عندما اكتشفت الديانة الزرادشتية حديثا , كثرت التساؤلات عن مؤسسها زرادشت , وانقسمت الآراء حوله , فمنهم من اعتبره شخصية تاريخية ظهرت في فترة زمنية معينة , واعتبره آخرون مجرد شخصية خيالية خلقتها العقلية الأسطورية والمخيلة الجماعية , ونسجت حولها القصص والحكايات , وواصّّلت إليه تلك الديانة وأسندت إليه بعض كتبها .
و لزرادشت أسماء عديدة ومنها : " زرادشت ، زوردشت ، زرتشت ، زاردشت، زوردشير " – ما عدا هذا فله اثنا عشر اسماً أخر , ومعاني اسمه كثيرة كذلك : فبعض المؤرخين يقولون أن " زار" تعني اللغة أو الحديث , و"دشت" تعني الحقيقة / الاستقامة أي ( النبي الناطق بالحقيقة ) , وبعضهم يقول أن "زرت" تعني الذهب و "اوشترا" تعني الجمال أي صاحب الجمال الذهبي ، ولكن بعضهم اعتبر "اوشترا" بمعنى النور والضياء , واعتبر اسم "زرادشت" هو النور والضياء الذهبي أو الشخص والهالة الربانية .
ولكن يمكن الجزم بان اسمه الحقيقي هو زرادشت ومعناه النبي الناطق بالحقيقة ، وهو زرادشت بن بوشساب من أسرة سبيتمان ، ولد في بلدة قريبة من بحيرة أورميا , وتقول الروايات انه ولد قبل انتصار الاسكندر المقدوني لــ258ــ سنة , أي انه ولد نحو سنة 589 ق.م , وهو مؤسس الديانة الزرادشتية , احد الأديان الأكثر قدماً في العالم , والتي أثرت تأثيراً كبيرا أكثر من أي ديانة أخرى على التطور الروحي للإنسانية .
كانت الزرادشتية ديانة حكومية- رسمية للإمبراطورية الإيرانية الساسانية – المسيطرة على قسم كبير من الشرق الأوسط والأدنى – , وتساعد دراسات الزرادشتية على فهم التقدم الروحي الكبير للإنسانية بشكل أفضل على مدى آلاف السنين , وما عدا هذا فهناك جوانب من هذا الديانة متميزة منفردة آثرت تأثيراً واضحاً على الديانات التي ظهرت بعدها : اليهودية ، المسيحية ، الإسلام ، المانوية الخ , والآن يعيش هناك نحو خمسين ألفا من إتباع هذا الدين في إيران في عصرنا الحاضر , ونحو خمسمئة ألفٍ في الهند ويعرفون فيها بأسم الفرس .
وقد اشتهرت الزرادشتية بالثـنيوية , ونسب إليها الاعتقاد بعبادة إلهين اثنين , إله الخير وهو ( آهورامزدا ) وآله الشر ( اهريمان ) , أما الزرادشتيون فلا يرون أنفسهم غير موحدين , ولا يعتقدون بالثنيوية بالصورة التي تنسب إليهم .
جاء في صبح الأعشى لأبي العباس القلقشندي بهذا الصدد قوله :
- (الزرادشتيون الدائنون بدين المجوسية ، وهم إتباع زرادرشت الذي ظهر في زمن كيشتاسب السابع من ملوك الكياثية , وهم من الطبقة الثانية من ملوك الفرس , وادعى النبوة وحكى بوحدانية الله تعالى وانه واحد لا شريك له , صّند ولا نّد له , وانه خالق النور والظلام ومبدعها , وأن الخير والشر والصلاح والفساد إنما حصل من امتزاجهما أنه لا يزال الامتزاج حين يغلب النور الظلمة ثم يخلص الخير في عالمه وينحط الشر في عالمه , وحينئذ تكون القيامة ، وقال باستقبال المشرق حيث مطلع النور والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجتناب الخبائث).
وللديانة الزرادشتية كتاب مقدس هو الآفستا ، والآفستا تلفظ باللغات الإيرانية بأشكال مختلفة فهو أوستا , ابستا , افستا , واللفظ الأشهر في الفهلوية هو: أفستاك ، ويلفظ بالسريانية والعربية أبستاق , وهناك أيضا خلاف حول دلالة هذه الكلمة ويعتقد البعض بأنها تعني المتن والأصل ، وآخرون يعتقدون أنها بمعنى المعرفة ( الحكمة ) حيث يمكن أن تكون مشتقة من الكلمة الآرية " فيد " وتعني يعرف , وذلك بإقامة نوع من المقارنة بينه وبين الكتاب الديني الهندي المعروف " فيدا " , ولا يزال قسم من كتاب الآفستا باقياً وهو مكتوب باللغة الافستانية – أي البهلوية.
وكانت توجد منه نسختان كبيرتان أحداهما محفوظة في خزانة ملك الدولة (الهنمامنشية ) , والثانية بمدينة " شيز" بأذربيجان , ويقال بأن كتاب الافستا كان يشمل على ألف فصل يضمنها عشرون باباً في ذلك العصر ، وعندما قاموا في العصر الساساني بجمع متفرقات الكتاب بعدما كانت أجزاؤه قد تبعثرت أثناء حملة الأسكندر , لم يستطيعوا الحصول على أكثر من ثلاثمائة وثمانية وأربعين فصلاً قسموها إلى واحد وعشرين باباً أيضاً ، ويعتقد المستشرق ويست ( west ) :
- أن هذا الكتاب الساساني كان يشتمل على " 345700 " كلمة وما تبقى منها حتى يومنا هذا يقارب ربع ما كان عليه في العصر الساساني مشتملاً على " 83000 " كلمة فقط .
والكتب الحالية .. وتعاليم الأفستا الدينية تنقسم إلى خمس أقسام رئيسية هي :
1 : اليَسنا :.. أو القسم الخاص بآداب المديح وعبادة الخالق .
2 : الويسبرد :.. وتبحث في الأدعية التي ترفع إلى رئيس الآلهة " اهورامزدا" الذي هو الإله الأعظم .
3 : الونديداد :.. عدو اهريمان وهو أشبه بقانون ودستور الديانة الزرادشتية فالعلماء والملمون بالمعرفة هم الذين يستطيعون تلقين الناس تعالي العقيدة الزرادشتية , وقد بين في هذا الجزء نكاح النساء وتوزيع الميراث والأيمان بزرادشت .
4 – الياشات أو البشتا "بسته" : وهي الأدعية التي تـُتلى في الصلوات وعند تقديم الضحايا أمام النار المقدسة , وكذلك لتقديم قربان الهاوما .
5 – الخمدة أفستا أو خرده أفستا (الافستا الصغيرة) : كتاب صلاة ودعاة وكلمات دينية مختارة أوردت للقيادة العامة , دوّن في عهد سابور الثاني , ويتكون احد أقسامه من مختارات من كل الافستا ..
كما أن هناك قسما في قواعد البازنك وهو يشتمل على أدعية الأيام الخمسة , والأيام الثلاثة الكبيرة , والأيام الثلاثة الصغيرة , والتبديكات الأربعة , وبإضافة الشذرات المتفرقة الصغيرة التي حفظتها لنا الكتب الفهلوية ، وهذا كل ما بقي من الكتب الزرادشتية القديمة .
المقدسات في الديانة الزرادشتية :
أن احترام الثور يحتل مكاناً قدسياً مرموقاً في الديانة الزرادشتية مما يؤكد ذلك هو أن الإله " اهورامزدا " قد خلق الإنسان والثور في آن واحد , وقد طلب النبي عدم التقدم بالقرابين , إلا أنه الأضاحي بالحيوانات قد طبقت بدون انقطاع , والكلب في الديانة الزرادشتية له أكرم منزلة ، وبالغ الزرادشتيون في تقديس النار فأوجبوا على رجل الدين أن يتلثم عند اقترابه من النار خشية أن يصل زفيره إليها فيلوثها ,وكان عليه أن يتذكر حينما يدنو من هذه القوة الأرضية ، أن هذا النور الفياض إنما يرمز إلى " اهورامزدا " .
والزرادشتية كأكثر الأديان لها طقوس التي تتعلق بالموت , فبالنسبة لها فالإنسان طاهر وما دام على قيد الحياة , فإذا مات تحول إلى رجس ونجس لا يجوز لمس جثته , ولا يجوز أن يدفن في باطن الأرض أو يحرق بالنار , ولا ان تلقى الجثة في مياه الأنهار .. لان التراب والنار والماء عناصر مقدسة لا يجوز تلويثها بالجثث .
