ومضة عن فكر شكري العسلي
------------------------------
كتاب القضاء والنواب في التراث الفكري لشكري العسلي
د.عبد الله حنا
شكري بك العسلي (1878-1916) أحد شهداء السادس من أيار لعام 1916، شهداء الحركة الوطنية العربية، ودعاة الإصلاح والتطوير والتنوير.
دخل شكري العسلي المولود في دمشق المدرسة الرشدية فيها، ثم أتمّ دراسته في المدرسة الإعدادية في استنبول، وتخرج عام 1902 من المكتب الملكي. إضافة إلى اللغة الأم العربية تكلم العسلي التركية وألمّ بالفارسية والفرنسية. بعد إنهاء تدريبه في دمشق عُيّن العسلي وكيلاً للقائمقام (حالياً مدير منطقة) في كل من الطفيلة والسلط ودوما. ثم أصبح قائمقاماً في إحدى مناطق الأناضول (KAS). وتقلد لمدة أسبوعين منصب متصرف اللاذقية. أثناء خدمته في الأناضول انْتُخِب عام 1912 عضواً عن دمشق في مجلس المبعوثان (البرلمان العثماني) بدلاً من العضو المتوفى محمد العجلاني.
كان شكري العسلي سياسياً معارضاً لسياسة حزب الاتحاد والترقي الطورانية. وأصبح عام 1911 عضواً بارزاً في تيار الحرية المعتدل. ثم كان من مؤسسي حزب الحرية والائتلاف وعضواً في لجنته القيادية.
لم يستطع شكري العسلي بصفته مرشح حزب الحرية والائتلاف أن يصل إلى البرلمان مندوباً عن دمشق في انتخابات مجلس المبعوثان لعام 1912 بسبب معارضة حزب الاتحاد والترقي الشديدة له.
كتب العسلي مجموعة من المقالات في الصحافة السورية وجرائد استنبول. وقد أدى مقاله: "جمعية الاتحاد والترقي والعرب" المنشور في 8/12/1911 في جريدة نفراح المعارضة للاتحاديين إلى إغلاق الجريدة. ومن يطالع جريدة المتقبس النهضوية لصاحبها محمد كرد علي والصادرة في دمشق (1909-1914) يرى أن العسلي من أعمدة هذه الجريدة. ويُقال: إن العسلي انتسب إلى "الجمعية القحطانية" العربية.
استقبل شكري العسلي، كسائر الوطنيين القوميين العرب في بلاد الشام والعراق، ثورة 1908 ضد استبداد السلطان عبد الحميد بحماسة. ومع عام 1910 بدأ القوميون العرب ينتقلون إلى صف المعارضة ويقاومون السياسة الطورانية الشوفينية المتعصبة للأتراك الاتحاديين وهكذا أخذ الوطنيون العرب ينسحبون تباعاً من حزب "الاتحاد والترقي" وينضمون إلى حزب المعارضة، حزب "الحرية والائتلاف" المطالب بتحقيق سياسة إدارية لا مركزية في سائر أنحاء الولايات العثمانية المختلفة القوميات.
لقد لخّص الوطني العربي والسياسي الجريء شكري العسلي في مقالة نشرها في المقتبس الدمشقية في 19/11/1913 أسباب هذا التطور والتبدل في سياسة القوميين العرب إزاء قمة السلطة التركية وسياستها العنصرية. كتب العسلي:
"... ولأننا نحن معشر العرب المتعلمين كنا آخينا الاتحاديين على أثر الانقلاب (ضد السلطان عبد الحميد عام 1908) يوم نودي بالدستور وأعلنت الإدارة السياسية، وأصبحت الحكومة نيابية، وغدت جمعية الاتحاد والترقي حامية الدستور. وعندما ظهرت أعمال بعض الذين استولوا على منصة الحكم مغايرة لأحكام الدستور والحرية الشخصية، ورأيناهم ساعين إلى تتريك العناصر وهضم حقوق العرب انشققنا عنهم وهجرناهم".
