{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
نزار قباني والنثر
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #11
نزار قباني والنثر

لا شكر على واجب يا ابن العم
وانشاء الله ساعود قريباً مع أجزاء من كتاب (( الشعر قنديل أخضر ))


(f)


02-26-2008, 11:53 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #12
نزار قباني والنثر


(f)


(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 03-03-2008, 09:52 PM بواسطة ابن حوران.)
03-03-2008, 09:38 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #13
نزار قباني والنثر
كتاب الشعر قنديل أخضر :

معركة اليمين واليسار في شعرنا العربي


أتساءلُ , وملفُّ قضية الشعر العربي بين يديّ هل يحق لي أن امدَّ اصابعي إلى هذا الهرم المنحوت من حجارة الأعين , ومن ورق الورد ورفيف الأحلام .
فأنا , كشاعر , جزء من القضية التي كلفت النظر فيها . فكيف ألبس ثوب القاضي وثوب المتهم في آن واحد ؟
كيف أفصل في معركة أنا بعض وهجها ودخانها ؟
هل أستطيع أن أكون موضوعياَ إزاء موضوع اشتبك بلحمي وأنسجتي
كما تشتبك خيوط الصوف بين يديْ قطة لاهية .
إن الموضوعية المطلقة في الأدب شيء مستحيل . ولا يمكنني أن أتصور الناقد أنبوباَ في مختير
أو عدسة في مجهر لا تنفعل بما ينطبع عليها من خطوط وظلال . لا بد لنا أن نحبَّ أو أن نكره .
أن نقبل هذه اللوحة أو ان نرفضها , أن نبارك هذه القصيدة أو نلعنها .
أما الوقوف في منتصف الطريق , كأجزاء سيارة مفككة , مختبئين وراء قناع موضوعيتنا
فهو إلغاء لإنسانيتنا وحرية اختيارنا , وهبوط بنا إلى مستوى الحجارة والطحالب .
وأنا في هذا البحث عن الشعر أرفض أن أصبح حجراَ أو طحلباَ . أرفض أن أكون أنبوباَ
في مختبر لا يتذوق نكهة القصائد ولا يشم رائحتها . أرفض أن أبقي في ( المنطقة الحرام )
التي لا تعرف أن تحبَّ ولا تعرف أن تكره .

موضوعي هو معركة اليمين واليسار في الشعر العربي . واحتكاك اليمين باليسار أمر حتمي
في كل مجتمع صحيح البنية ومعافى . المجتمع المريض وحده هو الذي لا تشتبك كريَّاته
الحمراء والبيضاء في صراع شريف من أجل الحقيقة .
ما هو اليمين في شعرنا المعاصر ومن هم اليمينيون ؟
اليمين هو الجانب الوقور الهادىء الذي يؤمن بقداسة القديم , ويقيم له الطقوس ويحرق له البخور
إنه الجانب الذي ارتبط ذهنياَ ونفسياَ ووراثياَ بنماذج من القول والتعبير يعتبرها نهائية
وصالحة لكل زمان ومكان ويرفض أي تعديل لها أو مساس بها .
واليمينيون من شعرائنا هم تلك الفئة التي لا تزال ترى في ( المعلقة ) وفي (القصيدة العصماء )
ذروة الكمال الأدبي وغاية الغايات .
والقصيدة لديهم هي الوعاء التاريخي الذي يتسع لكل ما يسكب فيه , والثوب الجاهز لكل القامات
ولكل الهامات . وهي لديهم قدر محتوم لا نملك له دفعاَ ولا رداَ .
في مواجهة القديم المتعصب لحوليَّاته وألفيَّاته , يقف جيل اليسار بكل طفولته ونزقه وجنونه .
إنه جيل مفتوح الرئتين للهواء النظيف , مبهور بهذه التيارات الفكرية الجديدةتهبَّ عليه
من كل مكان فتعلمه أن يثور , وأن يرفض , وأن يحفر بأظافره قدراَ جديداَ .
إنه جيل يقرأ التاريخ ولكنه يرفض أن يبتلعه ضريح التاريخ .

- هندسة القصيدة العربية -

جيل اليسار يعتقد أن القصيدة التقليدية كما ورثناها , بأغراضها المعروفة , وأبياتها الملتصقة
ببعضها إلتصاقاَ صنعياَ كقطع الفسيفساء , هي إلى الزخرف والنقش أقرب منها إلى العمل الأدبي
المتماسك الملتحم كقطعة النسيج .
كما أن أسلوب بنائها يشابه بناء القلاع في القرون الوسطى ..مرمر .. ورخام .. وشموخ أعمدة .
أما القصيدة الحديثة فهي أشبه بديكور حجرة صغيرة وزعت مقاعدها ولوحاتها وأوانيها بشكل
ربما لا يوحي بالثراء الفاحش ولكنه يوحي بالدفء والإلفة .
القصيدة التقليدية لون من الريبورتاج السريع يجمع فيه الشاعر كلَّ ما يخطر بباله من شوؤن الحب
والحياة والموت والسياسة والحكمة والأخلاق والدين . كلُّ هذا يعرضه الشاعر بخطوط متوازية لا تلتقي أبداَ .
القصيدة التقليدية مجموعة أحجار ملونة مرمية على بساط , تستطيع أن تزحزح أي حجر
منها إلى أية جهة تريد . ومع ذلك تبقى الأحجار أحجاراَ والقصيدة قصيدة .
هندسة القصيدة التقليدية هندسة مسطحة تعتمد على الخطوط الأفقية وعلى التقابل والتناظر
في حين أن هندسة القصيدة الأوربية هندسة فراغية تعتمد على البعد الثالث .
فالبيت في القصيدة الأوروبية ليس عالماَ قائماَ بذاته كما في القصيدة العربية
إنه خليَّة حية تعيش بين مجموعة خلايا في كيان عضوي واحد لذلك كان حذف بيت
في القصيدة الأوروبية معناه تعطيل خلية عن أداء وظيفتها .
والقصيدة الأوروبية بعد ذلك تنمو نمواً داخلياَ متدرجاّ حتى تصل إلى نقطة التجمع الأخيرة كما تصب الروافد الصغيرة في النهر الكبير , وكما تأخذ النغمات بأذرع بعضها لتشكل السمفونية الهادرة .

- تخطيط القصيدة العربية -

إن القصيدة العربية ليس لها مخطط . والشاعر العربي هو صياد مصادفات من الطراز الأول
فهو ينتقل من وصف سيفه .. إلى ثغر حبيبته , ويقفز من سرج حصانه إلى حضن الخليفة بخفة بهلوان . وما دامت القافية مواتية والمنبر مريحاً فكل موضوع هو موضوعه , وكل ميدان هو فارسه .. من حطين إلى اليرموك إلى القدس إلى الجزائر .. إلى آخر هذا الفلم الاخباري الذي يعرضه علينا شعراء اليمين كما تعرض على الجمهور البسيط أفلام رعاة البقر فلا تتجاوز الإثارة سطح جلده .
في هذه النقطة بالذات يتفوق اليمين على اليسار أوهكذا يخيل إلينا . فالفخامة والجزالة وتساقط الحروف العربية
وتكسّرها يحقق لها نجاحاً منبرياً أكيداً , لأن جمهورنا ورث مع ما ورث غريزة التطريب , وحسّه الموسيقي
مرتبط تاريخياً بالآلات ذات الوتر الواحد وبالأدوار الشرقية التي تعتمد على النغمة الواحدة بشكل دوري .
أما الشاعر العربي الحديث فلا يحاول استعمال طريقة التخدير الموضعي هذه ولا يلجأ اليها .
إن اللغة لديه ليست غاية بحد ذاتها ولكنها مفاتيح الى عوالم أرحب وأبعد .
وقيمة الحروف تكون بقدر ما تثيره حولها من رؤى وظلال وتبعثه من إيحاءات .
إن البناء الموسيقي في قصيدة الشاعر الحديث مركب من فلذات نغمية تعلو وتخفت ,
وتصطدم وتتفرق , وترق وتقسو , وتهدأ وتنفعل .
ويتولد من هذه الحركة الدائمة لذرّات القصيدة موسيقى داخلية هي إلى البناء السمفوني أقرب منها الى دقَّات الساعة الرتبية .
إن ثورة اليسار على ناحية الشكل في القصيدة التقليدية لا تعني أبداً رغبة اليساريين ,أو المعتدلين منهم على الأقل , في إلغاء هذا
الشكل أو حذفه . إن وعيهم التاريخي والجمالي لطبيعة الشعر عامة ولطبيعة القصيدة العربية خاصة وظروف نشأتها وتكوّنها , يمنعهم من التطرف والمغالاة .
إنهم يؤمنون أن الانسان هو الذي يصنع قوالبه وليست هي التي تصنع الانسان . وليس في الفن أشكال نهائية أو أبدية . فالأثواب الجاهزة لا تطيقها أجساد الموهوبين وكل موهوب يختار الثوب الذي يستريح فيه.
إنسان اليسار يرفض أن يضع أفكاره في قوالب كلسية جاهزة . وهو يرى أن البيان والبديع والطباق والجناس وما يتصل بها من فسيفساء لغوية ليست سوى (حذاء صيني ) أعاق الفكر العربي قروناً عن النمو والحركة .


