمكن أن نجد أرنبًا ضائعًا لم تصله بعد طلقات المجانين!
وبطريقة آلية, شديدة الاستجابة, سُمعت أصوات البنادق وهي تُفتح, ثم سمعت أصوات الخرطوش وهي تستقر. قال عساف, وهو يلتفت إلى الخلف, ويكلم الرجل الذي جلس في وسط المقعد الخلفي:
- حين نصل إلى مكان الصيد الحقيقي سوف تجلس مكاني ... هنا!
سأل نعيم, وهو يسوق السيارة, وقد شعر بالخوف أن يتخلَّى عساف عنهم في هذه الصحراء الرهيبة:
- وأنت, يا عم عساف?
لأول مرة, منذ بداية الرحلة, ابتسم عساف, ونظر إلى السائق, ثم إلى الرجال الذين يجلسون في المقعد الخلفي. كانت بداية أضواء الفجر تنتشر بهدوء وتتسرب إلى داخل السيارة. وبعد أن تملَّى من وجوههم قال:
- أنا وكلبي على الأرض, وأنتم في السيارة.
سأله أحد الثلاثة, وكان جالسًا في الخلف:
- وكيف سنصيد?
قال عساف بسخرية:
- السيارة هي التي تصيد!
ولما أحسَّ أن أحدًا لم يفهم كلامه أضاف بلهجة مختلفة:
- بعد أن طارد الصيادون الطير وأتعبوه, بدأ يخاف من كل شيء, ولا يمكن أن يُصاد الآن إلاَّ بالسيارة.
توقف قليلاً, تطلع حواليه, وقال بلهجة جديدة:
- حين ترون رفًّا من الكدري أو القطا يجب أن تغيروا عليه بأقصى سرعة, وقبل أن يطير كله, قبل أن يبتعد, يمكن أن تأخذوا منه بعض الطيور!
سأل نعيم, ومقود السيارة يضطرب بين يديه حين أمسك البندقية:
- وأنت يا عم عساف?
نظر إليه عساف نظرة مشجعة وأجاب.
- لا تخف, سنبقي أنا والكلب على الأرض, والذي يفلت منكم, الذي يطير باتجاهي ويقترب, سوف يكون نصيبي!
بعد فترة من السير, ولما أحسَّ عساف أنه وصل المكان المناسب, نظر إلى الأفق نظرة دائرية واسعة ليتأكَّد. وبحركة من يده, مع غمغمة غير واضحة, طلب من نعيم أن يقف. ظنَّ الجميع أن عسافًا رأى صيدًا, لأنَّ الوقفة السريعة التي وقفها نعيم خلقت شعورًا قويّا بالمفاجأة, لكن عسافًا وهو يفتح الباب, ويطلب من الكلب النزول, قال بهدوء وكأنَّه يلقي موعظة:
- يجب أن نبقي في دائرة, وهذه الدائرة قد تتسع وقد تضيق, لكنها تبقي دائرة, والطير لن يبعد كثيرًا. ما عليكم إلاَّ أن تعرفوا كيف تساعدون بعضكم بعضًا, ويجب أن يفهم جماعة السيارة الثانية هذا.
بعد قليل وصلت السيارة الثانية, ووقفت بهدوء إلى جانب الجيب, ولكي لا يترك عساف الأمر غامضًا, قال بصوت عال:
- سنبقي أنا والكلب على الأرض, وأنتم, كل في اتجاه تطاردون الطير, والكدري في مثل هذا الوقت لا
|
|
06-15-2005, 07:18 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
يخاف وهو بطيء الطيران, ويمكن أن تصل السيارة إلى وسط الرف ولا يطير, وإذا كنتم صيادين فسوف يكون الصيد كثيرًا!
وأضاف كأنَّه يخاطب نفسه:
- أعتقد أن أحدًا غيرنا لم يصل هذا المكان منذ فترة طويلة, وما دام الطير غير مضروب فإنَّه لا يجفل, وسيكون الصيد كثيرًا!
