والآن يا (جهلول) نتناول كلماتك بشأن أصل (محمد علي باشا) وطريقة استيلائه على السلطة في مصر!!
اقتباس:محمد علي ليس مستعمر، صحيح انه ذو اصل (الباني-ارناؤطي) وليس تركي للعلم، وتم اختياره من النخبة المثقفة المصرية ثم استجلت له حكم البلاد فعليا بعد مذبحة القلعة، وبدات نهضة مصر على يده بشتئ المجلات. وكون الاسرة العلوية التي حكمت مصر حتى عام 1953
فلتعلم ولتتعلم مني يا (جهلول) ما سأقوله لك...
أولا لقد أشيع في كتب التاريخ بأن (محمد علي باشا) وأسرته من جذور "تركية وألبانية"، والحقيقة التي يجهلها الناس أن (محمد علي باشا) -مؤسس مصر وباني نهضتها المعاصرة- هو "كردي" الأصل!!
فجذوره تعود الى مدينة "ديار بكر" -عاصمة كردستان الشمالية-، وذلك بشهادة حفيده الأمير (محمد علي) -ولي عهد الملك (فاروق) ملك مصر عام 1949-، وبشهادة أخرى من الأمير (حليم) -أحد أحفاد محمد علي باشا-.. وقد جاء ذلك في مقال بعنوان "ولي العهد حدثني عن ولي النعم..." نشر في مجلة (المصور) المصرية الشهرية الصادرة يوم (25 نوفمبر عام 1949) على (الصفحة 56) بمناسبة مرور مئة عام على وفاة مؤسس مصر الحديثة (محمد علي باشا)... فقد أجرى الأديب الكبير (عبَـاس محمود العقَــاد) الكردي الأصل حوارا صحفيا مع ولي عهد مصر آنذاك الأمير (محمد علي)، و أكد هذا الأمير وولي العهد على كردية الأسرة العلوية (أسرة محمد علي) في مصر. وقد جاء في متن المقال ما نصه:-
"يقول عباس محمود العقاد:- "... وقال سموه في امانة العالم المحقق: لا أعلم ولا ابيح لنفسي الظن فيما لا اعلم، ولكني احدثكم بشيء قد يستغربه الكثيرون عن نشأة الأسرة العلوية (المنسوبة لمحمد علي)، فان الشائع انها نشأت على مقربة من "قـولة" في بلاد الارناؤوط (البانيا)، ولكن الذي اطلعت عليه في كتاب ألفه قاضي مصر على عهد (محمد علي) ان أصل الأسرة من "ديار بكر" في بلاد الكرد، ومنه انتقل والد محمد علي واخوانه الى "قـولة"، ثم انتقل أحد عميه الى الأستانة، ورحل عمه الثاني في طلب التجارة، وبقي والد محمد علي في قوله. وقد عزز هذه الرواية ما سمعناه منقولا عن الأمير حليم (احد احفاد محمد علي) انه كان يرجع بنشأة الأسرة الى ديار بكر في بلاد الكرد"...
كما أن ما يعزز هذا الاعتقاد وجود الكثير من القادة العسكريين الذين خدموا مع محمد علي باشا واحفاده الذين كان اغلبيتهم من الكرد امثال (اسماعيل باشا الكاشف تيمور جد الأسرة التيمورية بمصروالتي انجبت الشاعرة عائشة التيمورية...)..
أما بالنسبة لموضوع تولي (محمد علي) السلطة في مصر، فإن هذا لا يوضح شيئا سوى خلل بناء منظومة الدولة المصرية، لكونه من غير جنس شعبها، نظرا لأصوله الأجنبية (كمعظم حكام مصر السابقين)!!.... فالمعروف أن المؤرخين العرب دائما كانوا يطلقون على "مصـر":
(( مصر أرضها لمن كلب "غلب" ))
كما أن هناك خطأ يدعو للسخرية يقع فيه الجهلاء من الناس، كأمثالك يا (جهلول) بادعائهم أن (محمد علي) جاء منتخبا من شيوخ البلاد وكبرائها المصريين...
