من الموت تتكلّم!
أكثر من مرّة حصل لي أن سمعت أشخاصاً يُدلون بشهادات في شأن علاقتهم بيسوع أو بوالدة الإله. ما كان غالباً على هذه الشهادات طابعُ العاطفيّة، لذا كثيراً ما رأيت وجه السيّد فيها مجرَّحاً ومُعبَثاً به بذاتيات الناس. أما الشهادة التي قرأتها مؤخّراً فكانت مختلفة. هذه أحسست، في الأعماق، بأنّها كشف إلهي بمعنى الكلمة، وأنّها تتميّز ببُعدها عن العاطفيّة الرخيصة. خبرة فائقة وشهادة مرموقة ومعاينة تدفع النفس إلى إعادة النظر في تقييم ذاتها!
صاحبة الشهادة اسمها غلوريا بولو من بوغوتا في كولومبيا. طبيبة أسنان متزوّجة ولها ولدان. شهادتها الأولى أدلت بها، فيما يبدو، منذ سنوات قليلة، وكانت مقابلةً جرت عبر راديو ماريا (كولومبيا). هاكم بعض ما جاء في المقابلة:
خلال شهر أيّار من العام 1995 م توجّهت غلوريا، سيراً على القدمين، برفقة ابن أختها، إلى مكتبة الجامعة الوطنيّة في بوغوتا (كولومبيا). في الطريق إلى هناك كان الطقس ممطراً بعنف وكانا معاً يحتميان بمظلّة صغيرة. فجأة ضربتهما صاعقة! ابن أختها مات لتوِّه. الطبيب الذي عاينه، لتحديد سبب الوفاة، قال: دخل التيّار إلى داخل بدنه عبر ميدالية للطفل يسوع كان يلبسها على صدره فأحرق القلب والأحشاء وخرج من الرجلين. لم يبدُ عليه من الخارج أيّ أثر للحريق. أما هي، غلوريا، فاحترقت من الداخل والخارج معاً على نحو مروِّع. اختفى ثدياها وعظام صدرها واحترق لحمها. ساقاها صارا كقطعة الفحم. معدتها احترقت. كبدها تفحّم. كليتاها احترقتا وكذلك رئتاها. وخرج التيّار من رجلها اليمنى. توقّف قلبها. بقي بدنها ينتفض ساعتين ونصف الساعة قبل أن يبدأ سعي الأطباء حثيثاً لاستردادها. ماتت وخرجت روحها من بدنها. لكنّها، برحمة الله، عادت إلى الحياة، وجرت، على مدى سنوات، إعادة بناء جسدها. وها هي اليوم حيّة تُرزَق، تخبر بما جرى لها وبما عاينته واختبرته خلال فترة موتها. ثمّة قول يردّده بعض الناس عندما تُطلعهم على ما يقوله القدّيسون في شأن الحياة بعد الموت: "ما حدا مات ورجع تيخبِّر!" ولكنْ، هذه غلوريا ماتت وعادت وخبّرت! فمَن له أذنان للسمع فليسمع ما قالته!
غلوريا كاثوليكيّة بالاسم. لا عرفت الكثلكة ولا عاشت كاثوليكيّة. ومع ذلك ما أدلت به ينتمي إلى عمق الخبرة المسيحيّة الجامعة وإلى الحياة الروحيّة المستمددة من الإنجيل.
