شاعر و مفكر مهم ظلمته الاقدار(هديه للعزيز ابراهيم)
انا التقي بعضهم بين الحين و الاخر في الجامعة و احاول محاورتهم بدون ارتفاع ضغط الدم:)كما شاهدت لهم عدة برامج و وجدتها مقززة و ما يحيرني هو جاذبية الاصولية المسيحية و الاسلامية للكثيرين حيث يحصلون على الاف الconverts
في كل انحاء العالم.المفكر الفرنسي اوليفييه روي له اراء مفيده عن هذه الظاهرة
عن موقع الاوان
العلمنة و تحوّلات الديني
أوليفيي روا Olivier Roy
لماذا يدخل عشرات الآلاف من مسلمي آسيا الوسطى في الديانة المسيحية أو يصبحون "شهود يهوه"؟ كيف يُمكن لكنيسة بروتستنتية إنجيلية أن تتجذّر في المغرب الأقصى أو في الجزائر؟ لماذا تحدث العقيدة الإنجيلية البروتستنتية تقدّما لا مثيل له في البرازيل ( 25 مليون منتم سنة 2007) أو في إفريقيا الغربية؟ كيف نفسّر أنّ الدين الذي ينتشر بأكبر سرعة في العالم هو دين الإنجيليين الجدد( البنتكوتية )؟ ولماذا يستقطب السلفيون المتجذّرون شبّانا أوروبيين، بيضا كانوا أم سودا؟ وكيف يمكن أن تكون القاعدة هي التنظيم"الإسلامي"الذي يضمّ أكبر نسبة من المعتنقين للإسلام؟ وبالمقابل لماذا تجد الكنيسة الكاثوليكية في الغرب صعوبة جمّة في المحافظة على رعاياها وتشهد عدد رهبانها ينهار؟ وكيف يمكن أن يكون المدافعون اليوم عن التقاليد الانكليكانية المحافظة هم نيجيريون وأوغنديون وكينيون، بينما يوافق كبير أساقفة الكنيسة الانجليزية "روام ويلماز" في نفس الوقت على استعمال الشريعة كقانون مدنيّ يتعلّق بالمسلمين البريطانيين وكذلك على سيامة الكهنة الجنوسيين؟ لماذا نجد الأرثذكسيات الصقلبية (السلافية)، على عكس البروتستانتية، منكمشة على هوياتها الوطنية، تماما مثل الهندوسية؟
ولماذا تنتشر البوذية بسرعة فائقة في الغرب؟ لماذا يؤدّي الاحتداد الإيديولوجيّ للدين في إيران إلى علمنة المجتمع المدنيّ؟ لماذا تنتج كوريا الجنوبية، مقارنة بحجم سكانها، أكبر عدد من المبشّرين البروتستان في العالم (وهي تأتي في المرتبة الثانية وراء الولايات المتحدة باعتبار الأرقام المطلقة)؟
لا تـُمكـِّن نظرية صراع (أو حوار) الحضارات من فهم هذه التحركات "التكتونية" التي تشوّش الخرائط والبرور والهويات وتحطّم العلاقات التقليدية بين الدين والثقافة. فماذا يجري عندما تنفصل الأديان عن جذورها الثقافية؟ أو بعبارة أبسط، كيف يمكن أن تكون الأديان هي التي تحمل عمليات إعادة الترتيب الهوياتية؟
تواجهت نظريتان خلال الربع الأخير من القرن العشرين: الأولى ترى في العلمنة صيرورة لا مفرّ منها، وهي في نفس الوقت شرط للحداثة ونتيجة لها، والثانية تلاحظ وتحييِّ عودة الدينيّ، معتبرة إياه إمّا احتجاجا ضدّ الحداثة المرتهنة والوهمية أو شكلا مختلفا للدخول في الحداثة. وليس هذا الجدل مجرد تخمين فكريّ، بل هو يكْمُن - في فرنسا - في قلب الخلاف حول اللائكية. فهل يجب فرض اللائكية ضد الدينيّ، إن لزم الأمر على حساب الحرية الفردية؛ أم هل أنّ التجديد الدينيّ ليس سوى انعكاس للتعددية والثراء والحرية الإنسانية؟
إلا أنّ هناك سوء تفاهم في هذه المجادلة: العلمنة في الحقيقة لم تمحُ الدينيّ. فهي، بفصله عن بيئتنا الثقافية، تظهره على العكس كدينيّ صاف. لقد تكرّست العلمنة في واقع الأمر، والذي نعيشه هو إعادة صياغة نضالية للدينيّ في فضاء مُعلمَن أعطى لهذا الدينيّ استقلاليته وبالتالي وفـّر له ظروف انتشاره. لقد أجبرت العلمنة والعولمة الأديان على الانفصال عن الثقافة وعلى اعتبارها ذوات مستقلة وعلى إعادة بناء نفسها في فضاء لم يعد إقليميا وبالتالي لم يعد خاضعا للسياسيّ. إنّ الفشل السياسيّ للدينيّ (الإسلاموية والتيوقراطية) متأتّ من كونه أراد مزاحمة العلمنة فوق ميدانها الخاص : أي الفضاء السياسيّ ( الأمة- الدولة- المواطن- الدستور-النظام القضائي). إنّ مثل ذلك التسييس للدينيّ يضاهي علمنته، لأنه يورّطه كل مرّة مع السياسة اليومية ولأنه يفترض، بالنسبة لكلّ فرد، الولاء والحرية في نفس الوقت. فالدينيّ المشتغل بالسياسة هو بكل بساطة محشور بين حتميتين متعارضتين: اعتباره (إعلان) عدم الإيمان فضيحة من جهة، بينما الإيمان لا يمكن له إلا أن يكون فرديا، من جهة أخرى. لا يشتغل هذا الدينيّ- السياسيّ إذن إلا حسب مبدا أن كلّ الناس مؤمنون، غير أنه لا يستطيع أن يضمن صدق هذا الإيمان، وهو بالتالي مضطر لفرض تطابق المظاهر، الأمر الذي يُحجّر عليه بعد ذلك أن يقدم نفسه كتعبير عن إيمان طوعيّ مشترك بين مجموع أفراد الطائفة.
يوجد رابط متين بين العلمنة والانتعاش الدينيّ، فهذا الأخير ليس ردّ فعل على العلمنة، بل هو نتيجة لها. العلمنة هي التي تصنع الدينيّ وليست هناك "عودة" لهذا الأخير، بل هناك تحوّل فقط. وما هذا التحوّل، قطعا، إلا برهة لا تؤدّي بالضرورة إلى عهد دينيّ جديد.
ثمّة سؤال أوّلي يطرح مع ذلك: هل إنّ البروز المتزايد للدينيّ وكذلك الثقل الذي أصبح يأخذه في الوسائل الإعلامية وفي السياسة يشكلان حقيقة ً تتطابق مع تزايدٍ في الممارسة الدينيّة؟ بالنسبة لأوروبا، لا تبدو المسألة بديهية: فولاية يوحنا بولس الثاني البابوية جسّدت الحداثة الإعلامية للدينيّ، غير أنه رغم أنّ عددا متزايدا من الشباب هرعوا طيلة عشرين سنة لملاقاة البابا بمناسبة الأيام العالمية للشبيبة (Journées Mondiales de la Jeunesse) فإنّ عدد المشاركين في الحلقات الإكليركية الكاثوليكية لم يفتأ يتقلّص طيلة نفس الفترة. فهل يمكن لنا أن نستنتج أنه كلما تكثّف لقاء الشباب بالبابا، خبت رغبتهم في أن يصبحوا قساوسة؟ أو بحذر أكبر، هل إن تطلعاتهم الروحانية لا تتطابق مع ما يمكن أن تقدمه لهم الكنيسة التقليدية؟ لقد واصلت الممارسة الدينيّة تراجعها طيلة عشريّات "عودة الدينيّ". وفي اسبانيا ينظم قانون صدر في 1987وصادقت عليه الكنيسة، الاقتطاع المباشر من طرف الدولة وعلى قاعدة تطوّعية، لضريبة دينيّة ( تساوي 0.52 بالمائة من الأداء على الدخل) تدفع للكنيسة. غير أنّ نسبة البؤر الضريبية التي تتطوّع لدفع تلك الضريبة انخفض من 42.73 بالمائة من مجمل البؤر الضريبية سنة 1993 إلى 34.32 بالمائة سنة 2002 (1)، أما في بريطانيا العظمى، ففقد تعمّم أفول الممارسة الدينيّة إلاّ لدى ثلاث مجموعات: البولونيين (50 بالمائة منهم يحضرون القداس) و الإنجيليين الجدد (البنتكوتيين) والمسلمين(2).
غير أنّ قسما كبيرا من الإنجيليين الجدد هم سودٌ أتوا من افريقيا أو من الجاماييك وهنا نتبين كيف أنّ "الانتعاش" الدينيّ مرتبط بأنواع الفئات السكانية (الفئات المهاجرة بالخصوص) وليس بطبيعة الأديان. فالدين يجنّد متطوّعيه أو أتباعه على الهامش مثلما فعلت الحركات الكبرى للانتعاش الدينيّ في القرنين السابع عشر( الميثودية) والثامن عشر عندما شملت الهوامش الجغرافية للمملكة المتحدة ( بلاد الغال- اسكوتلندا) وتركت جانبا القلب الانجليزي. وفي اسبانيا يأتي النموّ المدهش للبروتستانتية، التي قفز عدد أتباعها من بضع عشرات الآلاف سنة 1995 إلى ما يقارب 000 400 سنة 2005، أساسا نتيجة اعتناق المهاجرين القادمين من دولة الإيكواتور ( والذين هم – زيادة على ذلك – هنود ) لهذه الديانة. ويبدو أن التوافد على الكنيسة، في البلدان الأرثوذكسية المسيحية، والذي تبع انهيار الشيوعية لم يعمّر طويلا.