وأقول لهؤلاء أن الوثائق التاريخية تظهر عكس هذا، فهي توضح "مؤامرة" من نوع ما مع القنصل الفرنسي (جرافيتي أو بروفيتي) كانت فاعلة في دفع (محمد علي) إلي كرسي الحكم مقابل تسهيلات مادية شخصية، تمثلت في استيلاء القنصل الفرنسي علي كميات منتقاة من الآثار المصرية والتي كون منها متحفا في "تورين" بإيطاليا (طبقا لما عرضه "هيكل" في أحاديثه علي الجزيرة الفضائية)، ووعود بتعاون مستقبلي مع الدولة الفرنسية (وهو الأمر الذي ظهر لاحقا في الانفتاح المصري علي فرنسا – البعثات العلمية والمستشارين العلميين والعسكريين وبناء المدارس المتخصصة كالهندسة والحربية وبناء الترسانة البحرية وغيرها)..
كما وأدعوهم لأن يتسائلوا أليس من المنطقي والبديهي ألا يشغل الحاكم -إن كان قد جاء باختيار الشعب- باله بتأمين القصر والبلاد ممن يهددون سلطته.. فإن كان الشعب اختاره فعلا، فاختيار الشعب في أساسه شرعية حامية لسلطة (محمد علي)!!
ولكننا في المقابل نرى أنه في عهد (محمد علي) اعتمد في حكمه على أربعة مبادئ رئيسية، هي:-
1) البطش بالخصوم (مذبحة القلعة عام 1811).
2) المكيافيلية (وخاصة مبدأ قيام الحاكم بتحطيم أولئك الذين ساعدوه أو دعموه للوصول إلي السلطة).
3) الهيمنة علي عناصر ومؤسسات الدولة الأساسية (مثل المؤسسات في ذلك الوقت الشيوخ والتجار والعسكر) إضافة إلي تأميم الأراضي الزراعية لصالحه وأسرته..
وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن شيوخ مصر (في ذلك الوقت) كانوا يمثلون رجال الدين والقضاة والمثقفين لأدركنا أن ما فعله (محمد علي) في العناصر الثلاث السابقة قد تكرر بصور وأشكال مختلفة في كافة المراحل التي تلته..
4)اللعب علي المتناقضات (بدءاً من التناقضات بين القنصل البريطاني والقنصل الفرنسي إلي الخلافات بين المماليك كحكام سابقين وشيوخ البلد الوطنين – وبين التجار والمشايخ – وبين التجار ذاتهم بتميز سلعة معينة – وبين عناصر جيشه من ترك وألبان وأرمن وأكراد وأوربيون وبقايا مماليك راضخة – وبين المشايخ ذاتهم من حيث المذاهب والأصول والأنساب – وبين الأقباط والمسلمين من حيث استخدام ورقة " المعلم أو الجنرال يعقوب " في الضغط علي الأقباط لاستمالة مشاعر المسلمين وفي استقطاب الكبرات من الأقباط وأصحاب النفوذ والثروات وضمان الولاء المطلق والتام)..
كذلك فإن تجربة (محمد علي) كانت "تغريبية" (نسبة إلي الغرب) بكليتها وعلي كافة المقاييس.. وفي ذلك يقول المؤرخ (أرنولد تويني -Arnold Twiny-): "لقد قام (محمد علي) بتطبيق منظم وممنهج للتغريب علي سكان مصر طوال مدة خمس وثلاثين عاما."!!
كما أن الأسرة المالكة تفردت بالسيادة المطلقة علي مقدرات البلاد وأرواح العباد، ولصالح الأجناس المقربة من الترك والأرناؤوط... فـ (الجبرتي) مثلا يروي لنا في " عجائب الآثار " فظائع يقشعر لها الأبدان لا مثيل لها من استباحة واستحلال لممتلكات المصريين ما يلي:-
"لم تكن هناك حرمة مال أو عرض (لمسلم أو لغير مسلم) من غير الخاصة بمنأى عن العائلة الحاكمة وأتباعهم إلا بما شاء وتعطف كـ (النمرود) إبراهيم، وفي هذا قال الشيخ (محمد عبده): "ما الذي فعله "محمد علي"؟؟؟ لم يستطيع أن يحيي ولكن أستطاع أن يميت ويبيد."... وهذا إضافة لنظام "السخرة" الذي كان يستخدم في التجنيد الإجباري (حتي الموت ودون مدد محددة) وفي الأعمال العامة مثل شق وتطهير الترع وتقوية الشواطئ والجسور..."..
