حسان محمود الحسون
كتبت بعيد استشهاد رفيق الحريري مقالا بعنوان " على سوريا ألا تخرج حتى وإن سقط التمثال " ثم ترددت كثيرا في نشره .. ربما لأنه كان استباقا لحدثٍ حدث فعلا ولم يعد متوقعا أنه سيحدث، أو ربما حتى لا يبدو الأمر وكأنه ارتكاس عاطفي ينزع إلى الإنفعالية أكثر منه إلى الموضوعية والواقعية.
الآن، أشعر بالندم الشديد كوني لم أنشره، لكنني سأعيد البوح من جديد: نعم، ما كان على سوريا أن تخرج من لبنان حتى وإن أُسقط تمثال حافظ الأسد في قانا الجنوب.
هل علينا أن نكون عاطفيين في بعض الأحيان؟!
ربما نعم ... فالخروج السوري المذل من لبنان لم يطل الجيش السوري والأجهزة الاستخباراتية السورية وحسب، بل طال كل السوريين ضحايا تلك الأجهزة بالأساس، ونال العامل السوري في لبنان القسط الأوفر من ردات الفعل العنصرية الدفينة والتي كانت تتراوح قبل قليل بين الخوف من البوح والرفض الساكن في المآقي اللبنانية عامة والمارونية خاصة. ذلك الخوف الذي انفلت من عقاله ليحصد أرواح عدد من العمال السوريين الفقراء الأبرياء الذين ما حملتهم الدبابة السورية إلى مزارع التفاح وورش البناء اللبنانية بقدر ما حملهم الفقر الذي أتت به الدبابة ذاتها لاستجداء لقمة العيش في الخاصرة السورية التي توزع – ويا للمهزلة – فتات عيشها على عشرات الآلاف من الأسر السورية التي لا حول لها إلا أنها فقيرة.
خرج "السورياني" من لبنان وتجمهر مئات الآلاف من اللبنانيين في ساحة الشهداء يستقبلون العماد المنتشي بفرحة العودة إلى الوطن وزهو الانتصار ليغنوا له أغاني الفرح، وليلعنوا – في الوقت ذاته – ذلك السورياني، الذي لولا موقف العماد عون البطولي منه لما خرج هو، ولما عاد العماد إلى حضن الوطن، ولكن أي وطن؟!
لنسمي الأشياء بمسمياتها، فالوجود السوري في لبنان كان "احتلالاً" وليس وجودا بالمعنى البروتوكولي للكلمة.
قد يستطيع المدافعون عن هذا "الاحتلال" شرعنته بمبررات كانت موجودة على الأرض فعلا ومن خلال ضوابط شرعية صحيحة تستمد وجاهتها من شرعية القرار السلطوي اللبناني الديموقراطي، أو لنقل الأكثر ديموقراطية من صاحب الدبابة والبسطار، بل أكثر ديموقراطية من المحيط العربي كله، لكن ذلك سوف لن يغير من الواقع شيئا، فالوجود السوري في لبنان كان احتلالا للأرض والقرار معا اكتسب شرعيته الوحيدة من حالة التخندق الطائفي اللبناني التي لا حل لها، ومن المتغيرات الإقليمية والدولية التي – ربما – أرغمت حافظ الأسد إرغاما للدخول في المستنقع اللبناني وخوض حرب بديلة نيابة عن العرب والسوفييت، وأمريكا وإسرائيل أيضا.
الوجود السوري في لبنان لم يكن يشبه إحدى حالات التدخل الإقليمي في شأن بلد ما لوقف النزاعات العرقية والطائفية فيه كالتدخل النيجيري في ساحل العاج أو ليبيريا مثلا وبغطاء شرعي إقليمي، لا بل هو تدخل "وظيفي" لإنهاء حالة وإنشاء حالة أخرى كالتدخل الإندونيسي في تيمور الشرقية، حتى وإن كانت الجامعة العربية هي من شرعنت لهذا التدخل-الإحتلال من خلال ما عرف وقتها بقوات الردع العربية .