قال أحد أبناء الطيبة:
- الأفضل أن تبقي معنا يا أبا ليلى, السيارة واسعة ويمكن أن نتصيد على مراحل.
- الأفضل أن أبقي على الأرض.
توقف لحظة ثم أضاف:
- والأخ يجلس هنا.
وأشار إلى الشخص الذي يجلس في وسط المقعد الخلفي, يطلب منه أن يتحوَّل ليجلس مكانه!
وبعد فترة صمت قصيرة, ولكي لا يترك مجالاً لأي مناقشة, تابع:
- الأفضل أن تكونوا في السيارات, وأن تساعدوا بعضكم بعضًا: كل سيارة تطيّر للسيارة الثانية, وأنا على الأرض, لأنَّني بهذه الطريقة أعرف كيف أصيد!
وخلال بضع دقائق, وبتوضيحات عديدة ومتزايدة, خاصة من أبناء الطيبة الذين يرافقون الضيوف, وبمشاركة قصيرة, لكنها حاسمة وشديدة الوضوح من عساف, تمَّ الاتفاق على كل شيء. وقبل أن تتحرك السيارتان, كل واحدة باتجاه, مدَّ نعيم إلى عساف بعلبة من الخرطوش, وأطفأ أنوار السيارة.
وبدأت رحلة الصيد!
هواء الصباح الطري يملأ الكون بنعومة خائفة أقرب إلى اللذة الراعشة, وهذه اللذة تتسرب إلى العظام مباشرة. أمَّا المدى الفسيح, بلا نهاية, فيولد رهبة خاصة لا تولدها إلاَّ حالات ولحظات معينة في الكون والطبيعة. الصحراء المترامية, بذلك اللون الرصاصي في غبش الصباح, لا يماثلها إلاَّ البحر. أمَّا الشعور بالضآلة والانتهاء, ثم الاندماج مرة أخرى, فلا يتولد إلاَّ في عصف الرياح المجنون وفي الأمطار الغزيرة التي تبدأ لكي لا تنتهي. وشعور الظلمة الذي يلف كل شيء, ويجعل المخلوق, خاصة إذا كان بشرًا, ضئيلاً متلاشيًا, فإنَّه يطغى على الإنسان في الصحراء أكثر مما يطغى في أي مكان آخر, حتى ليشعر الإنسان أنه متروك ووحيد, إلى درجة لا تخطر على باله. ومن شعور الوحدة يتولّد الخوف والرهبة والانتظار ورغبة التخفي والصراخ والاتحاد مع شيء ما وآلاف المشاعر الأخرى التي تعجز عنها كل الكلمات.
حتى في الأوقات التي يكون الإنسان مع الآخرين, يحس أنه في الصحراء وحيد, وأنه يواجه عدوًّا أقوى منه آلاف المرات. وهذا العدو لا يمكن أن يقاوم, لكن من الضروري مصادقته, أو الاحتيال عليه, والإذعان إلى شروطه.
هكذا كان شعور الصيادين وهم يواجهون هذا العالم لأول مرة. حتى الذين جاءوا برغبة لا تقاوم للصيد, وضمن أي شروط, داخلهم الخوف واستقرت في قلوبهم رهبة غامضة, (ماذا لو ضعنا?), (ماذا لو غرزت السيارات في الرمال الصاخبة الملعونة?), (وهذه الطيور, ألم تجد مكانًا غير هذا المكان البائس لتعيش فيه?).
وفي مثل هذه الظروف يصبح الإنسان, مهما امتلك من القوى, ومهما عربدت فيه التحدّيات, أقرب إلى الضآلة. يتمنى لو كان أكثر عقلاً ولم يدخل هذه التجربة. حتى الصيد في هذا المكان الفسيح الموحش له طعم مختلف, يصبح أقرب إلى المغامرة الخطرة يمارسها الإنسان برغبة إثبات القدرة والتأكُّد من الوجود, أكثر مما تحمل من لذة المطاردة والانتظار والانقضاض. ففي الصحراء يمتلك صفات تنفجر في داخله فجأة. يمتلك صفات التواضع ومحاولة التعرُّف والصبر. ويتطلع إلى كل ما حوله بحيرة أقرب إلى التساؤل.