يتبع


:redrose:
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 03-05-2008, 09:47 PM بواسطة ابن حوران.)
03-05-2008, 09:46 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #14
نزار قباني والنثر


- مأساة القافية -

إن اليسار لا يطالب أبداً بإلغاء الأثواب الفضفاضة في شعرنا , لأنه يعرف أن التخلي عن اثوابنا القديمة معناه العري الأدبي التام . ولكنه يطالب بتعديل هذه الأثواب بشكل يجعلها عصرية .. وعملية .. ومريحة .
انني أستعمل هنا كلمة (مريحة) لانها الكلمة الأصلح لما أريد التعبير عنه , إذ لا شاعر عربي _مهما كان مجيداً_
يستطيع أن يدعي أن جميع قوافيه مستريحة وأنه دائماً في احسن حالاته . فالقافية _برغم كل سحرها وإثارتها _ نهاية يقف عندها خيال الشاعر لاهثاًَ . إنها اللافتة الحمراء التي تصرخ بالشاعر (قف) حين يكون في ذروة اندفاعه وانسيابه , فتقطع أنفاسه , وتسكب الثلج على وقوده المشتعل , وتضطره الى بدء الشوط من جديد .
والبدء من جديد معناه الدخول _ بعد الصدمة _ في مرحلة اليقظة أي مرحلة النثر . وبتكرر الصدمات تصبح أبيات القصيدة عوالم نائية وطوابق مستقلة في بناية شاهقة .
هذه الطريقة في عمارة القصيدة العربية جعلتها قصيدة بيت واحد , نستعمله في حديثنا حكمة مرسلة , ونعلقه على جدران بيوتنا مكتوباً بماء الذهب .
وليس ( بيت القصيد ) كما عرفناه سوى ذلك البيت من القصيدة الذي كتبه الشاعر وهو في لحظة انسيابه الحر , أي قبل اصطدامه بأي حاجز مصطنع .
وربما كانت ظروف الشاعر العربي القديم وحياته غير المستقرة , وعدم توفر أدوات الكتابة بين يديه هي التي جعلت فنه مخزوناً في طرف لسانه , واضطرته الى الإيجاز والتركيز وتضمين فلسفته وعواطفه ونظرته الى الوجود في بيت شعر مكثف يسهل حفظه وروايته .

- نحو معادلات موسيقية جديدة للشعر العربي -

الشعر هندسة حروف وأصوات نعمِّر بها نفوس الآخرين عالماَ يشابه عالمنا الداخلي .
والشعراء مهندسون لكل واحد منهم طريقته في بناء الحروف وتعميرها . فالحجر متوفر للجميع
ولكن القلة من الموهوبين هي التي تعرف أين تضعه وكيف تضعه .
وبالرغم من اعترافنا بوجود قواعد أساسية للفن الهندسي , فإن حرية المهندس تبقى لا حدود لها .
وهي التي تتيح له في كل لحظة أن يحذف ويضيف ويعدّل في تفاصيل مخططه حتى يقتنع بكماله الفني .
معنى هذا أن هندسة القصيدة – أي وضع سلَّمها الموسيقي – عمل مترابط أعمق الارتباط بحرية الشاعر ومهارته ومعرفته بكيمياء اللفظة . ومعنى هذا أيضاَ أن موسيقى الشعر ليست مخطوطة كلاسيكية محفوظة في متحف ,
لا يسمح لنا بلمسها أو بإخراجها إخراجاَ جديداَ وبتوزيع جديد .
إن بحور الشعر العربي الستة عشر , بتعدد قراراتها وتفاوت نغماتها هي ثروة موسيقية ثمينة بين أيدينا ,
وبإمكاننا أن نتخذها نقطة انطلاق لكتابة معادلات موسيقية جديدة في شعرنا .
إن ذوقنا الموسيقي تطوّر ونما وتأثر إلى حد بعيد بالبناء السمفوني المركب في الموسيقى الاوربية ,
وبالأصوات الحادة المتمزقة التي نسمعها كل يوم كموسيقى الجاز والبوق والصنوج النحاسية .
لقد تجاوزنا مرحلة ( ربابة الراعي ) بإيقاعها البدائي البسيط إلى مرحلة البناء الموسيقي المتداخل
وانتهت في حياتنا مرحلة ( القصيدة العصماء ) بأبياتها المئة , تجلد أعصابنا بقواف نحاسية مرصوصة
كأسنان المشط ... نعرفها قبل أن نعرفها .
الشعر العربي الحديث يُسمع بالعين , اي أنه موسيقى مقروءة . وهذا دليل آخر على دخوله مرحلة التحضر .

- اليسار ولغة الشعر -

الشعر هو همسُ الإنسان للإنسان .هذه هي حقيقة الشعر منذ هوميروس إلى فاليري .
إذن فالشعر أداة نقل راقية بين الهامس والمهموس له . أداة تصلنا بالآخرين وتوحدنا معهم .
ووسيلة الشعر إلى الناس هي اللغة , وهذا يقودنا إلى طرح السؤال التالي : هل هناك لغة شعرية ؟
هل هناك حدود بين لغة نستعملها لكتابة القصيدة , ولغة نستعملها لكتابة الرواية أو المقال ؟
أنا شخصياَ أرفض تقسيم اللغة إلى مناطق جغرافية ومناخات . فاللغة هي هواء مشاع
يتنفسه الجميع ونقد موحَّد مطروح في كل يد .
وإذا كانت اللغة هي الحجارة التي نبني بها أفكارنا فإن الشعر هو ذلك الفن الهندسي
الذي يحول الحجارة إلى قصور كقصور ألف ليلة وليلة .
كل الكلمات بلا استثناء هي موضوع للشعر . والفن الشعري هو ذلك الساحر الذي يحول
النحاس إلى ذهب ويقلب التراب إلى ضوء .
إن اليمين متعصب للغة ( الأغاني ) و ( العقد الفريد ) ولديه عن البلاغة والفصاحة مفهوم
لا يقبل أن يتزحزح عنه . لذلك فهو ينظر باستخفاف إلى كل إنتاج جديد ويعتبره مثالاَ للضعف والركاكة .
أما اليسار فهو يؤمن بأن لغة الحديث اليومي , بكل حرارتها وزخمها وتوترها , هي لغة الشعر
وأن الكلمة الشعرية هي الكلمة التي تعيش بيننا .. في بيوتنا .. وحوانيتنا .. ومقاهينا
لا الكلمة المدفونة في أحشاء القاموس .
لقد نزل الشعر – نتيجة للمد الاشتراكي والماركسي – عن ارستقراطيته ولم يعد متاع النبلاء ولهو الخلفاء .
لم يعد الشعر كأس ذهب في يد أمير بل أصبح قطعة من خبز في فم جائع للخبز والحرية .
ونحن إذا نادينا بشعر هامس كلغة الحديث اليومي , فهذا لا يعني بالطبع الهبوط به إلى ظلمات الأزقة ومستنقع العامية . كل ما نطلبه أن يكون شعرنا في المرحلة الثقافية التي نحن فيها صورة لهذه الثقافة وانعكاساَ لها .
إن لغة المثقفين في جميع البلاد العربية هي القاسم المشترك الصحيح والمادة الأولية التي يجب أن نستعملها
في كل ما نكتب من شعر أو قصة أو نقد أو مقالة .
قد لا تكون هذه اللغة أكاديمية مئة بالمئة .. وقد لا تكون معجمية مئة بالمئة .. ولكنها على كل حال تشبهنا .
إنها جزء من شفاهنا .. من حناجرنا .. من كتبنا .. من جرائدنا .. من رسائلنا .. إنها اللغة التي نحبُّ بها ..
ونضحك بها .. ونبكي بها .. ونمشِّط شعر حبيباتنا بها ..