ولنذكر بعض الأمثلة كقطوفات من تاريخ الجبرتي (عجائب الآثار في التراجم والأخبار):-
1) بعض ما حدث بشهر ربيع الأول1226هـ: "وذهب الباشا (يقصد محمد علي) إلي الإسكندرية للإشراف علي شحن الغلال للمراكب الإنجليزية – وهناك أستدعي مشايخ وكبراء قبائل "أولاد علي" المستولين علي البحيرة وتحايل عليهم، فلما حضروا قبض عليهم وقرر عليهم أموالا عظيمة، وأرتهنهم وعوقهم وأرسل العسكر إلي قراهم ونجوعهم فنهبوا كل ما فيها من مواشي وغيره، وسبوا النساء والأولاد..".
2) "واستهل شهر جمادى الثانية سنة 1226هـ في عشرينه خرج الباشا إلى البركة وطلب الجمال وقوافل العرب وشهل طائفة من عسكر الباشا (يقصد محمد علي) للسفر إلى السويس فاهتموا بالدخول والخروج من المدينة وطفقوا يخطفون الحمير والبغال والجمال وكل ما صادفوه من الدواب ومن وجدوه راكبًا ولو من وجهاء الناس أنزلوه عن دابته وركبوها فانقبض الناس وانكمش غالبهم عن الركوب لمصالحهم وأخفوا حميرهم وبغالهم وأقام الباشا ثلاثة أيام جهة البركة ثم ركب إلى السويس..".
3) ومن دناءة خصاله وعدم حفظ عهده يقول الجبرتي: "وأصبح يوم السبت (بعد حادثة قتل المماليك) والنهب والقتل والقبض على المتوارين والمتخفين مستمر ويدل البعض على البعض أو يغمز عليه وركب الباشا في الضحوة ونزل من القلعة وحوله أمراؤه الكبار مشاة وأمامه الصفاشية والجاويشية بزينتهم وملابسهم الفاخرة والجميع مشاة ليس فيهم راكب سواه وهم محدقون به وأمامه وخلفه عدة وافرة والفرح والسرور بقتل المصريين ونهبهم والظفر بهم طافح من وجوههم - ومر علي (كذا وكذا ...) حتى دخل إلى بيت (الشيخ/ الشرقاوي) وجلس عنده ساعة لطيفة وكان قد التجأ إلى الشيخ شخصان من الكشاف المصرية فكلمه في شأنهما وترجى عنده في إعتاقهما من القتل وأن يؤمنهما على أنفسهما وقال له لا تفضح شيبتي يا ولدي واقبل شفاعتي واعطهما محرمة الأمان فأجابه إلى ذلك وقال له شفاعتك مقبولة ولكن نحن لا نعطي محارم وأنا أماني بالقول أو نكتب ورقة ونرسلها إليك بالأمان فاطمأن الشيخ لذلك ثم قام الباشا وركب وطلع إلى القلعة وأرسل ورقة إلى الشيخ بطلبهما فقال لهما الشيخ أن الباشا أرسل هذه الورقة يؤمنكما ويطلبكما إليه فقالا وما يفعل بذهابنا إليه فلا شك في أنه يقتلنا فقال الشيخ لا يصلح ذلك ولا يكون كيف أنه يأخذكم من بيتي ويقتلكم بعد أن قبل شفاعتي فذهبا مع الرسول فعندما وصلا إلى الحوش وهو مملوء بالقتلى وضرب الرقاب واقع في المحبوسين والمحضرين قبضوا عليهما وأدرجا في ضمنهم..".