يتكلم أنصار عودة الدينيّ عن حالة استثناء أوروبية ويؤكدون أن عودة الدينيّ في القارات الأخرى هي أكثر بروزا. وفي الواقع، ومهما تعذر قياس الممارسة الدينيّة، فإنه من غير الأكيد أننا نشاهد اليوم انفجارا لهذه الممارسات، بل نحن بالأحرى أمام أشكال جديدة لرؤية الدينيّ. لقد تطورت في الولايات المتحدة نسبة الأشخاص الذين يصرحون بعدم إيمانهم من 7 إلى 13 بالمائة ما بين سنتي 1990 و 2001، بينما تقلص عدد المتابعين للحلقات الاكليريكية الكاثوليكية من 49000 سنة 1965 إلى 4700 سنة 2002، في حين أن عدد الكاثوليكيين كان قد تزايد بفعل أسبنة سكان البلد(3). وبالمثل، إذا كان عدد تلاميذ المدارس اللاهوتية البروتستانتية في ازدياد، فإن نسبة الراغبين في دخول الرهبانية هو في انخفاض(4).
نُحمّل المسؤولية، عادة، إلى أفول المسيحية الذي يوازيه صعودٌ للإسلام. غير أن مذهب الإنجيليين الجدد، المسيحيّ، هو الذي ينتشر بسرعة أكبر على صعيد العالم قاطبة، إلى جانب المورمونية. وتبدو الممارسة الدينيّة للأقلية المسلمة بأوروبا أكثر وضوحا لأن الممارسات العمومية انطلقت من الصفر في حين أن الاحترام الفردي المواظب للطقوس (الصلوات) لا يبدو أنه أحسن من ذلك الذي يمارس لدى الأديان الأخرى(5). إن انتشار الإسلام كان أقل ارتباطا بحركة تبديل المعتقد منه بالتزايد الديمغرافي للسكان المسلمين، والحال أن هذا التزايد شهد مؤخرا تراجعا مفاجئا: كل المجتمعات الإسلامية تعيش اليوم عمليا مرحلة انتقال سكاني تضعها، مقارنة مع نسب الخصوبة الأوروبية(6)، في نفس المستوى وأحيانا في مستوى أدنى.
تـُوهِم عبارة "عودة الدينيّ"، من جهة أخرى، أن الأديان السابقة تعود كما كانت عليه بعد فترة من الكسوف. فهل كانت أديان اليوم، بقطع النظر عن تسمياتها (مسيحية، إسلام،...) هي نفسها تلك التي أسست الحضارات الكبرى التي نعرفها؟ إننا نلاحظ انزلاقا للأشكال التقليدية للدينيّ (الكاثوليكية، الحنفية الإسلامية، التسميات البروتستانتية الكلاسيكية مثل الأنكليكانية و الميثودية) نحو أشكال للتديّن أكثر أصولية واستهواءً للجماهير (الإنجيلية، البنتكوتية، السلفية، التبليغ، الصوفية الجديدة). غير أنّ هذه الحركات هي جديدة نسبيا، فالسلفية تعود إلى الوهابية التي تأسست في أواخر القرن الثامن عشر. والأناجيل تتموضع داخل تقليد الصحوات البروتستانتية التي ظهرت خلال القرن الثامن عشر والبنتكوتية يبدأ تاريخها منذ أوائل القرن العشرين. كذلك تمثل أشكال البوذية والهندوسية النازعة إلى التجنيد و التصدير إعادة صياغات حديثة ظهرت من أواخر القرن التاسع عشر إلى أواخر القرن العشرين ( صوكا غكاي Soka Gakkaï ، فا لون غوغ Fa Lun Gong ، هاري كريشنا Hare-Krishna وأيضا الهندوسية السياسيّة للحزب القومي الهندوسي - بهاراتيا جاناتا بارتي BJP - أو المذهب البوذي ثهرَوادة Theravada في سري لنكا). وتشهد التيارات التي تعرّف بفرنسا بعبارة sectes"" – نِحل –وبالولايات المتحدة بعبارة "cults"- طوائف – وبلغة جامعية بـ"الحركات الدينيّة الجديدة" (nouveaux mouvements religieux) ، ازدهارا ملحوظا، فالمورمون و"شهود يهوه" المتواجدون هم أيضا منذ القرن التاسع عشر عرفوا نموّا قويا في أواخر القرن العشرين على صعيد العالم بأسره.
