«المصري اليوم» تنشر وثائق نادرة تؤكد حق مصر القانونى فى مياه النيل (الحلقة الأولى).. اتفاقية «١٩٠٢» وحروب «الحدود» المصرية – الحبشية
[color=#FF0000]
كتب أشرف جمال ٣/ ٨/ ٢٠١٠
رغبة جارفة فى خدمة هذا البلد، قادتنا لنشر هذا الملف الشائك والمتشعب، والذى نكشف فيه عن وثائق وخرائط وحقائق تاريخية غاية فى الأهمية والخطورة.
ولأن ما لدى «المصرى اليوم» من وثائق، يكشف حق مصر التاريخى فى مياه النيل، فإننا نقدمه للمسؤولين والقراء جميعا، عله يكون عوناً لهم فى حرب الاتفاقات الجديدة التى تشنها دول المنبع، ضدنا والسودان الشقيق.
الخرائط والوثائق- التى حصلنا عليها من هايدى فاروق عبدالحميد، الباحث بالأرشيفين البريطانى والأمريكى، عضو الجمعيتين «المصرية للقانون الدولى» و«الجغرافية المصرية»- تؤكد قانونية حق مصر الحالى فى مياه النيل، بل تثبت بما لا يدع مجالا للشك أن مساعى دول المنبع لتعديل الاتفاقيات التاريخية الخاصة بحصة مصر من مياه النهر، لا تستند إلى شرعية قانونية ولا تصمد أمام دليل سياسى قاطع.
هذا الملف تنشره «المصرى اليوم» فى خمس حلقات، تحت مسمى «منحة الأرض ومحنة المياه»، تكشف خلاله تفاصيل وحقائق تاريخية لم يتطرق إليها كثيرون من قبل، أبرزها الخلفيات التاريخية للنزاعات المائية بين مصر والحبشة (إثيوبيا) والكونغو، وما انتهت عليه من وثائق واتفاقات من شأنها إثبات الحق الحالى لمصر فى مياه النيل، أبرزها على الإطلاق اتفاقية ١٩٠٢ الخاصة بتقسيم المجرى المائى لنهر النيل تقسيماً «حدودياً» لا يقبل التعديل.
الباحثة هايدى فاروق: الاتفاقية خصصت ١٠٠ مليار متر مكعب «مياه» لمصر بموافقة إثيوبيا وإيطاليا وإنجلترا مقابل أراضٍ امتلكتها فى دول المنبع
كثيراً ما تحدث الخبراء والساسة حول حق مصر «التاريخى» فى مياه النيل، تأسيساً على ما تواتر لديهم من وجود ما سُمى باتفاقى عامى ١٩٢٩، و١٩٥٩، ولأن للتاريخ فى أعناقنا ذمماً لابد أن نؤديها، وإذا كان الاعتدال ميزة السياسى، فهو من باب أولى نهج للمؤرخ، لأن روح التاريخ والأسلوب العلمى والموضوعى يجب أن يهيمنا على أقلام المؤرخين وأفواههم، لكى يستطيع المؤرخ أن يسيطر على ما يسرده بموضوعيته وتوثيقه.
«المصرى اليوم» تنفرد بنشر أصول وثائق عامى ١٩٢٩ و١٩٥٩ التى توصلت المستشارة هايدى فاروق، الباحثة فى الأرشيفين البريطانى والأمريكى، إلى أصولها عام ٢٠٠٦، بالإضافة إلى أصول وثيقة اتفاقات الحدود السياسية التى عقدتها الدولة المصرية منذ كان اسمها مملكة مصر والسودان، مع دول حوض النيل برعاية المستعمر البريطانى وإيطاليا آنذاك، وهى اتفاق ١٥ مايو ١٩٠٢، واتفاق ١٩٠٠، واتفاق ٢١ مارس ١٨٩٩ التى بموجبها تحددت حصة مصر والسودان من مياه نهر النيل، بنحو ١٠٠ مليار متر مكعب من المياه فى هذا التوقيت، وليست ٥٥ ملياراً كما الوقت الحالى، مقابل ما تنازلت عنه مصر من أراضٍ كانت تملكها لدول المنبع.
