bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
الشمس تنزلق من السماء مثل رصاص مصهور, والرمل أكثر سخونة من الجمر, حتَّى الكلب وهو ينقل أقدامه تصدر عنه أصوات ضعيفة أقرب إلى الاستغاثة أو الاحتجاج, أو كأنَّه يمشي على أشواك حادة أو زجاج مكسور. وحين أقلعت السيارتان بسرعة خلفتا وراءهما سحابة كبيرة من الغبار, لفَّت عسافًا فبدا جزءًا من الصحراء الممتدة بلا انتهاء. أمَّا الكلب فقد عوى احتجاجًا وركض لمسافة وراء إحدى السيارتين, ثم عاد ببطء.
وإذا كانت الطبيعة بجبروتها غير المحدود, في البحار والمحيطات, على قمم الجبال وفي أعماق الأودية, في الأصقاع المتجمدة وفي ظلمة الغابات- إذا كانت الطبيعة في كل هذه الأماكن تنذر بالتحول وتبعث بإشارات من نوع ما, بأن ذلك العنفوان الداخلي لم يعد يقوي على الاحتمال وسوف يقلب جلده في اللحظة التالية, فالصحراء الغامضة القاسية الموحشة المفاجئة تتجاوز قوانين الطبيعة لتثبت هذه القوانين. فلم تمض ساعة حتى جُنَّت الدنيا: هبَّت ريح قوية عاصفة غيَّرت كل شيء. كانت الزوابع تدفع الكثبان الرملية وتسفّها كما تفعل الرياح بالأمواج, فتتدحرج الرمال بسرعة كما لو أنها كتل من القطن الهش أو بقايا أوراق محترقة, حتى إن الإنسان ما أن يستدير قليلاً ليتَّقي هذا الجنون المفاجئ حتى يمتلئ حلقه وتمتلئ عيناه بذلك الجمر الصغير الناعم وكأنَّه سقط من نار لا تعرف التوقف أو الانطفاء.
إن ما حصل في ذلك اليوم الصيفي, في أعماق الصحراء, وعلى مسافة غير قصيرة من الطيبة, لا يمكن أن يستعيده أحد دون أن يبكي. فالخوف الذي ملأ الدنيا خلال تلك الساعات كان من القوة والذهول إلى درجة أن لا أحد يستطيع أن يتذكر ما حصل. حتى الكلمات تبدو باهتة عاجزة, ولا تعبِّر عن أي شيء. وأبناء الطيبة الذين كانوا يعرفون بغريزتهم طبيعة الصحراء وقسوتها, من رائحة الهواء, من لمعان السماء القاسي, من الزوابع التي تجاوزت الوادي وعبرت السهل كله حتى وصلت إلى الطيبة... إن هؤلاء لم يصدقوا الهول الذي يرونه أمام عيونهم. إنَّه شيء لم يشهدوا مثله طيلة حياتهم. والضيوف الذين أصابهم الهلع, والذين فقدوا القدرة على التصرُّف, تحولوا إلى مجموعة من الدمى المتوسلة الباكية. كانوا يريدون شيئًا واحدًا: ألاّ يموتوا!
وفي غمرة الخوف يفقد البشر القدرة على التصرُّف, فبدل أن يوقفوا السيارات وينتظروا, كانت العواصف الرملية القاسية هي التي تحرّكهم, هي التي تقودهم. وفي المرات القليلة التي توقفوا فيها وجاءت الزوابع حاملة الرمال الساخنة, صرخوا برعب, وشعروا بالموت يطبق على رقابهم. ودون انتظار وبدوافع غريزية حاولوا الهرب. وإذا كانت الجيب قد ظلت محتفظة بقوتها وقدرتها على السيطرة, فإنَّ السيارة الأخرى بدت مثل سلحفاة ضالة لا تعرف إلى أين تذهب أو متى تموت. وحين قال أحد أبناء الطيبة بأنَّ الأمر أصبح خطيرًا إلى درجة تتطلب بقاء السيارتين معًا, فقد شعر الجميع بنوع من الراحة. ولم يكتف سائق الفولكس فاكن بأن يبقي قريبًا, بل أصرَّ على أن يمشي قبل الجيب, وعلى مسافة أمتار قليلة منها.
انتظار الموت في هذه الصحراء أصعب من الموت آلاف المرات. فالموت هنا لا يأتي فجأة, لا يأتي متنكرًا, ولا يأتي بسرعة ويقضي على كل شيء, وإنَّما يكشر عن أنيابه في البداية ثم يقف على شبابيك السيارات, وبين لحظة وأخرى يعربد, يصرخ, يلطم الوجوه, يسفّ حفنة من الرمال في الأفواه والعيون. وبعد أن يمل من هذا المزاح يتراجع قليلاً, ليُقعي مثل ذئب, انتظارًا لجولة أخرى. والجولة الأخرى لا تنتظر طويلاً, إذ تصعد مثل البخار مسرعة جارفة قوية, فتولد يبوسة في الحلوق, هلعًا في العيون, انتظارًا آخر قاسيًا ممضًّا, بالخشونة الكاوية نفسها, بالجبروت نفسه الذي لا يعرف التراجع, يدقّ الشبابيك مرة أخرى دقّات قوية متواصلة.
وبين انتظار وانتظار يموت الإنسان, يموت ألف مرة, يفقد الثقة, تتلاشى إرادته, يسقط, ينهض, يترنح, يمتلئ حلقه بأدعية خائفة لا يعرف كيف أتت, يصرخ دون صوت, ينظر في وجوه الآخرين ليرى وجهه, يتذكّر, يقاوم, ينهار, يسقط. يموت مرة أخرى, ينهض من الموت, يتأمل الأمتار القليلة التي يمكن أن تُرى عبر الشبابيك, يلامس حبات الرمل المتسربة في كل مكان, يملأ حلقه بجرعة ماء ويستبقيها لأطول فترة لعلَّها تمدّه بمزيد من القوة على المقاومة, على الصمود, يفقد القدرة على الحديث, يفقد القدرة على ابتلاع الماء, يتحوّل الماء إلى ملح, يتحول الزبد إلى زبد, يريد أن يصرخ, أن يموت تمامًا, يريد أن تنشقّ الأرض فجأة وتبتلعه, يريد ماءً, ظلاًّ, وينتظر!