وبعد مقال العسلي هذا تلاحقت الأحداث العالمية، واندلعت نيران الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، حرباً بين الدول الاستعمارية فرنسا وبريطانيا ومعهما روسيا القيصرية والولايات المتحدة الأميركية من جهة وألمانيا القيصرية ومعها النمسا من جهة أخرى. وكان السبب الجوهري لهذه الحرب سعي ألمانيا لإعادة تقسيم مناطق النفوذ في العالم لصالحها. لم تكن آراء القابضين على نواصي الحكم في استنبول متفقة إزاء طرفي النزاع.
ولكن الجناح الموالي للألمان في قمة السلطة بزعامة أنور باشا وزير الحربية انتصر في دفع الدولة العثمانية لخوض غمار الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا باسم "الجهاد" و "الحرب المقدسة".
وتحت راية هذه "الحرب المقدسة" المزعومة قام جمال باشا السفاح بإعدام القوميين العرب ودعاة الإصلاح في عامي 1915و 1916. وكان شكري العسلي أحد ضحايا "الجهاد" إلى جانب ألمانيا، وسقط شهيداً على أعواد المشانق في السادس من أيار عام 1916.
نشر شكري العسلي قرابة عام 1910 كتيباً بعنوان "كتاب القضاة والنواب" يحتوي على ثماني عشرة صفحة طبع بمطبعة المقتبس بدمشق بدون إشارة إلى تاريخ الطبع. ولكن "مكتبة الدولة البروسية- برلين"، التي تملك نسخة من الكتاب تحت رقم 10989-1917 أشارت إلى أن تاريخ الطبع حوالي 1910 مشيرة إلى أن محتوى الكتاب "يدور حول إصلاح حالة القضاء".
وسنقوم بتلخيص هذا الكتيب معتمدين في كثير من الأحيان على النقل الحرفي موضوعاً بين قوسين دون الإشارة إلى النقل.
وبمناسبة الذكرى الثمانين لاستشهاد شكري العسلي دفاعاً عن العرب وفي سبيل تقدمهم وازدهارهم نقدم ملخصاً لهذا النتاج الفكري.
*** *** *** *** ***
يتألف "كتاب القضاة والنواب" لشكري العسلي من ستة أقسام هي: 1- صحيفة من تاريخ القضاء.. 2-ولاية المظالم.. 3- القضاء في الدولة العثمانية.. 4-أوصاف القضاة الشرعيين... 5-أحوالهم الأخيرة... 6-نظرة في إصلاحهم.
-1-
استهل العسلي القسم الأول من كتابه بالفقرتين التاليتين:
ترى الناس على اختلاف مذاهبهم ونحلهم وأجناسهم مجمعين على انتقاد أعمال القضاة والنواب شاكين كل حين من ظلمهم وغدرهم على أن العدل والأمن والراحة العامة وتأمين الحقوق في أيديهم وحياة الأمة وعمران الوطن وسعادته تتوقف على إصلاحهم فهم على ماهم عليه من المكان من حيث الدين والدنيا نرى أكثرهم كانوا في أكبر المخربين في هذا المجتمع الإنساني وقد تيسر لي اختبار أعمالهم وأفعالهم فرأيت أن أكتب شيئاً عنهم غير أني لم أقدم عليه قبل الرجوع إلى أمهات الكتب الدينية والوقوف على حقائق هذا المنصب العظيم.
وقد انشأت هذه المقالات بعد أن طالعت مقدمة ابن خلدون، وحاشية ابن عابدين وتكملته، والنظائر، والأحكام السلطانية، وتاريخ الطبري، وتاريخ الكامل لابن الأثير، ورحمة الأمة في اختلاف الأئمة، والميزان للشعراني، وسراج الملوك وغيرها. ولذلك أرجو من وجد غرابة في أقوالي أن يرجع إلى هذه الكتب المهمة.
بعدها استعرض العسلي باختصار تاريخ القضاء منذ صدر الإسلام إلى أيام المماليك. فوظيفة القاضي في صدر الإسلام كانت محصورة في الفصل بين الخصوم فقط، ثم اتسعت فيما بعد. و "كان الخلفاء الأمويون والخلفاء العباسيون في أول أمرهم لا يُولّون القضاء إلا لأهله. وكانوا يرغبون في علم القاضي وعقله وفضله وكمالاته ويولّون القضاء للمعتزلي والظاهري والشافعي والحنفي والحنبلي والمالكي. وكان بين القضاة من مزج المذهبين في خطته. ولما تسلط المماليك وصار لهم الأمر والنهي أصبحوا سلاطين مطلقين في مقر الخلافة، أخذوا يتدخلون في القضاء مع أنه من حقوق الخلافة الصريحة، وصاروا يولّون من يشاؤون فأضاعوا حقوق الله وحقوق عباده وهتكوا حرمة الدين".