- محتوى القصيدة العربية الحديثة -
إذا فرغنا من مناقشة قضية البناء الخارجي في القصيدة العربية كان علينا أن نناقش محتواها الداخلي .
فهل هناك محتوى جديد للقصيدة العربية الحديثة , وماهي قيمة هذا المحتوى ؟
مما لا شك فيه أن خريطة العالم تنكمش وتضيق , وحدود الدول تذوب وتسقط ككتل الثلج .
والعلم الحديث جعل سفر الأشخاص والأفكار بين قارة وكوكب وكوكب ,نزهة يومية لا تثير الدهشة .
والأدب هو أكثر الكائنات قدرة على السفر والرحيل , فهو روح سريع التبخر , سريع .. الاشتعال .
لذلك لم يعد بوسع أي أدب أن ينعزل بين جدران إقليمية ضيقة , ويدفن رأسه في رمال اللامبالاة
وإلا صنف في عداد الآداب الميتة .
في وسط هذه الحضارة الطموح يبحث الشعر العربي الحديث عن نفسه . ومن حسنات هذا الشعر
أنه مفتوح العينين على الأبعاد الإنسانية الرحبة , وشديد الحساسية بتموجات الفكر العالمي وذبذباته .
فكل بذور حملتها أمواج البحر المتوسط إلينا أخصبت في ترابنا وأعطت زهراً وورقا .. كل الفلسفات وكل النزعات , وكل المدارس , سواء منها الغربية أو الشرقية , البرجوازية أو الماركسية . تصادمت في منطقتنا ثم انسحبت تاركة على أرضنا مزقاَ من راياتها ..
طاغور وغوته وشكسبير وده موسه ومالارميه وفاليري وآراغون ورامبو ولوركا وبول ايلوار وآخر العنقود . س . ايليوت , كل هؤلاء مرّوا من هنا .. ورحلوا عن هنا .. بعد أن خلفوا على فجر شعرنا بعضاَ من أنفاسهم ..
الإلتزام , ابن الماركسية المدلل , مرَّ برؤوسنا في أوائل الخمسينات مرور الدوار المباغت فحول شعرنا إلى ( مانفيستو عقائدي ) واستنبت القصائد من مخيلة الشعراء الملتزمين كما تستنبت البطاطس في أحد الكولخوزات .
ثم انكفأ الالتزام عن شواطئنا تاركاَ وراءه طروحاَ شعرية عن ( ديان بيان فو ) و( كوريا ) ولدت بدون عظام وبدون ملامح .
ثم دقَّت الوجودية السارترية ابواب أدبنا بعنف . واستطاع سارتر وكامو وكافكا وكولن ويلسن أن ينقلوا عوارض الغثيان والسرطان إلينا . وأصبح ( اللامنتمي ) بجنونه وضياعه وبلاهته وشعره المنكوش , البطل الرئيسي في كل عمل أدبي نصنعه , وملح الطعام على مائدة شعرائنا ..
وفي رأيي أن أزمة العبث والعدم واللاجدوى هي أزمة نفسية مستوردة لها ما يفسرها في الحضارة الأوربية المتعبة . أما نحن فقد نقلناها بدون تحفظ ودون أن يكون في حياتنا ما يبررها . فالقرف الذي يطغى على آثارنا الأدبية ليس ( قرفاَ عربياَ ) وإنما هو قرف صنع في فرنسا .. وانتقلت إلينا جراثيمه بالعدوى .
إنني لا أنكر أن الإنسانية كلها تعاني أزمة مصير وأن جيلنا هو جيل الغبار الذري , والهواء الملوث , والعقد الفرويدية , الجيل المصلوب بلا صلب , المشوه من داخله منذ ولادته .
إنني أعرف هذا , ولكنني أعرف أيضاَ أن للإنسان العربي أزماته الخاصة , أزمات واقعية تتصل بالرغيف , وبالدواء وبالعلم وبسرطان اسرائيل , اكثر مما تتصل بالمجردات الفلسفية التي لا تلتفت اليها الشعوب إلا وهي في قمة شبعها وبطرها الفكري .
ولا يمكننا ونحن نستعرض رياح الفكر العالمي التي هبَّت علينا , أن نهمل التجربة الاليوتية , نسبة إلى الشاعر الأمريكي الأصل ت . س . اليوت الذي ترك على نتاج أكثر شعرائنا المعاصرين ولا سيما شعراء العراق ومصر بصمات اصابعه واضحة . فقد نقلوا عنه وعن معلمه أزرا باوند طريقتهما في كتابة الشعر الحر وفي استعمال الأساطير والرموز الدينية والتاريخية والاعتماد على طريق التداعي بالصور ( ايماجيسم ) .
ويقتضينا الإنصاف أن نقرر أن نتائج التجربة الاليوتية في شعرنا كانت حسنة بمجملها . فقد حقق بعض الموهوبين بقصائدهم الحرة نجاحات ملحوظة , حين منحوا القصيدة العربية المعاصرة ما كان ينقصها
أي وحدة الشكل والموضوع .
وأصبحت القصيدة العربية على أيديهم كياناَ عضوياَ ملتحم النسيج يتغذى بموسيقى داخلية مركبَّة الإيقاع
متعددة النغمات , كما أصبح للقصيدة الحديثة نواة أساسية ومحور تتحرك عليه من بدايتها إلى نهايتها , وهذا في نظري أكبر نصر يسجل للقصيدة العربية الحديثة .
وإذا كانت السهولة الظاهرية لطريقة الشعر الحر قد شجعت كثيراَ من الدخلاء على الادلاء بدلوهم في هذه البئر , وعل ظهور كثير من النتائج الرديئة أساءت إلى سمعة الشعر الحر وإلى شعرائه , فإن هذا يجب أن لا يتخذ ذريعة لمهاجمة الشعر الحديث بمجموعه , ففي كل فن يوجد موهوبون ويوجد مزيفون .
وفي الشعر التقليدي نفسه يوجد نسور تغطي أجنحتها وجه الشمس , ويوجد هوام أجبن من أن يطير في وجه الشمس .
الشعر العربي الحديث يخوض بكل طاقاته وأعصابه تجربة كبرى في التجديد , فلنمنحه الفرصة لإثبات وجوده .

1962



يتبع


:redrose:
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 03-06-2008, 10:22 PM بواسطة ابن حوران.)
03-06-2008, 10:14 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #15
نزار قباني والنثر

- الله والشعر -


الإنسان حيوان يقول شعراً . يتذوق شعراً . هكذا يطيب لي أن أعرَّف الإنسان كما لم يُعرَّف
من قبل .
فكرة صغيرة أغامر وأضعها على الورق , وتسمية جديدة أرجو أن ترد للانسان بعض اعتباره , وتضعه حيث يجب أن يكون .
أن نعرَّف الإنسان بأنه ناطق أو بأنه ضاحك , إبقاء لهذا الإنسان في مرحلته الترابية وتمييز له عن القطيع الحيواني ببعض الخصائص العضلية الفيزيولوجية ككونه ينطق ... أو يضحك .
أما أم نربط حقيقة الإنسان بالشعر فتصعيد بقضية الإنسان وتجديد لهويته .
الإنسان كائن يكتب شعراً . وبتعبير آخر , كائن حريص على أن يعبر عن ذاته تعبيراًَممتازاًَ
أن يقدم نفسه في إطار نبيل .
المفتاح إلى قلب الحبيبة – كل حبيبة – سواء كانت سوداء تنبعث من بشرتها رائحة المانغو والبهار .. ويختصر صدرها اليابس تمرد قارة .. طموح قارة .. أم واحدة من مواطنات جزر الهاواي المكتسيات حيناَ بالاشيء .. وحيناَ بحشائش البحر .. وأطواق زهر الغاردينيا .. أوكانت سويدية شقراء من ماردات الشمال . المفتاح أغنية حبّ جميلة تغنى تحت شرفتها . .
الشعر هو كلمة السرّ . من عرف متى يقولها وكيف يقولها , استطاع أن يزحزح الصخرة المسحورة ويصل إلى صناديق الؤلؤ والمرجان , وإلى الحور المقصورات في الجنان .
منذ كان الشعر . أي منذ أن امتدت يد أول إنسان إلى أول زهرة برية ليحملها إلى الأنثى التي كانت تنتظره في مخبئه الحجري وليقول لها :
(( لم أصطد اليوم لطعامنا شيئاَ .. وإنما حملت لك هذا الكائن الجميل الذي وجدته مختبئاَ في شقوق صخرة . إنه يشبه انفتاح فمك يا حبيبتي .. ))
هذه أول هدية جمال في تاريخ الهدايا , أول سطر في كتاب علم الجمال . أول حرف في أول ديوان شعر .
أكيد أن الانسان وحده يملك نزعة تذوق الجميل والتعبير عن هذا الجميل . فالحيوان لا يهتم بالنجوم , ولا يعنى بروعة المغارب ولازوردها السائل , ولا يلتفت إلى الزهرة ولا يحملها إلى مسكنه ولا يتزين بها . وإذا اهتم بالزهرة فلكي يأكلها ويشرب عصيرها كما تفعل النحلة .
إلى هذه النقطة أريد ان اصل لأؤكد انفراد الانسان عن سواه من الكائنات الحية بالتذوق الذهني المجرد عن كل نفع , أو بتعبير آخر بالقدرة على التفريق بين ( الجميل ) و ( النافع ) . فهو بين أفراد فصيلته الوحيد الذي يقيم المتاحف .. وينحت الحجر , ويطرز جدران بيته بالرسوم , ويملأ أوانيه بالورد الجميل لأنه ( جميل ) .
إن المقياس الصحيح لحضارة شعب هو قدرته على التطلع البريء إلى جمالية الأشياء ومحافظته على الحياد الذهني . الشعب المتحضر لا يتاجربالجميل ولا يستغله .
إذن فأنا أبشِّر بالإنسان الشعر . إنني لا أخترع هذا الإنسان , فهو هنا .. وهناك , إنه في كل واحد منكم , هو أمامي على كل هدب وشفة .
الإنسان الرقم لم يستطع أن يقتل الإنسان الشعر . لا تصدقوا من يقول لكم إن الشعر قد أضاع قضيته وإنه انتهى . الشعر لا ينتهي إلا إذا انتهت الحياة نفسها على هذا الكوكب الدائر ونشفت البحار وانطفأت الكواكب .
أما مادام هناك مغارب تسفح العقيق , وبحار تغزل الزرقة , ونجوم تهرب من خيمتها لترقد على مخدتي . ما دام هناك عيون سوداء يبحث الليل فيها عن نفسه , ما دام هناك مشاوير لم تُمشَ , ومواعيد لم تُعطَ .. مادام هناك رياح تثور .. وشموس تدور .. ونجوم مفروطة عناقيد نور
مادام الإنسان السؤال منتصباَ على وجه الأرض , يحب ويكره , يصلي ويسكر , ويبكي ويضحك
ويؤمن ويكفر , ما دام هناك عِقدٌ واحد في جوارير حبيبتي لم أكتشف لون حبَّاته .
ما دام في خزانتها ثوب واحد لم يره فضولي بعد ... فلا فرار من الشعر ولا انفلات من أصابعه الساحرة ..
قلت لكم إن الشعر هو كلمة السر وأمامه تنفتح الأبواب , كل الأبواب .
حين أراد الله أن يتصل بالأنسان لجأ إلى الشعر , إلى النغم المسكوب , والحرف الجميل والفاصلة الأنيقة . كان بوسعه أن يستعمل سلطته كربّ فيقول للإنسان ( كن مؤمناَ بي .. فيكون )
ولكنه لم يفعل . إختار الطريق الأجمل .. إختار الاسلوب الأنبل .. إختار الشعر :