عاينتْ في لحظة كلّ الراقدين من أقاربها ومعارفها وعانقتهم. إذ ذاك أدركت أنّها انخدعت لما قبلتْ، في وقت من الأوقات، في حياتها، عقيدة التقمّص ودافعت عنها. لما كانت ممدّدة البدن ممزّقة، محروقة، على حمّالة المستشفى كانت ترى كلّ الذين أحاطوا بها. لكنّها لم ترَهم كما بالعين المجرّدة. كانت تراهم كمِنْ داخل نفوسهم. ترى أفكارَهم ومشاعرَهم كما يعاين الأحياء المحسوسات بعين الجسد. مما قالته إنّها سمعت صوت زوجها الداخلي وعاينت ألمه في العمق. كان يدعوها إلى العودة إكراماً لولديها. وعاينت أيضاً جسدها مشوّهاً. فلما تمكّن الأطباء، أخيراً، من إنعاشها عادت ودخلت جسدها. وقد أشارت إلى موضع معيّن من الرأس قالت إنّها دخلت منه بعنف على أثر صدمة كهربائيّة عُرِّضتْ لها. إذ ذاك أخذت تشعر بالوجع وآلام الحريق. لكنّها عادت وخرجت من بدنها، من جديد، بعدما جرى تخديرها. فإذا بها ترى الشياطين تأتي إليها عبر جدران غرفة العمليات لأنّها كانت أُجرتَهم بسبب الخطايا التي ارتكبتها. ليست هناك خطيئة بلا ثمن، وأُجرة الخطيئة تسلُّط الشياطين على الإنسان. شعرت بالهلع! فجأة تذكّرت أنّها سمعت، في مرحلة الدراسة الجامعية، أحدَ الكهنة يقول: "ليس هناك جحيم ولا هناك شياطين". هذا أثّر كثيراً في نظرتها إلى الأمور وأَبْعَدَها عن الكنيسة ولم يعد هناك، بالنسبة إليها، ما يُسمّى خطيئة. اعتبرت أنّ كلّ الناس سيذهبون إلى الفردوس وأنّ الشياطين اخترعهم الكهنة ليتحكّموا بالناس. وانتهى بها المطاف أنّها صارت تَعتبر الإنسان من نتاج التطوّر وأنّ الله غير موجود. كلّ هذه الذكريات جعلتْها تشعر بالأسى العميق وكم أنّها كانت مضلَّلة! وإذ حاولت أن تهرب من الشياطين مذعورة وجدت نفسها تقفز في الهواء الخفيف. ثمّ أخذت تنحدر في قنوات متّجهة إلى أسفل وأخذ النور يخفت حتى بلغتْ ظلمةً قالت إنّ أشدّ الظلمات حِلكةً على الأرض هي كنصف النهار قياساً بالظلمة التي خبرَتْها. أخيراً بلغت فوهة الجحيم الذي لا قرار له. هناك شعرت بأنّ ميزة هذه الظلمة كانت أنّ مَن يقيم فيها لا يشعر ولا بشيء من محبّة الله. الظلمة كانت مؤشِّراً على غياب محبّة الله. وهناك أيضاً اشتمّتْ رائحة نتن رهيبة وشعرت بأنّ تلك الظلمة كانت تُحدِثُ في النفس ألماً ورعباً وخزياً رهيباً.
في تلك اللحظة بدا لها كأنّ هناك مَن يشدّها إلى أسفل ليلقيها في فوهة الجحيم. هذا جعلها في ألم وذعر هائلَين. أخذت تصيح وتستَنجد وأدركت أنّه كان هناك، حواليها، آلاف آلاف الناس، ومعظمهم من الشبّان. بَلَغتها أصوات صرير الأسنان والصيحات المروِّعة والأنين الذي هزّها حتى الأعماق. وذكرت غلوريا أنّها بعدما عادت إلى الحياة بقيت سنوات لمّا تقدرْ فيها أن تستوعب ما سمعتْه وتبكي. أدركت أنّ الذين ينتحرون في لحظة هناك ينتهون. ما كان لها أشدّ هولاً من كلّ ما خبرته أنّ الله غائب ولا طاقة لأحد على الإحساس به في ذلك الموضع.