بهذا المعنى لا تكون "عودة" الدينيّ سوى وهم بصريّ ويكون من الأنسب أن نتكلم عن تحوّل (لا عودة). فالدينيّ، في نفس الوقت الذي يكون فيه أكثر ظهورا، هو غالبا في أفول. إننا نعيش بالأحرى إعادة تعريف للدينيّ أكثر من عودة إلى ممارسات سلفية وضعت بين قوسين طيلة فترة (صعود) العلمنة. هذه الاتجاهات تتماشى مع رغبة في ظهور أكبر في الفضاء العمومي وحتى رغبة في قطع صريح وجليٍّ مع الممارسات والثقافات السائدة. فالدينيّ يُظهر نفسه كما هو ويرفض أن يكون مختزَلا في نظام رمزيّ ضمن الأنظمة الأخرى.
إن الذي يتغيّر هو تلك العلاقة بين الدين والفضاء العمومي، لأنّ عودة الدين في هذا الفضاء لا تجري تحت مظهر البداهة الثقافية بل قل في صيغة إظهار صاخب لـ"صفاءٍ" دينيّ مثالي أو لتقاليد (اجتماعية-ثقافية) مركبة من جديد. ويُشكل الاعتناق الجديد للديانات الذي يحصل في كل الاتجاهات مؤشرا جيّدا يدل على تشوّش الربط بين الثقافة والدين. غير أنه من الواضح في جميع الحالات أن أشكال الدين المنعوتة بـ"الأصولية" أو بـ"الكاريزمية " (المبهرة للجماهير) هي التي شهدت تطوّرا مذهلا، سواء تعلّق الأمر بالإنجيليات البروتستانتية أو بالسلفية الإسلامية. ونفس الصلابة التقليدية تخترق الكنيسة الكاثوليكية وتخترق اليهودية وحتى الهندوسية. وتمثّل الأصولية شكل الدينيّ الأكثر تكيّفا مع العولمة وذلك لأنها تتبنىّ مسؤولية تلاشي بُعدها الثقافي، جاعلة من ذلك دليل ادعائها الكونية.
زوال توطن الدينيّ وانحلاله من ثقافته الأصلية
بطبيعة الحال ليست هذه المرّة الأولى التي تُصدَّر فيها أديانٌ وتمارِس هذه الأخيرة التبشير خارج مساحاتها الثقافية. إلا أنّ استبدال الأديان كانت ترافقه عمليات "انحلال من ثقافة أصلية/ امتلاك لثقافة جديدة - أو تثاقف " (déculturation/acculturation) حيث تترابط الوُسوم (جمع واسم : marqueur ) الدينيّة والثقافية من جديد وكيفما كان الحال، ويكون ذلك غالبا في إطار الغزوات أو الأشكال المختلفة للهيمنة السياسيّة. إن التوطّن الإقليميّ للأديان يفضي إلى تثاقفها أو حسب عبارة حديثة إلى انغراسها الثقافيّ inculturation (فهي تستقرّ في قلب الثقافة الموجودة). لقد كان لكلّ من المسيحية والإسلام أثر محقّق في تشكل العالم الغربي والعالم العربي رغم أنّ توليفات أو ارتباطات جديدة بين الدّين والثقافة برزت شيئا فشيئا لتبرّر قسمة العالم إلى مساحات ثقافية مختلفة ( الثقافة الفارسية أو التركية، الثقافة المسيحية في أمريكا الجنوبية).هذا وقد شكّل التوطّن الإقليمي للدينيّ المشجّع من قبل السياسيّ، فضلا عن ذلك، القاعدة الأساسية لنظرية صراع/حوار الحضارات.
لقد وضع علماء الإناسة (الأنتروبولوجيا ) جملة من المصطلحات لتمثـُّل هذه الترابطات : مثاقفة acculturation، نغولة hybridité، تلفيقية syncrétisme، تهجين métissage... واستعمل الماركسيون من كلّ الاتجاهات، بكثرة، مفهوم الاغتراب ليفسروا كيف أن الهيمنة السياسيّة أو الإيديولوجية تستطيع أن تغرس العقائد وتوظّفها لاستتباب هذه الهيمنة عبر استبطانها. وفعلا وجب تفسير لماذا يقبل المُهَيْمَنُ عليهم دين المُهيمِنين، وتتمثل الحالة الأكثر نموذجية بلا شك في تبنّي العبيد السود الأمريكان للبروتستانتية، دون أن يقوم الأسياد البيض تجاههم بسياسة تبشير منهجية ( لكن كيف نفسّر أنّ أمثالهم في الفضاءات الكاثوليكية الأمريكية أداروا وجوههم شطر الأديان السنكيرية مثل الفودو le vaudou ؟ )
غير أنّ "الدينيّ" يُتداول اليوم بالتحديد بقطع النظر عن أيِّ نظامِ هيمنة سياسيّة. يرى كثيرون بطبيعة الحال في تطور "البنتكوتية" نتيجة سيئة - جديدة - للامبريالية الإيديولوجية الأمريكية، لكن الأمور كما سنرى هي أكثر تعقيدا من ذلك، لأنه كيف يمكن لنا أن نفهم إذن تطور الإسلام و ثقل وزن الأفارقة في الكاثوليكية اليوم و انتشار البوذية؟ هل يجعل اعتناق العديد من الأمريكيين السود للإسلام من هذا الدين اغترابا جديدا أم يجعل منه بالعكس الشكل الجديد لمعاداة الامبريالية؟
هناك ظاهرتان تلعبان دورا أساسيا في تحوّل الدينيّ اليوم: زوال التوطّن الإقليميّ للدين la déterritorialisationوانحلال العلاقة مع ثقافته الأصلية la déculturation. الظاهرة الأولى ليست مرتبطة فقط بتنقل الأشخاص ( لا يعني ذلك إلا نسبة ضئيلة من سكان العالم ) بل بالأحرى بتنقل الأفكار و العناصر أو المواد الثقافية و الإعلام و أنماط الاستهلاك بصورة عامة في فضاء غير إقليمي. بيد أنّ المادة الدينيّة، كي تستطيع التنقل، يجب أن تتراءى وكأنها كونية، غير مرتبطة بثقافة محددة يتعيّن الإحاطة بها قبل تلقـِّي الرسالة. الدينيّ يتنقـّل إذن خارج المعرفة أو العلم. والخلاص لا يتطلّب منا المعرفة بل الاعتقاد (وكفى !). وهذان الاثنان بعيدان عن التنافر لدى أديان مركبة أو متداخلة في الثقافة ومُطوِّرةٍ لتفكير لاهوتيّ يحفزه انفتاحه على الفلسفة والأدب. لم يعد هذا الترابط غير ضروريّ فحسب، بل أصبح عائقا كلما تعلّق الأمر بالتنقل – في "الزمن الحقيقيّ" – في فضاء عوّضت فيه المعلومة المعرفة.
إن الفصل بين وُسوم (les marqueurs) الدينيّ ووُسوم الثقافيّ ليس نتيجة لتلاشي التوطن الإقليميّ، بل هو موازٍ له، غير أنه يجري أيضا في بيئته الأصلية (in situ) لأنه يخضع إلى أنساق منطقية متنوعة، داخلية وخارجية. فالعلمنة تحمل الدين على الابتعاد عن ثقافة تـُدرك وكأنها غير مبالية، إن لم نقل معادية. هنا يتحدد مصير الجدال بين "الأصولية" و"التكيفية " واللتان تمثلان طريقتين للتصرّف أكثر من أن كونهما مذهبين لاهوتييثن يتبنّى الأول القطيعة الثقافية ويعتبر الثاني أن تجسّد الدينيّ في ثقافة (سواء تحقق ذلك أم هو بصدده) يشكل شرط وجوده في العالم. بالنسبة للأصوليّ يكون معيار الفصل هو الإيمان: نحن لا نتشارك إلا في الإيمان. وبالنسبة للتكيّفي، بإمكان المؤمن أن يتقاسم ثقافة وقيما مشتركة مع غير المؤمن. يمكن الكلام (في هذه الحال) عن يهوديّ ملحد أو عن "غير مؤمن" ثقافته كاثوليكية، كما نشاهد اليوم بروز مفهوم "المسلم الملحد"، بينما يصعب عنا تصوّر"بنتكوتي" ملحد وسلفي لاغنوصي (لا أدري) أو مفكر له ثقافة "شهود يهوه".
ينقلب الدينيّ إذن على الثقافة السائدة، إذ هو يدركها ليس فقط كدنيوية مبتذلة، بل كوثنية كافرة (من وعاظ الإنجيليين الجدد إلى الطالبان والوهابيين). ويتوارى فضاء كهذا ما بين الاثنين، فضاء الملائمة والتكيف. تكمن الغواية إذن في تحديد "دينيّ صرف"، يمكن له أن يشاد في ظل سياقات متعددة. قد تكون أزمة الرابط الاجتماعيّ هي التي تفضي إلى إعادة بناء هوياتي حول واسم دينيّ ( هجرة، أزمة عشائرية ). وقد تكون بناءً صريحا لدين معَدٍّ "للتصدير" : يفضي الانشغال التبشيريّ في ظل سوق عالمية مقيّسة إلى ممارسة التسويق ومعايرة المنتوج المخصص للسوق وإلى اللعب على الطلب ولكن أيضا الحض عليه. ويأتي اندثار الصبغة الإقليمية أيضا من أزمة الدولة- الأمة المنتمية إلى إقليم و التي ترتبط بها اللائكية مع ذلك (من فرنسا إلى تركيا).
فإذا كان باستطاعة الأديان أن تنتقل خارج ثقافاتها الأصلية فذلك لأنها عرفت كيف تتجرّد من السمات الثقافية التي تتسم بها se déculturer. فالواسم الدينيّ يتنقل دون اصطحاب الوسوم الثقافية حتى ولو ارتبط من جديد بوسوم ثقافية (أخرى)غير ثابتة من قبيل " حلال فاست فود" hallal fast-food ، "إيكوكاشير" éco-cacher ، "سوبار فتوى" cyber-fatwa "حلال داتينغ" hallal dating ، روك مسيحيّ rock chrétien ، تأمّل استعلائي méditation transcendantale ؛ والتصرف السياسيّ اللائق الذي يعوّض اسم Christmas (عيد الميلاد) بـWinterval (عيد الشتاء) يساهم هو أيضا، لا في تحييد الدينيّ، بل بالعكس في تفاقم حدّته بوضع حدّ نهائي لعملية تحوّله إلى ثقافة وضمّه إلى تركيبة الثقافيّ.
إن انجلاء السمة الثقافية عن الدينيّ له نتائج جوهرية : فهو من جهة يحوّل الفضاء الفاصل بين المؤمن و غير المؤمن- اللذان لا يتقاسمان الممارسات الطقوسية ولا القيم المشتركة - إلى حاجز. فيزول إذن ذلك الفضاء الوسيط الذي يجمع ما بين المؤمنين الذين لا يقومون بالشعائر، والممارسين بالاسم للطقوس، واللامؤمنين المتدينيّن ثقافيا. ففي عيون المؤمنين ينتمي كل الفاترين والباردين (دينيّا) والذين لم يقوموا بتجديد دينهم (born again )، إلى العالم الكافر إن لم يكن الوثنيّ. وبالمقابل يبدو المؤمن لغير المؤمن غير لائق إن لم يكن متعصّبا. ففقدان الدينيّ لصبغته الثقافية ينتج عنه ضياع بداهته الاجتماعية. ويشعر المؤمنون فصاعدا وكأنهم أقليات محاطة بثقافة دنيوية جاهلة، ملحدة، إباحية، مادية، اختارت آلهة مزيّفة هي المال والجنس أو حتى الإنسان نفسه. وهذا بالرغم من أن المؤمنين يشكلون-إحصائيا- الأغلبية مثلما هو الحال في الولايات المتحدة.
ومن جهة أخرى، يؤدّي الحضور المتزامن في السوق لمختلف "المنتجات الدينيّة" إلى تأثير تنافسي ومعياري في آن واحد لا للعقائد اللاهوتية كما يُظن بل للتديّن المفرط. وهذه المعيارية تجد نفسها في سوسيولوجية المنخرطين في الحركات الدينيّة الجديدة التي هي تركيب لِسِمات خاصة لما سمّيته بالأصولية الجديدة : تركيبات عائلية عصرية ( أزواج متماثلين في العمر والدراسة) ولكن قيم محافظة -- لوبي سياسيّ لنشر القيم الأخلاقية ولكن عدم اكتراث بالإيديولوجية السياسيّة وبشكل الدولة -- نساء مناضلات وفي نفس الوقت معتكفات في أدوار تقليدية (تباهي المحجبات الجدد بحجابهن) -- مهن عصرية ( مهندسين وموظفين) ولكن خطاب "تقليدي"-- إلحاح على احترام المعايير أكثر من تعامل بالعواطف والحنان -- انغلاق طائفي ولكن رؤية كونية للدينيّ -- عدم مبالاة بالتراث والفن ولكن انبهار بالتكنولوجيا الحديثة... وتتشابه مختلف أشكال التدين حتى ولو تعارضت الهويات الدينيّة، ذلك أن توحيد أنماط الحياة والمعايير والقيم يسير في نفس الاتجاه مع العولمة.
وبما أننا نبحث عن نفس الأشياء (الثقة بالنفس، تحقيق الذات، السعادة، الخلاص) فإن الأديان تقولب وتنظم قياساتها se formatent حول هذا الطلب. وتتعمق هذه العملية عبر السوق بواسطة الدور الذي تلعبه المؤسسات سواء عن طريق القانون أو عن طريق الاجتهاد القضائي للمحاكم. وشيئا فشيئا يتبلور ويتركز قالب مشترك"للدين" لأن المؤسسات في حاجة لتعريف صالح لكل الأديان. غير أن هذه القولبة ( أو "الفرمطة") لا تخضع فقط لرغبة في مراقبة أحسن و في هيمنة وتثاقف كما كان الحال في تقاليد تدخل الدولة في شؤون الروحاني، بل إن فرمطة الدين تجري اليوم بالعكس على نقيض ذلك : إنها تجري باسم المساواة والحرية. فلكي تكون معاملة الأديان على قدم المساواة، يجب أن تندرج كلها في نفس النموذج (البراديغم) : فإذا سُمح على سبيل المثال لدين أن تكون له كهنة للتعليم والتوجيه الدينيّ في الجيش، فهذا يفترض أن الدين المعني يجد تحت تصرفه صنفا من كهنة العبادة المهنيين وإذا لم يكن الأمر كذلك فإنه يتعين إحداث هذا الصنف.غير أن مبادئ الفصل بين الكنيسة وبين الدولة في البلدان الديمقراطية تقر بالضبط بأن الدولة لا يحق لها التعريف بالدينيّ، بل بوجوب استعمال "براد يغم" مشترك يطبق على كل الأديان. والمفارقة هي في أن فرمطة الدينيّ التي كانت تمارس سابقا من أجل إحكام الهيمنة من منظور التوجيه الإقليمي والسياسيّ، أصبحت تجري اليوم من منظور "حقوق الإنسان" والحرية الدينيّة و التعددية الثقافية. وبعيدا عن أن يكون اعترافا بالفوارق الأصلية، فإنّ التعددية الثقافية ليست سوى التعبير عن فرمطة الثقافات والدينيّ في براديغم مشترك يحتوي على أصغر القواسم المشتركة : أي بعض وسوم الدينيّ، مفصولة عن سياقاتها و"متساوية" بين بعضها بفضل الممارسة القضائية أو القانونية ومنصّبة كوُسوم ثقافية. تعني التعددية الثقافية اضمحلال العمق الثقافي ووضع عدد مختزل من المعالم الدينيّة متشابهة مع بعضها تحت تعريف الثقافة (تعليمات وأوامر تهم التغذية واللباس مختزلة في بعض الظواهر مثل الحجاب). إن التعددية الثقافية هنا هي الطائفية مختزلة في الأقنيات.
دينيّ خالص ؟
ولكن ماذا يمكن أن تعنيه عبارة "دينيّ خالص"؟ لقد كان التوتر بين الإيمان والثقافة موجودا دائما وبطبيعة الحال في أوقات القطيعة بالخصوص (الوحي، تغيير الاعتقاد). فالقطع مع الثقافة السائدة يؤدّي إلى تأكيد ذي طبيعة أصولية ( وجوب الرجوع إلى المعايير الدينيّة الواضحة و الصريحة دون غيرها) أو كليانية (جميع مظاهر حياتي الخاصة يجب أن تكون محكومة بإيماني، حتى و لو كنت لا أفرضها على الآخرين(7)). فالمؤمن الحديث، سواء كان صائبا أو "مُهتديا وُلد من جديد" (born again)، يرفض أن يُصنـّف إيمانه، مثلما يفعل الإناسيون، كنظام رمزيّ ثقافيّ كسائر الأنظمة الأخرى. فالأمر بالنسبة إليه يتعلق بمطلق، وهو ما يسميه عالم اللاهوت البروتستانتي "كارل بارت" Karl Barth "قفزة الإيمان" التي تصنع الدينيّ. لا يمكن أن يكون هناك لاهوت بدون إيمان. والجدل بين الإيمان والمعرفة هو بالطبع موجود في جميع أديان الوحي، والمذاهب "المعتدلة" مثل الطومية أكدت دائما على عدم وجود تناقض بين الاثنين، إذ يعاضد الإيمان والمعرفة أحدهما الآخر. غير أن مظاهر الاستلاب الثقافي كانت لها نتيجة تقويض هذه العلاقة الجدلية: وأصبح يتعين على النصوص المقدسة أن تتكلم من خارج السياق الثقافي. فنحن نعيش إذن عملية استلاب ثقافي للنصوص المقدسة. نحن نعلم إلى أيّ مدى تبدو التوراة نصا ثقافيا ومع ذلك نرى كيف يقرؤها الإنجيليون البروتستانت قراءة "حرفية"، تتحرر تماما من اللغة كي لا ترى سوى مجرد رسالة. إن المرحلة الأخيرة من هذا الاستلاب الثقافي هي التي ضمنت بحق نجاح الإنجيليين الجدد اليوم.