وذكر العسلي أن معز الدولة بن بويه وليى القضاء بالإلتزام لأبي العباس عبد الله بن الحسن بن أبي شوارب بمبلغ مئة ألف درهم سنوياً. ثم أصبحت الحسبة والشرطة تولى بالضمان. وهذا- في رأي العسلي من أسباب انقراض دولة بني العباس. "وهكذا فسد" -كما كتب العسلي- "أمر القضاء وقلّ من تولاه من أرباب الفقه والاستقامة".. "وكان بعض الزهاد المتقين من الفقهاء يمتنعون عن قبول القضاء لما يشاهدونه من الفساد في تلك الأيام".
-2-
"ولاية المظالم أو النظر في المظالم وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء".
وكانت وظائف ولاية المظالم تقوم بعشر مهمات منها: النظر في تعدي الولاة على الرعية وظلمهم، النظر في جور عمال المال وجباته، النظر في إرجاع الغصوب إلى أصحابها، تنفيذ ما وقف القضاة من أحكام لضعفهم عن إنفاذها وعجزهم عن المحكوم عليه لتعززه وقوة يده ولعلو قدره.
-3-
انتقل العسلي في القسم الثالث من كتابه إلى "القضاء في الدولة العثمانية"، حيث استقر القضاء أيام محمد الفاتح بتعيين قاضيين: قاضي عسكر الروم ايلي، أي لبلاد البلقان الخاضعة للعثمانيين، وقاضي عسكر الأناضول. وأصبح منصب الإفتاء أعلى من منصب قاضي عسكر، وجعلت له رئاسة الطرق العلمية ونظارة المحاكم الشرعية، وعُرِف باسم شيخ الإسلام، وأصبح مقامه معادلاً لمقام الصدارة العظمى (رئاسة الوزارة).
وكان "طلبة العلوم الدينية عندما ينجزون دروسهم على الطريقة القديمة يقيدون أسماءهم في جريدة الدولة فيقدون قضاة". ومع الزمن صارت "قوة الوساطة والشفاعة والرشى تؤهل الجاهل لبلوغ تلك المناصب فدخل الفساد فيها حتى أصبح القضاء ألعوبة بأيدي البحارة وصعاليك الناس. وأنشأ من ينال شهادة الملازمة بوسائط غير مشروعة يصل بها إلى القضاء".
تتبع العسلي آلية تطبيق "أحكام العدل" ومنها تأسيس مجلس "حضور مرافعة سي" برئاسة شيخ الإٍسلام وحضور قاضي عسكر للنظر في الدعاوى التي يتعذر حلها في المحاكم الصغيرة. وقام هذا المجلس بفتح مكتب (مدرسة) عام 1272 لتأهيل نواب القضاة. وأصبح لزاماً أن يكون نائب القاضي من خريجي هذه المدرسة.
"وبعد ذلك انقسم مستخدمو الشريعة إلى قسمين الأول للفتوى والثاني للقضاء وصار في مركز كل ولاية ولواء وقضاء مفتٍ وغدا المفتي مرجعاً لحل الأمور الشرعية وعُدّ شيخ الإسلام المفتي الحقيقي".
كما "حَصِرَ أمر القضاء في قاضي عسكر الروم ايلي وقاضي عسكر الأناضول وقاضي الآستانة وقاضي غلطة وقاضي الخواص الرفيعة وقاضي مكة وقاضي المدينة. وغدا قاضي عسكر الأناضول قاضياً على آسيا إفريقية. أما بقية البلاد فيحكمها نواب هؤلاء القضاة".