بإزاء هذا الإحساس المضني الذي انتاب غلوريا أخذت تصيح من الهلع. "مَن ارتكب هذا الخطأ؟" "أنا، عملياً، قدّيسة! لم أسرق في حياتي ولا قتلت أحداً وأعطيت الفقير طعاماً وعاينت وعالجت أسنان المحتاجين بالمجّان". "ماذا أعمل هنا؟" "ذهبت إلى الكنيسة في الآحاد. ولو اعتبرت نفسي ملحدة لم أتغيّب عن الكنيسة سوى خمس مرّات في حياتي". "أنا كاثوليكيّة!" "أنا كاثوليكيّة!" "أخرجوني من ههنا!" فجأة سمعتُ صوتاً لطيفاً، كان ينضح بالحبّ والسلام. والمخلوقات التي كانت من حولي تبعثرت، فجأة، مذعورة لأنّها لا تطيق المحبّة. شعرتُني بسلام! وإذا بالصوت العذب يناديني: "حسناً! إذا كنتِ كاثوليكيّة فقولي لي ما هي وصايا الله؟". لم تكن تعرفها. فقط تذكّرتْ وصيّة واحدة طالما ردّدتها أمّها التقيّة: "أحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك وقريبك كنفسك". "حسناً!" هل أحببتِهم؟ فقالت: "نعم، نعم، نعم!" وعندما سمعتْ الصوت يقول لها: "كلا!" شعرتْ بالصاعقة تضربها كَمِن جديد!
"كلا، لم تحبِّي ربّك فوق كلّ شيء ولا أحببتِ قريبك كنفسك! أنت خلقتِ إلهاً على صورة حياتكِ في لحظات حاجاتكِ اليائسة! كنتِ تركعين أمامه عندما كنتِ فقيرة، عندما كانت عائلتكِ في وضع اجتماعي متواضع، عندما أردتِ أن تذهبي إلى الجامعة! في ذلك الحين كنتِ تصلّين كلّ يوم وتركعين لفترات طويلة، لساعات، تتوسّلين إلى ربّك، مصلّية وسائلة إيّاه أن يخرجك من الفقر ويسمح لكِ بأن تنالي درجة جامعية لتصيري شخصاً معتبَراً. كلّما كنتِ في عوز واحتجتِ إلى مال كنتِ تتلين المسبحة. "أرجوك يا ربّ! ابعث لي ببعض المال!" تلك كانت علاقتكِ بربّك!" هذا كلّه رأته غلوريا في كتاب حياتها ولم يكن بإمكانها أن تدافع عن نفسها لأنّ الوقائع كانت صارخة!
هكذا كانت بالفعل إذاً. عندما نالت شهادة جامعية وصار اسمها معروفاً صَغُر الربّ في عينها. لم تعرف في حياتها معنى الشكر. ودائماً ما كانت جاحدة!
"بالإضافة إلى ذلك جعلتِ ربّك في مرتبة دنيّة. حتى النجوم وثقتِ بها أكثر منه. أُخذتِ بالتنجيم وادّعيتِ أنّ الأبراج تسيِّر حياتك! تبعتِ كلّ اعتقادات العالم الباطلة! آمنتِ بالتقمّص! ونسيتِ النعمة الإلهيّة وأنّ ربّك افتداكِ بدمه!"
على هذا امتحنوني في الوصايا العشر. أبانوا لي أنّي كنت أعبد الله وأُحبّه بالكلام بينما في الواقع كنت أعبد الشيطان. باللسان الذي كنت أُبارك الله كنت أنتقد الجميع. كنت أتصرّف وكأنّي قدّيسة وأنا ممتلئة حسداً وجحوداً. حتى أبي وأمّي كانا حقيرَين في عينيّ، وأمّي كنت أستحي بها لأنّها بسيطة وفقيرة.