هايدى فاروق تقول: «وفق مبدأ احترام الحدود الموروثة عن الاستعمار، وهو المبدأ الذى تأسس عليه الاتحاد الأفريقى، وقامت عليه دول القارة السمراء، فإن أزلية الحدود السياسية ترد على اتفاق عنتيبى، وهزلية الخروج عن هذا الإطار تقضى بألا حجية لكل ما يصدر عن دول المنبع التى منحتها مصر الأرض نظير الماء، وهذه الاتفاقات الحدودية ترد على المزايدين على حق دول المصب فى مياه النهر».
المستندات التى حصلت عليها «المصرى اليوم» تشير إلى أن مصر منحت أرضاً كانت تمتلكها داخل دول المنبع، لهذه الدول مقابل حصتها فى النيل، واشترطت ألا يتم المساس بحصتها فى المياه.
فى تفنيدها للوثائق تقول هايدى: «بداية الحصول على اتفاق الحدود الذى حدد حصة مصر فى المياه، جاءت عندما وجدت منذ ما يقرب من ٥ أعوام، أطلساً يحمل اسم «أطلساً خرط الدنيا»، وهو الأطلس الذى كان مقرراً على المرحلة الثانوية فى المدارس المصرية عام ١٩١٣، والصادر عن مصلحة عموم المساحة المصرية عام ١٩١١،
إذ ورد فى صفحته الخامسة فى خارطة السودان الحد المصرى الإنجليزى، عند حد السودان الشرقى مع الحبشة جملة تقول إن هذا الحد السياسى الذى انبنى عليه اتفاق المياه تحدد بموجب اتفاق ١٥مايو عام ١٩٠٢، وبالرجوع الى الوثائق الخاصة بالأرشيف البريطانى، وجدت مقتنيات تحدثت عن ظهور دولة كبرى فى وادى النيل فى العشرينيات من القرن التاسع عشر، تضم مصر والسودان، وتمتد بحدودها من البحر الأبيض المتوسط شمالا، إلى أعالى النيل جنوبا، لتحد هذه الدولة الكبرى الحبشة فى حدود مشتركة.
وتضيف هايدى: «هذه الدولة نظر إليها أهالى الحبشة بعين القلق، خوفاً من تنامى النفوذ والقوة المصرية، بعد عودة جزء من رقعة الأرض، وبالأخص فى عهد الخديو إسماعيل، حينما اتسعت الدولة المصرية حتى أحاطت بالممتلكات الحبشية الوليدة، كما لم تنظر الحبشة بعين الارتياح لما تقوم به مصر من تأمين لحدودها وتعزيز لقواتها، تدعيماً لحركة الإصلاح والعمران التى بدأت فى حقبة محمد على باشا، وتمكيناً لمصر من إدارة شؤونها على أسس إدارية سليمة، وعوداً لما وثقت له المصادر التاريخية من حجم الرقعة المصرية والسودانية أيضاً».
وتؤكد الباحثة فى الأرشيف البريطانى أن هذه المخاوف تزايدت بعد أن أشاعت الصحف الأوروبية آنذاك عزم محمد على باشا حاكم مصر فى هذا التوقيت، ضم الحبشة لممتلكاته، وهى المخاوف التى استمرت إلى ما بعد توقيع معاهدة لندن سنة ١٨٤٠ م، وصدور فرمان سنة ١٨٤١م».