حتى الزمن في الصحراء يكتسب معنى آخر, يتحوّل إلى ذرات صغيرة, الثانية, والدقيقة هي كل الزمن. ثم يبدأ ذلك الزمن بالتفتت إلى ما لا نهاية, كالصحراء بلا نهاية, ويطبق كالخيط المبلول القاسي, يشدّ دون توقف على الرقبة, يحزّها لكن دون أن يقطعها أو أن يبقيها, ويظل هكذا موتًا مؤكّدًا منتظرًا ساخرًا مؤجّلاً, فيحسّ الإنسان بالاختناق, وتتصاعد ضربات القلب, وترتفع درجات الحرارة, ويتحوّل لون الوجوه إلى الزرقة, ولا يستطيع الواحد أن ينظر إلى الآخر خوف الانفجار أو العويل.
والحرارة المنبعثة من الأرض أو المنزلقة من شمس السماء المتوحشة لا تترك للإنسان لحظة من التوازن والتفكير. فالظلمة حين تطبق تجعل الإنسان يحس بضآلةٍ متناهية, ويتضاعف رعبه مئات المرات.
فبعد انتظار طويل طويل, لعل الريح تهدأ وتصبح الرؤية ممكنة, بدت الشمس تميل نحو الغروب, لم يرها أحد تفعل ذلك, لم يرها أحد تنزلق مثلما تفعل في البحر, لكن من النور الباهت المتداخل مع ذرات الرمال, من ذلك الانكسار التدريجي في الحرارة, يتولّد شعور بأن الشمس أخذت هذا السمت بعد أن ظلّت مثل حبل المشنقة فوق الرؤوس طوال ساعات النهار.
أي حوار في مثل هذه اللحظات مستحيل, لأن الصراعات داخل قلب كل إنسان كانت من الكثافة والتناقض إلى درجة يمكن ان تولد الشيء ونقيضه, وتدفع الإنسان لأن يفعل الشيء ونقيضه. فالحرارة المنبعثة من الشمس, والتي كانت أشد الأعداء, بدت حنونًا مضيئة حين أخذت الشمس ذلك الميل منذرة بالانتهاء. أمَّا النور الوهاج الذي كان ينفجر من كل الأشياء خلال ساعات النهار كلها, فقد أصبح حلمًا ضائعًا والظلمة تطبق تدريجيًّا. والرياح التي كانت تحدّد الاتجاهات, ويمكن أن تقود الإنسان إلى مكان معين, تحوَّلت في ظلمة المساء الأولى إلى عويل ولطمات عمياء.
إنه الموت ولا شيء غيره, هكذا قال كل واحد في نفسه. والإنسان في لحظات اليأس المطلقة حين يوافق على كل شيء, حتى على الموت, فإنَّه يريده صاعقًا كاملاً نهائيّا, أما ذلك العري الحاد الفاضح في كل شيء, الدمار الذي يفتّت الخلايا بقسوة تشبه النهش, فإنَّ هذا النوع من الموت لا تمتلكه سوى الصحراء في الليل, وفي فيضان الرياح الذي لا يعرف التوقُّف أو الراحة.
هذا هو الإنسان, ذلك المخلوق الضئيل المتلاشي, في مواجهة قوة غاشمة لا تدمّره ولا تتركه!
قال أحد أبناء الطيبة بصوت مخنوق:
- الله يساعدك يا عساف.
قال الذي جلس إلى جانب السائق مكان عساف:
- صحيح, أين عساف?
وغاصت الكلمات في الأفواه مرة أخرى, وخيَّم الصمت, لكنه ذلك الصمت المدوي الذي ينفجر في كل لحظة, في كل شيء, والذي تسمع ولولته في كل الخلايا.
في وقت ما, ولا أحد يمكن أن يحدّد متى كان ذلك الوقت, وكم من الزمن قد مرَّ, بدأت الريح تتراجع, وبدأ عصف الرمال يخف شيئًا فشيئًا, وإن ظلّت السماء مكتنزة بذلك السواد الثقيل القاهر, وحين بدأ سائق السيارة الجيب يشعل الأضواء ويطفئها, فقد بدت حركة ذكية مليئة بالمعاني. قال الجالس إلى جانبه:
- لا بدَّ أن يرانا أحد ويأتي لإنقاذنا!
قال ابن الطيبة الذي يجلس في المقعد الخلفي وراء السائق:
- يجب أن تشغل السيارة وتدور عدة مرات لعلَّ عسافًا يرانا أو نراه فنذهب إليه أو يأتي إلينا!
دون مناقشة ودون تساؤل, بدأت السيارة تدور مثل حيوان مربوط. وبين لحظة وأخرى, كان السائق يشعل النور ويطفئه, لعلَّ شيئًا يحصل وتكون فيه النجاة.
قال ابن الطيبة:
- إذا وجدنا عسافًا يمكن أن ينقذنا ونعود إلى الطيبة بسهولة, أما إذا لم نجده...
