بعد فترة وجيزة في ذلك العام (1944) الذي أسَرَتني فيه ميشلين ليندل في دور أليس ، اختبرتُ تجربةً مسرحيةً استثنائيةً أخرى . فقد أعلنتْ أمي أنّ جون جيلغود سوف يزور القاهرة لتمثيل دور " هاملت " في دار الأوبرا . " يجب أن نحضر " ، قالت بتصميمٍ سرعان ما انتقلتْ عدواه إليّ ، وسرعان ما اتخذتُ الإجراءات المناسبة ، مع أني لم أكن أعرف من هو جون جيلغود أصلاً . كنتُ في التاسعة آنذاك وقد بدأتُ للتو في التعرّف إلى نتف من تلك المسرحية في مجلّد القصص الشكسبيرية من تأليف شارلز وماري لامب ، وكنتُ قد تلقيتُه هديةَ عيد الميلاد لبضعة شهور خَلَتْ . وكانت فكرة أمي تتلخّص في أن نقرأ المسرحية تدريجياً معاً ، من أولها إلى آخرها . ولهذا الغرض أُنزِلَ من فوق الرفّ كتابُ الأعمال الكاملة لشكسبير المجموعةِ في مجلدٍ واحد . وكان تجليدُه بالجلد المغربيّ الأحمر ، والورقُ الرقيق المعرّق الذي طُبع عليه الكتابُ ، يجسِّدان بالنسبة إليّ كلَّ ما هو فخمٌ ومثير في أيّ كتاب . وقد زادت من فخامته الرسومُ ( بالقلم الرصاصِ أو الفحمِ ) التي تزّين المسرحيات ، وقد زُيّنتْ مسرحية " هاملت " برسم بالغِ التوتر لهنري فوزيلي يبدو فيها أميرُ الدنمارك وهوراشيو والشبح كأنهم يتصارعون في دوّامةِ الوقع المسرحيّ لنبأ الاغتيال وفي ردود فعلهم الهائجة عليه .
جلسنا أنا وأمي في مقدمة غرفة الاستقبال نقرأ في " هاملت " معاً ، هي في كرسيّ كبير ذي ذراعين وأنا على متَّكَأ إلى جانبها ، وإلى يسارها نارٌ خفيفة يتعالى دخانها في الموقدة . هي مثّلتْ دور جيرترود وأوفيليا ، وأنا مثّلتُ أدوار هاملت وهوراشيو وكلاوديوس . ولعلها اختارت أن تمثّل أيضاً دور بولونيوس تضامناً مع أبي الذي غالباً ما كان يَسْتشهد واعظاً : " لا تكن مَدِيناً ولا دائناً " ، تذكيراً لي بمدى خطورةِ أنْ أُعطَى المال لإنفاقه على هواي . قررنا حذفَ كل مقطع " المسرحية داخل المسرحية " لبالغ تنميقه وتعقيده . ولعلنا عقدنا أربع جلسات على الأقل ، أو ربما خمساً أو ستاً ، نتشارَك في كتاب واحد ، نقرأ محاولين اكتناه معاني المسرحية ، متوحِّدَيْن كلياً خلال أربعة أصائل بعد المدرسة ، مستبعديْن القاهرةَ وشقيقاتي وأبي استبعاداً تاماً .
فهمتُ الحوارات بطريقة شبه واعية فقط ، مع أني استوعبتُ وضع هاملت الأساسيَّ : ثورَته على مقتل والده ، وزواجَ أمه من جديد ، ومراوحاته الكلاميةَ اللامتناهية . ورغم أنني لم أكن أدري معنى لنكاح المحارم والخيانة الزوجية ، فإني لم أجرؤ على أن أسأل أمي عنهما ، ذلك أنّ تركيزها الشديد على المسرحية جعلها تنكفئ على نفسها وتنأى عني بعيداً . وأكثر ما أذكره تغيُّرُ صوتها العادي إلى صوتٍ مسرحيّ جديد عندما كانت تمثّل دور جيرترود : يعلو صوتُها ويرقّ ويتدفق منها الكلامُ على نحوٍ استثنائيّ . والأهم من ذلك أنها تكتسب نبرةً ساحرة ، مغريةً ومهدِّئة : " عزيزي هاملت " ، وكانت تخاطبني أنا بالتأكيد لا هاملت : " اَطرحْ عنك اللونَ اللَيليَّ ولتنظرْ عيناك إلى الدنمارك كصديق " . فأشعر إذذاك أنها تخاطب ذاتي الفضلى ، الأقلَّ إعاقةً ، ذاتي التي لا تزال نضرةً ، ربما على أمل أن تنتشلني من جنوح حياتي المدمن ، وقد أثقلتْها الهمومُ والهواجسُ التي بتّ متيقِّناً من أنها تتهدد مستقبلي .
كانت قراءةُ مسرحية " هاملت " بما هي تأكيد على مكانتي عندها - لا بما أنا كائن فاقد القيمة ، كما كنتُ أرى إلى نفسي - واحداً من أروع أوقات طفولتي . كنا صوتَين ، واحدنا للآخر ، روحيْن متحالفتيْن بسعادةٍ من خلال اللغة . لم أكن واعياً للديناميات الداخلية التي ربطتِ الأميرَ اليائسَ بالملكة الخائنة في متن المسرحية ، ولا أنا استوعبتُ الغضب الذي يتملّكهما في المشهد الحواريّ بينهما إثر مقتل بولونيوس عندما تولى هاملت عملياً سلخَ جلْدِ جيرترود . تجاوزنا معاً ، في القراءة ، هذه اللحظات كلها ؛ فقد كان كلُّ همّي ، في طريقةٍ غير هاملتية على نحوٍ غريب ، أن أستطيع الاعتماد عليها لتكون كائناً تجذب مشاعرُه وعواطفُه مشاعري وعواطفي دون أن تكون أكثر من أمٍ حنون تهدئ من روعي بعذوبة فاتنة . لقد خلّفتْ ورائي الإحساس بأنها كانت تقصِّر في واجباتها تجاه ابنها ، وأخذتُ أشعر أنّ تلك القراءات إنما تؤكِّد عمقَ الأواصر التي تشدنا واحدنا إلى الآخر . ولسنوات احتفظتُ في ذاكرتي بجَرْس صوتها الأعلى من المعتاد ، وبالاتزان الواثق في سلوكها ، وبحضورها المبلسِم والصابرِ على نحو حاسم بوصفها متاعاً يتعيّن عليّ التشبّثُ به مهما كلّف الثمن . غير أنّ تلك الذكريات ما لبثتْ أنْ تقلّصتْ مع تزايد حوادث الجنوح عندي وتعاظُمِ تهديدها لي بطاقاتها على التدمير والتعطيل .
وعندما شاهدتُ المسرحية في دار الأوبرا ، كدتُ أقفز من مقعدي عندما أَعلن جيلغود : " يا ملائكة النعيم ويا أيها الرسل الإلهية ، هُبّوا إلى نجدتنا " ، لإحساسي أنه تكريسٌ عجائبيٌّ لما قرأناه قبلاً وحدنا أنا وأمي . رَجْعُ الصدى الراعش لصوته ، والمسرحُ المُعتم تَعْصف به الرياحُ ، وحضورُ الشبح يلتمع من بعيد ، بَدَتْ كلُّها وكأنها قد بَعَثت الحياةَ في رسم فوزيلي الذي درسته مطولاً ، وإذا بها تَرْفع مداركي الحسيّة إلى ذروة لا أعتقد أني اختبرتُ واحدةً بمثل كثافتها في ما بعد . على أنّ الذي ثبّط همتي هو المفارقات الجسمانية بيني وبين شخصيات الرجال في المسرحية ، وقد استظهرتْ سراويلُهم المزنّقة ، الخضراءُ والقرمزيةُ ، سيقانَهم المجدولةَ والتامةَ التقاطيع ، فبَدَتْ كأنها تَسْخر من ساقيّ الطويلتين الهزيلتين الفاقدتي الشكل ومن مشيتي العديمة الرشاقةِ وحركاتي الخرقاء . فكل شيء في جيلغود والرجل الأشقر الذي مثّل دورَ لايرتيس يوحي باليُسر والثقة - وهما بطلان إنكليزيان ، في نهاية المطاف - ، وهذا ما خَفضني إلى موقع دونيّ وعطّل قدراتي على الاستمتاع بالمسرحية . بعد بضعة أيام ، عندما لبّيتُ دعوةَ زميل الدراسة الانكلو- أميركيّ طوني هاوارد للقاء جيلغود في منزله ، كان كلُّ ما استطعته هو أن أمدّ إليه يداً رخوة في مصافحة صامتة. واكتفى جيلغود ، الذي كان يرتدي سترة رمادية ، بأن شدّ على يدي الصغيرة مع شبه ابتسامة ملوكية ، ولم يتفوّه بكلمة .
لا بد أنّ ذكرى تلك الأصائل التي قرأنا فيها " هاملت " في القاهرة هي التي أثارت حماس أمي مجدداً للذهاب إلى المسرح معي ، خلال السنتيْن أو السنوات الثلاث الأخيرة من حياتها . والحدث الأشدّ انطباعاً في ذاكرتي هو ماجرى عند وصولها إلى لندن من بيروت في طريقها إلى الولايات المتحدة لاستشارة أحد الأخصّائيين ، وقد باتت إصابتُها بالسرطان في طورٍ متقدم ، فاستقبلتُها على المطار ورافقتُها إلى فندق " براون " لتقضي فيه ليلتها . ومع أنها لم تكن تملك أكثر من ساعتين لتتهيأ وتتناولَ وجبة عشاء مبكرة ، فقد وافقتْ بلا تردد على اقتراحي أن نشاهد فانيسّا ريدغريف وتيموثي دالتون يمثِّلان انطوني وكليوباترا على مسرح هايماركت . كانت المسرحية الطويلة ضعيفةَ الوقع ومتواضعةَ الإنتاج ، ومع ذلك فقد سمّرَتْها في مكانها بطريقةٍ أدهشتني . فالحال أنها ، بعد أن مرّت عليها سنواتُ الحرب اللبنانية والغزو الإسرائيليّ ، أضحت سريعةَ التشتت الذهنيّ ، وغالباً ما كانت مشاغبة ومهمومةً بصحتها ومصيرها . غير أنّ كل ذلك اختفى حين كانت تشاهد وتسمع أبيات شيكسبير - " كانت الأبدية في شفتَينا والعينين ، والنعيمُ في حواجبنا المقوّسة " - ، كأنّ الممثلين كانوا يَلْهَجون بتلك الأبيات بلهجة القاهرة زمنَ الحرب ، وقد عُدنا إلى شرنقتنا الحميمة ، صامتيْن مركِّزَيْن ، نتشارك اللغةَ والاتصالَ رغم الفارق في السنّ ، ورغم أننا أمٌّ وولدُها لآخر مرة . فبعد ثمانية شهور ، بدأتِ انحدارَها النهائيَّ في المرض الذي قتلها . لقد غزا الورمُ السرطانيُّ دماغَها ، وقبل أن يُفقِدها النطقَ ، قبل شهرين من وفاتها ، سبّب لها الهلوسةَ عن مؤامرات تحاك حولها ، ودَفَعَها من ثم إلى أن توجِّه إليّ آخر قول حميمٍ واع :" ياطفلي الصغير المسكين " ، وهي عبارة لفظَتْها باستسلامٍ حزين أمٌ تُلْقي تحية الوداع الأخيرة على ابنها .
حين كنت يافعاً تمنيتُ دائماً لو كانت هي التي تشاهدني ألعب كرة القدم أو التنِس ، أو لو كانت هي التي تتكلم إلى أساتذتي ، متخلّيةً بذلك عن شراكتها لأبي في برنامجهما المشترك الهادف إلى إصلاحي وتحسيني . وبعد وفاتها ، وتوقفي عن كتابة رسالتي الأسبوعية إليها وعن اتصالي الهاتفيّ اليوميّ ( عندما كانت في نيويورك تعالج مرضها ) ، احتفظتُ بها ، في كل الأحوالِ ، رفيقاً ولو صامتاً . أن تَحْملني في ذراعيها عندما ترغب في هدهدتي وملامستي ، أنا الطفلَ الصغيرَ : كان ذلك هو النعيم الحقيقيّ . على أنه لم يكن لي أن أسعى إلى مثل هذا الاهتمام سعياً ولا أن أطالِبَ به مطالبة؛ فأمزجتُها هي التي كانت تتحكم بأمزجتي . وأَذْكر أنّ أحد الأمزجة الأكثر هجساً في طفولتي ومراهقتي المبكرة كان يدور حول محاولتي ، دونما دليلٍ ولا نجاحٍ على الإطلاق ، حَرْفَها عن لعب دور وكيلة الأعمال وتحدِّيها لكي تمنحني التأييدَ والدعم . ومهما يكن ، فإنّ عملاً أَجَدْتُه ، ومقطعاً عَزَفْتُه عزفاً متقناً على البيانو ، قد يولِّدان تحولاً فجائياً في ملامحها وارتفاعاً درامياً في نبرة صوتها ، فتفتح ذراعيْها واسعتيْن ، فأحبس أنفاسي فيما هي تغمرني قائلة : " برافو ، إدوارد ، يا ولدي الحبيب ، برافو ، برافو . دعني أقبِّلك " . ولكنها في معظم الأحيان ، كان يحدوها الشعورُ بالواجب كأمٍ وربّةِ بيت ، بحيث كان صوتُها العادي في تلك السنوات الذي أحتفظُ به في الذاكرة أيضاً هو الصوتَ الآمرَ الناهي : " تمرّنْ على البيانو يا إدوارد ! " ؛ " عُدْ إلى فَرضك " ؛ " كفى مضيعةً للوقت : باشِرْ كتابة موضوع الإنشاء " ؛ " هل شربتَ كأس الحليب ، وعصيرَ البندورة ، وزيتَ السمك ؟ " ؛ " أَنْهِ أكلَ ما في صحنك " ؛ " مَنْ أكل الشوكولاته ؟ علبة كاملة اختفت . إدوارد ! " .