-4-
حمل القسم الرابع من كتاب العسلي عنوان: "أوصاف القضاة الشرعية".. "القضاء" -كتب العسلي- "فرض كفاية وسنة متبعة لايجوز أن يقلد القضاء إلا من تكاملت فيه شروطه...". "وأما أصول الأحكام الشرعية فهي أربعة أحدها علمه (القاضي، بكتاب الله والثانية علمه بسنة رسول الله... والثالثة علمه بتأويل السلف... والرابعة علمه بالقياس".
"فإذا أحاط علمه بهذه الأصول الأربعة للأحكام الشرعية عُدَّ فيها من أهل الاجتهاد في الدين وجاز له أن يفتي ويقضي وإن أخلَّ بها أو بشيء منها خرج من أن يكون من أهل الاجتهاد فلم يجز أن يقضي ويفتي. وجوز أبو حنيفة تقليد القضاء من ليس من أهل الاجتهاد ليستفتي في أحكامه وقضاياه، واختلف أصحابه فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه. والذي عليه جمهور الفقهاء أن ولايته باطلة وأحكامه مردودة".
وبعد سرد تاريخي لأحوال القضاء يقول العسلي: "واتفق الأئمة الأربعة والفقهاء المتقدمون والمتأخرون على أن القاضي إذا أخذ القضاء بالرشوة لا يصح قضاؤُه، وإذا حكم لا يُنفّذ حكمه ويجب نقضه. وأجمع الفقهاء على أن القاضي إذا ارتشى لا ينفذ قضاؤُه فيما ارتشى فيه. وقال السرخسي لا يُنَفَذْ كله".
هذه الفقرة تعبّر بوضوح عن هدف العسلي من وراء دعوته في كتابه إلى إصلاح القضاء عن طريق اجتثاث جذور الرشوة في هذا السلك. فالعسلي يقدم البراهين الدامغة، في القسم الخامس، مبيناً أن معظم القضاة ونوابهم في العهد العثماني دفعوا الرشاوى لأصحاب القرار من أجل الحصول على منصب القضاء، ثم تلقوا الرشاوى لاسترداد مادفعوه في إستنبول من جهة ولجمع ثروة لهم من جهة أخرى.
-5-
القسم الخامس والهام من الكتاب يتناول أحوال القضاء العثماني المتردي في العهود العثمانية الأخيرة. وواضح من هذا القسم أن العسلي كان على اطلاع واسع وعميق على أحوال القضاء وماوصل إليه من انحطاط.
يبدأ العسلي بقضية تأهيل القضاة. فنواب القضاة، الذين تخرجوا من مدرسة النواب المؤسسة 1272، لم يكونوا في أكثريتهم مؤهلين لممارسة القضاء. وجميع من التقى بهم العسلي من خريجي مدرسة نواب القضاة لم يكونوا عالمين بأحكام الشريعة ووظائف القضاء. ويشبههم العسلي بـ
"حاطب ليل"، يخبطون في أحكامهم خبط عشواء".
ويشرح العسلي بالتفصيل كيفية تجديد تعيين نواب القضاة في الآستانة. فهم حين "يذهبون إلى الآستانة في طلب التعيين ينتظرون زماناً طويلاً ويتكبدون نفقات طائلة ويقاسون أنواع العذاب ولايحصلون على نيابة (القضاء) إلا بعد أن يصرفوا ماجنوه من أموال العباد في خلال نيابتهم الأولى. فيخسرون ماجمعوه وتبقى عليهم حقوق العباد وعذاب الواحد الديان. وأغلبهم يصل إلى النيابة (نيابة القضاء) إما بطرق غير مشروعة وإما بشفاعة غير جائزة وندر من غدا نائباً بطرق سهلة".
وبما أن رواتب هؤلاء النواب قليلة، وهي لا تكفي لسد نفقاتهم، "لذلك تراهم منصرفين إلى ادخار الأموال ليصرفوها في طرقهم وإقامتهم بالآستانة وأخذ النيابة. ولهذا السبب أيضاً ترى همهم تزييد العائدات التي أنكرها الفقهاء". ويقول العسلي إن المشيخة الإسلامية تركت تلك العائدات للكتبة مثل تزكية الشهود ونفقات الطريق وأجرة القيد ومايسمونه الدلالية والقرطاسية. ولكن نواب القضاة قاسموا كتبة المحاكم تلك "المغانم". ولم يكن أمام الكتبة إلا السكوت وإلا فمصيرهم العزل. وكثيراً ماأحال نواب القضاة الدعاوى الحقوقية إلى المحكمة الشرعية للحصول على العائدات.