وتقول هايدى: «وفق الوثائق حاولت الحكومة المصرية فى عهد محمد على التوصل إلى اتفاق مع الحبشة بشأن الحدود، وفى عهد إسماعيل حاولت أن تؤمن حدودها الجنوبية من ناحية الحبشة بوسيلتين، الأولى عن طريق تحصين الحدود وإيجاد عدد كاف من الجنود بها، بحيث تصبح مهاجمة الحدود المصرية من الأمور الصعبة التى تكبد المعتدى ثمناً باهظاً، أما الوسيلة الثانية فإنها تتمثل فى استمالة أكبر عدد من القبائل على حدود الحبشة وتشجيعها على اللجوء إلى الممتلكات المصرية، والتمتع بالحماية، مع منحها الامتيازات التى تُرّغبها فى البقاء تحت طاعة الحكومة المصرية».
وتضيف: «رغم الأخذ بهاتين الطريقتين، فقد أخفقت مصر فى تحقيق ما تصبو إليه، لأن تحصين الحدود المصرية- الحبشية كان يستلزم استخدام عدد كبير من الضباط والجنود».
وتتابع هايدى: «استمر الوضع هكذا إلى أن أبدى ملك الحبشة الملك ثيودورس Theodorus رغبة فى إقامة سفارتين ببلاده إحداهما إنجليزية، والأخرى فرنسية، وقتها رفضت الدولتان تلبية رغبته مما أثار غضبه، وقام بالقبض على الرعايا الأوربيين المقيمين فى الحبشة وأودعهم السجن، وكان من بينهم القنصل الإنجليزى كاميرونD.Cameron، ونتيجة لذلك لجأت إنجلترا إلى والى مصر الخديو إسماعيل لاستخدام نفوذه فى التوسط لإقناع الملك الحبشى بالعدول عن موقفه، فأرسل الخديو كتاباً بتاريخ أكتوبر ١٨٦٧م (المحفوظات التاريخية بالقصر الجمهورى دفتر عابدين ٢٤ من الجناب العالى إلى إمبراطور الحبشة،
وثيقة رقم ٤٦٤ فى ٢ جماد آخر سنة ١٢٨٤ هجرياً، أكتوبر ١٨٦٧ م)، ينصحه فيه بإطلاق سراح الرعايا الأوربيين حقنا للدماء، ويحذره فى نهايته مما قام به، ويهدده بأنه إذا لم يطلق سراح المعتقلين بالحسنى فستسلط عليه الحكومة الإنجليزية جنوداً لا طاقة له بهم، وفق الخطاب، وسيمر هؤلاء الجنود من الأراضى المصرية، وأنه (أى إسماعيل) لن يستطيع الوقوف فى طريقها».
وتزيد: «رغم أن الخديو لم يكن يريد التورط فى مساعدة الحملة الإنجليزية، إلا أنه كان مضطرا إلى ذلك لعدة عوامل تتلخص فى الاستجابة لأمر الباب العالى (المحفوظات التاريخية بالقصر الجمهورى دفتر ٢٤ عابدين من الجناب العالى إلى الباب العالى، وثيقة رقم ٤٤٤ فى ٢ جماد آخر سنة ١٢٨٤ هجرياً) وإرضاء للحكومة الإنجليزية، إضافة إلى العمل على هزيمة الحبشة انتقاماً منها لكثرة إغاراتها على حدود مصر الجنوبية حتى إن موسى حمدى باشا، حكمدار السودان آنذاك،
اقترح على الخديو إسماعيل إخلاء القرى الواقعة على الحدود المصرية - الحبشية حتى تبقى الحدود بعيدة عن بعضها مسافة تقرب من السبعة أيام للوصول إليها، وتصبح هذه المنطقة مجردة من العمران وخالية من المؤن (المحفوظات التاريخية بالقصر الجمهورى محفظة ٥٩، معية تركى، من موسى حمدى حكمدار السودان إلى صاحب السعادة المهردار، وثيقة رقم ٣٥٥ فى ٢٨ رجب سنة ١٢٧٩ هجري، يناير سنة ١٨٦٣م)،
وعندما أيقنت الحكومة الإنجليزية أن تلك الأزمة لن تحل إلا باستخدام القوة، ويئست من الوصول إلى حل ودى، كلفت حكومة الهند بتجهيز جيش كبير تحت قيادة الجنرال روبرت نابيير Robert napier فى نوفمبر ١٨٦٧م، كان قوامه ١٤ ألفاً ٦٨٣ جنديا، يتبعه ٢٨ ألفاً ١٦٠ من الخدمة، بالإضافة إلى ٣٦ ألفاً ٩٣٠ من حيوانات النقل والخيل، و٤٤ فيلاً، ونزلت تلك الحملة بميناء زولا، على ساحل البحر الأحمر».