أمَّا إذا انفجرت رفوف الكدري كما تنفجر القنابل بين الأرجل, فإنَّ الإنسان نفسه يصبح مخلوقًا آخر يتحوّل فجأة إلى إبله يطارد ظله, إلى إنسان يعارك نفسه ويريد أن يقضي عليها قبل أن يقضي على الغير, فيغادره الخوف وتزول منه الرهبة ويتحوّل بين لحظة وأخرى إلى وحش من نوع خاص. فإذا تجاوز هذه اللحظة, ومضى عليها زمن طويل, فإنَّه ينظر إليها بنوع من الإعجاب يصل حد الغرور, ويتساءل بزهو: (هل دخلت هذه التجربة وخرجت منها سالمًا?). (هل يشبه صيد الصحراء أي صيد آخر في الكون?).
|
|
06-15-2005, 07:18 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
هكذا بدأت الرحلة. وأي محاولة لاستعادة تلك اللحظات تقف عاجزة بائسة أمام هذا الملكوت الشامخ الذي يملأ كل شيء.
فالسيارتان حين بدأتا الحركة تملَّك كل مَن فيهما خوف مفاجئ, ولم يستطع أي إنسان من البشر السبعة الذين كانوا محشورين فيهما أن يقول شيئًا ذكيًّا أو أن يتصرف تصرفًا واضحًا مقصودًا.
كانت حركة السيارتين بطيئة أول الأمر, وبلا اتجاه. وكان السائقان, وكل واحد في أي من السيارتين, ينظر إلى الآخرين, ينظر إلى الذين حوله وينظر إلى السيارة الأخرى, ولقد امتلأ بمشاعر الخوف والانتظار, وتملكته في لحظات معينة مشاعر الندم أنه جاء إلى هذا المكان, وإلى هذا النوع من الصيد. وبرغم أن المسافة بين السيارتين لم تكن بعيدة. ولا تزيد على بضع مئات من الأمتار, فإنَّ حالة أقرب إلى العجز سيطرت على الجميع في الوقت الذي ظلَّ فيه عساف مزروعًا في الصحراء وشبحه يبتعد ويختفي كل لحظة. أمَّا كلبه الذي كان واضحًا خلال بعض الوقت, فقد أخذ يبتعد ويصغر حتى تلاشى تمامًا!
في إحدى اللحظات العمياء, وعلى غير انتظار, انفجر رفّ من الكدري. بدا في عتمة النور الأولى أشبه بالطيور الأسطورية. كان لانفجاره دوي هائل, وظلَّ هذا الدوي وقتاً طويلاً, لا يملأ الآذان والعيون فقط, بل أيضًا يستقر في القلوب ويسيطر عليها. أمَّا الطلقات الخائرة المرتجفة التي توالت, الواحدة بعد الأخرى, فلم تخلف شيئًا سوى موجة من الدخان الأزرق تلاشى تدريجيًّا مع رياح الصباح.
إنَّها المفاجأة الأولى. وإذا كان كل واحد من الصيادين الذين كانوا في سيارة الجيب, والذين التقوا بهذا الرفّ, قد امتلأ إصرارًا وتملكته مشاعر الخيبة, فقد قال الجميع كلمات بائسة لتبرير الفشل. أمَّا صيادو السيارة الأخرى فنظروا بحسرة وحقد, وقرَّروا في أعماقهم ألاّ يكونوا خائبين بهذا المقدار. والكلمات العرجاء التي تبادلها ركاب السيارة الجيب, فيما بينهم, لتبرير هذه الخيبة, قابلتها شتائم وتحديات من ركاب السيارة الأخرى!
إنَّها التجربة الأولى. ومثل كل التجارب الفاشلة, وفي جميع المجالات, يتولّد في الإنسان نوع من الإصرار أقرب ما يكون إلى الرعونة, إذ ما كاد ذلك الرفّ يتلاشى في الأفق مبتعدًا حتى أسرعت السيارتان معًا, وخيَّم التحفّز الحذر على الجميع. امتدت البنادق أكثر من السابق, وبرقت العيون بالحقد.