ومن الناحية السياسية فإنه لم يكن لأي "مصري" كبير أو صغير أي رأي في إدارة البلاد من قريب أو بعيد، فقد تخلص (محمد علي) من الزعامات الشعبية أو الأهلية (كبراء الطوائف والمهن) بالترهيب والترغيب والإقصاء البدني والمعنوي... وقد شكل مجلسا للحكومة يسمي "الديوان العالي" ومجالس ودواوين أخري أبرزها مجلس الشوري (تشكل عام1829م)، أي بعد توليته بأربعة وعشرين عاما!!... ولم تكن تلك المجالس إلا شكلا ديكوريا يتباهي بهم أمام ممثلي الدول الأجنبية ويضفي علي حكمه الاستبدادي وضعا شرعيا...
وكانت معظم تلك المجالس ذات مهام تنفيذية لسياسات ورغبات العائلة الحاكمة، أما مجلس الشوري (المستمد أسما من الشريعة) فكان ينعقد مرة واحدة كل عام!!... ولم يكن من بين أعضائه مصري واحد!!!!!... ورغم قصوره وعجزه فقد تم حله بعد سنوات قليلة.."!!
وأما في مجال الثقافة زمن (محمد علي)، فقد أضعف الأزهر (بإسقاط هيبة رجاله واستقطابهم أو إقصاءهم وإبعادهم عن الجماهير)، وقام بوضع "القوانين الوضعية" (قانون الفلاح مثلا)...
واهتم بالنموذج "الفرنسي" في تثقيف طوائف منتخبة صغيرة السن تمهيدا لانسلاخها عن هويتها العربية الإسلامية...
وكان (محمد علي) مبهورا بجماعة القناصل الأوروبية والمستشرقين -ومنهم الفرنسي (آدم فرنسوا جومار)-، وأوكل لهم رعاية وتوجيه طلاب البعثات في فرنسا، وطلاب مدرسة الألسن في مصر، وأثمر ذلك عن تكوين قاعدة حزبية متفرنجة (متفرنسة) منسلخة تماما عن الواقع المصري وطبيعة سكانه..
ومن الناحية الاقتصادية في مصر، فإن (محمد علي) قام بـ "احتكــار" كافة موارد الدولة، فقد صادر الأراضي الزراعية ثم اقتطهعا لأفراد أسرته وحاشيته وكبار موظفيه من أكراد وشركس وأقباط وشوام، واضعا بذلك أساس "الإقطاع الزراعي".. كما أحتكر تجارة المحاصيل وتصديرها...
أما في الصناعة فقد لجأ إلي "الإحتكار الصناعي" أو "التحجير" بتحديد المنتجات شائعة الاستخدام وإحكام الرقابة علي المنتجين لها واحتكار شراء الناتج بأسعار يحددها ثم إعادة بيعها بالإجبار (إرغام مشايخ القرى والبلدان علي الشراء) بالأسعار التي يحددها...
ومن " المهازل " المالية التي صنعها (محمد علي) التلاعب في عملة البلاد المتداولة بتزييفها وزيادة سعر صرفها، وفي هذا يقول الجبرتي:-
"ومنها الزيادة الفاحشة في صرف المعاملة والنقص في وزنها وعيارها وذلك أن حضرة الباشا (يقصد محمد علي) أبقى دار الضرب على ذمته وجعل خاله ناظرًا عليها وقرر لنفسه عليها في كل شهر "خمسمائة كيس" بعد أن كان شهريتها أيام نظارة (المحروقي) "خمسين كيسًا" في كل شهر، ونقصوا وزن القروش نحو النصف عن القرش المعتاد وزادوا في خلطه حتى لا يكون فيه مقدار ربعه من الفضة الخالصة ويصرف بأربعين نصفًا (أكثر من المعدل العادي)!!"!!...
وبالنسبة للجانب الاجتماعي، فقد تحول المواطنون إلي رعايا سبايا منفصلين تماما عن السلطة الحاكمة والسلطة النافذة في أحوال البلاد..
فقد أحاط (محمد علي) نفسه بعصبة جديدة كبديل عن "عصبة المماليك" تكونت من أفراد عائلته وحاشيته والمقربين من الترك والألبان والكرد والشركس والأرمن والأوربيين ومن الشوام المسيحيين ومن يهود متخصصين في المال والأعمال...