وتقول هايدى: «وقتها أصدر الخديو إسماعيل أمره إلى عبد القادر باشا، محافظ مصوع، بإمداد الجيش الإنجليزى بكل ما يحتاج إليه وعلى الرغم من انتهاء الحملة لصالح إنجلترا، إلا أنها أضرت بمصالح مصر ضررا بالغاً، حيث حركت عوامل العداوة والبغضاء التى يكنها ملك الحبشة الجديد يوحنا تجاه مصر، فى حين لم تعترف إنجلترا بما أسدته مصر لها، ولهذه الاعتبارات أرسلت بعثة السير صامويل بيكر إلى أعالى النيل أوائل عام ١٨٦٩م، وتمت حركة التوسع فى شرق أفريقيا وعلى طول ساحلى البحر الأحمر وأفريقيا الشرقى، وأسندت لغوردون باشا حكمدارية مديرية خط الاستواء ثم حكمدارية عموم السودان».
ورغم «الضجة الكبيرة» التى أثارتها بعثة بيكر– وفق هايدى- فإنها لم تنجح فى مهمتها سوى فى إقامة بعض «النقاط العسكرية» على طول الطريق الذى سلكته نحو الجنوب، منها محطة «التوفيقية» عند ملتقى نهر السوباط بالنيل الأبيض، ومحطة «غوندكورو»، ومحطة «الإبراهيمية»، ومحطة «فويرا»، ومحطة «ماسنجى»، إلا أن هذه الحملة زادت من التوتر بين مصر والحبشة.
وتقول هايدى: «الوثائق تؤكد أن مصر استغلت فرصة انشغال الملك يوحنا فى قتال بعض قبائل القالا، وحشدت قوة حربية قوامها ١٥٠٠ رجل سنة ١٨٧٤م تحت قيادة منسنجر لاسترداد إقليم سنهت أو بوغوص، الذى كان تابعاً لها من قبل، تنفيذاً لمشروع ربط ميناء مصوع بخط حديدى مع كسلا على النيل، وقام منسنجر ببناء قلعة حصينة فى بلدة قرن عاصمة الإقليم، وفى نفس الوقت اشترى مقاطعة آيلت التى تقع بين منطقة الحماسين ومصوع من حاكمها، مما أثار الملك يوحنا الذى هاجم الحدود المصرية مرات متكررة».
وفق الوثائق، رأت مصر فى ذلك الوقت الدخول فى مفاوضات مع «يوحنا» لفض نزاعها معه بـ«الطرق الودية»، فأرسلت الأميرالاى يوسف مسرور «لهذا الغرض» إلا أن الضابط «كركمان» المستشار الخاص للملك «يوحنا» عمل على «إحباط» توصل الطرفين إلى اتفاق بالطرق السلمية.
وعلى الرغم من ميول الملك يوحنا إلى الصلح مع مصر أثناء غياب «كركمان» فى رحلته إلى أوروبا، إلا أنه قطع محادثاته «فجأة» بسبب الأنباء التى وردت إليه من «كركمان» حول تأييد الدول الأوروبية للحبشة فى نزاعها ضد مصر، ما أدى إلى فشل المفاوضات وبدأ الملك فى شن «الغارات المتعاقبة» على حدود مصر لنهب القرى وقتل الرجال وسبى النساء والأطفال.