وأبانوا لي أيّ نوع من الزوجة كنت: دائمةَ التذمّر! لم يكن شيء يعجبني. ولا كنت محبّة رؤوفة بالناس. "لم تهتمّي ولا مرّة بمؤاساة المرضى ولا رأفتِ بالأيتام والأطفال المتألّمين". كان قلبها من حجر. كنتُ أحياناً أشتري بعض المواد الغذائيّة للمحتاجين ولكن ليس لأنّي أحببتهم بل تجميلاً لصورتي، لكي يقول الناس فيّ حسناً ولكي أتحكّم في تصرّفاتهم. كنتُ أستلذّ مديح الناس لي. "إلهُكِ كان المال. وقد أُدنتِ بسبب حبّك للمال".
كنت أكذب كثيراً. لأنّ الشيطان هو الكذّاب فقد كنت أنا ابنته! الكذب كان سهلاً عليّ ونافعاً لي! لم يكن الكذب يزعج ضميري. حتى كنت أحلف كذباً. أقول لأمّي: "إذا كنتُ كاذبة فلتنزل بي صاعقة!" أخيراً، بالفعل، نزلت بي الصاعقة وقتلتني!"
في شأن حياة الصلاة وحفظي لها قال لي الصوت كيف أنّي كنت أخصّص كلّ يوم أربع أو خمس ساعات من وقتي للعناية بجسدي، رياضة ومسّاجات وما سوى ذلك، ولا أجد عشر دقائق لأصلّي صلاة قلبيّة لربّي. جسدي كان صنمي! عندما كانت أمّي تدعوني للذهاب إلى الكنيسة كنت أتبرّم وأقول لها: "ولكن الله في كلّ مكان! لماذا عليّ أن أذهب إلى هناك؟" كنت أقول ذلك لأنّه يناسبني وكنتُ منشغلة بأموري الخاصة وجسدي ولا وقت لي لله! لم يكن الله يهمّني! كنت مستعبدةً لجسدي ونسيت أنّ لي روحاً! وها قد تمزّق جسدي واحترق! أوّاه!
الأسرار الكنسيّة لم أكن أبالي بها. الاعتراف بالخطايا كنت أسخر منه لكي أبقى مرتاحة في أوساخ نفسي. وكنت أدّعي أنّي أنقى من هؤلاء الكهنة الذين يقبلون الاعترافات. كذلك سخرت من القول إنّ السرّ مبارَك. كنت أقول للآخرين: هل بإمكانكم أن تتصوّروا أنّ الله موجود في قطعة خبز؟! ثمّ كان خيراً للكهنة ليجعلوا القربانة أكثر جاذبية أن يمرغوا على الخبز بعض الكراميل ليصير طيِّب المذاق!!!
ثمّ انتقاد الكهنة والسخرية بهم وإشاعة الأخبار المشينة في شأنهم كان لديّ سهلاً لأنّه كان تقليداً عائلياً!
أما أبي وأمّي فصحيح أنّي كنت أدفع عنهما الفواتير ولكن لم أكن أحترمهما بل كنت أُحرِّكهما كما يحلو لي وأُسمعهما كلاماً غير لائق. أمّي، في نظري، كانت جاهلة ساذجة وأبي كان يحبّ النساء ويسكر ويدخِّن. كان يُهين أمّي بكلامه عن عشيقاته وكنت أكرهه وأكره أمّي لأنّي كنت أعتبرها بلا كرامة وأدعوها إلى الطلاق من أبي. كانت أمّي تبكي وتصلّي وأنا كنت أسخر منها. كانت تقول لي: كيف أُطلِّق أباكم وعندي سبعة أولاد؟! كيف أحرمكم من أبيكم؟ أبوكم عنده خصال عديدة جيّدة، فهو إنسان لا يأكل مال أحد ويتعب في التحصيل ليؤمّن للعائلة معيشتها. ثمّ لو طلّقتُه فمَن الذي سيصلّي له ليتوب ويخلص؟! كلّ هذا لم يكن يعنيني، أنا، غلوريا، في شيء. لذلك صرت متمرّدة أدافع عن الإجهاض والمساكنة والطلاق وأدعو إلى معاملة الناس على أساس العين بالعين والسن بالسن. كم من الناس أفسدتُ بآرائي؟!
