(06-21-2010, 03:56 AM)إبراهيم كتب: ما الداعي لأخذ موقف من فريق ضد الآخر؟
دماء الفلسطينيين ثمينة... ولكن أيضا دماء الإسرائيليين ثمينة. الروح الإنسانية ثمينة أيا كانت. لا يجب أن نقف مع فريق ضد الآخر.
عزيزي ابراهيم, لم افهم منك عبارتك الغريبة اعلاه.... كيف لا يمكن ان نأخذ طرفا في صراع هناك غاصب و مغصوب؟
يقول عزمي بشارة, ان تكون موضوعيا لا يعني ان تكون حياديا...
اليهود و محرقتهم على راسنا من فوق, فليذهبوا و يقتصوا ممن اقترفها معهم (و هم ما زالوا على اي حال يلاحقون في مآوي العجزة الالمانية المتورطين حتى الان ) و لتعوض عليهم اوروبا ببلد منها.... اما بالنسبة لنا كعرب فهم أعداء محتلين و مغتصبين و نقف بحزم خلف حقوقنا و قضايانا المحقة و نقطة على السطر...
__________________________________________
المسألة اليهوديّة: نحن والمحرقة
عرض موسيقي في النصب التذكاري للمحرقة في برلين (أرشيف ــ أ ب)
تفرض المسألة اليهوديّة نفسها علينا بقوّة. لا بل فرضت إسرائيل المسألة اليهوديّة علينا بقوّة لأسباب محض دعائيّة، وساعدها في ذلك بعض الخطباء العرب الذين لا يفتحون أفواههم إلا قدّموا معونات غير مباشرة لإسرائيل. إسرائيل تقتل أبناء فلسطين وبناتها، والشعب الفلسطيني مُطالب بالحرص على مشاعر أعدائه. كما أن التيّار الليبرالي ـــ السعودي في العالم العربي بات يشترط رهافة شعور فائقة نحو المعاناة التاريخيّة (أو أكثر من رهافة الشعور؟) لليهود كشرط للاعتراف بالمعاناة الفلسطينيّة. وهناك أصوات في الأصوليّة الإسلاميّة تتعامل مع المسألة بكراهيّة محضة وابتذال شنيع، ومن دون أي لبس. هؤلاء يستعينون بعبارة «القرَدَة والخنازير»
أسعد أبو خليل*
المسألة اليهوديّة ليست جديدة. تناولها ماركس في كتاب معروف له. والكتاب تعرّض لتشنيع مَن لم يتعوّد قراءة ماركس، ولمَن يفتقر إلى شهيّة المفارقة عنده: أي أن يقول المرء شيئاً ويعني عكسه. وماركس كان بارعاً في هذا الاستخدام. تعرّض الكتاب لنقد سطحي اتُّهم فيه كاتبه المنحدر من عائلة حاخامات بمعاداة الساميّة. هذا لا يعني أن كتابات ماركس لم تكن تتضمّن إهانات للمرأة أو لليهود، ولا أحد يلاحظ أنها تضمّنت إهانات للمسلمين. لكن التهكّم ضد اليهود ورد في رسائل ماركس، لا في هذا الكتاب بالتحديد. الكتاب يميّز بين نوعين من الانعتاق: الانعتاق السياسي والانعتاق الإنساني. الانعتاق السياسي هو في إزالة الفوارق بين المواطنين (ويمكن أن نزيد، المواطنات) بينما يكون الانعتاق الإنساني أبعد أثراً لأنه يبدّد وهم إمكان التحرّر في ظل الدولة الرأسماليّة نفسها. الانعتاق السياسي هو في الطموح الليبرالي. الانعتاق السياسي يحسّن شروط الاستعباد، فيما يُنهي الانعتاق الإنساني الاستعباد من أساسه. يذكر ماركس أن المرء سرعان ما يكتشف بطلان الانعتاق السياسي بمجرّد الوصول الى مبتغاه. ما معنى أن يحصل المرء على حق التصويت والترشيح إذا كان آل الحريري يستقدمون الأنصار بالطائرات الخاصّة، وإذا كان الأمير مقرن يبتاع لنفسه نتائج الاقتراع قبل حصوله؟ ماركس تحدّث عن علاقة اليهودي بالمال في كتابه مما عرّضه للتقريع وللاتهام بمعاداة اليهوديّة، لكن القراءة المتأنيّة للكتاب تظهر بوضوح أن ماركس كان يسخر من الخطاب المعادي للساميّة وأنه كان يقول إن الكل «يهودي» ـــــ بالمعنى المُستعمل عند معادي الساميّة ـــــ تحت نمط الإنتاج الرأسمالي.