وتواصل هايدى تفنيدها للوثائق قائلة: «لم تجد الحكومة المصرية بداً من اللجوء للقوة لصد غارات الأحباش، وأصر الخديو إسماعيل على تسيير حملة حربية قوامها ٤ آلاف جندى إلى الحبشة، فى حين كان الجيش الحبشى قوامه ١٤ ألفا و٦٨٣ جنديا، وذلك بإيعاز من منسنجر الذى ذكر المؤرخ فون تورنيزن Von Thurneysse، أنه كان متزوجاً من سيدة حبشية من إقليم بوغوص، وكان لوالديها دخل كبير فى السياسة التى اتبعها منسنجر عقب ضم تلك البلاد إلى الممتلكات المصرية» (المحفوظات التاريخية بالقصر الجمهورى دفتر ٢٢٢٥ عابدين مذكرة خاصة من الجناب الخديو إلى الصدر الأعظم رشدى باشا، وثيقة رقم ٤٢٠ فى ١٢ محرم سنة ١٢٩٠ هجرية ١٢ مارس سنة ١٨٧٣ م).
وتضيف: «تعددت المعارك بين الطرفين، ومنها أرندروب Arendrupp، ثم معركة جندت، وكان الفشل من نصيب المصريين وأصبح مركز الخديو إسماعيل حرجاً، وكان لزاماً عليه إعداد حملة جديدة لمحو عار الهزيمة، فكانت حملة أوسا التى تعتبر الطرف الثانى للكماشة، التى كان طرفها الأول حملة أرندروب، حيث تم إعداد الحملتين فى وقت واحد على أن تهاجم حملة أرندروب الحبشة من الشمال، متخذة من مصوع نقطة ارتكاز لها، أما الأخرى فتزحف عليها من الجنوب عن طريق ميناء تاجورة على خليج عدن».
الوثائق تؤكد أن الهدف الرئيسى من هذه الحملة كان عقد اتفاق بشأن الحدود والمياه مع الملك منليك الثانى، ملك شوا آنذاك، استجابة للرغبة التى أبداها من قبل (جريدة الوقائع المصرية، العدد رقم ٦٣٧ فى ١٨ ذى القعدة سنة ١٢٩٢– ٢٦ ديسمبر سنة ١٨٧٥م)، لكن باءت هذه الحملة هى الأخرى بالفشل، لجهل القائمين على تدبير شؤونها بطبيعة تلك البلاد، وعدم الاعتماد على الخرائط التفصيلية التى كان يجب أن تتوافر لديهم قبل قيامهم بالحملة».
هنا تقول هايدى فاروق: «الحكومة المصرية تداركت هذا الخطأ فقامت برسم خارطة تفصيلية لأهم الطرق المؤدية إلى هذا الإقليم وطولها وما بها من آبار، وهذه الخريطة تعد اليوم أهم مستند يوثق حقيقة الحدود الحبشية قبل المنحة المصرية للأحباش التى سنعرضها لاحقاً (المحفوظات التاريخية بالقصر الجمهورى، دفتر ١١معية صادر وثيقة رقم ٢٣ ص٦٢ فى ٢٠ ذى الحجة سنة ١٢٩٢هجرية، يناير سنة ١٨٧٦م)، وبعدها قامت حملة راتب باشا، ومعركة قرع التى منى فيها الأحباش بالهزيمة، وإن كانت الحملة قد فشلت فيما بعد».
الوثائق– التى حصلت «المصرى اليوم» على نسخة منها تقول: «فى ٧ سبتمبر سنة ١٨٧٧م وقعت الحكومتان الإنجليزية والمصرية اتفاقاً بشأن الحدود المصرية، حيث اعترفت الأولى بسيادة مصر على الساحل الصومالى حتى رأس حافون،
كما اشترطت تلك المعاهدة عدم جواز منح الخديو إسماعيل أو من يخلفه من أبنائه أى أرض مملوكة لمصر للغير، ونتيجة ازدياد نفوذ إنجلترا فى ممتلكات مصر المجاورة للحبشة، ما أدى إلى عدم تسوية مشكلة الحدود بين البلدين، وظلت هذه المسألة مثار مفاوضات طويلة إلى أن احتلت إنجلترا مصر فأمكنها بذلك أن تسوى نزاع الحدود على حساب مصر ولصالح الحبشة».