(( .. واذكر في الكتاب مريمَ إذ انتبذت من أهلها مكاناَ شرقيا .
(( فاتخذت من دونهم حجاباَ فأرسلنا إليها روحنا فتمثَّل لها بشراً سويا .
(( قالت إني اعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا .
((قال إنما أنا رسول ربّك لأهب لك غلاماَ ذكيا .
(( قالت أنَّى يكون لي غلام ولم يمسسني بشرٌ ولم أكُ بغيا .
(( قال كذلك قال ربُّكِ هو عليَّ هين ولنجعله آيةَ للناس ورحمة وكان أمراَ مقضيا .
(( فحملته فانتبذت به مكاناَ قصيا .
(( فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة قال يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياَ منسيا .
(( فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا .
(( وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطباَ جنيا .
(( فكلي واشربي وقري عيناَ فاما ترينّ من البشر أحداّ فقولي إني نذرت
(( للرحمن صوماَ فلن أكلم اليوم إنسيا .
(( فاتت به قومها تحمله قالوا يا مريم لقد جئت شيئاَ فريا .
(( يا أخت هارون ما كان أبوك امرأ سوءٍ وما كانت أمك بغيا .
(( فاشارت إليه , قالوا كيف نكلّضم من كام في المهد صبيا .
(( قال إني عبد الله آتانيَ الكتابَ وجعلني نبيا .
(( وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حيا .
(( وبَرَّاَ بوالدتي ولم يجعلني جباراَ شقيا .
(( والسلام عليَّ يوم ولدتُ ويوم أموتُ ويوم أبعث حيا .


هذه واحدة من قصائد الله . هل أدلّكم على قصائد أُخرى ؟
إذن فافتحوا الأناجيل .. إقرأوا المزامير .. لتروا كيف تسيل حنجرة الله بالشعر .. لتروا كيف تشفّ الكلمة حتى لتكاد أن تطير .. لتروا كيف يجلس الله على مسند حرف .
والإنسان, هذه الكتلة المفكرة من الطين , لم يجد أجدى من الشعر في التقرب من خالقه .
القصائد المحفورة على جدران المعابد في ذرى التيبت , في مجاهل الصين , في صوامع الأقصر
في هياكل أثينا , وفي أديرة الشاطىء الفينيقي تشير إلى قدرة الشعر على فتح أبواب السماء .
ولكن لماذا أذهب بعيداً ؟ ألم يكن أجدادنا في بوادي الحجاز يعلقون القصائد على جدران الكعبة على مستوى واحد من اللاة والعزى , فيعبدون اللاة مرة .. ويعبدون الشعر مرات ..
الشعر يمد يده إلى الأشياء فيحيها كما فعل موسى تماماَ . والفارق الوحيد أن أداة موسى هي العصا .. وأداة الشاعر هي الكلمة ..
الحجارة في أرض الحجاز كانت بقيت حجارة , لو لم يمسحها الشعر العربي بأنامله المنعشة , فيكسو كل حجر غلالة شوق .... ويسقي كل ذرة رمل من حمرة جرح .. من شرايين موعد :

ولقد مررتُ على ديارهمُ
وطلولها بيد البلى نَهبُ
وتلفتت عيني فمذ خَفيت
عني الطلولُ , تلفَّتَ القلبُ

هكذا يعيش الحجر , هكذا يكتسي ورقاً وبراعم .. وهكذا يصبح التراب سماءً .
والأشياء الصغيرة .. الصغيرة التي تمتلكها حبيبتي . قواريرُها , عطورُها , مروحتُها , أمشاطها
ثوبها الجديد المنقول عن شجيرة درَّاق مزهرة .. كل هذه الأشياء ماذا تكون لو لم أصبغها بدمي ..
ودم قصائدي ؟
وعينا من أحبّ . هذان المصباحان الأخضران اللذان يشتعلان ويشعلان حياتي , ماذا يكون مصيرها بغير شعر , بغير أغنية تسقيهما ..
إلى هنا ونحن نطوف حول جزيرة الشعر وخارج أسوارها . فما هو الشعر ؟
ماهي هذه الجزيرة القزحية الأحجار ..
لا يهم أبداً أن نعرف ما هو الشعر . إذ خير للوردة الجميلة أن لا تكتب مذكراتها . وماذا يضير الوردة إذا جهل الناس تاريخ حياتها ؟ الجميل لا تاريخ له .
هونفسه تاريخ . تاريخ التاريخ إذا شئتم .
إني هنا لأعطيكم شعراً . لنمزق معاَ أسوار الهنية المحدودة . لنبني زماناً شعرياً أرحب وأغنى .
الزمان الشعري الذي نعيشه معاً أجمل من كل زمان . زمان لا يدخل في حساب الساعة والتقاويم
ولا يستند إلى مطالع الأهلة والنجوم . الزمان الشعري يصنع نجومه وأقماره بيديه .
هل أحدثكم عن الزمان الشعري ؟ إنه زمان غير قياسي , غير منطقي , غير عددي .
ثوانيه أعرض من دهور , وهنيهاته أطول من مدَّات العتابا على ذرى بلادي .
الزمان الشعري الذي ألحّ على وجوده إلحاحي على وجودي لا صلة له بزمان الناس .
بمواسهم , بفصولهم , بأعيادهم , بآحادهم . الأحد الذي ألاقي فيه وجه الحبيبة محطّ زمني تحطّ عليه الدنيا لتدفأ وتستريح . وهو أحد واحد . أحَدي أنا . ولا سبيل إلى مقارنته بأحد أي انسان آخر .. لأن له شخصيته وهويته . الزمان الشعري يتصرف بالزمان العددي كما يريد .
يخلقه , يغيره , يمحوه , يوقفه بقدرة قادر .
يكفي أن نفتح ديوان شعر لنرى كيف تمد زهرة التوليب رأسها في غير موسمها , كيف ينهمرالثلج من أصابع تموز , وتختلج أجنحة السنونو في تشارين .. كيف يستيقظ الطيب في مخدع الحبيبة وفي أشيائها التريكة , كيف ينهض التاريخ كله بناره ورماده في صورة وشاح مهجور
أو رسالة نائمة كالجرح المغلق .
كيف تتدحرج الأمسيات من بؤبؤ عين إسبانية لتغرقك في ليل مطعَّم بضوء .. وضوء مطعَّم بليل حتى لتحار أين يبتدىء الليل وأين ينتهي النهار .