وأبناء الطيبة الذين عرفوا أنماطًا كثيرة من الصيادين, وكانوا شديدي الحذر والدقة في أن يطلقوا أي كلمات أو أوصاف لتقييم الصيادين الآخرين, كانوا متأكّدين من شيء واحد: مَن لا يعرف الصحراء, مَن لم يرَ هذا الطير, لا بدَّ أن يُصاب بالخيبة بعد الرحلة الأولى. لم يقولوا هذا الكلام مباشرة, لكنَّهم كانوا واثقين بهذا الاقتناع, خاصة وأن أغلب الضيوف الذين جاءوا, وادَّعوا كثيرًا, وأسرفوا في الحديث عن الطيور التي صادوها, وعن الأماكن التي ذهبوا إليها, أثبتت التجربة شيئًا مختلفًا. إذ كثيرًا ما ادَّعى الصيادون أن جبال الطيبة أقسى من أي جبال رأوها, وأن حجل الطيبة ملعون إلى درجة أنهم لم يروا حجلاً آخر مثله. كانوا يقولون ذلك حين يصعدون إلى الجبال. أمَّا إذا ذهبوا إلى ممرات الترغل, وعادوا بصيد قليل, فكانوا يعزون ذلك إلى أسباب وهمية وأقرب إلى الغباء. الآن, في هذه الصحراء الفسيحة, هذا الطير الذي يرونه ينفجر أمامهم ويثير استفزازهم, لا يعرفون أي أكاذيب يمكن أن يقولوها لتفسير هذه الخيبة! ولكنها عادة من عادات الصيادين, حين يندفعون برعونة زائدة إلى التحدي, ثم إلى التبرير, وأخيرًا إلى الكذب!
بعد الرفّ الأول طار رفّ ثان. ومثلما واجهت سيارة الجيب عددًا من الرفوف وطار بعضها حول السيارة, وكأنَّه كان داخل قفص ثم انفلت فجأة, فإنَّ السيارة الأخرى قابلت عددًا مماثلاً, وربما أكثر قليلاً. وإذا كان لصيادي هذه السيارة بعض المعاذير, حول ضيق الشبابيك, وعدم إمكانية التحرُّك بسهولة, فإنَّ صيادي سيارة الجيب كانوا أقل قدرة على التبرير.
كانت السيارتان, وهما تبحثان عن دائرة لتدورا فيها, تمتلئان بنوع من الحرج أقرب إلى الخجل, وفي بعض اللحظات أقرب إلى الخوف. فبعد أكثر من ساعة, وبعد أن طارت عشرات الرفوف من الكدري, وكانت الحصىلة ثلاثة طيور في الفولكس فاكن, وطيرين في سيارة الجيب, تملكت الجميع رغبة في توسيع قطر الدائرة, في محاولة لاكتشاف مجال واسع والعودة بصيد أوفر. كانوا يشعرون بنوع من الخجل, وكان كل واحد متأكدًا أنهم لو عادوا إلى عساف بهذه الحصىلة, بعد كل الطلقات المجنونة التي ملأت الفضاء, فسوف يسخر منهم. وهذا الشعور لم يقتصر على ركاب سيارة واحدة, أو على واحد من الصيادين فقط. كان شعورًا ضمنيًّا صامتًا, لم يستطع أحد أن يقوله, لكن كل واحد تصرَّف بدافع منه وتحت تأثيره. حتى الرغبة أو الكلمة, التي يقولها أي واحد في الذهاب إلى هذا المكان أو ذاك لم تكن تجد اعتراضًا من أحد. كان الجميع يمتلئ خوفًا, خاصة وأن كل واحد قدَّر أن عسافًا قد اصطاد مئات الطيور!
وعلى الرغم من قوة هذه المشاعر وسيطرتها الغامضة, فإنَّ مشاعر أخرى كانت ترفع رأسها بين لحظة وأخرى: الخوف من الصحراء, والتيه في هذا البحر القاسي الذي ليس له بداية وليس له نهاية!