إلا أنه بالمقابل، لا يستطيع منتقدو هذا الوجود النظر إليه على أنه احتلال مرحلي يسبق الضم الكامل على قاعدة "شعب واحد في قطرين" أو المحافظة السورية الخامسة عشر، وعلى قاعدة المطالبة السورية بعودة الفرع إلى الأصل كون هذه المعطيات لم تكن في حسبان القيادة السورية منذ اللحظة الأولى، وحتى عندما فتحت بكركي وقتها أحضانها للمنقذ السوري الذي بدا أنه كان أكثر من منقذ في نظر قيادات طائفية لبلد تحكمه الطائفية، وينفثها أبناءه مع دخان نراجيلهم.
سوريا وعلى لسان خارجيتها عبد الحليم خدام في تلك الحقبة نفت نفيا قاطعا في أن يكون لها مطامع توسعية في لبنان مستقويا بأن سوريا قادرة على "الاتحاد" مع لبنان دون الحاجة إلى الاحتلال العسكري وعن طريق القنوات الشرعية وبموافقة المجلس النيابي اللبناني وبقية المؤسسات الحكومية والشعبية اللبنانية، وتلك كانت من لحظات الصدق النادرة في الخطاب السياسي السوري.
وعودة إلى الجنرال المنتصر ...
هل كان ميشال عون قائد الجيش اللبناني السابق والذي وجد نفسه – ربما – تحت وطأة المطالب المارونية رئيسا لبعبدا خلفا للشيخ أمين الجميل، هل كان قائدا وطنيا بالمعنى العاطفي للكلمة أم كان قائدا للوطن – الطائفة والطائفة الوطن كبقية رجالات تلك المرحلة ؟!
بالنظر لطبيعة اللوحة السوريالية اللبنانية فإنه نعم، فالجنرال عون لم يكن أكثر من تجسيد لمطالب طائفية مارونية انقلبت على الوجود السوري الذي أنهى مهمته بإقصاء الفلسطيني عن لبنان وحماية الموارنة من بندقيته، لتعود المياه إلى مجاريها الطائفية وليس الوطنية، وكما كان لبنان على الدوام، وكما سيكون حتى نهاية العالم.
الجنرال عون عاد الآن منتصرا، ويحق له ولأتباعه الانتصار. ولن نتنبأ بأن ينقلب هذا الانتصار إلى شظايا وطن يتطاير جسده الطائفي على مفارق الدنيا والمكاتب السرية لوزارات الخارجية والاستخبارات الدولية والإقليمية التي تقدر تماما رحابة الصدر اللبناني المفتوح لها على الدوام، لكن هل كان يحق لنا أن نبارك هذه العودة – كسوريين معارضين – ولو من منطلق براجماتي بحت؟ وحتى وإن كان عدو عدوك صديقك؟!
والعدو هنا لا يبدو صديقا حتى وإن كان عدوا لعدوك، ولا يبدو أن الجنرال عون قادر على لملمة الشمل الطائفي الذي ذهب إلى القبر مع رفيق الحريري، ولا يبدو أنه قادر على العودة بالعلاقات السورية اللبنانية لما قبل 1975 وهنا بيت القصيد، والأساس الذي كان على المعارضة السورية أن تراهن عليه أولا وآخرا. فالجنرال عون عاد ليقود طائفة وليس وطنا، وليضع لبنان كله في حالة تأهب طائفي أسوأ مما كان عليه قبل سنوات الحرب العجاف وربما ستدفع سوريا ثمنه من جديد من دماء جنودها وعمالها معا.
لا، بل هل كنا نحن المخطئون عندما قبلنا أن نكون ضيفا خفيا يصفق مع المحتشدين في ساحة الشهداء دون أن نجرؤ على رفع أي علم أو شعار أم أن هناك من دفعنا – قهرا – إلى الخطأ من خلال ممارساته القمعوية ضد الشعب الواحد في القطرين؟!
وهل سنندم فعلا على تخاطف الرياح لأهوائنا بين الولاء والاستجداء؟!
ربما سيجيب الجنرال عون ذاته عن هذا السؤال قريبا جدا رغم رفعه شعارات وطنية لا طائفية، بعد أن أشبع حافظ الأسد هذا السؤال إجابة حيا وميتا.
http://www.josor.net/article_details.php?t...sid=410&catid=6