حتي بعد اضطراره لتجنيد المصريين في الجيش لتحقيق طموحاته ومغامراته فقد قصر أعمالهم علي "الأعمال الوضيعة والخطيرة"، ورفض ترقيتهم إلي مقام "الضباط" المتوسط وليس العالي!!....
فحينما طلب منه (إبراهيم باشا) ترقية يعض أبناء البلاد الذين أبلوا بلاء حسنا في حروب الشام إلي رتبة "اليوزباشي -نقيب-"، كتب إليه قائلا: "من المعلوم يا ولدي أن مثل هذا العمل سوف تترتب عليه نتائج خطيرة علي الحكم ولو بعد مئة عام..."!!
كما أن (محمد علي) كان قد اشتهر بـ "مغامراته العسكرية التوسعية" التي أحسن فيها استغلال الفراغ الناشئ من ضعف مركز الخلافة العثمانية وتراخي قبضتها عن ولاياتها، وهو الأمر الذي فضحه وكشفه غزوة نابليون (1798 – 1801)، مما جعله يندفع بقوة لملء ذلك الفراغ..
وقد ينظر إلي تلك الأعمال العسكرية (المكلفة) علي إنها أعمال وقائية وضرورية لحماية مركز الإمبراطورية المخطط لتشيدها (وهي مصر المحروسة)، ولكن إجماع المؤرخين والمحللين أسقط تلك الفرضية ووضعها في أسبابها الحقيقية، وهي "المطامع الشخصية" غافلا مصلحة البلاد و ومهملا حقوق العباد...
وقد تحملت البلاد مغامرات "محمد علي" العسكرية بمواردها وبأرواح أبنائها دون محصلة عائد تذكر – ونلخصها نقاطها الرئيسية في الآتي:
(أ) استعان (محمد علي) بالخبراء "الفرنسيين" في تنظيم الجيش والبحرية، وكون جيشه من الأجانب الموالين بعيدا عن أولاد البلد المصريين الذين كان ينظر إليهم علي كونهم "فلاحين غير صالحين لأعمال القتال"، ثم أضطر إلي استخدامهم كجنود بعد فشل محاولته في تشغيل العبيد الزنزج الذين سباهم في فتوحاته لبلدان افريقيا وجنوب السودان...
وقد نجحت تجربته بحملته علي الجزيرة العربية (نجد) للقضاء علي (الوهابية) "معركة الدرعية"، الأمر الذي جعله يعتمد أخيرا على الجنود المصريين، لكن دون ترقية لمقام الضباط..
ويحضرنا هنا ما قاله (محمد علي) للسفير الفرنسي (بوالو كومت): "لم أفعل في مصر سوي ما فعله الإنجليز في الهند، فلديهم جنود هنود تحت أمرة ضباط إنجليز، ولديّ جنود عرب تحت أمرة وسيطرة ضباط من الترك!!!.....".
(ب) بدأ محمد علي مغامراته العسكرية لخدمة مركز الخلافة العثمانية في باديء الأمر، فقام بحملات عديدة على "ينبع" في الحجاز، و"الدرعية" في نجد حتي تمكن من التغلب علي فورة وثورة الوهابيين ودعم البيت السعودي لهم (مخافة انتشارها لباقي الولايات العربية) في الفترة من 1811 إلي 1819م...
ثم قام بفتح "السودان" وتدعيم الخزنة العثمانية بما يزرع فيه من قطن وأفيون ونيلة)...
ثم قام بإخماد الثورة اليونانية على الخلافة العثمانية في "المورة" عام 1824 – 1826م..
أما بالنسبة لحماية "عقيدة الدولة وهويتها" – فالدولة لم تكن دولة "مصر" بل كانت دولة "محمد علي"... فمشروعه الذي يحلو للبعض أن يسميه "نهضويا" قد تم بعيدا عن الشخصية المصرية والعقيدة الإسلامية والهوية العربية..
ومن الجدير بالذكر، أن مشروع (محمد علي) كان بداية "انسلاخ" مصر عن هويتها العربية وغرس مفهوم "العلمانية والتغريب" في تربة الأرض المصرية..