الوثائق تشير إلى أن ملك الحبشة يوحنا بدأ يميل إلى حل النزاع بينه وبين مصر عن طريق المفاوضات، وذلك بعد الخسائر الفادحة التى منيت بها قواته فى محاولتها الثانية لاقتحام قلعة قرع، ولم يكن الخديو إسماعيل أقل رغبة منه فى ذلك، خاصة أن حالة مصر المالية لم تكن لتمكنه بأى حال من الأحوال من الدخول فى مغامرة أخرى مع الحبشة، أو مجرد الأحتفاظ بعدد كبير من قواته داخل حدود الحبشة، فاستغل الخديو فرصة الطلب الذى تقدم به يوحنا للدخول فى مفاوضات،
ورحب بذلك لتبدأ المفاوضات برسالة من ملك الحبشة إلى السردار راتب باشا، يطلب فيها حل ما بينهما من خلاف عن طريق التفاوض، ووافق السردار على وجهة نظر الملك وطلب منه أن يرسل مندوباً لوضع شروط الصلح (المحفوظات التاريخية بالقصر الجمهورى، دفتر عابدين وارد تلغرافات شفرة عربى، وثيقة رقم ٤٥٨ ص٩٤ فى ١٥ صفر ١٢٩٣ هجرية).
وتوضح الوثائق أن مصر طالبت فى ذلك الوقت الملك يوحنا بأن تتسلم جرحاها حتى تتمكن من معالجتهم بمستشفياتها، وأبدت استعدادها لعلاج الأحباش أيضا، وهو ما أصاب يوحنا بالغرور، فبدأ يضع قيوداً وشروطاً لقبول الصلح، ورفض بدء المفاوضات ما لم تنسحب القوات المصرية من أراضيه، ولم يكن فى وسع مصر آنذاك أن تنسحب من الأراضى الحبشية قبل أن تصل إلى اتفاق بشأن المنطقة المتنازع عليها، كى تضع حدا لمناوشات الحبشة فى المستقبل (المحفوظات التاريخية بالقصر الجمهورى، دفتر ٣٧ عابدين وارد تلغرافات من السردار راتب باشا إلى ناظر الجهادية، شفرة عربى ص ٩ فى ١٧ صفر سنة ١٢٩٣هجرية)،
وكان سردار الجيش المصرى أخطر بأن المكان الذى يعسكر فيه الجنود المصريون هو «قورع»، وهو المكان الذى أصبح مجمعاً للسيول ولا يناسب إقامتهم، فاختار موقع فياخور البعيد عن مكان السيول، وهو ما اعتبره الملك يوحنا نزوحا للقوات المصرية عن مواقعها الأمامية وسحباً لبعضها من الأراضى الحبشية، وكان ذلك بمثابة رضوخ جزئى لمطالب يوحنا، وكلما سلمت مصر ببعض المطالب للجانب الحبشى قل اهتمام الأخير بعقد الصلح.
ظل الوضع على هذا الحد إلى أن انتهز الخديو إسماعيل فرصة نشوب الثورة فى صربيا ضد الدولة العثمانية، وطلب الباب العالى معونة مصر الحربية، ليستدعى قواته من الأراضى الحبشية فيما عدا أربعة آلاف جندى مصرى ظلوا باستحكاماتهم فى «قياخور» إلى أن تسلم جميع الأسرى المصريين، وفى شهر أغسطس سنة ١٨٧٦م تم الانسحاب المصرى والعودة إلى مصوع، ولكن الجنود المصريين حينما عادوا عقب ذلك إلى مصر فرضت عليهم رقابة شديدة حتى لا يبوحوا بشىء من أخبار تلك الحملة إلى أصدقائهم أو ذوى أقربائهم.
وبعد أن تم جلاء القوات المصرية عن الأراضى الحبشية بعث يوحنا بخطاب شخصى إلى الملكة فيكتوريا يعرب فيه عن شكره وتقديره على ما أبدته نحوه من تعاطف ضد الجانب المصرى، ثم تطرق فى خطابه إلى الحديث عن الأعمال العدوانية التى قام بها الخديو إسماعيل ضد بلاده، وأنه يأمل من جلالة الملكة أن تعمل على فصل ممتلكات كل من مصر والحبشة عن الأخرى.
هنا تقول «هايدى»: «بعد عزل الخديو إسماعيل وتولى الخديو توفيق الذى عرف عنه ضعف فترة حكمه ما أثر بالسلب على مصر داخليا وامتد الى ممتلكات الدولة فى الخارج، بدأ الأحباش يتحرشون بالمصريين المقيمين عند خط الحدود مع الحبشة، وبدأ ملك الحبشة يرسل قوات عسكرية إلى الحدود ويطالب العربان والأهالى التابعين للحكومة المصرية بالضرائب ويعاقب من لا يقوم بأدائها إليه،
إلا ان الخديو توفيق رفض مقابلة القوة بالقوة وحرص على فض النزاع بالطرق السلمية الودية، حيث أوفد الجنرال غوردون باشا حاكم عام السودان، ليعمل على وقف الاعتداءات ويعقد صلحا نهائيا مع الملك يوحنا، لكن الأخير أصر على ضم ميناء مصوع وإقليم باغوص إلى الحبشة، إلا أن الحكومتين الإنجليزية والفرنسية نصحتاه بالاعتدال وعدم التمسك بميناء مصوع المصرى، فى مقابل تأييد موقفه حول ضم إقليم باغوص».
وتضيف: «رغم ذلك طالب يوحنا أثناء المفاوضات مع غوردون، بأن تتنازل مصر عن منطقتى القلابات والقاش، وأن تدفع تعويضاً مالياً لا يقل عن مليون جنيه ثمناً لميناء مصوع، وقام بشن هجمات متكررة على حدود مصر للضغط عليها وإرغامها على التسليم، إلا أن الجانب المصرى رفض الرضوخ لتهديدات يوحنا، وساعدها على ذلك عدم استقرار حالة الجيش الحبشى، وعدم قدرته على اختراق الحدود المصرية والاستيلاء عليها».
وتتابع هايدى: «نتيجة مغالاة يوحنا فشلت المفاوضات، حيث اقترح غوردون على الحكومة المصرية كحل جزئى لهذا النزاع، ولتخفيف الضغط الواقع على حدود مصر، أن تقوم بمنح إيطاليا قطعة أرض بالقرب من مصوع، كى تواجه الحبشة عدواً جديداً تجد فيه ما يشغلها عن مناوءة مصر» (المحفوظات التاريخية بالقصر الجمهورى دفتر ٥٥ عابدين، وارد تلغرافات، تلغراف عربى الشفرة رقم ٩٣٠ من غوردون إلى خيرى باشا فى ١٤ ديسمبر سنة ١٨٧٩م).
وانتهت حكمدارية «غوردون» باشا دون التوصل إلى اتفاق مع الحبشة، وحرصت مصر على أن تزود «رؤوف» باشا الذى خلف غوردون على حكمدارية السودان فى مارس ١٨٨٠ بتعليمات صريحة بما يجب أن تكون عليه العلاقة مع الحبشة،
ولكن كانت الظروف المحيطة بالحكمدار الجديد سيئة للغاية، فالأحوال فى السودان كانت تنذر بشر مستطير، وكان الاحتلال الإنجليزى لمصر فى عام ١٨٨٢م، فلم تبد السلطات المحتلة أى اهتمامات بالشأن المصرى– الحبشى، حتى جاء الإخلاء المصرى «المؤقت» للسودان وهو موضوع حلقتنا الثانية.