قلت للصوت: ولكنّي لم أقتل أحداً في حياتي! فتبيّن لي، في كتاب حياتي، أنّي كنت على خطأ. رأيت كيف أنّ فتاة في الرابعة عشرة أجهضت بسببي. فقد علّمتها هي وغيرها كيف يكنّ على الموضة وكيف يتألّقن ويستعملن أجسادهن للغواية وكيف يكشفن مفاتنهن وكيف يستعملن موانع الحمل. وإذا لم تنجح أساليب منع الحمل لدى إحداهن كنت أُعطيها مالاً وأدلّها على مكان لتجهض على نحو سليم فلا يتأثّر مستقبلها بما فعلت! كانت غلوريا مقتنعة بأنّ من حقّ المرأة أن تحبل ساعة تشاء وأن تجهض ساعة تشاء لأنّ جسدها مِلكُها! كانت تقول للفتيات: "أمّهاتكن يتكلّمن على العذرة والعفّة لأنّهن رجعيات! يتكلّمن على كتاب مقدّس عمره ألفا عام. والكهنة يرفضون الحداثة في الموقف والنظرة إلى الأمور... الإجهاض هو أسوأ ما يُعمل بالطفل!" لقد رأيتُ في كتاب الحياة كيف تتكوّن الروح لحظة تلتقي النطفة البويضة. فإنّ شرارة جميلة تنقدح ونورٌ يُشعّ من شمس الله الآب. حالما يحدث الإخصاب في حشا الأمّ فإنّ حشاها يستضيء ببهاء تلك الروح. وعندما تُجرَى لامرأة عملية إجهاض فإنّ الروح تصيح وتئن ألماً حتى لو لم يكن لها عينان أو لحم. وتقول غلوريا إنّها، ساعتذاك، أدركت أنّه لم يعد لها إحساس بالخطيئة وأنّها، هي نفسها، كانت تضع في جسدها أداة لمنع الإخصاب. كلّ هذا جعلها آلة لقتل الأطفال ومنعهم من الحياة. ولكن انعكس عليها الأمر شعوراً دائماً بالمرارة وسوء المزاج والتجهّم والإحباط والكآبة. كلّ شيء، بالنسبة إليها، صار مسموحاً به! كيف يمكنها أن تقول، إذاً، إنّها لم تقتل أحداً؟! وماذا عن الناس الذين كرهتهم أو الذين لم يعجبوها أو الذين أهانتهم. "لا يموت الناس فقط بطلقة ناريّة. يكفينا أن نكرههم وأن نسيء إليهم وأن ننحسد منهم. بمثل هذه الأمور نتعاطى القتل أيضاً!"
وعن الزّنى ظنّت غلوريا أنّه لا أحد يمكن أن يتّهمها بأنّها عرفت غير زوجها. فاستبان لها أنّها كلّ مرّة كانت تعمل فيها على كشف لحمها وحجم ثدييها وساقيها كانت تجتذب الناس إليها وتملأهم أفكاراً دنسة وتدفعهم إلى الخطيئة. كلّ هذا معناه أنّها سقطت في الزّنى مع غير زوجها مرّات لا عدّ لها. وتبيّن لها أيضاً أنّها باسم حرّية المرأة كانت تدعو صويحباتها إلى عدم التزام الأمانة مع أزواجهن وعدم مسامحتهم إذا أخطأوا، كما كانت تشجِّع على الطلاق. كلّ هذا كان كافياً لإشاعة جوّ من الزّنى في وجدان الآخرين.