يقول (د/ فؤاد زكريا): "إن (محمد علي) هو أول علماني حقيقي في العالم العربي الحديث.".. وهو الأمر الذي أدي إلي فقد حماية الأمن القومي لمصر – ولباقي الدول العربية بالتبعية – بل ووصلت المهازل إلي استخدام (مصر) لاحقا كقاعدة لأكبر مؤامرة شهدتها الأمة العربية (مؤامرة "سيكس بيكو")..
فقد قام الإنجليز في بدايات الحرب العالمية الأولي بإستقطاب أولاد (الشريف حسين – شريف مكة -) (عبد الله وفيصل) في مباحثات ومحادثات بمصر – علي التوازي مع الأنشطة والأعمال التي قام بها الضابط (لورانس) انطلاقا من قاعدته بمصر في العراق والشام والجزيرة العربية والتي تمخضت عن "الثورة العربية" التي ساهمت في إسقاط "الخلافة العثمانية" ونتائجها الغير متفق عليها مثل تقسيم الشام (سوريا ولبنان وفلسطين والأردن) وتوزيع مناطق النفوذ بين فرنسا وإنجلترا وإصدار " وعد بلفور" الشهير...
ولم تعد "مصر" إلي مظلتها العربية إلا مع قدوم الحرب العالمية الثانية وتعالي دعاوي "القومية العربية" والدعوة إلي "مشروع جامعة الدول العربية" الذي بدأ علي يد حكومة "الوفد" المصرية (النحاس باشا)..
ومن الغريب أن يغفل المؤرخون دور (محمد علي) في تفعيل "الحركة الصهيونية" في فلسطين. فقد ظل النشاط التبشيري محصورا مقيدا في الشام وفلسطين بسبب معارضة الخليفة العثماني من ناحية، ومن ممانعة السكان المسلمين وعدم توفر الأمن للبعثات من ناحية أخري... وبقدوم (محمد علي) وسيطرته علي الشام قام بتأمين عمل تلك الإرساليات ورفع القيود عن النشاط اليهودي، وسمح للإنجليز ببناء قنصلية لليهود ببناء "كنيس" لهم في القدس الشريف، كما سمح لجمعية يهودية إنجليزية "جمعية يهود لندن" بحرية العمل والتبشير في فلسطين... بإختصار، كانت بداية رسوخ النبتة الصهيونية الطفيلية في أرض فلسطين العربية عمليا وفعليا في عصر (محمد علي باشا)!!!
لم تكن "مصر" بالنسبة لـ (محمد علي) سوى أرض "إقطاعية ومجموعة من الرعايا يسكنونها"، ينطبق عليها قول المؤرخين العرب:
(( مصر أرضها لمن كلب (غلب) ))
لذا فقد كان مشروعه الذي سمي "نهضويا" في حقيقته ليس إلا مشروعا استثماريا شخصيا له ولأسرته، جاءت بعض فوائدة بالمصادفة والتبعية ليستفيد بها الشعب المصري، مثل (إنشاء مدرسة الهندسة ومدرسة الحربية ومدرسة الألسن وبناء الترسانة البحرية وإرسال البعثات إلي فرنسا وبناء الجيش المصري وتأهيل أولاد البلد علي أعمال القتال المحترفة بالتجنيد في الجيش النظامي)..
وما قام به (محمد علي) من تعليم وتحديث كان هامشيا غير متجذر وهو الأمر الذي أدي إلي سهولة انتكاسه وانحداره وعدم استمراره..
- فالتعليم أرتكز علي الأجانب دون مشاركة فعلية حقيقية لأبناء البلاد لتفريخ كوادر مستقبلية تحقق الاستمرارية.
- واختيار صغار السن لفرض التعليم المتفرنس لم يكن بغرض سهولة التهيئة وقوة الاستيعاب بقدر ما كان لسهولة قطع "جذورهم" عن أصولهم.
- أنعدم التأهيل السياسي لأبناء الوطن – لعدم وجود مؤسسات سياسية فعلية من أصله – ولقصر تلك الأمور علي العائلة والمقربين من ترك وأمثالهم في البلاد الأوربية.