حين ارتفعت الشمس في السماء بضعة أذرع, وارتفعت معها الحرارة وارتفع الغبار, شعر الجميع برغبة اللقاء مرة أخرى, مهما بدا هذا اللقاء قاسيًا مريرًا, خاصة وأن عسافًا كان قد نبَّههم إلى أن الكدري مع تقدم النهار يرحل, وأنه يذهب إلى أماكن بعيدة بحثًا عن الماء والطعام. وأن الصيد خلال النهار من الصعوبة وعدم الجدوى إلى درجة كبيرة.
وبطريقة غامضة مليئة بالتردُّد, بدأت السيارتان تتجهان إلى منتصف الدائرة. وإذا كان لكل مكان في الدنيا دائرة, ولها منتصف, فإنَّ الصحراء ملعونة إلى درجة الرجم, لأنَّ كل ذرة منها دائرة, ولأنَّ كل مكان منتصف الدائرة. ومع ذلك, وبمعرفة أبناء الطيبة باتجاه الريح, وتذكّرهم أن ريحًا غربية كانت في بداية الرحلة, بدأت الدائرة تضيق تدريجيًّا, وبعد ساعة من البحث, ومن النظر المدقق, رأت سيارة الجيب زوالاً بين السواد والزرقة, ودون تردُّد قال أحد أبناء الطيبة:
- عساف... ذاك هو عساف!
وبلهفة أقرب إلى الوجد, ودون تساؤل أو انتظار, اتجهت السيارة نحوه, وبعد دقائق كانت السيارة الأخرى قد وصلت.
كان عساف منبطحًا على الرمل, والكلب قريبٌ منه, وكانت البندقية ملقاة إلى جانبه, وكأنَّها لا تعنيه. كان يعبث بالرمل ويبتسم ابتسامة خفيفة, أمَّا الطيور التي اصطادها فقد كوَّمها مثل تل صغير إلى جانبه, وكانت مناقيرها باتجاه واحد...
حين نظروا إلى تل الطيور أُصيبوا بذهول حقيقي, كانت بالنسبة لهم تلاًّ مستحيلاً, رقمًا مستحيلاً. أمَّا حين بدأوا بإنزال الطيور من السيارتين فقد نظر إليها عساف بدهشة أقرب إلى الاستغراب, لكنه بسرعة لملم دهشته, وقال بطريقة أبوية للتخفيف عنهم:
- الصيد في السيارة يحتاج إلى التعوُّد, والرفوف التي كانت تطير من عندكم كانت تأتي إلى هنا!
أمَّا حين سأله أحد الضيوف عن عدد الطيور التي صادها فقد قال بتواضع:
- حوالى العشرين, لم أعدّها.
ولم يسأل عن العدد الذي صادوه, كان همَّه الأساسي أن يتأكّد إذا قابلوا رفوفًا كثيرة أم لا? وإذا كانت قريبة أم بعيدة, وهل ضُربت من قبل أم أنها طارت بعد أن وصلوا إليها?
عند هذا الحد كان من الممكن أن تنتهي رحلة الصيد. ولو ترك الأمر لأبناء الطيبة أو لعساف لاقترح أن يعودوا, وإلى جانب صخرة في الوادي الذي اجتازوه يمكن أن يستريحوا, وأن يأكلوا, وكان من الممكن أن يقال إن هذا الصيد كافٍ, وسوف تنظّم رحلة صيد ثانية, في مرة أخرى. لكن الأمور, في أغلب الأحيان, تسير بطريق لا يقدره الإنسان ولا يتوقعه. وإذا كان الضيوف هم الذين يحكمون, وهم الذين يقرّرون, فإنَّ أهل الطيبة امتلكوا خلقًا رفيعًا بحيث لا يمكن أن يفصحوا عمَّا يريدونه مباشرة. وعساف الذي قال مجاملة ولكي يبعد أي إمكانية للبقاء:
- الصيد انتهى, فمنذ الآن وحتى الغروب, لن نجد رفًّا واحدًا, وإذا وجدنا أي رفّ فسوف يطير من مسافة بعيدة, ولا يمكن لأي إنسان أن يأخذ منه طائرًا واحدًا.