1957


يتبع


:redrose:




03-08-2008, 01:54 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #16
نزار قباني والنثر
لماذا أقرأ شعري

دعوة الشاعر إلى قراءة شعره , نوع من النزيف الروحي العنيف .. يتعب الشاعر ويريحه في آن واحد . هي فتح ثقب صغير في خزَّان الوقود قبل أن ينفجر .. هي نزع الختم عن زجاجة خمر مات صبرها .. هي تجريد شجرة الكرز من كل أقمارها الحمراء وكل فوانيسها المشتعلة .
وأنا أحبُّ نزيفي . ألتذُّ بطعم دمي السائل . أعانق جرحي وألثمه , وأرجوه أن لا يغلق فمه .
الشعر عافيتي ومرضي , مولدي ومقتلي , ضلالي وتوبتي .
الشعر خنجر ذهبي مدفون في لحمي . أكره أن يتركني , ولا أكره أن يذبحني .
الشعر صليب من خشب الورد ألقي عليه ذراعيَّ كما ألقيهما على كتف حبيبتي .. وأتمنى لو يطول صلبي ويُقبل استشهادي .
لماذا أقرأ شعري ؟
إنني أقرؤه لأنني أريد أنام . لأن كلماتي كأجفان الأطفال لا بد لها من أن تسترخي وتنسبل .
الشاعر نحلة حبلى بألف قطرة سُكَّر , نحلة يتخمر في احشائها السُكَّر , ولا يمكن للنحلة ولا للشاعر أن يهربا من هذا الجدول السكَّري , من غدد الجمال المخبوءة فيهما .. وإلا قتلهما عطرهما .
قَدَرُ الشمعة أن تعطينا ضوءاًَ .. وقدرُ الزهرة أن تعطينا عطراً .. وقدرُ المرأة الجميلة أن تتعبَ وأن تُتعِب .. وقدر القصيدة أن تفرز الجمال حيث حطَّت .
الشعر إفرازجمالي . نزيف حروف ونجوم ونيسانات تتوالد من شق ريشة . وهو بعد هذا وجه الله مرسوم على بياض ورقة ..محفور في ضمير ورقة ..
قدر القصيدة أن تُقال وأن تُسمع . فنيسان لا يستحي بأخضره وأحمره . نيسان لا يقيم معارضه تحت الأرض .
عندما فكر الله , الشاعر الأول والصائغ الأول , في كتابة الشعر فكر أيضاً في وسيلة ينشر بها شعره , وفي ناشر ينقل كلماته الحلوة إلى محبيه وعابديه .
سورة مريم , وسورة الرحمن , ونشيد الإنشاد , قصائد لا طيب ولا أعذب تتقطر ضوءاً
وعبيراً بين أصابعنا ..
كلُّ ما كتب الله من شعر موجود حولنا ومعنا .. وقصائده نقرؤها على كل نجمة وموجة وورقة خضراء .
من تجربة الله يجب أن نعرف أن الكلمة عصفور لا بد له من أن يطير .. لأن الأفكار التي لا نقولها تصبح كالنقد الملغى لا قيمة له .. والشاعر الذي يخبيء أوراقه في عتمة الجوارير ينتحر بمداد دواته .
إن المجانين وحدهم هم الذين يتغذُّون بحوارهم الداخلي ويعلكون خبز أوهامهم .
الفنون بجميع أشكالها هي الجسور التي تربطنا بالآخرين , هي السلالم الحريرية التي نتسلق عليها لنعانق الآخرين .
اللوحة بحاجة إلى من يراها . والتمثال بحاجة إلى من يلمسه , والسمفونية بحاجة إلى من يسمعها , أما الشعر فربما كان أكثر الفنون حاجة إلى الانسان لأنه مشتبك بلحم الانسان بفمه , بحنجرته .
ولأن الشعر جزء من فم الانسان أتيح له أن يتقدم – تاريخياَ – على كل الفنون الأخرى .
فقبل أن يتمكن الانسان من تهذين الحجر , وتركيب الوتر , استطاع أن يجد صلة بين ليله الطويل وبين شعر حبيبته الطويل , وبين الأزهار البرية الحمراء التي كانت تسد باب مغارته وبين ثغر الأنثى التي كانت تشاركه مغارته .
يوم اكتشف الانسان هذه الصلات الصغيرة المثيرة وجدت أول قصيدة غزل في تاريخ الكواكب ..
واليوم وقد مرت ملايين السنيين على أول قصيدة حب كتبها إنسان , أتسأل هل تغيرت حقيقة الشعر , هذا العصفور الافريقي الذي يغطّ أجنحته في ضوء القمر ؟
لا احسب أن شيئاَ قد تغير . فما زال العصفور الافريقي يتأرجح على خيطان الشمس , ولا يزال رجل العصر الذريّ يحسّ – كرجل المغارة – بالصلة الوثيقة بين ازهار القرنفل الحمراء المنثورة على مكتبه .. وبين ثغر المرأة التي يحبّ .

1962


يتبع


:redrose:
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 03-08-2008, 10:18 PM بواسطة ابن حوران.)
03-08-2008, 10:16 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #17
نزار قباني والنثر


جانين .. والوجودية .. ومارون عبّود

-أستاذنا الكبير تأخرت عن موعدك الأخضر قليلاً . كان عليَّ أن أسبق الشمس إلى ستائرك .
لكن الوهج المغنِّي في معركة بورسعيد أكل أعصابي .. كلَّ أعصابي . سرق السلام من قلبي .. جبلني بحمرة جرح .. جعلني جرحاّ يمشي .
فلا تؤاخذني إذا وصلت متأخراَ , لأن الكتابة إليك رحمة وسلام . واللعب بالحرف , بالفاصلة السكرى , يحتاج إلى حد أدنى من السكون ... وهذا ما لم أعرفه ولا أريد أن أعرفه .
هل نبدأ الآن ؟ هل تفتح لي قلبك ؟
يعتبر بعض الناس أنفسهم سعداء إذا وجدوا في امتداد زمني واحد مع واحد من هؤلاء العباقرة الذين أعطوا الانسانية تراثاً لا تزال الأرض تشرب منه وتسكر ..
الذين عاشوا في عصر بيتهوفن وموزارت وليست , والذين عاصروا تولستوي أو ليوناردو دافنشي أو غوغان أو رودان أو فان كوخ . كل هؤلاء يعتبرون أنفسهم من رفيعي الأقدار .
ويوم يجيء الدور إلينا ويسألنا سائل : وأنتم يا شعراء الفترة الممتدة من عام 1940 صعوداً إلى اليوم .. من هو هذا الكبير الذي كان يقيِّم آثاركم , ويزن الريش النابت في أجنحتكم , ويدوزن الأنسجة الطرية في حناجركم ؟
يوم يواجهنا سائل بمثل هذا السؤال سنقول له بدون أدنى تردد : (( كتبنا شعراً في عصر مارون عبود .. وعلى محكّ هذه السنديانة الماردة برينا أقلامنا .. وتركنا أسماءنا .. ))
(( سنديانة )) .. نعم وجدتُ الكلمة . سنديانة من هذه السنديانات التي تفتح زنودها لمئات العصافير الزائرة .. لا تبخل على واحد منها بخيمة ظل , أو سرير ورق أخضر .. أو زوادة قش تحمِّله إياها قبل أن يذهب ..
من هنا ينبع مجد السنديان . مجدك يا أستاذي . يا مضيف الأجنحة المليسة الزغب , يا حاضن الشرانق الحبلى بألف خيط حرير , يا مالئاَ مناقير العصافير الهابطة إليك زهراً .. ورمَّاناً ..
وحبَّات كرز ..
قلَّ أن عرف الأدب العربي ناقداً تطهَّرت ريشته من سواد الحقد .. وتبرأ قلمه من حليب الكراهية العكر .
كل معاركنا الأدبية هي أشبه بمعارك الدجاج والديكة .. ريش نافش .. ومخالب تغرز في الأعناق .. ومناقير استبدلت الغناء بالعض وفقء الأعين ..
ويظهر أننا لم نتحرر حتى اليوم من أسلوب النتف والسلخ في نقدنا . فما زال الدجاج الناقد لدينا كثيراً .. وما زالت الغرائز الدجاجية هي السلوك المميز لأكثر نقادنا .
فكل أثر أدبي يدخل مختبرهم ... وكل خارج من هذا المختبر مولود ..
فإذا تحدثت اليوم عنك , عن السنديانة التي تطعم العصافير وتظلها , فانما أتحدث عن أخلاقية جديدة , عن ظاهرة غريبة في تاريخ النقد لدينا .
فلأول مرة يتحرر الحرف على يدك من رجس الشتيمة , ليصبح أداة عبادة .. لا مطرقة حدادة ..
لأول مرة .. نعرف معنى التسامح .. معنى الغفران .. معنى ( التعايش الفني ) إذا جاز لي أن أستعير التعبير من قاموس السياسة , حيث يقول بعض الساسة بين شتى النظم السياسية على تباين دروبها وغاياتها .
فلماذا لا نطبق هذه النظرية في الفن , وننادي ( بتعايش فني ) تعيش فيه المذاهب الفنية على تباينها جنباً إلى جنب , حتى يتولى الزمان أمر الفصل في هذه المذاهب وتقييمها .