المعاداة العربيّة لليهود سياسيّة وليست عنصريّة واليهود العرب لم يكونوا من مناصري لإسرائيل مناسبة الحديث عن الموضوع متجدّدة. فالخطاب الديني المنتشر غيّر مضمون الخطاب المُناصر للقضيّة الفلسطينيّة عند العرب، وسمح بتسرّب خطاب معادٍ لليهود كيهود. التقرير السياسي الأخير لحزب الله تنبّه للأمر وحدّد عداءه لإسرائيل والصهيونيّة وليس لليهود على أساس الدين. أما حماس، فقد بدأت عند نشأتها بخطاب كريه في عدائها الديني، كما أن ميثاق حماس استعار من التقرير المُزوّر المُسمّى «بروتوكولات حكماء صهيون»، والذي عمد البوليس السرّي القيصري الى تزويره (تأليفه) لتأليب الرأي العام ضد الشعب اليهودي. في العالم العربي، لا تزال دارجة الاستشهادات بالبروتوكولات، وخصوصاً في الكتابات الإسلاميّة المعاصرة عن قضيّة فلسطين، وقد نشرها شقيق جمال عبد الناصر، كما أن عدداً من الكتّاب العرب يستشهد بها في كتاباته (أو كتاباتها) وكأنها مرجع موثوق به. والبروتوكولات تُعتبر دليلاً في الغرب على كراهية اليهود، فيما هي دليل على جهل المُستشهد بأصلها وفصلها. يستشهد الصهاينة في الغرب بكتاب جون بيترز «من الأزمنة السحيقة» الذي يتضمّن كذباً وافتراء ومزاعم باطلة عن الشعب الفلسطيني، لكن القيامة لا تقوم عندما يستشهد إيلي فيزيل بالكتاب، والأخير يُعتبر حجّة في الإنسانيّة رغم عنصريّته (راجع نقد نورمن فنكلستين الفذّ لكتاب بيترز). لكن ما يجوز للصهاينة لا يجوز لمعادي الصهيونيّة، في الغرب وحتى في الشرق حيث بات الخطاب الصهيوني يسري وينتشر في إعلام آل سعود كجزء من صفقة بين آل سعود وصهاينة الكونغرس للسكوت عن دور السعوديّة في إنشاء تنظيم إسلامي عالمي انبثقت منه «القاعدة»، وفي الأحداث التي سبّبت تفجيرات 11 أيلول.
هناك جانبان للمسألة اليهوديّة، جانب يتعلّق بنفي المحرقة وجانب يتعلّق بمعاداة اليهود. طلع جلبرت الأشقر أخيراً بمقابلة في جريدة إسرائيليّة للترويج لكتاب حديث له عن العرب والمحرقة (لم يتسنّ لي بعد قراءة الكتاب). وتحدّث الأشقر طويلاً عن المفتي الحاج أمين الحسيني وقرّر أنه كان يعاني من مرض معاداة لليهود. وذمّ المفتي في جريدة إسرائيليّة، كما فعل الأشقر، هو بمثابة ذم جمال عبد الناصر في جريدة سعوديّة، أو هو مثل ذمّ جورج حبش في الـ«نيويورك تايمز». هل نستطيع أن نتهم بناءً على القرائن والوثائق، المفتي الحسيني بمعاداة اليهود، أو باعتناق عقيدة معادية لليهود؟ الجواب سلبي. لنتفق أن عقيدة معاداة الساميّة، كأيديولوجيا عداء، هي نتاج الغرب المسيحي ترعرعت في كنفه وفي أحضان الكنيسة بالذات. لا يمكن مقارنة عقيدة معاداة اليهود كيهود وبثّ الكراهية ضدّهم في الكنيسة الكاثوليكيّة تاريخيّاً بالتعبيرات والكلام ضد اليهود الذي يصدر عن بعض العرب والمسلمين، أفراداً وتنظيمات، حتى لو نحت التعبيرات نحو السوقيّة والبذاءة. (هذا لا يسوّغ هذا الخطاب، لكن المقارنة التاريخيّة واجبة لأن الغرب قاطع في أحكامه الأخلاقيّة، أو اللاأخلاقيّة).