وبعد أن تبادل أبناء الطيبة النظر فيما بينهم, ومع عساف, نظروا في وجوه الضيوف, ثم اقترح أحدهم اقتراحًا وجد هوًى عند الضيوف دون تردُّد:
- يمكن أن نذهب الآن حيث يريد عساف, وبعد أن نتغدى ونستريح نقوم بمشوار صغير قبل الغروب, وبعدها نعود إلى الطيبة.
|
|
06-15-2005, 07:20 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
لم تكن الجلسة, في الوادي, تحت ظلال الصخور, مريحة, إذ رغم رطوبة المكان, كانت ريح الصحراء شديدة اللفح والحرارة, وكانت تحمل معها, بين فترة وأخرى, ذرات من الرمال تسفّ وتتكوّم على المنحدرات الواطئة, غير المنتظمة, والتي تشكل مجرى السيول أيام الشتاء.
في هذه الجلسة, والتي شرب خلالها الجميع, وتحدّثوا عن أشياء لا حصر لها, كان عساف في البداية أقرب إلى الصمت. وفي المرات القليلة التي تكلم فيها, تحدّث بشكل غير مفهوم, وكأنَّه يحدّث نفسه. أما عندما سُئل عن الحيوانات التي صادها, وفي أي أماكن, فقد اكتفى بأن يقول:
- ما فائدة الحديث عن الأشياء الماضية, ما دام الإنسان غير قادر الآن على أن يصطاد أي حيوان?!
وحين ألحُّوا عليه أن يحدِّثهم عن أكثر مرة صاد فيها, وعن عدد الطيور والأرانب التي صادها, قال بحدّة:
- لا تنظروا إليّ كوحش, أنا إنسان, نعم إنسان مثلي مثلكم, وليس بيني وبين أي مخلوق عداء من أي نوع. فإذا كانت الطيور والحيوانات تغريني وأُطاردها, فلأنَّني أشعر بحاجة أكثر مما أشعر بلذة. وحتى لو كانت هناك لذة, فإنَّها لا تصل بالإنسان إلى حدود الإبادة والفتك. حتى الذي يرغب في امرأة, ويريد أن يعتصرها بين يديه إلى الأبد, فإنَّه غير قادر على أن يفعل ذلك بلا حدود. أمَّا إذا كان أحمق, وإذا فعل شيئًا لا يناسب الطبيعة البشرية, فلا بدَّ أن ينتهي بشكل ما. وأنا... عساف الذي لا يعرفه أهل الطيبة إلاَّ تائهًا في البراري, ولا يلاحق إلاَّ الطيور والحيوانات, أنا عساف الفهد, لا أرغب في الصيد لمجرد القتل ولا أصيد أكثر ممّا يجب إلاَّ في الأوقات الضرورية.
كان يريد أن يتحدث أكثر, وبطريقة أفضل, لكنه لم يستطع. أمَّا الأفكار التي دارت في رأسه وملأت عقله وهو مستلق على جنبه, وكلبه بقربه, فقد كانت كثيرة إلى درجة لا يستطيع أن يحاصرها, أن يقولها. وحتى لو أراد أن يتكلم فإنَّ كلماته تبدو غامضة فجة, وقد لا يفهمها أحد. وحين شرب كأسًا جديدة وامتلأ نشوة شعر بأنه يستطيع أن يتكلم بشكل أفضل, خاصة وأن الآخرين قد تكلموا دون أن يطلب منهم أحد ذلك, ودون أن يكون لكلامهم أي معنى أو ضرورة. لقد تكلموا بتلك الطريقة الفخمة المليئة بالأكاذيب, والتي لا يتقنها إلاَّ المتعلمون وأبناء المدن. فكَّر أكثر من مرة في أن يصرخ, أن يضحك بسخرية, لكنه ابتلع أكثر ما كان يريد أن يقوله, واكتفى بأن ينظر إلى الوجوه, وأن يراقب التصرفات.