يذكر العسلي أن العائدات التي تتجاوز الخمسمئة كانت تتقاسمها خزينة الدولة مع النواب، وما كان دون الخمسمئة فهو من حق الكاتب ونائب القاضي. ولهذا السبب ندر أن تجاوزت العائدات الخمسمئة، كي تدخل جميعها في جيوب القضاة والكتبة. ويكرر العسلي أكثر من مرة أن الفقهاء المتقدمين أفتوا بعدم تناول القضاء للعائدات، وقالوا بتخصيص رواتب معلومة كافية تدفع للقضاة من بيت المال كي يبتعدوا عن المكاسب ويهتموا بمصالح الناس.
ويروي العسلي من جهة ثانية تفاصيل واقعية عن اندفاع نواب القضاة بصورة جنونية لتحرير التركات وهدفهم هو الحصول على العائدات والنفقات المترتبة على تحرير التركة. "فنواب (القضاة) في الأناضول تستخدم النواب الجوالين في تحرير التركات فيطوف هؤلاء القرى ويفتشون القبور والمدافن ويستخبرون عن الأموات"، كي يقوموا بتحرير تركاتهم. "فيتألم الورثة وأهل القرية وتستولي عليهم الكآبة والأحزان فوق حزنهم غير أنهم لا ينطقون ببنت شفة لأن النائب المتجول جاء باسم الدين والحكومة".
"وأما تحرير التركات في مراكز الولايات فذلك من شأن النائب وكتبة المحاكم فهؤلاء يستخدمون جواسيس وأعواناً يطوفون في البلدة ويستخبرون عن الأموات من المغسلين والحفارين. وحينما يعلمون بتركة تستحق التحرير يذهبون إليها مهرولين، فهنالك الطامة الكبرى والمصيبة العظمى على الأيتام. فتؤخذ الأشياء الثمينة والنادرة بثمن بخس واسم مستعار وترسل إلى بيوت النواب (القضاة) والكتبة. ثم يحسبون أجرة الدلالة والقيد وأجرة إعلامات الديون وإعلامات الصلح وأجرة دفتر القسام وأجرة أقدامهم لأنهم كلفوا أنفسهم وتعبوا في حفظ حقوق الأيتام والورثة. وبعد ذلك يضمون الطوابع والأوراق الحجازية ويأخذون كل هذه النفقات من ثمن التركة فيصبحون بذلك شركاء الورثة. وهذا الأمر يكاد يكون عاماً. وأما سوء الاستعمال في الإدانة والاستدانة وثبوت الرشد فحدث عنه ولاحرج. وندر النواب (القضاة) الصالحون الذين لايمسون أموال الأيتام".
"وزد على ذلك كله أن النواب ا(القضاة) أعضاء في مجالس الإدارة ومجالس القرعة العسكرية (التجنيد) ولجنة الفراغ ورؤساء للمحاكم البدائية الجزائية ومحاكم الحقوق ودائرة الأجراء. ولهذا لا يفترون عن الاستفادة الغير المشروعة من كل مسألة لهم فيها علاقة. فالناس يتألمون مما يشاهدونه من سوء استعمالهم في قسم الجزاء فيحكمون على بريءٍ ويبرؤون الجاني ويتركون الأشقياء والمجرمين ويحبسون المساكين. وتسهيلاً لمقاصدهم يجعلون غرفة الاستقبال في بيوتهم محكمة شرعية، على أن الفقهاء صرحوا بأن القضاء يقام في أكبر الجوامع أو في محل خاص في منتصف البلدة. فلو نظرنا إلى التاريخ لعلمنا أن أهم المدارس بدمشق كانت مقراً للقضاة وأن المدرسة العادلية كانت مقراً لقاضي المذهب الشافعي".