- إنعدام التأهيل العسكري الراقي لأبناء الوطن – لقصر عمل المصريين بالجيش علي أعمال الجند التنفيذية وعدم السماح لهم بالترقية لمقام الضباط. (ويلاحظ أن إتاحة الفرصة للمصريين للالتحاق بسلك الضباط قد تم بناء علي ضغوط من حزب الوفد (لاحقا) وهو الأمر الذي أثمر عن تفريخ ضباط ثورة يوليو 1952)..
والخلاصة ... أنه وكما قلنا، أن مشروع (محمد علي) لم يكن مصريا وطنيا أو صاحب عقيدة "إسلامية" وهوية "عربية" بل كان مشروعا شخصيا بدأ تخليقيا صناعيا منذ بدايات حكمه عام 1805 وصعد إلي قمته في أربعينات القرن التاسع عشر، ولكنه أنحدر بنهاية (محمد علي شخصيا) عام 1849م.. أي أنها كانت أقصر "دورة حياة" مشروع إمبراطوري في التاريخ (Empire Life Cycle)..
كذلك في تناولنا لعلاقات (محمد علي) بالدول الأخرى، فإنها لم تكن أكثر من مجرد خضوع (محمد علي) للضغوط الأوربية ومنحه الأمتيازات لرجال المال والأعمال الأجانب وحرية عمل البعثات التبشيرية التي أثمرت لاحقا عن سقوط أولاده وأحفاده تحت طائلة الديون والوقوع فرائس سهلة بين أنياب الاستعمار المالي الأوربي...
أما في "فلسـطين"، فقد نمت وتوحشت النبتة الطفيلية الصهيونية حتي استولت علي فلسطين العربية..
وجاء في ميثاق الجمهورية الأولي عام 1962:-
"إن (محمد علي) لم يؤمن بالحركة الشعبية المصرية التي مهدت له حكم مصر إلا بوصفها نقطة وثوب إلي مطامعه، ولقد ساق مصر وشعبها وراءه إلي مغامرات عقيمة استهدفت مصالح الفرد بتجاهله مصالح الشعب..".
وأخيرا .. لقد تعامل (محمد علي) وأسرته مع مصر وشعبها كـ " إقطاعية خاصة ورعايا سبايا "، يوضحها حديث الخديوي (توفيق) إلي (أحمد عرابي) حينما طالبه بإصلاحات سياسية مثل إسقاط وزارة رياض باشا، وتشكيل وزارة وطنية، وقيام مجلس نيابي حديث، حين قال: "كل هذه الطلبات لا حق لكم فيها، وأنا ورثت ملك هذه البلاد عن آبائي وأجدادي، وما أنتم إلا عبيد إحساننا."!!!!!!!!!
هل الشعب المصري "عبيد الإحسان" لعائلة جندي (عثماني) أميا -لم يكن متعلما-، بدأ حكمه بمغامرة وانتهت بالخسران والبهتان كنتيجة مقامرة، وحتى من جاء بعده سلك نفس المسلك وذات المنهج ولكن بثقافة فرعون وقارون وهامان..
وكان أجدر بأهل مصر أن يقولوا بدل التمشدق بانجازات (محمد علي) الذي تعامل معهم كالسلعة التجارية الرخيصة، كان من الأجدر أن يقولوا ما قاله الفلاح المصري الشرقاوي (أحمد عرابي) في رده على الخديوي (توفيق):
"لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم.."!!
كذلك فإن دور الأوروبيين في تمهيد الطريق لحكم (محمد علي باشا) كان أشد ما يظهر من الوضوح في اتصالاته الواسعة مع الإنجليز والفرنسيين والروس.. ومن ذلك مثلاً ما قاله المؤرخ الوطني المصري الشهير (عبدالرحمن الرافعي) عن أن ابراهيم بن محمد علي باشا في حملته على معقل الوهابية في "الدرعية": "استعان بخبرة الأوروبيين في الحروب، فاصطحب معه في الحرب الوهابية طائفة من الإفرنج منهم الضابط الفرنسي (فيسيير -أحد ضباط أركان الحرب-)، وهذا أمر لم يكن مألوفاً ولا سائغا بين قواد الشرق في ذلك العهد)!!!