وسكت. تطلعت إليه العيون دون أن تراه. وإذا كانت الظلمة قد خلقت خوفًا من نوع جديد, وإذا كان الشعور بالنجاة بدا مثل خفقات قلب مريض, فإنَّ هذه الكلمات انفجرت داخل السيارة وكأنَّها نهاية كل شيء!
|
|
06-15-2005, 07:21 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
يقول الذين وصلوا عصر اليوم التالي في ثلاث سيارات, إحداهما لسلاح البادية, وعثروا على السيارتين, إنهم وجدوا أغلب الرجال بين الحياة والموت. كان عدد منهم فاقدًا الوعي, وكان الآخرون في حالة من الإعياء الشديد. أمَّا سيارة الفولكس فاكن فقد انغرزت إطاراتها الخلفية في الرمال وأصبحت في حالة من الإنهاك إلى درجة أنها لم تعُدْ قادرة على الحركة, ووجدوا الحبل الذي حاولت الجيب استعماله لسحبها قد تقطّع في عدة مواضع, أمَّا كمية المياه التي كانت في السيارتين فقد نفدت تمامًا, ولم تبقَ إلاَّ أوان فارغة يخشّ فيها الرمل, ويقول هؤلاء إنهم لو تأخروا ساعة أو أقل لمات جميع مَن كان في السيارتين. أمَّا حين بدأوا يرشّون على وجوه الرجال الماء, وبدأوا يكلمونهم, لم يستطع أي من الرجال السبعة أن يتكلم كلامًا واضحًا, كانت غمغمات أقرب إلى أصوات الحيوانات. ولقد بكى اثنان من الرجال السبعة, أحدهما من أبناء الطيبة, ولم تعرف أبدًا أسباب ذلك البكاء, وهل كانت تعبيرًا عن فرح أو عن شيء آخر!
وبعد بضع دقائق, ورغم الإلحاح في السؤال عن عساف, لم يستطع أحد أن يجيب.
لكن قائد الرجال الذين كانوا في السيارة العسكرية قال بلهجة لا تقبل المناقشة:
- ابقوا في أماكنكم, لا تتحركوا أبدًا, وسوف نجد عسافًا.
قال أحد رجال البادية وكأنَّه يطمئن الجميع:
- لا بدَّ أن يكون قريبًا, وسنجده!
وبخفة متناهية قفز إلى البيك آب, دون أن يحس أحد, مختار المنطقة الشرقية, وأخذ مكانًا حصينًا قريبًا من القمرة, وأمسك بالحديد الأمامي بقوة.
كانت الصحراء الممتدة بصفرتها المائلة إلى زرقة مثل حلقة لا أفق لها ولا نهاية. وحين انطلقت السيارة بدوي مفاجئ صرخ الذي بكى من الضيوف, وركض وراءها, ثم سقط على الأرض وأخذ بالعويل, وحتى حين حُمل وأُعيد إلى السيارة وأُعطي قطرات من الماء, ظلَّت دموعه تتساقط دون توقف, ثم غطَّى وجهه بيديه وأجهش, وظلَّ كذلك فترة طويلة.
كان الحشد الكبير ينتظر, وكان الأمل لا يزال قويًا في العثور على عساف. وإذا كان الصمت, في حالات كثيرة, أفضل وسيلة للتعبير, فقد ظلَّت أسئلة الرجال الذين جاءوا من الطيبة بلا إجابة, وإن كانت إجابتها واضحة قوية في الوجوه, في الحركات, في الشفاه المتشقّقة المفطورة. أمَّا حين سقطت بعض الدموع فقد كفَّ الجميع عن الكلام. وانشدّت العيون إلى كل الاتجاهات لعلَّها ترى بشرًا أو زوالاً, وكان أمل واحد, مثل نسمة باردة, يخفق في كل صدر, وارتفعت ابتهالات لا تخطر على بال ولا نهاية لها, وكانت أقرب إلى التمتمة وتشبه الدعاء, أن يكون عساف حيًّا وأن يجدوه.
لقد انبثقت في تلك اللحظات آلاف الصور في أذهان الرجال الذين ينتظرون. وتلك الصور, وإن بدت متداخلة مضطربة, وأقرب إلى الحلم, فإنَّ صورة عساف كانت أشدها وضوحًا وأكثرها بياضًا: حين كان يعود بعشرات الطيور ويوزّعها بمهارة لا تخطئ. حين كان يمزّق بعض المواضع من أحذيته وثيابه. حين كان يجمع الخرطوش الفارغ من الصيادين الأغرار ويتأمله بعناية ثم يحضره بعناية أكثر ليستعمله في اليوم التالي ويتأكّد بنفسه من قوته. ثم لمَّا تخلَّى نهائيًّا عن الخرطوش المصنوع من الورق المقوي واستعاض عنه بخرطوش النحاس, وكيف كان يحتفظ ببعض هذه الخراطيش في جيب جلدي صغير لصقه على صدره, كيف كانت الطلقات تبدو شديدة اللمعان ولا يستعملها, كما يقول ويؤكِّد, إلاَّ (لقتل الوحوش) - إن هذه الصور, وعشرات غيرها, تمرّ في هذه اللحظات مثل شريط طويل, وكل إنسان متأكّد أنَّ عسافًا ستنشقّ عنه الأرض وينفجر فجأة كما تنفجر الطلقة. وأهل الطيبة الذين تعوَّدوا على عساف وغياباته التي قد تطول يومين أو ثلاثة, حين تحاصره الثلوج أو يفيض الوادي, إذا كانوا قد تعوَّدوا عليه وألِفوا كل شيء يصدر عنه, فقد كانوا متأكّدين تمامًا من شيء واحد: سينفجر عساف بينهم, وأن السيارة حين تعود يائسة مثقلة بالخيبة والحزن ستجده وسط المجموعة, يتحدّث بتلك الطريقة المبهمة, الحافلة بالأصوات غير المفهومة, عن رياح البارحة وعن جنون الطبيعة وغدر الصحراء, ويجب أن يضيف في النهاية: الإنسان أقوى من الطبيعة, ويعرف كيف يروّضها أو يحتال عليها!