إن ما يميز البنتكوتية، علاوة عن السمات الخاصة لما يسمى بالإنجيلية (الإلحاح على تغيير العقيدة، الإلحاح على الميلاد الجديد born again ، الاعتقاد الحرفي في التوراة ) هي اللثلثة glossolalie أي الكلام باللغات. فبتأثير من الروح القدس وتقليدا للقدسيين، يصبح بعض المؤمنين يتكلمون باللغات، بحيث يفهم الذين ليس لهم معهم أية لغة مشتركة ما يقولون. هناك بالطبع عدة مدارس داخل "البنتكوتية" وجميعها لا ترى في اللثلثة طريقا للخلاص، غير أنّ "التكلم باللغات" هو الذي يشكّل علامة الصنع بالنسبة للبنتكوتية. إلا أن البنتكوتيين الذين يعظون بـ"اللغات" لا يفعلون ذلك بواسطة لغة محددة وليست لديهم أية معرفة باللغات الأجنبية. وليست اللثلثة سوى تتابع أصوات، ومع ذلك فالرسالة تمرّ: فكلام الله لم يعد بحاجة إلى أن يندرج في سياق لغة وثقافة معينة، فهي عائمة مثل لغات النار. نحن هنا بصدد معاينة أمر خارق وغير مألوف : اللغة التي نتكلمها لم تعد لغة الواقع، وكلام الله لم يعد مجسدا في لغة معلومة. فنحن هنا أمام مقاربتين متزامنتين للحرفية : فالبنتكوتيه هي حرفية بمعنى أنها لا تضع موضع الشك الحقيقة الحرفية للكتابات المقدسة، غير أنها لا تعير اهتماما للغة الواقعية للنص ولا - زيادة - إلى أية لغة خاصة ، لكن النص التوراتي، كما يتبادر للذهن، يطرح إشكالية أنه مكتوب بالعبرية والأرامية أو اليونانية، فهو يطرح مشكلا يتعلق بالترجمة وبالبيئة الثقافية الخاصة بلغة تلك الحقبة، لأنه كما نعلم لا وجود للغة محايدة: فكل لغة تحيل إلى سياق ثقافي معقد وكل لغة لها تاريخ. وبتجاهلها للغة الواقعية تحلّ البنتكوتية مسألة ضبط السياقات التاريخية للنص المقدس بزعمها أنّ الله يتكلّم من دون سياق(8).
الهوامش:
1- Cécile Chambraud, « L'Église catholique espagnole perd sa dotation publique », Le Monde, 24 septembre 2006.
2- Stephen Bates, "Devout poles show Britain how to keep the faith", The Guardian, 23 décembre 2006.
3- "Americans may be more religious than they realize", Washington Post, 12 septembre 2006, p. A12.
4- "Americans may be more religious than they realize", Washington Post, 12 septembre 2006, p. A12.
5- هناك بطبيعة الحال إشكال للتعريف بالممارسة الدينية موضوعيا : يبدو الأمر بسيطا بالنسبة للكاثوليكية التي تجعل من الطقوس التي يقوم بها الكاهن مركز الممارسة الدينية ( قداس، الاعتراف بالذنوب لكاهن، سر القربان المقدس)، بينما الممارسة عند البروتستانتيين و أكثر من ذلك عند المسلمين يمكن لها أن تـُؤدَى بصورة أكثر فردية.غير أن الممارسات الدينية الصرف (الصلوات الخمس) تبدو ضعيفة عند المسلمين بينما تلك التي ترتبط بمعلم ثقافي أو احتفالي ( صوم رمضان) فهي تتمتع بمواظبة أكثر. انظر:
Sylvain Brouard et Vincent Tiberj, Français comme les autres ? Enquête sur les citoyens d'origine maghrébine, africaine et turque, Paris, Presses de Sciences-Po, 2005. 6- Philippe Fargues, Générations arabes. La chimie du nombre, Paris, Fayard, 2001.
7- Richard Niebuhr, Christ and Culture, New York, Harper, 1996.
8- هذا الموضوع وقع طرحه من طرف Michel de Certeau الذي يرى في اللثلثة "لغة دينية صرف""Vocal Utopias : glossolalias", Representation, n°56 ("Special Issue : The New Erudition"), automne 1996, p. 29-47.
أخذت هذه الصفحات من مقدمة مؤلف سوف يصدر خلال شهر أكتوبر 2008 عن دار النشرLe Seuil للكاتب بعنوان:
"الجهالة المقدسة. زمن الدين المجرد من الثقافة"
La Sainte ignorance. Le temps de la religion sans culture
نشرت هذه الصفحات بمجلة ESPRIT الفرنسية في عدد أكتوبر 2008
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-18-2008, 07:16 PM بواسطة gilgamesh82.)
|