أستاذنا الكبير

ما قلته في شعري كرامة لشعري . حياة ثانية للحروف التي عاشت معي حياتها الأولى .
لقد عاشت ( قصائدي ) بين يديك كما تعيش البنت في بيت أبيها .. حلوى .. وأثواب .. و ( أشيا أُخَرُ ) . ولكن لماذا أنت غاضب على (جانين ) ؟ متمسك بالوزن والموازين ؟ ( فجانين ) هذه تعيش في أحد أقبية سان جرمان لا في برقة ثهمد .. إنها تلبس البنطلون .. والخفَّ المقطع .. وتلثغ بالفرنسية .. وتمزق ثوانيها وتهبها لليل ... لجحيم موسيقى الجاز .. للاشيء ..
إنها تعيش حضارة معينة . ونحن كصيَّادي صور , لا يهمنا أن تكون الحضارة حضارة قلق وسواد وتشرّد , أو يكون القبو الذي ترقص فيه كقبو الماعز .. كلُّ ما يهمنا أن نرسم جانين هذه في إطارها الزماني والمكاني .. أن نفاجئها وهي في وسط حلبة الرقص ترمي خصلة من شعرها لليل .. وخصلة لله ..
إنني أعالج بقصيدتي ( وجودية ) فلسلفةً كاملة هي الوجودية , وأحاول بلقطات صغيرة أن أخلق الجو لقارىء لم تقدمه قدماه إلى هذه الأقبية . لذلك كان لا بد من تغيير المخطط التقليدي للأداء .
كان من المستحيل عليَّ أن أكتب عن جانين ... والجاز .. والمونمارتر .. بالبحر الطويل .. أو البسيط .. لأن صلة الموضوع بإطار العرض حقيقة لا يمكن الفرار منها .
هل تريد تجربة صغيرة على ما أقول . إذن فاسمع يا معلم الذوق الجميل :

يا دار ( جانين ) بالعلياء فالسندِ
أقوت وطال عليها سالفُ الأمدِ ..

أعوذ بالله , وبك , وبكل صاحب ذوق مرهف من هذه السماجة .
البيت كما ترى مهندس وفق مخطط الأجداد , موزون بميزان صيدلي , مرسوم بمسطرة ...
ومع هذا فهو مصيبة المصائب .
لماذا ؟
لأن الخياط الذي فصل البيت فصله على جسد ( ميَّة ) المواطنة السمراء في صحراء نجد ...
فحين ألبسناه بعد ألف وثلاثمائة سنة ( لجانين ) المواطنة الفرنسية القاطنة في الرقم 73 بولفار
سان ميشيل ... أغمي عليها .


قلت في مقالك القيم ان بحور الخليل هي أنغام الحدود وموسيقاهم الكلامية , وان القافية هي وقفة
نغم على حدود اللانهاية , كما قلت إن الخليل هو واضع النوطة الموسيقية لأهازيجنا وأغانينا .
كل هذا كلام حسن ولكن له تتمة . لم يعبد أحد موسيقى الشعر عبادتي لها . فهي أساس البناء الشعري لدي . ولكني لا أتصور موسيقى الشعر ارثا أبديا لا يأبه الباطل من امامه أو من خلفه . لاأتصورها حكما من احكام محكمة التميز لا يقبل الطعن او الاعتراض .
ان كون (البزق) او ( الناي ) من تراث الاجداد لا يمنعني او يمنعك من ان نطرب لالة مستحدثة كالبيانو .. أو الكلارينيت . أو الأوبوا .. أو أن نقف موقف المتعبدين من ( بولونيز ) شوبان وسمفونية بيتهوفن الريفية و(بحيرة بجع ) تشايكوفسكي ...
على نفس المقياس أقول : إن كون الخليل بن أحمد هو الذي وضع النوطة الموسيقية لأهازيج الأجداد , لا يمنعني من جانبي أن أضع النوطة الموسيقية للإطار الحياتي الذي اعيش فيه .
بل لا يمنع أي فنان من بلادي أن يبدع سمفونيته الخاصة فيحذف نغمة .. ويضيف نغمة .. ويعمِّر كناً شعرياً بألف شكل وألف أسلوب .
الفن الشعري كالفن المعماري يمكن فيهما توليد أشكال لا حصر لها . فكما أن الفن المعماري يعتمد على وحدة أساسية – هي الحجر 0 لإخراج ألوف التصاميم , فان بامكان الشعر أن يأخذ الوحدة الاساسية في بناء القصيدة العربية – أي التفعيلة _ لتوليد اشكال شعرية لا نهاية لها .
هذا ما يحدث تماماً في السمفونيات العظيمة , حيث تكون النواة فيها جملة موسيقية بسيطة , ثم تبدأ الاضافات على النواة الأساسية , نغومة تنادي نغمة .. وقرار يجذب قراراً .. ورعشة وتر هنا .. وشكوى كلارينيت هناك .. حت يكتمل بناء السمفونية العام و وتنعقد حلقاتها , وتغدو عالماً بشموسه , ومحيطاته , ومجرّاته .
إنطلاقاً من هذه النقطة كتبت قصائدي التي اعجبتك : (( حبلى )) و (( خبز وحشيش وقمر ))
و(( سامبا )) . فهي جميعاً محاولات واضحة لتطوير النغمة الاساسية واللعب بها .
إنني لا أدعي كمال هذه الاشكال الجديدة . فلا شكل نهائي في الفن . وانما اقول إننا نعطي الصلصال القديم ملامح جديدة . لا تزال ايدينا في الطين .. ولا تزال ازاميلنا تبني وتكسر .. تضيف وتلغي . وربما مرَّ وقت طويل قبل أن تفرض هذه الأشكال نفسها على الذوق العربي . ولكن هذا يجب أن لا يثنينا عن اتمام المحاولة , كما أن النقاد يجب أن لا يتعجلوا الحكم على هذه المحاولة التي لم تتجاوز عمرها بعض سنوات . لأن من هذه المحاولات ما نجح فعلاً وبدأ يجد استجابة لدى الجماهير العربية .

أستاذنا الكبير ,
أنت في تفكيرك ولقطاتك التي تشبه باتساع مداها لقطات ( السينراما 9 شيء مدهش حقاً .
والأدهش ىمن هذا كله قدرتك الفائقة على تكييف ثقافتك العريضة وذوقك الرهيف مع اختلاف الفصول واتجاهات رياح الفكر والذوق . أما قلمك فهو أصبى من الصبا نفسه , أحلى من دفقة العافية .
الذين وصلوا إلى سنك من أدبائنا لا يزالون في قاعات المجامع العلمية الرطبة , يعانقون أكياس الماء الساخن , ويشربون كؤوس البابونج , ويتعاطون أدوية الروماتيزم .. وينظمون قصائد موسمسة تجلب الروماتيزم من مسافة الف ميل ..
أما نحن الذين عاصرناك وأحببناك , وزمسحنا مناقيرنا الصغيرة بجذعك الرحيم العظيم , وسرقنا الحَبّض من جيوبك الممتلئة , فما رددت منقاراً ولا آذيت جناحاً .
أما نحن فسوف نقول لمن يسألنا عن خصائص شعرنا وطابعه : (( كتبنا شعراً في عصر مارون عبود .. ))

1956



يتبع



:redrose:


03-09-2008, 06:01 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #18
نزار قباني والنثر


أغنية إلى شاكر مصطفى .. ( مقدمة كتاب )


أفتكر , وأنا أدير نقطة هتا .. وفاصلة هناك .. وأداري ثيابي من بقع الطيب يمطرني بها شاكر مصطفى , ما جدوى باب السنديان العتيق .. والجنينة على مبعدة خطوتين منه .. زهر .. وشمس .. وعافية .
مال أسعدني , لو تجاوزني الناس .. لو تجاوزوا الباب الخشبي المتكء على مفاصله الملحَّنة .. إلى حوائط تُبنى من عبير .. إلى فُسيقة تتغرغر بأغنية .. إلى سحبة عتابا بدأت منذ أن كان الشوق في بلادي ولم تنته بعد ..
ما أسعدني لو دفعتَ الباب ومشيتَ وحدك . فالطريق إلى الكَرْم لا تضيَّع ابداً .. لا تضيِّ أحداً ..
إتبعْ أية نحلة عطشى وهي تدلُّك على عناقيد تكاد حركو السُّكَّر في أنابيبهال تُسمَع ..
أنا إذن – وورائي اكداس الأخضر والأحمر – لا اكثر من بطاقة توضع على إضمامة زهر .. من لصيقة توضع على زجاجة طيب في غحدى دكاكين العطور في باريس .. من جسر ينتظر خلفه الف موعد مطيَّب , فما اسعد القارىء لو ألقى نفسه راساً في احضان قارورة العبق .. اعني في أحضان شاكر مصطفى ..
هذا هوموعدي الاول مع شاكر , موعدعلى ضفة تسبح في موجها الأسود حياته وحياتي .. موعد على حضن حرف . فما أحلاك يا شاكرورائحة الحبر تهب من قميصك هبات تتمنى معها الليلكة لو اصبحت دواة .. هل ادركت الأن موقفي في زجمة العناقيد ؟
انني لا أستطيع أ أضيف قشةصغيرة .. قشة واحدة الى هذا الكون النسيق الذي عمره شاكر وحمل له الحجارة بمنقاره .. حجرا .. حجرا .. من مقالع القمر .. ومن نهار عينيه ..
لذلك أوثر أ، أسمي هذه المحاولة _ أغنية الى شاكر مصطفى _ لا مقدمة . فأنا _بيني وبينك _ لا أؤمن بالدهاليز في الفن .. لا أؤمن بالوساطة والوسطاء . وأحلف لك ان الدليل الذي مشى بي الى صورة ( الموناليزا) في رواق من أروقة متحف اللوفر , قتلني .. وترك ( الموناليزا ) قتيلة بين يدي .. بشرحه الذي يردده كالببغاء ..
ماذا لو تركني هذا الرجل الببغاء أرى ( الجوكوند ) بعيني أنا .. وألأم الكرز بيدي عن جوانب فمها ..حبة حمراء .. وحبة على موعد مع الحمرة ...