كانت الأفكار والصور تتلاحق, وكانت النسمات الطرية التي بدأت تهب مع ميلان الشمس نحو الغروب تولد أملاً يقوي كل لحظة, وتولد يأسًا يقوي كل لحظة. وفي خضم الأفكار والصور, ومع كل نسمة جديدة كانت العيون تدور, والصمت يقوى, إلى أن جاءت تلك الصرخة المفاجئة المدوية:
|
|
06-15-2005, 07:21 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
هذه هي السيارة!
لحظات قاسية من التوتر أقسى من أي لحظات أخرى وأشد عذابًا من عمر بأكمله. لم يبقَ أحد في مكانه, حتى أولئك الرجال المتعبون, والذين لفَّت على رؤوسهم الخرق المبللة, شعروا بنوع من التحدِّي والقوة, فمَن لم يستطع النهوض والركض مع الآخرين تجاه السيارة, تحرَّك في مكانه أو غيَّر جلسته ليشهد عسافًا وهو ينزل.
كانت وجوه الرجال وهي تطل من فوق شديدة القسوة والصرامة, وللحظات والسيارة تقترب ثم تتوقف, تأكَّد الجميع أنهم لم يجدوا عسافًا. لقد غمرته الرمال وابتلعته الأرض ولم يبقَ منه أثر, لكن فجأة, والمختار يمسك الحديد الأمامي, ويهزه بعصبية أول الأمر, ثم يصرخ ويشير إلى الخلف.
ترك الرجال يستديرون حول السيارة. التفت بصلابة وبطء, حتى إذا نظروا ورأوا عسافًا هكذا, صرخ, كان صراخه أقرب إلى الشتيمة:
- راح عساف ... ونحن الذين قتلناه. راح الغالي.
كان منظرًا مفجعًا مليئًا بكآبة خرساء وأقرب إلى عدم التصديق.
كان عساف في قاع البيك آب, كان هناك, كان يابسًا متخشبًا وقد تقلَّصت عضلات وجهه وبدت على أطراف الشفتين ابتسامة هي مزيج من الألم واليأس والسخرية, وبدا كأنَّه يريد أن يتكلم! وحين استمر المختار في الهياج ثم البكاء, واتضحت الصورة حادة نازفة متجبرة, سمعت أصوات نشيج مكتوم, وتساقطت الدموع. كان لسقوط الدموع رنين قوي موجع وكأنَّه نهاية لفترة طويلة من الزمان!
كيف يمكن للبشر أن يصمتوا بهذا المقدار ولهذه الفترة الطويلة? كيف يستطيعون نسيان جميع الكلمات والأصوات التي بدأوا الحياة بها وهم ينقذفون من الأرحام?
كيف, كيف يمكن ذلك?
طوال الطريق الذي استمر أكثر من ساعتين, ظلُّوا صامتين!
والمختار الذي ظلَّ واقفًا في مكانه, قابضًا بقوة على حديد القمرة, وناظرًا إلى الأمام باستمرار, طلب من قائد السيارة العسكرية التابعة لقوة البادية, بكلمات متلجلجة, لكن واضحة أيضًا, أن يذهب الجميع إلى بيته. حصل ذلك حين توقَّفت السيارة في مدخل الطيبة, وحين بدت جموع الناس وهي تنتظر, وتحاول أن تعرف أي شيء حصل.
قال المختار, في الظلمة التي تخيّم على كل شيء, ولا يستطيع الإنسان أن يميِّز الآخرين إلاَّ من أصواتهم:
- تعالوا إلى بيتي, هنالك سوف نلتقي.
وبطريقة خفية حافلة بالحنان والعذوبة والخوف والتقديس, حُملت جثة عساف إلى الداخل. وُضعت في صدر المضافة, ووضع إلى جانب الرأس فانوس, وقريبًا من يده اليمنى وضعت البندقية, وبحركات آلية, كأنَّها رُتِّبت منذ وقت طويل, وبعد أن تمَّ ذلك بهدوء وإتقان, طلب المختار من الجمع أن يجلسوا.
الصمت, الصمت, ولا شيء غير الصمت, وما عدا النظرة الثقيلة الحافلة بالحزن, والمرتسمة على تلك الوجوه الملهوفة المتسائلة, فإنَّ الطيبة من أعجب الأماكن وأكثرها غرابة, لا تستطيع أن تفضح عواطفها بسهولة, وحتى لو أرادت أن تقول شيئًا فإنَّها كثيرًا ما تقول ذلك الشيء بطريقتها الخاصة, والتي قد لا تبدو مألوفة أو مفهومة!
لم يتجرأ أحد أن يسأل المختار, أمَّا رجال البادية الذين ساعدوا في حمل الجثة, فقد قال العريف الذي يقودهم:
- سوف نذهب ونجهز التقرير لرفعه غدًا صباحًا.
ودون انتظار تحرَّكت السيارة, وغادرت المكان!
والمختار الذي كان بادي العصبية, ومحمرّ العينين, والذي كان يتحرَّك في بعض الأحيان حركات طائشة لا تعني شيئًا, كان يقاوم في نفسه ذلك الكابوس الذي لا يطيق أن يحتفظ به ولا يقوي أن يعبِّر عنه. وهو إذ كان قد برع في كل الأوقات على أن يدير الحديث, وأن يتكلم بطريقة لا يحسنها غيره في الطيبة, والذي كان يوصف بأنَّه قادر على أن يرشّ على الموت سكرًا, ويقدم أصعب الأمور وأكثرها مشقة, بأيسر الوسائل وأكثرها قبولاً, بدا تائهًا ضائعًا خائفًا, وبدا شديد العصبية بحركات يديه ووجهه. أمَّا حين انتظم مجلس الطيبة, كما لم يحصل ذلك من قبل, ووسط الصمت القاسي الذي خيَّم على كل شيء, انفجر صوت المختار, دون أن يطلب إليه أحد, ودون مقدّمات من أي نوع:
- هذا عساف... إنه أمامكم, انظروا إليه.
وهزَّ رأسه بلوعة, دون أن يلتفت, ثم تابع بلهجة يخنقها البكاء:
- عساف الحصان, عساف الغيمة, أبو الفقراء, الذي لا ينام ساعة في الليل من أجل أن تعيش الطيبة وتبقى... عساف الذي يحب الجميع, ويقتل نفسه حتى يستمرّ الناس... عساف زينة الرجال, ترككم الآن, ترككم وحيدين تحاربون (...) العسكر والجراد, ولا أحد يعرف أي قوي أخرى, وماذا سيحصل!
كاد أن يواصل, خاصة وأن كلماته نزلت إلى قلوب الرجال وكأنَّها السكاكين الملتهبة, فحركت الرؤوس ودفعت حبات من الدموع لكي تتساقط بصمت, لكن فجأة تغيّرت أفكاره واضطربت:
- ما فائدة الكلمات الآن? يمكن أن نكرز من هذه اللحظة وحتى يوم القيامة, لكن كل يوم يسقط منا الرجال, وتسقط البيوت فوق رؤوسنا وتقطع الأشجار بأيدينا, ولا يتغيّر شيء!
قال رجل مسنّ يريد أن يغيِّر الموضوع:
- حتى هذه الساعة لا أصدّق أن الرجل مات.
قال المختار:
- انتظر, وسوف ترانا, واحدًا بعد آخر, نهوي على وجوهنا وتطمرنا الرمال, وقد لا نجد مَن ينقّط في حلوقنا قطرة ماء.
وقَهقَهَ المختار بطريقة تختلط فيها السخرية بالنشيج, وبالحزن الكاوي, ثم أضاف:
- تمامًا كما حصل مع هذا الحصان!
قال رجل وهو يصوِّب عينيه إلى عساف ولا يرفعهما:
- لكن كيف مات? كيف حصل ما حصل?
قال المختار وهو يغيِّر جلسته, لأن الموضوع يحتاج إلى بعض الحركات والإشارات, ولكي يخلق في نفوس الناس التأثير المناسب:
- اسمعوا, كدنا نعود, يئسنا من البحث, درنا في كل مكان, بحثنا في كل الأمكنة التي تصوّرنا أنَّ عسافًا ذهب إليها, خاصة وأن السيارات لم تذهب بعيدًا, ومقبل, الذي يعرف الصحراء شبرًا شبرًا, قال إن هذه هي أماكن الصيد, وعساف باعتباره صيادًا يعرف أين يذهب, ولا يمكن أن يذهب أبعد من ذلك. بحثنا, بحثنا, وقائد البادية, وقف أكثر من مرة على ظهر قمرة السيارة وتطلع في كل الاتجاهات مستعملاً ذلك المنظار الذي يرى الإبرة من مسافة طويلة, لكن لا شيء. ومقبل, الذي يملك عيون صقر, تطلع في كل الاتجاهات, ولكن لا شيء. كدنا نعود. كنا متأكّدين أن عسافًا دُفن تحت الرمال ولا يمكن لأحد أن يراه. لكن فجأة بدأ مقبل يخبط قمرة السيارة بقوة.
توقَّفت السيارة, نزل القائد, ونزل السائق, ومقبل ظلَّ ينظر باتجاه معين. بدا متردّدًا أوّل الأمر, لكن فجأة صرخ:
|
|
06-15-2005, 07:23 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
- يجب أن نتجه إلى الناحية اليسرى, لأنَّني أرى نسرًا, لست متأكِّدًا تمامًا, ولكني رأيت نسرًا يحوم, وما دام هذا الطير يعلو وينقضّ بهذه الطريقة فلا بدَّ أن هناك شيئًا!
وقبل أن يكمل مقبل كلامه, وضع القائد المنظار المقرّب على عينيه, حيث أشار مقبل, وهزَّ رأسه دلالة الشك أوّل الأمر, ثم بدا متأكّدًا, وبسرعة طلب من السائق أن يتوجه ناحية اليسار.
لمسافة كبيرة بدت الأرض مثل راحة الكف, لا شيء أبدًا. والنسر الذي لم يكن يرى أوّل الأمر, بدا مثل نقطة سوداء في الفضاء البعيد, كان يصعد ويهبط. وحين رأيناه أوّل مرة, غاب ثانية. تصوّرنا الأمر كله وهمًا, وأن مقبلاً لم يرَ شيئًا, لكن والسيارة تتجه حيث يريد, والسكون يخيِّم على كل شيء, والأرض خاوية لا تظهر شيئًا أبدًا, بدا على مسافة بعيدة زوال. قال مقبل بتأكُّد جازم:
- (هذا النسر حطَّ على شيء, ويجب أن نصله لنتأكّد!).
وأسرعت السيارة, وتعلَّقت عيوننا حيث يشير مقبل, وفي كل دقيقة نقترب أكثر فأكثر حتى تأكِّدنا من وجود النسر. كان من مسافة بعيدة يبدو جالسًا مثل رجل. كان بسواده القاتم شديد الوضوح, وترتفع قامته شيئًا فشيئًا ما دمنا نقترب. وحين أصبحت المسافة بيننا لا تزيد على مئات الأمتار طار. بدا ضخمًا مهولاً, وبان البياض في لونه إلى جانب السواد.
ومع كل خطوة تقتربها السيارة, حيث كان النسر يربض, بدت لنا الصورة أكثر وضوحًا وقسوة مما كنا نتصور.
كان عساف مدفونًا في الرمل, لم يكن يظهر إلاَّ رأسه, وفوق الرأس تمامًا كان الكلب رابضًا, وكان الجزء الأكبر من جسد الكلب مدفونًا بالرمل أيضًا, لكن بطريقة غريبة للغاية: كان يشكل سياجًا حول جسد عساف, خصوصًا رأسه. كان يحتضنه.