انتهى الفصل الثالث
يتبعه الفصل الرابع ... إن شاء الله

اشكر كل من يشجعنا على إكمال هذه المذكرات الغنية بالكثير، وكل من يتابعنا في قراءتها

الفصل الرابع
هيمنت قوة أبي المعنوية والجسدية على طفولتي ونشأتي. كان له ظِهرٌ ضخم وصدر برميليٌّ نافر، يوحي بالعصيان، رقم قصر قامته، ويوحي بالثقة الطاغية، بالنسبة إليّ على الاقل. على أن أبرز صفاته ال جسدية مشيتُه المتيبِّسة كقضيب والمنتصبة على نحوٍ يكاد أن يكون كاريكاتوريا. إلى هذا، وبالمقارنة على جُبني وخجلي الانكماشيين والعصابيْن، كان يتمتع بنوع من التِيه يناقضني تناقضاً صارخاً، إذ لا يبدو أنه يخشى اقتحام أي مكان أو الإقدام على أي فعل –وهما أكثر ما أخشاه. ولم يقتصر الأمر على أني لم أكن مقداما، كما كان عليّ أن أكون في لعبة كرة القدم المشؤومة، وإنما كنت اتحاشى جدّياً نظرَ الناس لشدة تحسسي لتواقصي الجسمانية اللامتناهية وأنا مقتنع تمام الاقتناع بأنها جميعاً انعكاسٌ لنواقصي الجوانية. وكان أصعب الصعاب عندي أن ينظر اليّ الناس وأن أقابل نظراتهم بمثلها. وقد ذكرتُ ذلك لأبي وأنا في حوالي العاشرة فقال:" لا تنظرهم عيناً في عين، بل إلى أنوفهم أنظر"، فسلمني بذلك تقنية سرية استخدمتها عقوداً من الزمن. وعندما بدأتُ التدريس، بُعيد تخرجي في أواخر الخمسينيات، وجدتني مضطراً إلى خلع نظارتي لكي يتحول الصف كتلة ضبابية يتعذر علي تميز اي شيء فيها. ولا أزال الى الان أجد صعوبة لا تطاق في أن أشاهد ذاتي على شاشة التلفزة، بل حتى أن أقرا ما يُكتب عني.