لا أدري لماذا كلما قرأت قطعة لشاكر مصطفى , تذكرت رقص البالية دون اي فن آخر .. فتطاير حروفه على الورق .. والتنوع الذي يمطرك به كقطيع نجوم , والأناقة التي يقدم بها افكاره , والزركشات الشعرية التي يضعها في طريقك كالهدايا يقع عليها الأطفال في المدفأة ليلة عيد الميلاد .. كل هذا يذكرني بلوحات (( البالية )) وبحديث الأرجل وهي تلمس خشب المسرح لمساً حنوناً يشبه طيران الفراش الليلي , وحديث الرسغ والمفصل , وصلاة الأصابع وهي تفتح دربها إلى الله .. وحوار الأظافر وهي تمسك نجمة .. وتفلت نجمة ..
إن شاكر مصطفى لا يرمي حروفه رمياً على خشبة المسرح .. كل فكرة لديه تعرف موضعها .. وكل نقطة .. كل فاصلة تقف في مكانها وسط ديكور المسرح المضاء ..
لا فوضى .. ولا مصادفة .. في أدب شاكر مصطفى وفي كل أدب جيد , بل لا مصادفة في الحياة المبدعة إطلاقاً ..
إن أصغر زهرة تمد رأسها الأبيض على سور حديقتنا تكلف الربيع عزلة تسعة اشهر تحت الأرض بين المخططات , والأقلام , وقوارير اللون . فيا ليتنا نتذكر ونحن نقطع حزم الزهر من جنينة جارنا .. ونملأ أفواه المواقد بحطب المشمش , الزمنَ الذي استغرقته الأرض لتطلع الغصن الذي نجعله في مزهرياتنا زينة .. وفي مواقدنا لهباً ..

وبعد .. فهذا سفير جمال يخرج من غابات بلادي بمئزر قديس وعصا ساحر . (( الكلمةالطيبة )) لا تسقط من فمه , والزهور البريَّية الغريبة تتمنى لو صارت زاداً في سلته ..
و( الكلمة الجميلة ) وهي عندي أطيب من الكلمة الطيبة . لماذا نسيها شاكر ؟ وهي تتكمش برئتيه كالنحلة الشرهة ببنفسجة ممتلئة .. وتنفرط حرائق من بؤبؤ عينيه , وأنجماً من شق ريشته ..
وما هو الأدب إن لم يكن ( الكلمة الجميلة ) التي لا تفتح أمامك صخرة ( علي بابا ) فحسب على حد تعبير شاكر , وإنما تفتح أمامك ألف نافذة على وجه الله ...
في البدء كانت الكلمة . والفنون كلها كلمات . الموسيقى كلمة على فم الوتر .. والتصوير على فم الرخام .. والزنابق على الربى .. والنجوم في السماء .. والعيون الكبيرة السود .. كلمات تنتظر من يقولها . وما اشقى النجوم والعيون يوم لا تجد من يقول لها أو يقول عنها شيئاً ..
إن امتياز الكلمة يأتي من أنها الأداة الطبيعية للتعبير عن المشاعر الإنسانية , فهي لا تحتال على الوتر كما تفعل الموسيقى , ولا تتكىء على الحجر كما يفعل النحت , فالاداة والموضوع في الأدب وحدة غير منفصلة .
(( الكلمة الجميلة )) هي أنا والوجود مجتمعين . أنا والأرض التي أطلعتني , والانسانية التي تحتاطني , والجماعة التي أقاسمها حديث النهار وخبز المساء .. ووطني الذي يعيش ورقاً أخضر في ظني , وناراً مؤججة في عيوني . فما أظلم الذي يسألني بعد ذلك أن تكون الكلمة في حلقي إنسانية أو ( ملتزمة ) على حد تعبير الكلمة الدراجة اليوم .
إن الكلمة التي امتب ليست طفلاً بلا نسب . إنها تراث عاطفي واجتماعي وإنساني يجنل سعال أبي ,ونداء أمي , وشجار صبيان حارتنا .. وشكوى مزاريب بيتنا القديم التي لا أبيعها بسمفونيات الدنيا مجتمعة . ( الكلمة الطيبة ) .. سهلة .ز أما ( الكلمة الجميلة ) .. فآه .. ما أصعبها ..
أن تقول لحبيبتك : عطرك جميل .. كلمة طيبة . أما أن تقول لها : إن لعطرك فماً ينادي ! .. فشيء آخر يتطلب أن تنبش نفسك من جذورها بحثاً عن كلمة صغيرة .. أميرة .. تطفر على الورق فرحة كفراشة حرير تحرَّرت من شرنقها ..
وشوشةٌ صغيرة أريد أن أبوح بها قبل أن أذعب . وهي أن شاكر مصطفى – من زاويتي أنا – أول كاهن بشَّر بنثرٍ فني من طراز لم يعرفه تراب بلادي منذ سنين .
فأنا الادب عندي (( تعبير غير عادي عن مشاعر عادية )) فإذا شاركتني هذه النظرة فإنك ستشم في أدب شاكر مصطفى طيباً غير مألوف , طيباً غير الذي تشمه في واجهات المكتبات .. وحوانيت الوراقين .
ولقدُ كنتُ ولا أزال أعطي هدب عيني لحرف جديد لم يدر ببال ابجدية بعد .. ولم يزحف في جبين إنسان .. حرف يتعذب من أجل وجوده على الورق .
فاذا أحببت شاكر مصطفى فلأنه عرف عذاب الحرف , ورائحة الظنون وهي تحترق . أحبُّه لأنه فاتح درب .. شقها بمحراث منحوت من أضلعه , ودوزن كل حصاة .. وكل ورقة فيها ..
أنا أحبُّ شاكرمصطفى .. وهذه الأغنية التي كتبتها له ليست مقدمة وإنما دعوة إلى حبه ..

1955


يتبع


:redrose:




03-10-2008, 09:40 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #19
نزار قباني والنثر

الشعر قنديل أخضر

أسهر معكم على ضوء حرف جميل . على ضوء هذا القنديل الأخضر الذي يسمونه الشعر ..
الشعر قنديل أخضر علقته أصابع الله في داخلنا .. قنديل أروع من ألف شمس . أكبر من ألف شمس .. لأنه في اشتعال دائم لا يعرف كسوفاً ولا خسوفاً .
الشعر نار الإنسان . ونار الإنسان لا تموت ما دام في شرايين قلبه قطرة زيت .. قطرة حب .
كتابة الشعر عذاب جميل . أما قراءته فعذاب أجمل . ذلك أن الشاعر في لحظات الخلق يواجه التجربة وحده , يكون هو النار والوقود معاً . أما حين يقرأ شعره فإن مهمته تكون أصعب لأن عليه حينئذ أن يبحث عمن يقبلون بمحض إرادتهم واختيارهم أن يدخلوا معه منطقة النار .. وبكلمة واحدة أن يحترقوا معه .
وحين يكون الإحتراق كاملاً , اي حين يستحيل الشاعر والمتذوق إلى جمر متوهج , ويختلط رماد الأول برماد الثاني تكون عملية النقل الشعري قدبلغت غايتها . إن القراءة الشعرية ليست أبداً تكراراً لتجربة ميتة , إنها بعث التجربة بلحمها ونبضها وأعصابها مرة أخرى .
القراءة الشعرية عمل متعدد الأطراف , وهي أشبه بالقبلة الناجحة يستحيل تنفيذها من جانب واحد
العمل الشعري لا يكتمل إلا ( بالآخرين ) . وبغير ( الآخرين ) تبقى التجربة الشعرية جبين الشاعر كالعطر المحبوس في أحشاء البرعم .. لا ينتفع به حقل , ولا تفرح به رابية .
( الآخرون ) هم الآلات الرئيسية في تنفيذ السمفونية الشعرية , هم الذين يترجمون نزوات الشاعر وأشواقه ويحولونها من أشكال موسيقية مرسومة على الورق إلى اهتزازات مسموعة ..
وبعد , لا أريد أن أطيل معكم مشوار النثر . إن القنديل الأخضر ينتظرنا , فلندخل معاً منطقة النار .. أي منطقة الشعر .