لنتفق أن العرب والمسلمين لم ينتجوا عقيدة أو أيديولوجيا عداء ضد اليهود كيهود عبر التاريخ، رغم كراهية ضد اليهود صدرت عن حاكم هنا أو عن فرد هنا، وعن بعض الفقهاء. المعاداة العربيّة لليهود هي سياسيّة وليست عنصريّة (أي ليست عرقيّة كما كانت ولا تزال في الغرب)، كما يشهد بذلك المؤرخ الصهيوني المعروف، برنارد لويس في كتابه «ساميّون ومعادون للساميّة»، ولويس لا يفوّت فرصة لذم العرب والمسلمين ـــــ أي أن شهادته في هذا الخصوص يُعتدّ بها لأنه لا يُمكن أن يُتهم بممالأة العرب والمسلمين. ويلاحظ لويس في كتابه أن التعبير المعادي لليهود ترافق مع مراحل الحروب العربيّة ـــــ الإسرائيليّة. أنا أذكر أول وعي لي عن اليهودي. كنت في سن السابعة في بيروت وسمعنا الكثير عن اليهود بعد الهزيمة الشنيعة عام 1967. أذكر يومها أن الطلاب في مدرستي تهامسوا أن بيننا في الـ«آي سي» طالباً يهودياً. أذكر أنني توجهت إليه في ملعب المدرسة وأذكر اسمه (من آل هاشم وكانوا يملكون محلاً لبيع الأحذية الفاخرة ـــــ كله فاخر في الترويج الإعلاني في مسخ الوطن، حتى الحمص) وسألته: هل صحيح أنك يهودي، كما يُقال؟ أذكر أنه ارتبك وأُحرج وأنه تمتم أنه ليس يهودياً. لكني أذكر أنه رحل عن المدرسة ولا أعرف ما حلّ به. لم نسمع به بعد ذلك. أي أن التعبير عن شك أو كراهية لليهود كانت نتيجة طبيعية ـــــ وإن غير مبرّرة ـــــ للصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.
برنارد لويس (أرشيف)وهناك عند زمرة الليبراليّين العرب (الوهابيّة الهوى) اجترار لكل الخطاب الصهيوني عن معاداة العرب لليهود كيهود. يهب الواحد منه إذا تلفّظ بكلام عن اليهودي الذي ضربه أو اليهودي الذي «حرق أشجاره» في نابلس، الخ. لكن هذا التعبير لا يجب أن يُصنّف كمعاداة لليهود. فإسرائيل تصف نفسها، وتصرّ على أن يُنظر لها، كدولة ليهود إسرائيل ويهود الشتات. وعليه، لا يخطئ ابن المخيّم إذا أشار إلى عدوّه بأنه «يهودي» لأن عدوّه هو بالفعل يهودي. لكن هذا لا يسوّغ العداء لليهود كيهود، ولا يمكن اعتبار مَن يصف عدوّه بـ«اليهودي» بأنه معادٍ لليهود بالضرورة. قد يكون معادياً، وقد لا يكون. كما أن إسرائيل نصّبت نفسها ناطقة باسم يهود الدول العربيّة وعملت على تهجيرهم، من العراق مثلاً أو من المغرب. (روى لي واحد من قلّة قليلة من اليهود اللبنانيّين الذين بقوا بعد عدوان 1982، وكان ـــــ خلافاً للصورة النمطيّة ـــــ سمّاكاً فقيراً في بيروت ـــــ أن الجيش الإسرائيلي الغازي كان يحتفظ بعناوين الباقين والباقيات من اليهود في لبنان، وأنه أرسل مَن يأتي بهم إلى إسرائيل. وصلت فرقة إليه لكن الأخير رفض، وأخبرهم أن ليس هناك ما يجمعه بالدولة اليهوديّة وأنه شعر بالأمان في ظل سلطة منظمة التحرير الفلسطينيّة. سمعوا كلامه وغادروا متبرّمين. لم يكن اليهود العرب إيلي فيزلمن المناصرين الطبيعيّين لدولة الكيان الغاصب: لكن هذا موضوع آخر يحتاج إلى معالجة من جوانب مختلفة، مثل مسؤوليّة الدول العربيّة، كلبنان، التي فرضت إجراءات تمييزيّة بحق اليهود من مواطنيهم ومواطناتهم بعد النكبة، بالإضافة إلى حملات الترهيب التي لجأ إليها الموساد لتخويف اليهود العرب، فضلاً عن تجنيد بعض اليهود العرب (مثل فضيحة «لافون») من قبل الموساد، ما أضفى نوعاً من الشك نحوهم لدى الأكثريّة غير اليهوديّة. لكن الليبراليّين العرب يجدون اليوم أن العبارة المُهينة لليهودي هي أفظع بكثير من القتل اليومي للشعب الفلسطيني على يد العدو الإسرائيلي.
غير أن جيلبرت الأشقر يختار، وفي صحيفة إسرائيليّة، أن ينبش تاريخ الحاج أمين الحسيني، وهو الموضوع المفضّل عند الصهاينة منذ ما قبل إنشاء الكيان. هناك عدد وافر من المقالات ومن الكتب، أضاف إليها جيلبرت الأشقر واحداً، عن علاقة الحاج أمين بالنظام النازي. يُقرّر الأشقر أن الحاج أمين كان «متعاملاً» مع الحكم النازي، وفي هذا كلام غير دقيق بالضرورة. إن المتعاملين مع النازيّة في فرنسا، مثل المتعاملين مع إسرائيل في لبنان (والذي يسعى فرقاء في الطرفيْن المتنازعيْن في لبنان إما للعفو عنهم أو لتخفيف أحكامهم على طريقة البطريرك صفير الذي لم ير يوماً دوراً خبيثاً لإسرائيل في لبنان والذي أرسل من يعزّي بمقتل شيخ عملاء إسرائيل، عقل هاشم) يساهمون في قتل الأبرياء وفي قتل المناضلين من أجل التحرّر. لم يساهم الحاج أمين، على علّاته وعلى غبائه الذي لا يُغتفر، في مقتل يهود، لا في أوروبا ولا في مكان آخر. والحاج أمين كان في بداياته متعاوناً ومتساهلاً مع الحكم البريطاني على أرض فلسطين. والخطاب الوطني الفلسطيني حتى في حقبة سيادة الحاج أمين كان مميّزاً (ويمكن الرجوع إلى وثائق تلك الحقبة في أوراق أكرم زعيتر بالإضافة إلى صحف الحقبة تلك) من حيث خلو الأدب السياسي الفلسطيني والخطاب السياسي من كراهية اليهود أو التحريض عليهم، كيهود. هذا لا يعني أن النضال المسلّح أو العراك بين طرفَي النزاع (واحد منهما عن حق وآخر عن عنصريّة صهيونيّة بغيضة) لم يؤدّ إلى مقتل أبرياء. لكن مسؤوليّة الإرهاب وقتل الأبرياء، حتى في الطرف اليهودي، يتحمّلها في الأمس واليوم المشروع الفلسطيني الذي طرد شعباً متجذراً من أرضه.
لكن الأشقر يصرّ على طرح موضوع الحاج أمين وأن يدين ما يسمّى «التحالف» بينه وبين الحكم النازي. لم يكن الحاج أمين متحالفاً مع الحكم النازي حتى لو عقد اجتماعاً واحداً (يصرّ المؤرّخ الفلسطيني فيليب مطر الذي كتب سيرة مرجعيّة عن الحاج أمين أنه ليس هناك من دليل على أكثر من لقاء واحد بين هتلر والحاج أمين على ما أخبرني أخيراً في بوسطن). والأمر، على بشاعته، واضح في السياسة الدوليّة. كان الحاج أمين يطلب (غبيّاً في ذلك) دعماً من عدوّ عدوّه. تحالف ريتشارد نيكسون في أوائل السبعينيات مع النظام الشيوعي في الصين رغم تاريخه العريق في مقارعة الشيوعيّة لأن الصين كانت عدوّة عدوّه، الاتحاد السوفياتي. لم يتهم أحد نيكسون بأنه كان شيوعيّاً، كما فعل الأشقر بحكمه على الحاج أمين. لم يتسبّب الحاج أمين بالويلات والكوارث التي لحقت بشعب فلسطين: إن المسؤوليّة الكبرى يجب أن تقع على الأنظمة العربيّة وإسرائيل. الحاج أمين كان كثيراً ما يرضخ لضغوط الأنظمة العربيّة. كان قيادة سيّئة وغبيّة وفاشلة، والشعب الفلسطيني يستحق أكثر من ذلك بكثير، لكن لا يجب تحميل الرجل أكثر مما يحتمل. ثم عندما يعتبر الأشقر أن الحسيني قال كلاماً مهيناً بحق اليهود في مذكّراته، فإنه لا يضيف أن معظم رجالات الغرب والبابا في الفاتيكان والرئيس ترومان كانوا أكثر معاداة لليهود من الحسيني. وهل هناك من هو أكثر معاداةً لليهود كيهود من الملك فيصل مثلاً؟ ثم، ماذا يريد الأشقر أو غيره ممن يحيي ليلاً ومساءً قصة الحاج أمين؟ هل يُراد أن يُقال لنا إن قضيّة شعب فلسطين ضعفت أو هزلت لأن الحاج أمين قال كلاماً مهيناً وضاراً عن اليهود في مذكّراته؟ ولماذا تُفرض معايير مثاليّة على قضيّة شعب فلسطين؟ عندما ناصر العالم قضيّة السود في جنوب أفريقيا، لم تُفرض عليهم أي شروط، وقد رفضت قياداتهم بشجاعة وصلابة (يحسدهم عليها كل من يرى سلام فيّاض وهو يشرف على إعداد طبق مسخّن عملاق) نبذ العنف كشرط للتفاوض. والثوّار السود في جنوب أفريقيا كانوا أحياناً يعبّرون عن عدائهم للبيض كبيض، كما أننا نذكر مشاهد ما يسمّى «العقود»، عندما كان يوضع إطار محترق حول عنق من يُشتبه في تعامله مع نظام الفصل العنصري. كان الليبراليّون البيض في الغرب يصفّقون لنضال السود من دون أن يعظوهم بضرورة اجتناب العنف. هذا يعني أن فرض المعايير الأخلاقيّة المتزمّتة على نضال شعب فلسطين لا علاقة له بالحرص على قضيّة شعب فلسطين بقدر ما هو مرتبط بالقضاء على نضال شعب فلسطين برمّته. والحاج أمين مات، فما هي ضرورة محاكمته اليوم، وفي صحيفة إسرائيليّة؟
ثم هناك قضيّة المحرقة. لا شك أن التشكيك بالمحرقة ينمّ إمّا عن جهل أو عن سوء نيّة أو عن الاثنين معاً. تجوز المقارنة: إن الذي يشكّك بأعداد الضحايا الفلسطينيّين في مجازر إسرائيل المتوالية أو الذي يشكك في رواية النكبة أو الذي يحاول أن يقول إن مجزرة جنين لم تكن مجزرة، يعبّر عن احتقار عنصري للشعب الفلسطيني وضحاياه. ثم هناك الجانب السياسي الذي لا ضرورة لبحثه: كون التشكيك بالمحرقة يقدّم خدمة مجّانيّة لإسرائيل، حتى إن العدو الإسرائيلي ينتظر على أحرّ من الجمر تصريحات أحمدي نجاد لاستغلالها دعائيّاً ولجمع التبرّعات باسمها. وقضيّة المحرقة يجب أن لا تصيب العرب بالإحراج أو الارتباك وكأنها صنيعتهم هم. ثم هناك كتاب لا يُذكر عادة في الشرق أو الغرب لمؤرخ صهيوني، روبرت ساتلوف ـــــ مدير الذراع الفكري للوبي الصهيوني والذي استساغ استضافة ثورة (حرّاس) الأرز قبل فرطها المضحك ـــــ وقد اعتبر فيه أن هناك أكثر من حالة قام فيها عرب ومسلمون بحماية اليهود. وبقاء اليهود في البلدان العربيّة حتى القرن العشرين دليل على أن العلاقة معهم لم تكن يوماً مثل حالة اليهود في الدول الأوروبيّة (يقول المُستشرق الفذ ماكسيم رودنسون إن الأقليات اليهوديّة في البلدان الإسلاميّة تعرضّت لتمييز لا لاضطهاد إلا نادراً ـــــ راجع كتابه عن إسرائيل والعرب).
إن قضيّة شعب فلسطين هي قضيّة سامية وأخلاقيّة وتستحق أن ترتقي إلى مستوى من النضال الأخلاقي الذي لا مثيل له. لكن هذا موقف نظريّ لنا كمثقّفين ومثقّفات (ماذا يفعل المرء ليصبح مثقّفاً؟ يجب أن ننبذ الكلمة من أساسها حتى لا نحمل على محمل الجد ما ينزف من أقلامنا أو من مفاتيح الحاسوب)، ومن السهل اتخاذه في المكاتب وفي قاعات التدريس الجامعي. ولكن، ماذا نريد أن نقول لشعب فلسطين، أو ماذا يريد جيلبرت الأشقر أن يقول لهم؟ ان عليهم تجميد أو تعليق النضال كي تتعرّض ظهورهم للجلد بالسياط لأنه مرّ عليهم قبل عقود قائد غبي وغير كفوء باسم الحاج أمين الحسيني؟ ولماذا تكون مسألة تعاطي (لا تحالف) الأخير مع النازيّة أكثر أهميّة من التعاطي المتعدّد من قبل منظمات صهيونيّة مع قطاعات مختلفة من النظام الهتلري (درس ليني برنير الموضوع في كتاباته)؟ إن العداء لليهود كيهود هو موقف عنصري منبوذ كما أنه ألحق
لماذا تُفرض معايير مثاليّة على المقاومة الفلسطينيّة وسود جنوب أفريقيا لم تفرض إطلاقاً شروط على ثورتهم؟ ضرراً فظيعاً بالقضيّة الفلسطينيّة في الغرب (روّج الإعلام الصهيوني في الغرب للكتاب الجاهل لمصطفى طلاس بعنوان «فطير صهيون» الذي يردّد فيه ترّهات قديمة لمعادي الساميّة في الغرب). وهناك في أوساط العرب من يظن أنه يتذاكى عندما ينفي عن نفسها (أو نفسه) تهمة معاداة الساميّة عبر القول إن «العرب هم ساميّون أيضاً». صحيح، لكن الجميع يعلم أن الكلمة تُستعمل للإشارة إلى معاداة اليهود واليهوديّة فقط. هذا هو الواقع، حتى لو كان غير علمي.
إن الواجب يقضي على العرب بإدانة المحرقة والعلم بها وفظاعتها، ولكن يجب أن لا يصبح ذلك شرطاً كي يدلي المرء برأيه في قضيّة تحرير فلسطين. وإدانة المحرقة إدانة للمجتمع الغربي الذي يتحمّل زرع الخطر الصهيوني الجاثم على صدورنا وحلقنا. نستطيع أن نطلب من الشعب الفلسطيني أن يثقّف نفسه إنسانيّاً، وأن يحترم ضحايا المحرقة، ولكن هل من يوصل الماء والدواء والغذاء إلى أهلنا المحاصرين في غزة؟ نستطيع أن نطلب من شعب «عموم فلسطين»، كما كان يُقال، أن يدين غباء الحاج أمين الحسيني وأن يهيل التراب على قبره، ولكن هل مَن يفتح الأنفاق إلى غزة، حتى لو أضرّ ذلك بحظوظ جمال مبارك الذي يسعى الى الملك متملّقاً الدوائر الصهيونيّة في واشنطن؟ نستطيع أن نطالب بتنقية الخطاب الفلسطيني من كل عناصر الكراهية وعدم الشعور، ولكن هل مَن يشير بالبنان إلى مَن زرعته إسرائيل حارساً على حدودها في رام الله؟
■ ملاحظة: يلقي الكاتب محاضرة عن «تحرير فلسطين: أين كان وأين أصبح» نهار الثلاثاء في الأول من حزيران في الجامعة اللبنانية ـــــ الفرع الأول ـــــ الحدث، مبنى كلية العلوم القاعة «أنكس واحد» من الثالثة بعد الظهر حتى الخامسة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
http://www.al-akhbar.com/ar/node/191580