-6-
القسم السادس والأخير تحت عنوان "نظرة في إصلاحهم"، أي إصلاح القضاة ونوابهم والقضاء بعامة. وهنا في هذا القسم تتبدى روح الإصلاح الجياشة في صدر شكري العسلي، وهي التي دفعته لكتابة مقالاته الست هذه. لقد كانت الدعوة لإصلاح القضاء إحدى مطالب التيار الإصلاحي، الذي ظهر في دمشق وعدد من مدن بلاد الشام في أعقاب زوال حكم السلطان عبد الحميد الاستبدادي ومجيء حزب الاتحاد والترقي إلى السلطة عام 1909. لقد دعا المصلحون العرب إلى إجراء إصلاحات طفيفة أو جذرية في جسم الدولة العثمانية. وأتى في مقدمة ذلك الدعوة إلى اللامركزية ومساواة العرب بالأتراك في شتى الميادين. وإذا كان شكري العسلي قد خاض غمار السياسة في مواجهة سياسة التتريك والتسلط، فإنه في بحثه هذا ودعوته لإصلاح القضاء قد طرق أبواب النهضة لنقل المجتمع من الركود والجمود واستغلال الدين والتخلف إلى مرحلة متقدمة تسير في معارج الرقي والتقدم.
أهم الأمور التي تناولها العسلي في ميدان إصلاح القضاء هي التالية:
-عجب العسلي "لحصر القضاء في قضاة العسكر وإبقاء هذا التعبير لأن هؤلاء القضاة هم في الحقيقة قضاة عامة المسلمين والأمة ليست بأمه مسلّحة" علماً أن المدن الإسلامية الكبرى احتوت على قضاء لكل مذهب.
-دعا العسلي إلى انتخاب قاض لكل مركز ولاية وفي مراكز الألوية الهامة. وأن يكون للقضاء حق استخلاف النواب بإذن من العاصمة، فيصبح أمر تعيين النواب بيد قضاة الولايات كي يتخلص هؤلاء من عناء السفر إلى استنبول طلباً للتعيين.
-تأليف مجلس من فحول علماء المسلمين لانتخاب القضاة. وهذا المجلس ينتخب ثلاثة علماء بأكثرية الآراء والخليفة (السلطان) يختار واحداً منهم قاضياً للقضاة.
-إصلاح الدروس في مدرسة تخريج نواب القضاة. وإنشاء مكتب استعدادي (تأهيلي) في دمشق، الغرض منه تعليم نواب القضاة اللغة العربية، التي لاغنى عنها، كي يستطيع نواب القضاة تطبيق أحكام الشريعة. وتسهيل دخول المدرسة الاستعدادية على الفقراء. وبعدها يذهب الخريجون إلى الآستانة لتلقي الدروس في مدرسة نواب القضاة.
-يجب أن يكون مقر الحكم في دائرة رسمية لا في بيوت نواب القضاة. ولا يجوز انفراد النواب في الحكم لأن الانفراد في الرأي "لايوافق مقتضيات زماننا، ناهيك من سوء أحوال النواب.
-يجب أن يكون مع كل نائب في القضاء أمينان عالمان، ومع كل نائب في الولاية أربعة أمناء أكفاء لهم حق الاعتراض.
-تدقيق أحكام القضاة ولهذا يجب تمييز أعلام محكمة القضاء في محاكم الولاية، وأعلام الولاية تميز في العاصمة استنبول.
-"يجب إصلاح أحكام المجلة بحسب الأحوال والزمان والمكان"، وعلى القاضي ألا يحصر حكمه في مذهبه واتباع هواه، ولهذا فلابدّ من تنقيح المجلة وتصحيح أبوابها وجعلها جامعة للأحكام الدينية الصريحة عن طريق أفاضل علماء المذاهب الأربعة. بما يوافق "العقل والنقل والزمان".
-أمناء القضاة من المسلمين. أما إذا "حدثت قضية بين مسلم وغير مسلم أو بين غير المسلمين فيجوز استنابة أعضاء المحاكم الجزائية والتجارية من غير المسلمين أثناء المحاكمة لأن الإمام الأعظم وغيره من الفقهاء صرحوا بجواز حكم الذميين بين أصحاب مذاهبهم. ومن لا يرضى بالحكم فله أن يميز دعواه في محكمة أخرى ... أما المسائل المذهبية فتترك لرؤسائهم الروحيين بحسب القواعد الصلحية.
-----------------
المصدر
http://www.awu-dam.org/trath/75/turath75-010.htm