1960


يتبع


:redrose:


03-16-2008, 05:14 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ابن حوران غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 776
الانضمام: Aug 2003
مشاركة: #20
نزار قباني والنثر
الخبز والزنبق

إفتتاحية العدد لي .
يفترضُ فيََّ إذن أن أكون نافعاً . أن أحمل للقارىء على كتفي خبزاً وعسلاً وطحيناً . أن أشحن كل نقطة , كل فاصلة بملعقة فيتامين تزيد شحم الناس ولحمهم. أن أجعل أدبي كجمعية تعاونية تمون الناس بالفحم , والزيت , والدواء, ولا تهتم إلا بمعدة الجمهور وجهازه الهضمي .

إفتتاحية العدد لي .
يفترض فيَّ أن ألبس ثياب الأئمة والواعضين , أن أتغرغر بخطبة يتثاءب تحتها المنبر .. خطبة أبدؤها بنصف دسته حكم مأثورة تحمل رطوبة التوابيت , وأنهيها بنصف أدبي . أبيات فرضت على أذهاننا الصغيرة في يوم من الأيام كما تفرض قرارات منع التجول .. أبيات كأحكام المحاكم العرفية لا تقبل الطعن ولا تقبل الإعتراض .
هل تذكرون هذا الهراء : (( كل من سار على الدرب وصل ..)) وهل تذكرون (( النرجس الذي لا ينبت إلا من بصل )) ؟
هل تذكرون أيضاً مياه ( فيشي ) التي نشربها نحن : ( ويشرب غيرنا كدراً وطينا .. )
هل تذكرون هذه الدستورية والديمقراطية في مثل هذا البيت الجبان :

ماشئتَ لا ما شاءت الأقدارُ
فاحكم فأنت الواحد القهَّارُ ..

إفتتاحية العدد لي .
إذا كان هذا هو النفع الذي ترجون مني فيؤسفني أني لا استطيع أن أكون نافعاً .
إنني أحمل لكم في يدي كدْسَ زنبق .. مواعيد جمال .. قطيعاً من النجوم جمعته لكم من رغوة الثلج في عنق حبيبتي .. من احتكاك قميصها بجبهة الشمس . أنا ناقل عطر . سفير يحمل الزنبق إلى مزهرياتكم .
ليس عندي لكم خبز .. ولا كساء .. ولا دواء . حياتكم أثمن من أن يستحيل إلى مخبز لا تعبق منه إلا رائحة الطحين .. وحروفي أثمن من أن تكون قنيا يحرق في ذلك المخبز ..
إسمحوا لي أن أحمل إلى بيوتكم بعض الزنبق اللذي قطفته لكم من رغوة الثلج في عنق حبيبتي .. من صباح ذراعيها . الخبز وحده لا يكفي لملء حياتكم , لملء أيامكم .
لا كان البيت الذي لا يتعانق فيه بياض الرغيف .. وبياض الزنبق . لا كان ..

إفتتاحية العدد لي .
كان أبي في طفولتي ينظر إلي بعينين صافيتين حزينتين ويقول لأمي : (( لن ينفع هذا الصبي الواهم نفسه , ولن ينفع الدنيا بشيء ..))
مرت اثنتا عشرة سنة على هذا الكلام . مات أبي وهو يحتفظ تحت مخدته بمسوًّدات آخر قصائدي . آخر كلمة قالها أبي قبل أن يموت .. كان نصفها صلاة .. ونصفها الآخر بيت شعر قاله الولد الذي لن ينفع الدنيا بشيء ..
ذهب أبي وهو يحتفظ إلى جانب زجاجات دوائه بمجموعاتي الشعرية الثلاث ..
ورجعت إلى لندن لأقنع أبي أنني استطعت أن أنفع الدنيا بشيء .. على طريقتي الخاصة .
ولكنني لم أجده . كان قد ذهب .
أردت أم أقنعه أن نفعي من نفع السمفونية تعزف في قاعة من قاعات العزف في فيينا , من نفع لوحات سيزان وفان كوخ وغوغان ورينوار , من نفع باليه ( بحيرة البجع ) لتشايكوفسكي وكونشرتو البيانو لرحمانينوف , وسوناتا ضوء القمر لبيتهوفن وفنلانديا لسيبليوس .
أردتُ أن أقول كل هذا . ولكنني لم أجده . كان قد ذهب .

إفتتاحية العدد لي .
وضعتُ يدي على مفتاح المشكلة . نحن نطلب من الجميل فوق ما يحتمل . لم يعد يقنعنا طيب الزنبق . نريد أن نأكل ورقه الأبيض .
والأدباء الملتزمون – على اختلاف دعاواهم وقضاياهم – ليسوا مبشرين بأكل الجمال .. ليسوا سوى أكلة الزنبق . هنا تختلف . لأن الجمال يجب أن يبقى في معزل عن ( التصنيع ) و ( التأميم ) ومراكز الخدمات الاجتماعية .
الجمال يحمل ثوابه في نفسه , وإذا جاز لي أن أستعمل تعبير النفع على طريقة الملتزمين فإنني أقول إن المريض ينتفع برعشة القصيدة الجميلة تقرأ له مثلما ينتفع بجرعة الدواء .
ومن يدري ربما كان وقع الاغنية لدى المصدور أجدى من وقع شعاع الشمس على نافذته ..
إنني ضد نظام السخرة في الأدب . ذلك النظام الذي جعل ألوف القصائد العربية تمسح جباهها بأقدام الحاكم أو الأمير . والإلتزامية الحديثة كما نلمحها في آثار كتابها , ليست سوى شكل جديد من أشكال نظام السخرة , مع فارق وحيد وهو أن المسخِّر كان في الماضي فرداً وأصبح اليوم نظاماً اجتماعياً اوعقيدة سياسية . اي اننا استبدلنا ديكتاتورية الفرد بديكتاتورية المجموع .
قد تقول لي أن ديكتاتورية المجموع هي عادلة وإنسانية . أنا معك , ولكنها مع هذا ديكتاتورية .
وأدب الأديب لا يمكن أن يعيش في ظل ديكتاتورية مهما كان شكلها .. ومهما كانت أغراضها نبيلة .
ألا تصدقني . إذن فافتح أيو مجلة أدبية واقرأ هذا الطوفان من القصائد عن قضية الجزائر , لتعرف أن نبل القضية ومضمونها الاجتماعي لا يكفيان وحدهما لجعل القصيدة عظيمة إذا لم تكن عظمتها في كبرياء حروفها وجنون مسافاتها وروعة تصميمها .
وددتُ لو لم تصل هذه المخلوقات المشوهة إلى ثورا الجزائر فإنهم بدونها بألف خير .

إفتتاحية العدد لي .
لم أكتب شيئاً من الإفتتاحية حتى الآن . لم أخطب على طريقة زياد بن لبيه . هذا تمرد على أسلوب الإقفتتاحيات . إنني احبُّ نكهة تمردي .
الحرف الذي لا يعرف متى يثور , وكيف يثور نجمة مطفأة . حجر ملقى على كتف الطريق .
نريد أدباً يحرق الطريق .. لا أدباً لا تشعر بمروره الطريق ..

1955

يتبع


:redrose:

(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 03-18-2008, 10:01 PM بواسطة ابن حوران.)
03-18-2008, 09:55 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


المواضيع المحتمل أن تكون متشابهة…
الموضوع الكاتب الردود المشاهدات آخر رد
  'الاستجواب ....هل كان نزار قباني لاديني أم مسلم متنور ???? بسام الخوري 12 4,411 12-20-2011, 03:33 PM
آخر رد: minatosaaziz
  قصيدة ( إلي حبيبي ) - نزار قباني coco 5 11,740 08-08-2011, 12:40 PM
آخر رد: آشور بني بعل
  عندما تم إبعاد نزار قباني من العراق خوفا على حياته بسام الخوري 3 2,077 11-11-2010, 03:45 PM
آخر رد: * وردة *
  سؤال لمحبي نزار قباني طريف سردست 3 1,630 05-30-2009, 07:15 PM
آخر رد: فيريل
  هدية لرائف، أشعار لنزار قباني ومحمود درويش بصوتهما ابن سوريا 8 2,154 03-11-2008, 02:34 AM
آخر رد: بسام الخوري

الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 1 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS