اقتباس: خالد كتب
الزميل العزيز إسماعيل أحمد،
قبل الخوض في نقاش مداخلتك المثرية لموضوعنا إسمح لي أن أتوجه إليك بكمشة أسئلة:
وأنا أتشرف بأن تخصني بهذه الأسئلة، وأستميحك عذرا أن تكون إجاباتي مسترسلة بعض الشيئ! (f)
اقتباس: خالد كتب
- هل ترى أن الإسلام أوالدولة الإسلامية المنبثقة عنه مجتمعين أو منفردين هما سبيل النهضة؟ ولماذا؟
الإسلام...! بالتأكيد، وهيهات أن يكتمل لي إيمان إن لم أقر بهذا، والإسلام غير المسلمين، وبالتالي فهو غير دار الإسلام ودولة الإسلام ومجتمع المسلمين أيضا
الإسلام طريق النهضة في تصوراتي الدينية لأنه رباني مطلق...وهذا لا يعني إغفال حقيقة تجليات هذا الإسلام الزمانية والتاريخانية والمتجددة...، وإذا صح التعبير فإن الإسلام الرباني الخالد؛ مذخور في النص الشرعي (الكتاب والسنة.)، أما (الإسلام الزمني) فيتجلى في مرايا العصور، باجتهادات المجتهدين، وآراء الفقهاء، وتفاسير المفسرين، وتواصل الخبير العليم من أهل الذكر في كل علم وفن وحكمة وتجربة، وانعكاسات كل أولئك على واقع الحياة العامة : الفردية والجماعية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في هذا العصر أو ذاك.
الإسلام الرباني؛ كلي مطلق مقدس لا يجوز عليه الخطأ، ولا يتصور فيه الخلل (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد). واجتهادات البشر، غير المعصومين، رؤية بشرية فيها الراجح والمرجوح، والقوي وغيره، وما نال عليه صاحبه أجراً وما نال عليه صاحبه أجرين.
وبين الرباني والبشري دائرة من اليقينيات الثابتة لدى المسلم، تتلقى بالتسلم والقبول، قطعية في ثبوتها، قطعية في دلالتها، لا تخضع لاجتهاد المجتهدين، ولا تنظير المنظرين.
طبعا موضع النزاع لدى العالمانيين (الأقل تطرفا) يتعلق بالإسلام الزمني، أو بتعبير أصح (تجليات الإسلام على الواقع)، فإخواننا قليلا ما يستوعبون حدود دائرة التجديد والاجتهاد التي تفصل بين المطلق والنسبي ، الثابت والمتغير، الإلهي والبشري ! وفي مفهومنا الإسلامي فإن التجديد هو الجهد الإيجابي المنهجي البنّاء، المنطلق من نصوص الإسلام الثابتة، وقواعد الشريعة المستقرة؛ لبناء الحياة الإسلامية المتجددة في كل عصر. والتي ترتقي بالمسلمين إلى مقام الشهادة على الناس (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا.) وهو مقام الريادة بكل معانيها.
وربما بدا للكثيرين أن تناقضاً حدياً، وهوّة واسعة، تقوم بين (التجدد) و(الثبات)، أو بين (الديني) بمفهومه التراثي عند البعض، و(الكهنوتي) المستورد عند آخرين، وبين التجدد بمفاهيمه (الارتقائية) و(التطويرية) الحقيقية. وهذا التناقض الوهمي، إنما ينشأ أصلاً، عن جهل بطبيعة الإسلام، أو قصرٍ في النظر، أو هوى غلاب يزين الجمود أو الانخلاع.
إن النظر البشري المحدود بالزمان والمكان، إلى النص الإسلامي المقدس المستغرق للزمان والمكان، بغير الأسلوب الذي حدده المنهج الإسلامي ذاته، لهو أول منطلقات الخطأ في هذا الطريق. وإن تلقي النص الإسلامي الثابت والمقدس، من رؤية تاريخية، ترتد بصاحبها قروناً إلى الوراء، لهي البوابة الواسعة إلى هوة الجمود والموات.
النص القرآني، وكذا الثابت من السنة المطهرة، يشكلان النداء الرباني الخالد، لأبناء كل جيل، ليقبلوا عليه، وينهلوا منه، وليجدوا فيه ما يصلح أحوالهم، ويلبي طموحاتهم، ويطور موقفهم، وينهض بهم، ويحقق مصالحهم، وهو النداء إلى الحياة (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم).
ولقد نهج الإسلام طريق الحركة التجديدية. ففي الحديث الصحيح عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث على رأس كل قرن من يجدد لأمتي أمر دينها.) وعملية التجديد هذه، ما هي إلاّ حركة مواءمة شرعية شمولية، بين نصوص الشريعة وبين واقع المسلمين، واحتياجات التطور في حياتهم. والتجديد هو هذه المواءمة الشرعية، التي يقودها المجدد، و تلامذته وأتباعه، حتى يتلقف الراية مجدد آخر فيستمر بالمضي بالرسالة على طريق الحياة.
وهذه المعاني لم تكن غائبة عن فهوم الرعيل الأول من السلف الصالحين، والعلماء الأثبات، ففي قواعدنا الفقهية المستقرة:(تتغير الأحكام بتغير الأزمان.) وفي قواعد التفسير للنص القرآني (عموم اللفظ لا خصوص السبب.) فالسبب مهما كان شأنه حدث تاريخي عابر، وهو إن كان له دوره في فهم النص، وتوضيح أبعاده، فإنه يبقي للنص الشرعي مداه وآفاقه غير المحدودة. التي تتجلى لأهل كل عصر بما يحقق المعاني الكلية لقوله تعالى (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فمنوط بالزمان أو بأهله أن يكتشفوا حقائق هذا النص الخالد، ومعجزاته وآفاقه.
في المفهوم الإسلامي للتجديد يتعانق التطور مع الثبات، والتجدد مع الأصولية، في موقف موحد وحركة دائبة دائمة، على مر التاريخ، وأنه بقدر ما يؤكد المنهج الإسلامي في عقائده على معنى (الثبات) و(الشمول)، فإنه في شريعته يفتح الآفاق أمام الاجتهاد الشرعي المنضبط بقواعده، لتحقيق مصالح المسلمين، والمضى قدماً في تطوير حياتهم، حتى ليصرح علم كبير من أعلام هذه الأمة: (حيثما كانت المصلحة فثم شرع الله). وهذه الديمومة الحركية في المنهج الإسلامي، هي التي تجعل حياة المسلمين في تجدد دائم، وحركة معطاء.
والإسلام في حركته التجديدية هذه يصطدم بصنفين من الناس: الصنف الأول، هم أولئك الذين حاولوا تجميد حياة المسلمين، وتكريس مفاهيم ومرامي تاريخية بديلاً للنص المقدس، فأغرقوا الأمة في بئر الجمود الآسن لتتفسخ وتنهار، ولتبقى بالتالي ضحية سهلة يعتاشون على آلامها، ويلعقون جراحها. وهؤلاء سواءً حسنت نياتهم أو ساءت يمثلون بعض الركام الذي ما شرع التجديد إلا لتجاوزه والتخلص منه. والصنف الآخر هم أولئك الذين يتمردون على النص المقدس، ويحاولون الانخلاع منه ويبذلون ما يستطيعون من جهد لتنحية الإسلام عن حياة الأمة، وللصد عن سبيله.
والصنفان على خلاف بينهما متفقان على تعطيل (النص المقدس)، جاهدان لوأده، وهما في الوقت نفسه عاملا الهدم والانهيار في حياة الأمة على مر العصور. ومن هنا جاء ذلك الأثر الخالد الذي قرر بوضوح وشفافية بالغين، صفات العلماء المجددين من حملة هذا الدين: (يحمل هذا الدين من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) وبين الغالين الذين يحرفون الخطاب الشرعي عن مقاصده ومراميه وبين انتحال الأدعياء المبطلين الذين يجهدون للانقلاب على النص: نقضاً أو تعطيلاً، وبين تأويل الجاهلين الذين يجردون النص عن دائرة تشريعه والجيل الذي أنزل عليه النص أول مرة! يستمر جهد العدول موصولاً يستمد قوته من (الذكر المحفوظ)، والمنهج الرباني القويم.
أخلص من هذا إلى إبراز حقيقتين أساسيتين: الأولى في أن التجديد الإسلامي، وهو معنى بارز من معاني النهوض بعد الغفوة أو الجمود والكسل،ليس مجرد ضرورة بشرية، بل هو مطلب شرعي، صرحت به السنة المطهرة، وقررته قواعد الشريعة، وقام عليه بناؤها، ومارسه علماؤها (المجددون) على مر التاريخ بما يتناسب وطبيعة كل عصر وما شهده من تغيرات وتطورات. وإذا كانت عملية (التجديد) هي الجهد الإيجابي الشرعي للمواءمة بين حياة المسلمين وواقعهم وبين (النص) ؛ على أن يكون النص هو الأصل الذي يضبط حياة الناس، ويفتح أمامهم الآفاق، فإن عمق عملية التجديد ترتبط تلقائياً بحجم المتغيرات التي تلف الحياة، ولن يكون الإسلام وأحكامه أبداً (إصراً أو غلاً) يعيق حياة المسلمين، أو يحد من تطورهم الإيجابي البناء في تحمل تبعات الاستخلاف.
والثانية، إن عملية التجديد هذه تسقط تلقائياً دعاوى أولئك الذين يحاولون تصوير الشريعة أو الدعوة إليها، بأنها موقف (ماضوي) يريد أن يرتد بالأمة إلى الماضي، لتعيش التاريخ، بنزوع رومانسي، أو بهروب عن تحمل تبعات الحاضر والمستقبل.
إن النص الشرعي من خلال الرؤية التجديدية هو تحدٍ لعلماء الأمة ولأجيالها، ليضبطوا حركتهم على المنهج وليستقيموا على الطريقة من خلال الفهم والالتزام. والإيمان والعمل الصالح. (وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً)
إن الدعوة الإسلامية في إطار الرؤية التجديدية لم ولن تكون أبداً عودة إلى الماضي بمفهوم العودة (الظرفية) إلى الأساليب البدائية، أو أنماط العيش الأولية، وإنما هي دعوة إلى الالتزام ببناء الحاضر والنظر إلى المستقبل من منظار الرؤية الشرعية التي قامت أصلاً على الأمر بالعدل والإحسان، ونهت عن الفحشاء والمنكر والبغي (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.)
إن إبراز القدرة المطلقة المذخورة للنص المقدس الثابت على تلبية احتياجات الجماعة البشرية في كل زمان ومكان، بكل أبعادها وتطوراتها؛ مناط أصلاً (بالإنسان) المكلف بالتعامل مع هذا النص واستيعاب معطياته، واستقصاء الإمكانات التي يمنحها لأهل كل جيل، والآفاق التي يرودها لهم.
وهنا نقطتان لابد من جلائهما، في إطار فهم الإسلام (الشريعة) و(المنهج). الأولى أن الفهم المستنبط من (النص) المقدس الثابت؛ ليس له بالضرورة ثبوت النص وقدسيته، فكثير من الأحكام المستنبطة بطريق الاجتهاد، من علماء عصر من العصور، تبقى موضع نظر علماء عصور لاحقة، من غير التزام مطلق بها.
والثانية. إن عملية الاستنباط من (النص الخالد) باقية بقاء النص، وعندما تتوقف عملية الاستنباط في عصر من العصور، فإن ذلك يعني أحد أمرين: إما توقف مسيرة الحياة في ذاك العصر، وهذا يعني أن مسلمي ذلك العصر قد غرقوا في بحر الجمود. وإما عزل النص عن الحياة، والانطلاق بعيداً عنه. وهذا يعني التمرد والانخلاع.
اقتباس: خالد كتب
- ما هي المعايير التي تراها صالحة للحكم على وجود الإسلام أو الدولة الإسلامية في معترك الحياة؟
أرى أن أؤخر الكلام عن الدولة الإسلامية إلى حيث ستسألني عن ذلك بالتحديد في السؤال الذي يليه، أما عن وجود الإسلام في المجتمع ومعترك الحياة فهذه مسألة تحتاج بعض توضيح:
وقفة تاريخية:
المعيار الذي اعتمدها فقهاؤنا قديما لذلك يتعلق بجملة من الشروط، ولا يخفى عليك أنهم استخدموا لهذا مصطلح (دار الإسلام) و (دار الكفر)، وحقيقة فإنني أرى أن مصطلح دار ألصق بالمجتمع منه بالدولة، ومع أنني أعلم بأن المجتهدين المسلمين المعاصرين لم يعودوا أسارى لهذه الإصطلاحات التاريخية، غير أن استحضار الموقف التاريخي يغني الواقع ويزيل كثير من الالتباسات.
هناك ثلاث اعتبارات لتمسية الدار بدار الإسلام في عرف فقهائنا المسلمين:
1- أن تسري على الأرض أحكام الإسلام وتظهر بلا خوف
2- أن يأمن فيها المسلمون ومن في حكمهم كأهل الذمة والعهد. على شعائرهم وعباداتهم وأنفسهم ومعاملاتهم.
3- أن تكون غالبية المجتمع من المسلمين
هذه الاعتبارات جمعها بعض الفقهاء، وأفرد بعضها بعضهم، وبالجملة فأيما دار انطبق عليها اعتبار من الاعتبارات المذكورة صح تسميتها بدار الإسلام في مذهب فقهي معتمد.
ويهمنا في مقامنا هذا ومورد نزاعنا أن نتكلم عن مجتمعات المسلمين التي يصار إلى تحويلها إلى مجتمعات جاهلية بحسب اجتهادات الشهيد سيد قطب رحمه الله وبعض الإسلاميين الآخرين!
ولأجل هذا فمن المهم استحضار آراء الفقهاء في تحول دار الإسلام غلى دار كفر (حرب)، وقد كان في فقهنا الإسلامي آراء خمسة ألخصها لك في الآتي:
الرأي الأول : للأحناف، جاء في المبسوط للسرخسي 2/28: ( دار الإسلام اسم للموضع الذي يكون تحت يد المسلمين ، وعلامة ذلك أن يأمن فيه المسلمون ).
وبينما يضيق الدائرة الإمام الأعظم فلا يحكم بتحول دار من الكفر إلى الإسلام حتى لو جرى فيها حكم الشرك ما كانت متاخمة لدار الإسلام، حيث قال : لا يصيرون حرباً حتى لا يكون بينهما وبين دار الحرب دار للمسلمين ، وحتى يحكموا فيها بحكم الشرك ولا يبقى فيها مسلم ولا ذمي آمن ، فإن فقد شيء من ذلك لم تكن دار حرب ، وكانوا بمنزلة أهل البغي ) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي 3/469 . نجد الصاحبين من الحنفية أبي يوسف ومحمد بن الحسن يوسعان خروج الدار ما سرت فيها أحكام الكفر: (تتحول دار الإسلام إلى دار حرب في جريان أحكام المشرك عليها) مختصر اختلاف العلماء للطحاوي 3/471
الرأي الثاني : للشافعية : جاء في حاشية البجيرمي /220: دار الإسلام : هي كل أرض تظهر فيها أحكام الإسلام أو تكون مسكونة من قبل المسلمين وإن خالطهم غيرهم ، أو فتحها المسلمون ثم أجلاهم الكفار عنها ).ولا يرى الشافعية تحول دار الإسلام إلى دار حرب ما توافرت في الدار شروط أربعة:
آ - تظهر فيها أحكام الإسلام .
ب - أن تكون مسكونة من قبل المسلمين وإن خالطهم غيرهم .
جـ- فتحها المسلمون وأقروها بأيدي الكفار .
د - سكنها المسلمون ثم أجلاهم الكفار عنها .
لكن ترجيح النووي رحمه الله يلتقي في النهاية مع الصاحبين أبي محمد ويوسف ) .
( وجه النووي المسألة مشترطاً أن لا يمنع أهلُها المسلمين من عباداتهم والتمسك بشريعتهم فإن هم منعوها صارت دار حرب ) روضة الطالبين 5 / 433 ونهاية المحتاج / 8 / 454 . .
الرأي الثالث : للحنابلة ، ويلتقي مع رأي الصاحبين ، ومع ترجيح النووي حيث قدَّم أبو يعلى تعريف دار الإسلام ودار الكفر بقوله : كل دار كانت الغلبة فيها لأحكام الكفر دون أحكام الإسلام فهي دار الكفر ) المعتمد في أصول الدين لأبي يعلى / 276 . .
الرأي الرابع : للمالكية، حيث جاء في حاشية الدسوقي على الشرح الكبير 2 / 88: (تبقى كذلك (دار إسلام) ما دام أهلها يقومون بشعائر الإسلام كالآذان والصلاة والحج والجمع والأعياد، لما يترتب على تحويلها إلى دار كفر من فساد كبير وتغير في الأحكام ). .
ويلتقي ابن تيمية رحمه الله مع رأي المالكية ، حيث يربط مسمى الدار وغلبة تطبيق الشرائع الإسلامية فيها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (( وكون الأرض دار كفر ودار إيمان أو دار فاسقين ليست صفة لازمة لها بل هي صفة عارضة بحسب سكانها ، فكل أرض سكانها المؤمنون المتقون هي دار أولياء الله في ذلك الوقت ، وكل أرض سكانها الكفار فهي دار كفر في ذلك الوقت ، وكل أرض سكانها الفساق فهي دار فسوق في ذلك الوقت ، فإن صار سكانها غير ما ذكرنا ، وتبدلت بغيرهم فهي دارهم ، وكذلك المسجد إذا بُدل بخمارة أو صار دار فسق أو دار ظلم، أو كنيسة يشرك فيها بالله كان حسب سكانه ، وقد قال تعالى : وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغداً من كل مكان ، فكفرت بأنعم الله .. (النحل /112) نزلت في مكة لما كانت دار كفر ، وهي ما زالت في نفسها خير أرض الله وأحب أرض الله إليه ، وإنما أراد سكانها ... فالمساكن بحسب سكانها ، وقد كتب سلمان إلى أبي الدرداء : إن الأرض لا تقدس أحداً) الفتاوى 18 / 282
وسُئل رحمه الله عن بلد ماردين هل هي بلد حرب أم بلد سلم ، فقال : (وأما كونها دار حرب أو دار سلم فهي مركبة فيها المعنيان ، ليست بمنزلة دار السلم التي تجري عليها أحكام الإسلام لكون جندها مسلمين ، ولا بمنزلة دار الحرب التي أهلها كفار ، بل هي قسم ثالث يعامل المسلم فيها بما يستحقه ، ويقاتل الخارج على الإسلام بما يستحقه ) الفتاوى 28 / 240 . .
آراء المعاصرين في أسلمة المجتمعات:
1- الصنعاني: (متى علمنا يقيناً .. أن الكفار استولوا على بلد من بلاد الإسلام التي تليهم وغلبوا عليها وقهروا أهلها بحيث لا يتم لهم إبراز كلمة الإسلام إلا بجوار من الكفار صارت دار حرب ، وإن أقيمت فيها الصلاة .)
2- عبد القادر عودة: (دار الإسلام : البلاد التي يظهر فيها أحكام الإسلام أو يستطيع سكانها المسلمون أن يظهروا فيها أحكام الإسلام ، فيدخل في دار الإسلام كل بلد سكانه كلهم أو أغلبهم مسلمون ، وكل بلد يتسلط عليه المسلمون ويحكمونه ، ولو كانت غالبية السكان من غير المسلمين ، ويدخل في دار الإسلام كل بلد يحكمه ويتسلط عليه غير المسلمين ما دام فيه سكان مسلمون يظهرون أحكام الإسلام ، أو لا يوجد لديهم ما يمنعهم من إظهار أحكام الإسلام .)
سيد قطب : وهو يتحدث عن ( دار الإسلام ) و ( دار الحرب ) عرضاً في تفسير قوله تعالى : ألم تر إلى الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم .. يقول : قالوا : ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها .. إنه لم يكن العجز الحقيقي هو الذي يحملهم على قبول الذل والهوان والاستضعاف ، والفتنة عن الإيمان ، إنما كان هناك شيء آخر ، حرصهم على أموالهم ومصالحهم وأنفسهم يمسكهم في دار الكفر ، وهناك دار الإسلام ..فأولئك مآواهم جهنم وساءت مصيرا ثم يستثني من لا حيلة له بالبقاء في دار الكفر ، والتعرض للفتنة في الدين ، والحرمان من الحياة في دار الإسلام من الشيوخ الضعاف ، والنساء والأطفال ، فيعلقهم بالرجاء في عفو الله ومغفرته ورحمته بسبب عذرهم البيِّن وعجزهم عن الفرار : إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان ، لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفواً غفوراً .
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان متجاوزاً تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين ، وفي بيئة معينة ، يمضي حكماً عاماً يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أية أرض ، وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته أو صداقاته ، أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها ، متى كان هناك في الأرض في أي مكان دار للإسلام يأمن فيها على دينه ، ويجهر فيها بعقيدته ، ويؤدي فيها عباداته ، ويحيا حياة إسلامية في ظل شريعة الله ) في ظلال القرآن2 / 5 / 744 – 745 . .
وهكذا يتضح أن دار الإسلام أو مجتمع المسلمين في أبسط شروطه، هو ذلك المجتمع الذي يأمن فيه المسلم على دينه، ويجهر فيه بعقيدته، ويؤدي عباداته ويحيا حياته الإسلامية ، أما أن تكون الغلبة فيه للمسلمين، أو أن يستظل الناس فيه بحكم الشريعة، أو أن تجري أحكامها كافة عليه، فهذا مورد تنازع قديم، وفي رأيي أن وسم المجتمعات بالجاهلية بالمطلق لمخالفة من المخالفات المعتبرة هو تجاوز لهذه الاختلافات الفقهية المشروعة والمسنودة إلى نصوص شرعية ليس هذا مقام التفصيل بها، ولو تتبعنا آي القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم لوجدنا أن الحكم بتجهيل المسلمين بالمطلق أمر غير وارد..
نعم يمكن أن نتكلم عن جاهلية نسبية، وذلك أمر تحدثت عنه آيات كثيرة، فهناك حكم الجاهلية، وتبرج الجاهلية وظن الجاهلية..
كما في السنة أحاديث كثيرة تتكلم عن ربا الجاهلية، وتفاخر الجاهلية، بل إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين عتب على أبي ذر بتعييره لبلال بابن السوداء (رضي الله عنهما) لم يقل له أنت امرؤ جاهلي، بل قال له: إنك امرؤ فيك جاهلية، وكذا في حديث ثوبان أو حذيفة –نسيت الآن- حين سأله عن أحوال المسلمين، قال له: (إنا كنا في جاهلية وشر، ثم لما تكلم عن دورة اغتراب الدين الثانية لم يأت على ذكر الجاهلية بل قال: (فهل بعد هذا الخير من شر؟) ولعل مرد ذلك إلى أن أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم لا ترتد جاهلية بمجموعها حتى وإن أشرك بعضها وارتدوا، لأنها معصومة بمجموعها، فلا تجتمع على ضلالة، والله أعلم.