RE: جـو غـانـم
مساء الخير
و تحيّة لكم جميعاً
لصديقي الدكتور بسام و للأخوين العزيزين " الراعي " و " كوكو " .
سأحاول الردّ على سؤال الأخ الكريم كوكو من وجهة نظر شخصية بحتة , بعيداً عن المفاضلة بين
العامية و الفصحى و الجدل الذي مرّ عليه زمانٌ و انتهى , إذ لا يمكن لإحداهما أن تأخذ مكان الأخرى
كما لا يمكن التغاضي عن إحداهما ( العامية أقصد هنا , لأنّ الفصحى هي تاريخنا كأمة , لو تنازلنا عنها
يعني انتهينا و انقرضنا تماماً ) .
لاحظ أنّ لكلّ بيئة موسيقاها الخاصة , التي قد لا يفهمها ابن بيئة أخرى حتى في البلد الواحد أو لا تصله
بكلّيتها , بتفاصيلها , أغاني الصيادين في المدن البحريّة , أغاني الحصاد في الريف , مواويل أبناء
الجبال , أغاني الموت التي كانت تقال في الجنازات , أهازيج الأعراس المختلفة من منطقة إلى منطقة .
و ما إلى هنالك من أغان خاصة و مختصة بطقوس معينة , كلّ هذا شعر عاميّ , قد يكون من أجمل الشعر
و موسيقاه أجمل الموسيقى , لكنه يبقى صعب جداً على أبناء البيئات و المناطق الأخرى .و هذا لا يعيبه
لأنه مختص بحالة معينة و ليس أدباً "أمميّاً " إن جاز التعبير , حتى الشعر الغربي مثلاً , لو ترجمت قصيدة
للامارتين أو ت.س. أليوت , ستفقد معظم جماليتها , إن لم تتحوّل لقصيدة أخرى تماماً .
الشعر العاميّ هو صوتك أنت وصوت أمك و أبيك و أخوتك و أبناء قريتك , هذا أولاً و أخيراً , و من الصعب أن
تتوقع له أن ينال إعجاب شخص في المغرب مثلاً , مع أننا في زمان لم تعد فيه اللهجات غريبة و صعبة .
طلال حيدر على سبيل المثال بما أنّ ذكره جاء هنا , يذهب إلى المغرب تحديداً و يعمل أمسيات شعرية
تلاقي تصفيقاً حاداً و إعجاباً كبيراً , و هذا الكلام نقلاً عنه .
هناك نقطة مهمة ذكرتها أنت , و هي الصوت , موسيقى الصوت , الشعر العاميّ بالذات تساعده موسيقى
الصوت جداً , فحين تستمع , غير عن حين تقرأ .
حين أقول لك :
(قديش كان في ناس , عالمفرق تنطر ناس , و تشتّي الدني و يحملوا شمسيّة ....) هذا كلام عاديّ جداً
لقرويّ من جبل لبنان , قد لا يترك عندك أي أثر , لكن حين غنته فيروز تحوّل إلى ما يشبه الكلام الملحميّ
و وصل إلى قلبك بطريقة غريبة , كذلك عندما يقول شاعر العامية الكلام بصوته , خذ سعيد عقل على سبيل
المثال , بعض شعره العامي صعب جداً , حتى عليّ أنا , لأني لا أصل إلى بعض موسيقاه , لكن عندما يقوله
بصوته , يختلف الأمر , يصل تماماً .... تبقى الكلمات المغرقة في العامية , التي قد لا يفهمها ابن بلد اّخر
أعتقد أنّ سياق القصيدة قد يساعد في إيصال معناها , حين يصل معنى القصيدة كلّه .
سأختم حديثي بمثال . قبل فترة دار حديث بيني و بين صديق شاعر رائع يكتب بالفصحى و له دواوين . كان
يُجالس الراحل الكبير محمود درويش ذات مرة في عمّان .و كان صديق لهم حاضراً في الجلسة , هو
قرويّ فلسطينيّ يتكلّم بلهجته الصعبة التي وجد درويش نفسه صعوبة في استساغتها , رغم أنّ درويش
فلسطيني أيضاً . و قال له :
لماذا تتكلّم بهذه اللهجة الغارقة في الخصوصية ؟ فردّ الرجل بعفوية شديدة :
هكذا تتكلّم أمي .. هذه لغة أمّي .
و أنا أيضاً أردد معه الاّن : هذه لغة أمي .
حين أريد التعبير بقوة , و أن أصل إلى حدود قصوى في وصف الحالة , أستخدم لغة أمّي لأنها
لا تُقيّدني بعروض و نحو . الموسيقى وحدها هي ما يلزمني مع التعبير , و كما قلت , إنه أمر
عادي أن تجد موسيقاها صعبة , لأنك ابن موسيقى صوتية حياتية أخرى , الدكتور بسام مثلاً
لا يجد مشكلة في الأمر , لأنها لغة أمّه أيضاً .. و من هنا يمكن الحديث عن ذاك الإرث الثمين في
حياة الشعوب .. ذاك الذي يُسمّى ( التراث ) .
ـ بالنسبة للأوزان .. هناك خيط رفيع بين الشعر العاميّ و بين الزجل , الزجل هو الشعر الشعبي
الذي كان سائداً في بلاد الشام عامة حتى منتصف القرن الماضي , و له أنواع و أوزان عدة
كلّ وزن يُقابل بحر من بحور الشعر العربي الفصيح و المقفّى .. مثلاً عندك في الزجل وزن القصيد
و هو يقابل البحر الوافر , ثم وزن ( المُـعـَـنـَّى) يقابل وزن الرجز , و عندك ( القرَّادي) و هو وزن
سماعي يُستخدم في المحاورات الزجلية السائدة , ثم عندك ( الموشّح ) و ( الشروقي ) و غيرها
كل وزن له طريقته الصوتية , و الأمر المهم في الزجل هو معرفة متى يجب أن يكون الحرف ساكناً
أو متحركاً , هناك أحرف ساكنة متتالية أحياناً بل كثيراً , و هذا لا يمكن حدوثه في اللغة الفصحى .
أما الشعر العامي الحديث , فيمكن اعتبار أنّ الشاعر الكبير ( ميشال طراد ) أبٌ له , و هو من
غنّت له فيروز : ( يا صبح روّج طوّضلتْ ليلك , خلّيت قلبي نار .. بكرا بتجي اختك تغـنّيلَك , بكرا
بتجي جلنار ) و أيضا غنت له ( بكوخنا يا ابني , بهالكوخ الفقير ) و غنى له الرائع وديع الصافي
الموال الجميل ( رح حلّفك بالغصن يا عصفور ) و هذا الشعر مختلف عن الزجل قليلاً , و هو ما أكتب
به أنا عادة , و هو ما تسمعه في أغاني فيروز و الرحابنة و في قصائد كثير من شعراء العامية الكبار
الذين برزوا بعد منتصف القرن الماضي حتى الاّن , كميشال طراد و طلال حيدر و جوزيف حرب
و إيليا أبو شديد و سعيد عقل و عصام العبدالله و غيرهم لا مجال لذكرهم هنا .
ـ أعتذر , لم أكن أتوقّع أن تعليقي سيكون طويلاً على هذا النحو .
تحيّتي و محبتي و احترامي لكم جميعاً .
عذراً , كنت أكتب ردي و بعد أن أضفته وجدت التعليق المهم جداً للأخ الكريم ( الراعي ) و االذي أشكره
عليه كثيراً .
تحياتي لكم .
حصل خطأ كتابيّ في كلمات الأغنية :
( يا صبح روِّج طوّلتْ ليلَكْ )
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 11-01-2009, 01:58 AM بواسطة جـو غـانـم.)
|