ولما وصلنا رأينا كل شيء واضحًا.
قال مقبل بثقة:
- عساف مات قبل الكلب, ولا بدَّ أن بعض الطيور, ربما هذا النسر أو غيره, أحسَّت وعرفت بذلك, وجاءت لتأخذ نصيبها منه, لكن الكلب, وفي محاولة لحماية عساف صارعها حتى صرعته. انظروا إلى الدماء المتجمدة فوق رأس الكلب, لقد مزَّقته بمناقيرها لتصل إلى عساف, وفيما هو يدافع عن نفسه, وعن عساف, تهشَّم, ولا بد أن يكون قد مات من العطش أو من النهش).
قال مقبل ذلك وامتدَّت يده إلى الرمال تزيحها وتسحب جثة عساف. الجثة مدفونة بالرمل تمامًا. المطرة فارغة, وعساف يقبض على البندقية بقوة, ولا بدَّ أن يكون قد قام وسقط عدة مرات, لأنَّ يده اليسرى ملتوية ومزرقّة. ومن حسن حظه أنه سقط على وجهه, لو كان في وضع آخر لأَكَل النسر عينيه وهشِّم وجهه, والكلب حين رأى عسافًا يسقط نام فوقه: لا بدَّ أنه حاول إنقاذه بشكل أو بآخر, لكن العاصفة كانت أقوى من الاثنين!
بهذه الطريقة انتهى عساف.
سكت المختار, وضع يديه تحت صدغيه, كأنَّه يحاول أن يمنع رأسه من السقوط أو كأنَّه يتذكر. وخيِّم صمت ثقيل. وبصوت مختلف تمامًا, صوت من عالم آخر, أضاف:
- كان بودِّي لو حملنا الكلب معنا, كان يستحق ذلك, لكن لم أجرؤ على طرح الفكرة, بدت لي لا تناسب الموقف ولا يمكن أن يفهمها أحد. أمَّا حين حملنا الجثة ووضعناها في البيك آب, فقد ظللت على الأرض لبعض الوقت, وكنت أنظر إلى الكلب. لم أستطع أن أرفع نظري عنه, لكن قائد السيارة العسكرية, قال بصوت عصبي, وإن كان فيه بعض القسوة: (لم تنته مهمتنا بعد, علينا أن نصل إلى الجماعة...). ولما صعدت إلى السيارة ومررت إلى جانب الجثة, نظرت إليها بإمعان, بدا لي وجهه شديد الحزن, ولا أعرف كيف سمعت صوت عساف, سمعته يقول: (والكلب...?! هل تتركون الكلب?) وبسرعة, وبخوف اقتربت من الجنديين اللذين كانا في مقدمة السيارة, ولم أستطع أن أنظر بعد ذلك إلى الخلف. كنت خائفًا, كنت خائفًا تمامًا من أن أرى عسافًا, أو أن أسمع كلماته, وسيطر عليّ الخوف أكثر عندما مالت الشمس إلى المغيب, وتصوّرت الذين ينتظرون, وتصوّرت الطيبة والبشر ولا أعرف أي أحزان أخرى).
قال أحد المسنّين, وقد بدت في لهجته رنَّة حزن لم يتعوّدها الكثيرون:
- كان من الواجب أن تهيلوا عليه التراب لكي لا تأكله الطيور!
رد المختار بعصبية:
- كان الواجب أن نأتي به.
قال الرجل المسن:
- لا يمكن أن تحمل الحيوانات حين تموت, لكن الأكرم لها أن يُهال عليها التراب.
هزَّ المختار رأسه وقد بدت عليه علائم الحزن الشديد والندم, ولم يتكلم.
قال صاحب الفرن:
- أعجب شيء في هذه الدنيا العلاقة بين الإنسان وما حوله من أشياء, من حيوانات وأشجار وبيوت وأنهار, حتى الصحراء التي لا تبعد كثيرًا عن الطيبة يتعلّق بها الإنسان في حالات كثيرة, لأنَّ فيها نجاته, ولولا ذلك لما ذهب عساف إلى هناك. كان يريد أن يخلص الطيبة, ويخلّصني أنا بالذات, لأنَّ الأرغفة القليلة التي أصبحت تخرج من الفرن لم تعد تكفي أحدًا.
قال رجل ظلَّ صامتًا, لكن دمعة سقطت حين بدأ يتكلم:
- في الطيبة, كما في أي مكان آخر من هذا العالم, ما يحتاج إلى تغيير هو الإنسان.
وصمت لحظة, جفَّف دموعه التي كانت تتساقط دون إرادة على خدّيه وأضاف:
|
|
06-15-2005, 07:23 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
- لو أننا فهمنا ما كان عساف يقوله لكانت حالنا الآن أفضل.
قال أحد المسنّين:
- لقد رحل عساف, ذهب ولن يعود.
توقَّف قليلاً, ابتسم بحزن وكاد أن يتابع, لكن واحدًا آخر قال بعصبية:
- أغلب الأحيان تأتي الأشياء متأخرة!
قال شاب صغير لم يفطن أحد لوجوده طيلة الوقت:
- إذا ظلَّت الطيبة تنتظر المطر, ولا تفعل شيئًا سوى انتظار المطر, فسوف يموت الجميع كما مات عساف, وربما أسوأ!
قال المختار:
- أكبر ظلم لعساف أنَّنا تركناه يحارب وحده, حتى الكلب كان أحسن منا, لقد حاول إنقاذه, ونحن لم نفعل.
قال أحد الرجال:
- والله الأكثر ظلمًا أن نترك البشر, أمَّا الكلب فانظروا, هذه هي الدنيا! وتنهَّد بحزن ثم أضاف:
- كنت أعرف أنَّ عسافًا يريد أن يموت, وأنه سيقتل نفسه بشكل ما, إذا لم يكن في هذه الرحلة ففي رحلة غيرها, إذا لم يكن في الصحراء فتحت أكوام الثلج, وأنتم تتذكرون حياته كلها, تذكرون كم مرة ضاع وكم مرة بحثنا عنه.
كان يريد أن يواصل الحديث, لكن أحد المسنّين قال فجأة:
- يستغرب الإنسان أنه في حالات كثيرة لا يمكن التفريق بين الحيوانات والبشر. وربما كانت الحيوانات أفضل من بشر كثيرين. لكنَّني منذ جاء هذا الكلب إلى الطيبة تشاءمت وقلت لا بدَّ أن يقتل هذا الكلب.
قال المختار بحدة:
- الكلب لم يقتل عسافًا, نحن الذين قتلناه.
- لا يهم مَن قتل الآخر, المهم الآن أن عسافًا, الذي يرقد هنا, لا يسمع ولا يحس بوجودنا.
- قال المختار بحدة:
- لا, إنه يسمع. نعم إنه يسمع كل شيء, ويفهم كل ما يُقال!
قال أحد المسنّين:
- يا أبناء الطيبة, لا تكونوا حمقى أكثر مما يجب. الرجل انتهى الآن, ولا يمكن لأي قوة على الأرض أن تعيده, وليس غير الله قادرًا على ذلك, وإذا أردتم أن تكرموا عسافًا فدعوه نائمًا بسلام, واسهروا حتى الصباح, ومع أول أضواء الفجر نحمله إلى الأرض لنعيده اليها.
وبطريقة أقرب إلى الغموض والتحدي بدأت السهرة. بدأت بنوع من التكريم الذي لم تتعوده الطيبة من قبل, ربما نتيجة للخوف أو لبقايا اقتناعات ومواقف تجاه الموت. وبرغم أن شعورًا بالرهبة خيَّم على الجميع, وأن عددًا من الناس, بمَن فيهم الضيوف, كان يتمنَّى لو أن الأمر لم يأخذ هذا الشكل, لكن إزاء إصرار مبهم, وفي لحظة من لحظات الانفعال الشديد, قال المختار بعصبية:
- يجب أن تبقي معنا يا عساف لتشهد كل شيء.
وأدار رأسه, وعيناه مغمضتان, ويداه ترتفعان بطريقة تحمل معاني لا حصر لها, وتابع كأنَّه يخاطب نفسه:
- أنت لم تمُتْ, يا عساف, وستبقي معنا.
قال رجل من مكان بعيد:
- الحياة والموت بمشيئة الله يا جماعة, والآن انتهى كل شيء!
قال شاب بعصبية:
- عساف لن يموت, وهو الآن أكثر حياة منا جميعًا!
قال رجل مسن:
- لا تكفر يا ولدي, إن الملائكة ترفرف فوقنا الآن.
قال أبو زكور, الذي يبني كل شيء في الطيبة, حتى القبور, وبدا كلامه مليئًا بالذكاء والمكر, لكي يخرج الخوف من القلوب:
- يا جماعة, الصباح لا يزال بعيدًا, وعلينا واجب ثقيل غدًا, فإمَّا أن تقرأوا القرآن وتتحدثوا, أو ليذهب كل واحد إلى بيته ونعود في الصباح.
|
|
06-15-2005, 07:24 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
- لو أننا فهمنا ما كان عساف يقوله لكانت حالنا الآن أفضل.
قال أحد المسنّين:
- لقد رحل عساف, ذهب ولن يعود.
توقَّف قليلاً, ابتسم بحزن وكاد أن يتابع, لكن واحدًا آخر قال بعصبية:
- أغلب الأحيان تأتي الأشياء متأخرة!
قال شاب صغير لم يفطن أحد لوجوده طيلة الوقت:
- إذا ظلَّت الطيبة تنتظر المطر, ولا تفعل شيئًا سوى انتظار المطر, فسوف يموت الجميع كما مات عساف, وربما أسوأ!
قال المختار:
- أكبر ظلم لعساف أنَّنا تركناه يحارب وحده, حتى الكلب كان أحسن منا, لقد حاول إنقاذه, ونحن لم نفعل.
قال أحد الرجال:
- والله الأكثر ظلمًا أن نترك البشر, أمَّا الكلب فانظروا, هذه هي الدنيا! وتنهَّد بحزن ثم أضاف:
- كنت أعرف أنَّ عسافًا يريد أن يموت, وأنه سيقتل نفسه بشكل ما, إذا لم يكن في هذه الرحلة ففي رحلة غيرها, إذا لم يكن في الصحراء فتحت أكوام الثلج, وأنتم تتذكرون حياته كلها, تذكرون كم مرة ضاع وكم مرة بحثنا عنه.
كان يريد أن يواصل الحديث, لكن أحد المسنّين قال فجأة:
- يستغرب الإنسان أنه في حالات كثيرة لا يمكن التفريق بين الحيوانات والبشر. وربما كانت الحيوانات أفضل من بشر كثيرين. لكنَّني منذ جاء هذا الكلب إلى الطيبة تشاءمت وقلت لا بدَّ أن يقتل هذا الكلب.
قال المختار بحدة:
- الكلب لم يقتل عسافًا, نحن الذين قتلناه.
- لا يهم مَن قتل الآخر, المهم الآن أن عسافًا, الذي يرقد هنا, لا يسمع ولا يحس بوجودنا.
- قال المختار بحدة:
- لا, إنه يسمع. نعم إنه يسمع كل شيء, ويفهم كل ما يُقال!