قتل النفس :
حرم زرادشت قتل النفس وحمل قاتلها خطيئةً ووزراً كبيرين وقال : أن قاتل النفس هو عدو الإله " اهورامزدا " , لان الإنسان مبجل ومكرم .
للزرادشتيين صلوات يتوجهون في صلواتهم نحو النار أو الشمس , – مع العلم ينفون أنهم من عبدة النار –, ويعتبرونهما تجسيدان رمزيان للإله " اهورامزدا " وينبغي على المرء أن يرتل الصلوات خمس مرات في اليوم ، ويقسمون اليوم إلى خمس أوقات وهي :
1 : هاون : من الفجر إلى الظهر .
2 : رفتون : من الظهر إلى الثالثة بعد الظهر .
3 : ازيرن : من الثالثة حتى بعد الغروب .
4 : ايروسر يتمرم : من الغروب حتى منتصف الليل .
5 : اشهن : من منتصف الليل حتى الفجر .
في عهد زرادشت وقعت حرب بين إيران وتركستان , وكانت حرب قاسية حيث كان القتلى بمئات الآلاف , والسلب والنهب قائمين على قدم وساق بين الطرفين , ويعتقد أن زرادشت كان من جملة الضحايا , وبهذا انتهت حياة هذا النبي ذو العقل الراجح الذي يشير بالقوة الشافية للعمل البناء , وقدم مذهباً أخلاقيا يتألف من العدل والصدق والأعمال المجيدة .
*-*-*
وهذه بعض المواعظ والنصائح التي توجه سلوك الإنسان السليم في المجتمع .. في الديانة الزرادشتية :
لا تكرر الحديث .
ـ اختر بنفسك زوجتك .
ـ لا تقل سرك للرجل الثرثار .
ـ لا تنصت إلى الثرثار الكذاب .
ـ لا تشارك الغني جداً الطعام .
ـ لا تسخر من الإنسان العاجز .
ـ كن حميماً مع الإله والأصدقاء .
ـ لا تطلب شيئاً من الذي لا يخجل .
ـ لا تطلب من الملوك القرارات غير العادلة .
ـ لا تخنث بوعدك ابدآ حتى لا تفقد ماء وجهك .
ـ أنسى كل ما مضى ولا تقلق على ما يأت بعد .
ـ أحب المرآة الخجولة الحكيمة وأطلبها للزواج .
ـ ابتعد عن كل شخص يتصرف معك بغضب وحقد .
ـ لا تجلس في الاجتماعات بجانب الإنسان السيئ حتى لا تعرف كرجل سيئ .
ـ كن صديقاً جديداً للصديق القديم ، لان الصديق القديم مثل الخمر المعتق كلما عتقت ، كانت لشرب القادة أفضل وأحسن .
ـ لا تكن صديقاً جديداًَ للعدو القديم ، لان العدو القديم مثل الثعبان الأسود لا ينسى الحقد حتى بعد مئة عام .
ـ كن للإنسان الحر : الخبير بالأعمال ، وكن للإنسان الذكي والخّير: صديقاً , واسأله عن الأمر .
..........الـمـراجـع..........
1 : الديانة الزرادشتية ـ مزديسنا ـ نوري إسماعيل ـ منشورات دار علاء الدين ، الطبعة الثانية ـ دمشق 1997
2: دليل القارئ إلى الأدب العالمي . المؤلفون ليليلن هيرلاندز ج.دبيرس ـ ستير لنج ـ أ . براون ـ دار الحقائق الطبعة الأولى : 1986 صــ171ــــ
3 : المواسم - العددان ـ 7 +8 ـ 1995 صــ24ــــ
4 : صبح الأعشى ـ احمد بن على القشقلندي ـ القاهرة الجزء ( 13)
5 : الأسفار المقدسة في الأديان السابقة على الإسلام - على وافي ـ القاهرة 1984 م
6 : تاريخ الأدب في إيران ـ ادوارد براون ـ جزء ( 1) الباب الأول والثاني ـ الكويت ـ 1984..
http://www.derbesiye.ch/zerdescht.htm
(f)