وقالت غلوريا إنّها لم تسرق في حياتها. فقيل لها إنّ الطريقة التي كانت تتّبعها تفريطاً بالغذاء في بيتها وما كانت تنفقه على جسدها والموضة، كلّ هذا سرقة. ففيما كانت هي تسعى جهدَها ليكون لها قِوام أنحف وأنعم وأجمل كان العالم يرتع في المجاعة. وقيل لها أيضاً إنّها مسؤولة، بما كانت تبدِّده على نفسها، عن الفقر في بلادها. وليس هذا وحده سرقة، بل السرقة الأفظع أن تتناول الآخرين بلسانك وتجرِّح بهم. أن تسرق مال الناس، هذا بإمكانك أن تعوِّضه، ولكن أن تسرق سمعة الناس، هذا كيف تعوِّضه؟!
وشعرت غلوريا بالخجل الشديد من نفسها وهي ترى حياتها في كتاب الحياة كما في فيلم. رأت ولديها يقول أحدهما للآخر: "ليت الماما لا تأتي إلى البيت سريعاً وليت عجقة السير تؤخّرها عن المجيء. إنّها مزعجة وتتذمّر كثيراً!" قالت غلوريا لنفسها: هذا ما فعلتُه بولديّ! سرقتُ أمّهما منهما كما سرقت سلام بيتي. كنت أهتمّ بأشياء كثيرة تخصّني ولا أهتمّ بهما. تركتهما للخادمة! لم أُعلّمهما لا محبّة الله ولا محبّة الناس. كنت أكتفي بالإنفاق عليهما، وإذا أردتُ أن أُعبِّر لهما عن اهتمامي بهما كنت أشتري لهما الملابس ذات الماركة المعروفة (signée)...
في خضوع غلوريا لامتحان الوصايا تبيّن لها أنّ أساس كلّ الشرور التي وقعت فيها كان الطمع.
حتى تصرّفاتي الصغيرة الرعناء لم تكن، في كتاب الحياة، من دون أثر سيّء في الآخرين. رأيت في كتاب حياتي كيف أنّي، ذات مرّة، أكلتُ موزاً وألقيت القشرة في الشارع غير مبالية. فإذا بي أرى إنساناً يسقط أرضاً بعدما داس القشرة وكدتُ أتسبّب بموته وأنا لا أدري!
ومرّة اشتريتُ حاجياتي من محل كبير فأعطتني فتاة الصندوق ما بقي لي من مال، وكان فيه مبلغ زائد، 4500 بيزوس. لم أفطن للأمر إلاّ بعدما أقلعتُ بسيارتي باتجاه عيادتي. أردت أن أعود أدراجي لأردّ لها المال لأنّ أبي كان قد علّمني الأمانة في التعامل مع الناس. ولكن كان السير ضاغطاً جداً فأكملت سيري غير مبالية وقلت في نفسي: "هذا غباء العاملة في كلّ حال!" بعد ذلك ذهبت واعترفت لدى الكاهن بأنّي أخذت مالاً لم يكن لي حقّ فيه. على ما فعلت قال لي الصوت الذي حاكمني: ذهبتِ ولم تبالِ بما حصل بعد ذلك. ذاك المال الذي أخذتِه واعتبرتِه كلا شيء هو مبلغ زهيد بالنسبة إليكِ: فراطة! ولكنْ للفتاة التي أخطأت في حسابها معكِ كان أجرة ثلاثة أيّام عمل. لذلك رأيتُ، في كتاب الحياة، أنّ الفتاة وأولادها بقوا ثلاثة أيّام جائعين بسبب عدم اكتراثي بما حصل؟
وقال لي الصوت: "أيّ كنوز روحيّة تحملين؟!" "كنوز روحيّة ويداي فارغتان؟!" عندئذ قال لي: تلك البيوت والمكاتب التي اقتنيتها، ماذا نفعتكِ؟ حسبتِ نفسك أنّك امرأة أعمال! ماذا فعلتِ بالمواهب التي أعطيتُك؟ "مواهب، أيّ مواهب؟" قلت في نفسي! عندئذ قال لي الصوت: كان لك عمل رسولي أن تدافعي عن ملكوت المحبّة، عن ملكوت الله! "أتريدون أن تعرفوا ماذا بقي الربّ يسألني؟ بقي يسألني عن المحبّة والرحمة!" إذ ذاك كلّمني عن موتي الروحي. كنتُ حيّة ولكن ميتة. ليته كان بإمكانكم أن تعرفوا ما هو "الموت الروحي!" إنّه كأن تكره! كان بإمكاني أن أرى نفسي من الخارج تنبعث منّي رائحة طيِّبة وأنا ألبس ثياباً جميلة، ولكن من داخلي نتنة! وقال لي الصوت: موتك الروحي بدأ عندما توقّفتِ عن الإحساس بآلام الآخرين. وكنتُ دائماً أُريكِ حجمَ معاناة الناس. فلم يهمّك! لم تعودي تشعرين بشيء في قلبكِ تجاههم! الخطيئة جعلت قلبكِ قلباً من حجر!