قال أحد المسنّين:
- يا أبناء الطيبة, لا تكونوا حمقى أكثر مما يجب. الرجل انتهى الآن, ولا يمكن لأي قوة على الأرض أن تعيده, وليس غير الله قادرًا على ذلك, وإذا أردتم أن تكرموا عسافًا فدعوه نائمًا بسلام, واسهروا حتى الصباح, ومع أول أضواء الفجر نحمله إلى الأرض لنعيده اليها.
وبطريقة أقرب إلى الغموض والتحدي بدأت السهرة. بدأت بنوع من التكريم الذي لم تتعوده الطيبة من قبل, ربما نتيجة للخوف أو لبقايا اقتناعات ومواقف تجاه الموت. وبرغم أن شعورًا بالرهبة خيَّم على الجميع, وأن عددًا من الناس, بمَن فيهم الضيوف, كان يتمنَّى لو أن الأمر لم يأخذ هذا الشكل, لكن إزاء إصرار مبهم, وفي لحظة من لحظات الانفعال الشديد, قال المختار بعصبية:
- يجب أن تبقي معنا يا عساف لتشهد كل شيء.
وأدار رأسه, وعيناه مغمضتان, ويداه ترتفعان بطريقة تحمل معاني لا حصر لها, وتابع كأنَّه يخاطب نفسه:
- أنت لم تمُتْ, يا عساف, وستبقي معنا.
قال رجل من مكان بعيد:
- الحياة والموت بمشيئة الله يا جماعة, والآن انتهى كل شيء!
قال شاب بعصبية:
- عساف لن يموت, وهو الآن أكثر حياة منا جميعًا!
قال رجل مسن:
- لا تكفر يا ولدي, إن الملائكة ترفرف فوقنا الآن.
قال أبو زكور, الذي يبني كل شيء في الطيبة, حتى القبور, وبدا كلامه مليئًا بالذكاء والمكر, لكي يخرج الخوف من القلوب:
- يا جماعة, الصباح لا يزال بعيدًا, وعلينا واجب ثقيل غدًا, فإمَّا أن تقرأوا القرآن وتتحدثوا, أو ليذهب كل واحد إلى بيته ونعود في الصباح.
|
|
06-15-2005, 07:25 PM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
{myadvertisements[zone_3]}
bassel
عضو رائد
    
المشاركات: 2,109
الانضمام: Jan 2005
|
النهايات - عبد الرحمن منيف
قال المختار بعصبية:
- مَن يريد الذهاب, فالباب مفتوح.
ونظر في وجوه الناس ليرى وقع كلماته وتابع:
- أما أنا فلن أنام لحظة واحدة, وسوف أسهر في هذه الغرفة, إلى جانب الرجل, حتى يطلع النور ونحمله إلى قبره!
- أما أنا فلن أنام لحظة واحدة, وسوف أسهر في هذه الغرفة, إلى جانب الرجل, حتى يطلع النور ونحمله إلى قبره!
وبهذه الطريقة العجيبة بدأت سهرة من نوع لم تألفه الطيبة قط. تحدَّث أكثر الموجودين, تحدّثوا عن أشياء كثيرة, حتى الضيوف رووا قصصًا لم يفهمها أهل الطيبة جيدًا.
في تلك السهرة قيلت أشياء وأشياء, وعساف مسجًّى ووجهه مكشوف, والضوء يتراقص على وجهه وعلى وجوه الآخرين فيخلق جوًّا من الغرابة والخوف, والجنون أيضًا, والناس لا يريدون أن يتوقفوا لحظة واحدة.
وإذا كانت هذه الأحاديث قد توالت دون منطق, وربما دون ضرورة واضحة, ودون مغزًى أيضًا, فقد كانت الرغبة تسيطر على الجميع, أن يقاوموا الصمت, أن يقهروه.
تحدّثوا عن الكلاب والغزلان والحمير, تحدّثوا عن فيضان الوادي, وعن جفاف النبع, وتحدّثوا عن عساف وعن البشر, وتجرأ واحد وقال أبياتًا من الشعر, وكاد أحد الرعيان أن يستعمل نايه, لولا أن رجلاً مسنًّا انتزعه منه بقوة ونظر إليه نظرة تختلط فيها القسوة بالعتاب!
لا أحد يتذكّر بدقة الأشياء التي قيلت أو مَن قالها, لكن حين تذكر الطيبة, وحين تهجم الأحزان, وإذا جرى الحديث في وقت من الأوقات عن نهايات البشر والحيوانات, وحتى الأشجار, فلا بدَّ أن ترتد صورة تلك الليلة العجيبة لتذكّر بشيء واحدّ: بالنهاية!
حتى الضيوف الذين تخشَّبوا في بداية السهرة, وتقيّأ واحد منهم بعد أن نظر إلى الجثة الممدَّدة أكثر من مرة, فإنَّهم بطريقة غريزية أقرب ما تكون إلى حالة من حالات التطهر التي يلجأ إليها الإنسان في أوقات معينة, نسوا كل شيء, أو هكذا أوحوا لأنفسهم, وانساقوا في الدهاليز المظلمة التي قادهم إليها أهل الطيبة, وظلُّوا يسمعون ويتحدثون. لكن الخوف كان يربض في كل حركة, حتى حركة الأجسام وهي تستدير لتقاوم التعب والخدر, وحتى السعال الذي يأتي فجأة, ثم قطرات الدموع التي تتساقط دون إرادة, كانت تخلق الخوف والجفلة. ثم جاءت القصص التي قيلت تلك الليلة لتجعل الحزن ملتصقًا بالجلد والعظام, ولتحفر في القلوب مجرى عميقًا لا يتوقف عن النزف كلما ذكرت الطيبة, وكلما جرى الحديث عن الحيوانات, وحتى عن البيوت حين تتهدم, حتى عن الغبار المتخلف من كل شيء كانت له رائحة خاصة تذكّر بأحزان لا حدود لها
|
|
06-18-2005, 11:42 AM |
|
{myadvertisements[zone_3]}
|