كان عساف في ذلك اليوم حزينًا إلى درجة لا يتذكر معها أنه حزن بهذا المقدار, وشعر بأن ثقلاً أقرب إلى الصخرة يجثم على صدره. وإذا كان قد تعوّد أن يصدر الأوامر إلى الصيادين الأغرار, وأن يقودهم في المسارب الضيقة ويتقدّمهم في المعاصي, ليثبت لهم بطريقة ما أنهم ما زالوا بحاجة إلى وقت طويل لكي يتعلموا معنى الصيد, وأن يتصرفوا بطريقة مليئة بالحكمة والذكاء, ويميزوا بين الطيور التي تُصاد وتلك التي يجب أن تُترك لتعيش, إذا كان قد تعوَّد ذلك ومارسه بمكر, ولأسباب غامضة في بعض الأحيان, فلقد كان في هذا اليوم أقرب إلى الاستسلام واليأس, وكان مستعدًّا لأن يفعل ما يريده الآخرون.
لو أن عسافًا تماسك في لحظة معينة, لو أنه رفض بإصرار, مثلما تعوّد, الاستجابة إلى رعونة الشباب وخفتهم, لو أن الحزن فارقه واليأس لم يسيطر عليه, لو أن الخمرة لم تتصاعد أبخرتها القوية الحادة إلى الرؤوس في هذا اليوم الصيفي, لو أنَّ المكان كان غير هذا المكان, لما حصل شيء. لكن قوة خفية, أقرب إلى البلاهة, ولعلَّها حكيمة بمقدار لا يدركه عقل الإنسان, هي التي قرَّرت كل شيء!
فقبل أن ينتصف النهار, وبعد أن استراحت القافلة أكثر من ساعتين بدا الزمن لضيوف الطيبة الذين أتوا من المدينة, شيئًا مختلفًا عمّا يحسّه أهل الطيبة, ومًن عاش في مثل هذه الأماكن. إذ ما كاد أحدهم يقترح العودة إلى الصيد, حتى استجاب الآخرون بسرعة وسهولة. وكأنَّهم اتفقوا على ذلك من قبل. وعساف الذي نظر إلى أبناء الطيبة نظرة تساؤل, وجد في عيون هؤلاء استسلامًا حائرًا, وبدا أنهم غير قادرين على اتخاذ أي قرار, وأنهم يمثلون دورًا أقرب إلى الحماقة, ويستجيبون لأي رغبة يطلبها هؤلاء الأفندية.
بعد تردُّد لم يطل, نهض عساف وبلهجة مليئة بالسخرية والتحدِّي, قال يخاطب كلبه:
- لا يتعلم الإنسان إلاَّ بالتجربة, أمَّا الحيوانات فإنَّها تتعلم أشياء كثيرة ثم تورّثها إلى أولادها وحًفًدتها, وبهذه الطريقة تدافع عن نفسها وتواصل الحياة. أمَّا الإنسان...
وضحك بسخرية, وبلا مناقشات طويلة اختار عساف مكانًا جديدًا, قال ليقنع نفسه:
- قد لا تكون الطيور هناك مضروبة, وقد نجد بعض الأشواك تستظل بها, ونحن وما قُسِم لنا!
وبالطريقة نفسها, وبالإصرار نفسه, حين وصل إلى المكان الذي يراه مناسبًا للصيد, أوقف السيارة وأنزل كلبه, ثم نزل.
لم يتكلم هذه المرة أي كلمة, لم يكرز بأي موعظة. أمَّا حين قال أحد أبناء الطيبة بصوٍت عالٍ لينبّه الجميع:
- سنلتقي هنا بعد ساعة وأقصى حد ساعتين, لأنَّ الطريق إلى الطيبة طويل, ويجب أن نصل مبكرين.
حين قال الرجل هذه الكلمات, هزَّ عساف رأسه دلالة الموافقة, ولوَّح بيده بطريقة دائرية, وقد فُهمت تلك الحركة على أنَّه سيبقى في منتصف الدائرة, وفهمت على أنَّها تحية.
|
|
06-15-2005, 07:20 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
|