وأُقفل كتاب حياتي وشعرتُني بمرارة فظيعة. ليس لي ما أقوله. كنت أظنّ نفسي شبه قدّيسة! صرختُ واستعنتُ بالقدّيسين الذين تذكّرت أسماءهم. ولكن عبثاً! كنتُ قد أُدنْتُ. ورأيت أمّي التقيّة التي كنت أسخر منها وعلى وجهها ابتسامة جميلة. كانت هادئة ولكنّها أشارت إلى فوق. وإذا بقشور مؤلمة تسقط من عينيّ، فرأيتُ أحد مرضاي يقول لي: عندما تجدين نفسك في خطر مداهم استعيني بالربّ يسوع فإنّه افتداك بدمه ولن يتخلّى عنكِ. فأخذت أصرخ: "يا يسوع المسيح، يا ربّ، ارحمني وسامحني! أعطني فرصة ثانية!" تلك كانت أجمل لحظاتي. لستُ أجد كلاماً أصف به تلك اللحظة! لقد جاء! جاء وسحبني من الهوّة! قال لي: سوف تعودين وستكون لك فرصة ثانية! هذا ليس بسبب صلاة عائلتك لكِ، إنّه لأمر عادي أن يُصلّوا لكِ، بل بسبب توسّل أقوام غرباء عنك في اللحم والدم. هؤلاء صلّوا لكِ بحرارة وحبّ كبير.
إذ ذاك أخذتُ أرى أنواراً تشعّ كانت هي صلوات الناس ومحبّتهم. رأيت الناس الذين صلّوا من أجلي. ولكن كان هناك لهبٌ أشدّ من سواه. هذا مدّني بمحبّة أكبر من غيره. حاولت أن أرى مَن يكون فقال لي الربّ: "هذا الذي ترينه هناك أحبَّكِ كثيراً ولم يعرفْك". كان ذلك إنساناً فلاّحاً فقيراً وقعتْ في يده صفحة من صحيفة اليوم السابق وكانت فيها صورة غلوريا ممزّقة ومحترقة. فتأثّر جداً وأخذ يبكي ويصلّي من أجلها ويصرّ على الربّ الإله أن يخلّصها وينذر النذور على نيّتها. "هذا هو الإنسان الذي قبلتُ شفاعته من أجلك". مثل هذا هو الحبّ الحقّ حيال الآخرين! ثمّ قال لي الربّ إنّي سأعود لأخبر بما رأيت وسمعت. ومَن يسمعكِ ولا يغيّر سيرة حياته سيكون مصيرُه صعباً جداً!
وعادت غلوريا إلى الحياة وأُعيد بناء جسدها برحمة يسوع ونعمة منه لتُخبر بما جرى لها. هذه خلاصة قصّتها! فمَن له أذنان للسمع فليسمع!
الأرشمندريت توما (بيطار)
رئيس دير القدّيس سلوان الآثوسي – دوما
http://groups.yahoo.com/group/arbible/message/49720