عندما كنت في الحادية عشرة حال هذا الخوف من نظر الناس دون اقدامي على أمرٍ كنتُ أرغب فيه بكل جوارحي. فقد كنتُ أحضر حفلتي الثانية أو الثالثة في دار الأوبرا القاهرية، التي هي نسخة مصغرة عن العمارة المهيبة التي بناها "غارنييه" في باريس وتكرّست فيها أوبرا "عايدة". وقد أثارتني الطقوسية الرسمية للمسرح وللبشر المتهندمين، كما أثارتني الموسيقى ذاتها من حيث الأداء والانضباط الشكلاني. على أن ما أثار فضولي بنوع خاص هو حلبة الفرقة الموسيقية، تتوسطها منصّة القائد وعليها دفتر المقطوعات الموسيقية الكبير المفتوح وعصا القائد الطويلة، فأردتُ إلقاء نظرة مقربةٍ عليها خلال الاستراحة، نظرةٍ لا تتيحها مقاعدنا الواقعة في المقصورة الوسطى. استأذنتُ أبي:" هل بي أن ألقي نظرة عليها؟" فأجاب "هلم انزل الى هناك". فجأة، دهمتني فكرة أن اجتيازي الصالة منفرداً مهمةٌ مستحيلةٌ. كنتُ أشد خجلا من أن أفعل ذلك، فقد كانت هشاشتي الجسمانية إزاء النظرات المتفحصة بل الشاجبة، عظيمة جدا. "حسناً" قال، وقد ضاق ذرعاً بي، "أنا ذاهب". وإذا به يقتحم الممر ويختال اختيالا فلي طريقه الى المنصة التي بلغها ببطء شديد ومتقصّد. ثم، لزيادة ازعاجي، أخذ يتظاهر بأنه يقلّب صفحات دفتر المقطوعات الموسيقية، وتعلو وجهه علامت الفضول والتحدي. فغُصتُ أكثر فأكثر في مقعدي ولم اسمح لنفسي بأكر من التلصص من فوق الدرابزون، عاجزا عن تحمل الاحراج بل الخوف، المزدوج: من استعراضية أبي، ومن خجلي الانكماشي.
وفّر لي دفء أمي السائغ الفرصة النادرة لأكون الشخص الذي كنت أشعر حقيقة اني إياه، بالمقارنة مع "إدوارد" الفاشل في المدرسة والرياضة والعاجز عن مجاراة الرجولة التي يجسّدها أبوه. على أن علاقتي ما لبثت أن ازدادت إلتباساً مع الوقت، وصارت ادانتها لي أشد تدميراً من الناحية العاطفية من تنمُّر أبي وتأنبيه. ذات أصيل من يوم صيف في لبنان، وأنا في السادسة عشرة، أي في سن كنت احتاج فيها الى عطفها اكثر من اي سن أخرى، اطلقتْ حكماً على جميع أولادها لن أنساه ما حييت. كنت عائداً من سنتين تاعستين أمضيتهما في "ماونت هيرمون" ((جبل حرمون))، وهي المدرسة الداخلية القمعية في "نيو إنغلاند" وقد اكتسب ذلك الصيف، سيف 1952، أهميةً استثنائية بالنسبة إليّ لأنه سوف يسمح لي بقضاء بعض الوقت برفقتها. وقد اعتدنا الجلوس معاً بعد الظهر، نتجاذب أطراق الحديث بحميمية، ونتبادل الأخبار والآراء. وفجأة قالت: "أولادي خيّبوا أملي جميعاً كلهم بلا استثناء". لم أستطع، لسبب ما، أن احمل نفسي على القول:" هذا لا ينطبق عليّ بالتأكيد". أنا المكرّس بصفتي ابنها المفضل الى درجة أنها خلال السنة الأولى من غيابي عن البيت كانت –على ما أبلغتني شقيقاتي- تترك مكاناً لي إلى المائدة في المناسبات الهامة، مثل عيد الميلاد، ولا تسمح لأحدٍ بأن يستمع الى سيمفونية بتهوفن التاسعة، قطعتي الموسيقية الأثيرة.
"لماذا؟" سألتُ، "لماذا تحملين هذا الشعور تجاهنا؟". فزمّت شفتيها وازدادت انكماشا، جسداً وروحاً. "رجاء قولي لي لماذا" ألححتُ في السؤال "ما الذي فعلته ]لأستحق ذلك[؟"
"ربما ستعرف السبب يوما ما، ربما بعد مماتي. ولكن من المؤكد أنكم جميعا بمثابة خيبة كبيرة" ولسنوات كررتُ السؤال دون جدوى: فقد ظلت أسباب خيبتها فينا، منثم فيّ أنا شخصياً، وسرها الدفين، وسلاحاً في تراسانتها تٌشهره للتلاعب بنا وإفقادنا التوازن وبذر الشقاق بيني و بين شقيقاتي وبيننا وبين سائر العالم. هل كان الامر دوما على هذا النحو؟ فما معنى ظني السابق، والحال هذه، بأن حميميتنا راسخة إلى حد أنها تحتمل بعض الشكوك ولكنها لا يقل ان تسف مكانتي لديها؟ والآن، إذ أستعيد علاقتي الصريحة والعميقة بأمي، رغم فارق السن، أدرك تلك المراوحة النقدية فقد لازمتها على الدوام.
خلال أيام "اعدادية الجزيرة" نَمَت بيني و بين شقيقتي الكبريين، روزي وحين ببطئ بل بطريقة خفية، علاقة تنافسية سخّرتها أمي بمهارة للتحكم والتلاعب بنا. كنتُ أكنُّ شعوراً حانياً تجاه روزي، الاصغر مني سناً والأقل لياقةً بدنية، فأساعدها وأدللها وأعانقها بانتظام فيما نحن نلعب معاً على الشرفة، وأعرّضها لثرثرتي المتواصلة، التي ترد عليها بالبسمات والضحكات المكتومة. وكنا نسير معا الى "إعدادية الجزيرة" ثم ننفصل عند الوصول لأنها في صف أدنى من صفي. وكان لروزي العديد من الصديقات الصغيرات المقهقهات –شهيرة وناظلي وناديا وفيفيت- وأنا لي زملائي "المحاربون" أمثال ديكي كوبر أو غِي موسيري. غير أنها بسرعة فرضت على الاخرين الاعتراف بها فتاة "عاقلة"، وأما أنا فرُحتُ أهيم على وجهي في أرجاء المدرسة حاملاً شعوراً متزايداً بالغمّ والتمرّد والشرود والتوحّد.
تبدأ الخلافات بيننا بعد العودة من المدرسة، مترافقة مع انفصالنا الجسماني القسريّ: لا استحمام معاً، ولا معاركة او معانقة، السكنى في غرف منفصلةوالخضوع لأنظمة متباينة علما أن الساري عليّ كان الأشد من حيث الوقْع الجسماني والانضباط. وإذ تعود أمي الى البيت، تأخذ في مناقشة سلوكي بالمقارنة مع سلوك أختي الصغيرة: "أساتذتها مجمعون على أنها تبلي بلاء حسناً" وسرعان ما تحوّلت هي نفسها –الفائقة الجمال في ضفائرها الصهباء الكثة- من نسخة مصغرة ومستتبعة لروزي الى فتاة "عاقلة" هي الاخرى، لها حلقتها الخاصة من الصديقات الشبيهات بها. وقد استحقّت هي أيضا ثناء إدارة "إعدادية الجزيرة"، في الوقت الذي واصلت فيه انحداري في "التعيير" المستدام، وهو المصطلح الإنجليزي الذي لازمني منذ سن السابعة. تقاسمت روزي وجين غرفة واحدة، تفصل غرفة الوالديْن بينها وبين غرفتي النزوية في نهاية الممر. وانتقلت جويس وغريس (اللتان تصغرانني بثمانية اعوام وأحد عشر عاماً على التوالي) من السكنى في الشرفة المزججة الى احدى الغرف المستحدثة، بعد أن أعيد تصميم الشقة لتتسع لنمو الأولاد.
كان الباب المغلق لغرفة روزي وجين يِرْمز الى الهوة الجسمانية كما العاطفية الآخذة في الاتساع تدريجياً بيننا. حتى إن أمراً جازماً صدر بمنعي منعاً باتاً من دخول غرفتهما، وإذاعة أبي بحزم، وأخذ يُشرف على تنفيذه بين الحين والآخر، وقد بات منحازاً انحيازاً سافراً إلى شقيقاتي، حامياً وراعياً، فيما رحتُ أنا أتلبس تدريجياً دور الاخ ذي النوايا المريبة، وهو دور ورثْتُه من أخوالي، على ماكان الوالد يظن. وكان يقال لي دائماً "يتوجب عليك حمايتهن"، ولكن بلا نتيجة تذكر. فأنا في عين روزي خصوصا ً وحش مفترس وفريسة في آن، تستدرجني أو تستفزني لدخول غرفتها لتقذفني هي وجين بالمماحي ولتضرباني على رأسي بالمخدات ولتصرخا في وجهي برعب واستمتاعٍ خطير. وكانت شقيقتاي شغوفتين بالدراسة والمذاكرة، في المدرسة كما في البيت، في حين كنت أؤجل تلك النشاطات باستمرار، لتعذيبهما، أو أهدر الوقت إلى أن تعود أمي لتواجه جعجعةً من التُهم والتهم المضادة مدعمةً بالكشف عن كَمدات فعلية او التباكي على عضّات حقيقة.

مع ذلك لم يقع الانفصال بيننا قط، ذلك أننا استمتعنا نحن الثلاثة، على مستوى ما بالتفاعل المتبادل الناجم عن المزاحمة بين الاشقاء، مزاحمة نادرا ما بغلت حد العداء، فكانت شقيقتاي تستعرضان سرعة الخاطر او المهارة المميزة في لعبة "الإكس" فأجاريهما فيها. أما في ألعاب لا تُنسى مثل "الغمّيضة" أو "عسكر وحرامية" أو لعبة كرة قدم خرفاء في حيّز ضيّق جدا، فقد كنت اشتغل فيها طول قامتي او قوتي البدنية النسبية. وبعد أن حضرنا معا "سيركوتونيي" وقد ترك مروّض الأسود فيه انطباعا قوياً لديّ لسلطويته وتفاحله، رحتُ أقلد وصلته في غرفة الفتيات، صارخا في وجهيهما بأموامر من نوع: "إلى مكانك، كاميليا!" ملوّحا بسوطٍ وهميٍ، دافعا الكرسي بقوة في اتجاههما. وقد سُرّتا أشد السرور للمزحة التمثيلية، بل صدر عنهما زئيرٌ عذب وهما تتسلقان السرير الو المزينة برشاقة لا كبير صلة لها برشاقة فصيلة السنّوريات.

على أننا لم نتعانق مرة كما هي عادة الاشقاء والشقيقات. فعلى مستوى ما دون الوعي هذا، كنت اشعر بانكماش متبادل، مني تجاههن ومنهن تجاهي. ولا تزال تلك الهوة الجسدانية قامة بيننا إلى الآن، ولعلها اتسعت عبر السنين بسبب أمي.
فقد كانت عند عودتها بعد الظهر من "نادي القاهرة للنساء" تتدخل بيننا لا محالة. فيعرضني جنوحي للتقريع المتزايد" ألا أستطيع أبدا أن أتركك مع شقيقاتك دون أن تشاغب؟". تلك هي اللازمة، وعادة ما يتبعها الملحق المرهوب" أنتظر حتى يعود أبوك". فبسبب من ذلك الحرم شكلاً عدوانيا يتضمن اللكم وشد الشعر والقرصة الشريرة بين الحين والآخر. وكان لا بد أن يتبرع أحدهم بالـ "إبلاغ" عني فيتم منثم تعييري disgraced – بالانجليزية- وفرضُ العقوبات الصارمة علي، منعا إضافيا من الذهاب الى السينما، أو تخفيضا كبيراً في خرجيّتي، أو كان أبي في الحالات القصوى يضربني.
يتبع إن شاء الله...

عظم هذا من احساسنا بمكانة الجسد المميِّزة والإشكالية. كانت ثمة هوة تفصل بين الصبي والبنت حُرِّم علينا نقاشها أو سبر أغوارها او حتى الافصاح عنها طوال فترة المراهقة الحرجة. وإلى حين بلوغي الثانية عشرة، لم تكن لدي فكرةٌ إطلاقاً عما تتضمنه العملية الجنسية بين الرجل والمرأة ولا كنت اعرف الكثير عن تكوين جسد هذا او تلك. ولكن فجأة نفرت عبارات مثل "سروالَك الداخلي" و"سروالِك الداخلي". "نستطيع أن نرى سروالَك الداخلي" تعيِّرني شقيقاتي فأرد بتهور أكيد: " بل أنا أستطيع أن أرى سراويلكن الداخلية". وأذكر بوضوح تام أننا أُمرنا بإغلاق الحمام ضد المتطفلين من الجنس الآخر، علما أن أمي كانت تحضر دوما عند تبديلي ثيابي، أو عند تبديل شقيقاتي ثيابهن. وأطنها كانت تدرك إدراكاً تاماً المزاحمة بين الأشقاء وإغراءات الشذوذ المتعدد الأشكال المحدقة بنا. على أنني كنتُ دوما أشتبه في أنها كانت تلعب على تلك الغرائز والنوازع وتستخدمها لبذر الشقاق بيننا بتشديدها على الفوارق وتضخيمها نواقص واحدنا للآخر على نحو دراميّ، بحيث تُشعرنا أنها وحدها مرجع كل منا وصديقه الصدوق وحبه الأغلى. والمفارقة في الامر أني ما أزال أصدق انها كانت ذلك كله. وكان على كل شيء بيني وبين شقيقاتي أن يمر عبرها، وكل ما أقوله لهن يجب ان ينبع من أفكارها هي ومشاعرها هي ومعاييرها هي لما هو الصواب والخطأ.

وبالطبع لم يكن أحد منا يعرف تماما رأيها فيه، اللهم إلا على نحو عَرَضي او ملغز أو منفّر (كما هو الأمر عندما أبلغتنا أننا قد خيبناها جميعا). فلم أدرك إلا في فترة متأخرة مدى شعورها بالنقصان والغضب تجاه حياتنا في القاهرة. إذ استعيد تقليديتها المحمومة وصرامتها القسرية وغياب الصراحة (عندها وعند أولادها) ومناوراتها اللامتناهية وانعدام الاصالة المتأصل فيها. ويعود معظم ذلك الجهل الى طاقة امي الاسطورية على جعلك تثق بها وتؤمن بها، مع علمك انها إما أن تستدرجك استدراجاً الى دائرة سحرها المتألق. "تعال اجلس بقربي، يا إدوارد" تقول، فإذا أنت قد بتَّ موضع ثقتها، يساورك إحساس مدهش بالأمان وشعورد أكيد انها في مبادرتها تلك إنما تستبعد روزي وجين بل تستبعد أبي هو أيضاً. هي تنم عن نزعة تملّك شيطانية وتنمّ في الوقت ذاته على منتهى الطوعية السمحة التي تتقبلك لا بوصفك ابناً بل بوصفك أميراً من الأمراء. ذات مرة اعترفتُ بأني أحجني موهوباً وخارقاً معا، على الرغم من سلسلة مضحكة من الاخفاقات والمشكلات اللامتناهية التي اقع فيها في المدرسة وفي سائر الامكنة. تبرعتُ بذلك الاعتراف بوَجَل شديد للتوكيد على وجود عزيمة اخرى، بل ربما شخية اخرى كامنة تحت "إدوارد". " أنا أعلم ذلك" ، قالت لي برفق، في بوحٍ خفيض هو الأشد سرية ولكن ما هي أمي فعلاً؟ خلافاً لأبي، الذي كان رسوخه العام وإعلاناته الأنيقة كماً مستقراً ومعروفاً سلفاً، جسّدت أمي الحيوية في كل شيء في كافة أرجاء البيت وفي حيواتنا ذاتها، تتدخل فها بلا كلل، مطلقة الاحكام، جارِفةً إيانا جميعا –بما في ذلك الثياب والغرف والخطايا المستورة والإنجازات والمشكلات المكشوفة- إلى مدارها المتوسع باستمرار. ولكنها حرمتنا بذلك تكوين حيّز مشترك في ما بيننا، مستبدلة إياه بعلاقات ثنائية معها، كمثل علاقة المستعمرات بالحضارة الاستعمارية، وشكّلتنا كمجرة تنفرد بالاحاطة بكامل أجرامها ومداراتها. فما تقوله لي عن حاليها، مثلا تكون قد قالته أيضا لشقيقاتي –وهذه هي الخصيصة الاساس في شخصيتها العملانية- من أنها امرأة بسيطه وإنسانة طيبة لا تأتي إلا الأفعال الصالحة وتكنّ لنا جميعا حباً متسامياً وترغب في أن يخبرها كل واحد منا بكل شيء، في حين أنها تحتفظ بالحق في إخفاء كل شيء عن الجميع. وقد صدقتُ ذلك كله بلا سؤال. فم يكن في العالم الخارجي ما يبعث على الرضى : من دوامة تغيير المدارس (وما يستتبعه من تبديل الاصدقاء والمعارف) والحيوات المختلفة التي عشاناها، الى هويتي غير المصرية المركبة، الملتبسة بل والمريبة وكوني عادة في غير مكاني، امُمثيل شخصا بلا ملامح محددة ولا وجهة معورفة بتحجه إليها. فبدت أمي كأنها تتمثل محنتي العمومية وتتعاطف معي. وكان هذا يكفيني دعماً مؤقتاً أعتز به كبير اعتزاز.

من أمي أحسستُ بجسدي جسداً مثقلاً وإشكاليا إلى حد لا يصدق، أولا بسبب معرفتها الحميمية به، لأنها الاقدر على إدراك طاقته على اتركاب الشر، وثانيا لأنها حرمت نفسها الحديث علناً عنه، فم تقارب الموضوع إلا تلميحا أو هي تستنطق أبي وأخوالي، فتتكلم عنه –أي جسدي- عبرهم، مثل الناطق من بطنه. وكان هذا الأكثر إربكا لي. عندما كنتُ في حوالي الرابعة عشرة قلت شيئا أثار ضحكها المجلجل، ولم أكن مدرها حينها مبلغ الدهاء غير المتقصد في ما قلته. كنت تاركاً باب الحمام مفتوحا، وهي زلّة دالة، ذلك أني حزتُ في مراهقتي شئيا من العزلة، ولكني لسبب ما كنتُ في الآن ذاته أبحث عمن يقتحمها بين الحين والآخر. فدخلت أمي فجأة وللحظة تركتِ الباب مفتوحاً ووقفت تتفحص جسد ابنها العاري وهو يجفف نفسه بسرعة بمنشفة صغيرة. "أرجوكِ أن تغادري" قلتُ مشاكساً، "وكفي عن مواصلة التحري من حيث توقفتِ المرة الاخيرة". سجَّلت بذلك الفوز المُبين، فانفجرت ضاحكةً، وأغلقتِ الباب للتو وغادرت على الفور. ولكن هل غادرت فعلاً عادة التدخل في شؤننا؟

أدركتُ قبل ذلك بوقت طويل أن جسدي وأجساد شقيقاتي تقع في دائرة المحظور لسبب حرتُ في تفسيره. ذلك أن مراوحات أمي بين النقيض ونقيضه كانت تعبر عن نفسها في احتضانها الاشتثاني لاولادها –فهي تغمرنا بالقُبل، واللمسات والعناقات والهديل مغدِقةً علينا ابتهالات البهجة بجمالنا ومؤهلاتنا الجسدية- لكنها لا تعفينا في الوقت ذاته من التعليقات السلبية المدمرة على مظهرنا. عندما كنتفي التاسعة وروزي في السابعة، أضحت السمنة موضوعا خطيرا ودائم الحضور في حياتنا. ومع تزايد وزن شقيقتي صارت السمنة مدار بحث على امتداد طفولتنا مراهقتنا والمرحلة المبكرة من شبابنا، يرافقه وعي تفصيلي مذهل للمأكولات "الباعثة على السمنة" وما يستدعيه منمحظورات لا متناهية. كنتُ نحيل الجسد إلى حد كبير، طويلاً، متناسق الكسم، وهذا ما لم تكنه روزي. وإذا أضفيت الى هذه المفارقة بين اجتهادها في المدرسة وبين أدائي الرّث، وبين العاطفلة الخاصة التي يكنها أبي لها وبين تعلق امي بي (علما أن كليهما كان ينكر المفاضلة بيننا على الدوام) ناهيك عن مديح فائق لدربتها في تنظيم الوقت وطاقتها على إبراز مؤهلاتها –وهي مواهب افتقدها كليا- فإن الفجوة بيننا كانت تتعمق، ومعها يتفاقم تبرمي من جسدي ومن جسد شقيقاتي.

كان أبي هو الذي بادر تدريجياً إلى محاولة إصلاح جسدي، بل وإادة تكوينه من الأساس. على أن أمي نادرا ما اعترضت على ذلك، بل أخذت تدور بجسدي بانتظام من طبيب إلى آخر. وإذ استذكر وعيي لجسدي منذ سن الثامنة فصاعدا، أراه منحبسا في نظام صارم من التصحيحات المتكررة، تمت كلها بأمر من أهلي وأدى معظمها إلى تفاقم نقمتي على ذاتي، ذلك أن "إدوارد" كان قد حل في كيان بشع مشوه يشكو من كل العلل أو يكاد. إلى نهاية عام 1947، عندما غادرنا فلسطين للمرة الأخيرة، كان طبيب الأطفال الذي يعتني بنا هو الدكتور غرونفلدر، اليهودي الألماني، مثلة مثل السيدة باير المعروف أنه أفضل أطباء فلسطين قاطبة. تقع عيادته في حي هادئ ونظيف ومنظم ووريق من أحياء المدينة الحارة الجافة التي كانت تبدو أجنبية على نحو نافر لعيني الفتيتين. وكان يخاطبنا بالانجليزية، مع أنه يكثر من الوشوشة مع أمي، ونادرا ما نجتُ في استراق السمع إلى ما يقولان. وعليه أُحيلت ثلاث علل عضال، فقدم لها علاجاته المزاجية المتميزة. ويكفي تعداد تلك العلل لتبيان ملغ المراقبة شبه المجهرية والكثيفة وغير المبررة التي تعرض لها بعض أعضاء جسدي.

العلة الأولى تخص قدميّ، وقد جاء التشخيص أنها مسحاوان. فوصف لي غرونفلدر قوسين معدنيتين انتعلتهما من أول زوج أحذية ولم أتخلّ عنها نهائيا إلا في عام 1948 عندما تمكّن موظف جسور ، في محل الدكتور شول في مانهاتان من إقناع أمي بعدم حاجتي إليهما.
أما علتي الثانية فهي رعشة غير إرادية كانت تمتلكني لبرهة وجيزة كلما هممت بأن أبول. طبعت طلب مني أداء الرعشة في حضرة الدكتور، وغني عن القول أنه استعصى علي الارتعاش كما التبول. راقبتني امي خلال اسبوعين وأكثر ثم نقلت الامر "أخصائي طب أطفال" ذي الشهرة العالمية. فهزّ غرونفلدر كتفيه وأعلن " لا شيء. لعلها ذات أصل نفساني" وهي عبارة لم افقه لها معنى غير أني لاحظت أنها زادت أمي هماً، والمؤكد أنها ظلت تثير قلقي إلى أن تقدمت بي سنون المراهقة وطويت المسألة بعدها.
وأما ثالثة العلل فتتعلق بمعدتي، وهي مصدر أمراض وآلام جمة لازمتني طوال حياتي, بدأ الأمر عندما شكك غرونفلدر في ما درجت عليه امي من عادة لف بطانية صوت صغيرة وتدبيسها بشدة حول بطني، صيفا شتاءً، وفي ظنها أنها تحميني بذلك من الأمراض وبرد الليل وربما أيضا من الاصابة بالعين، وفيما بعد أبغني أصدقاء كثر انها عادة دارجة في فلسطين وسورية. وذات مرة أبغت امي غرونفلد بعلاجها الوقائي الغريب هذا في حضوري فكان ردة الذي اذكره بوضوح تام، تقطيبة حاجبين متشككة وقال: "لا أرى حاجة إلى ذلك" فاندفعت تُعدد له منوعات من المنافع تعود علي منه (ومعظمها حمائيّ). وكنت حينها في التاسعة أو العاشرة. ثم نوقش الأمر أيضا مع وديع باز حداد طبيب الاسرة في القاهرة، فحاول هو أيضا ثنيها عن الاستمرار في ممارسة تلك العادة. واقتضى الامر سنة إضافية قبل أن أتخلص نهائيا من ذلك الشيء السخيف. وقد أبلغتني هيلدا لاحقاً أن طبيباً آخر حذرها من أن تلك الممارسة سوف تزيد كثيرا من حساسية وَسَطي، وهو ما يُفقده المناعةَ أمام كل أنواع المتاعب.


يتبع إن شاء الله

(f)(f)

(f)(f)

نتابع الروعة.

و سأقوم, غيرةً . بترجمة مقال فرنسي في "اللوموند ديبلوماتيك" عن إدوراد سعيد ظهر في العام 1996.

ألف (f)

أشكركم جزيل الشكر على المتابعة
وأعتذر عن تأخري في الاكمال
اليوم مساء سوف اضع جزء كبيرا إن شاء الله

غيرة إيجابية وبنّاءة
شكراً لك " ابن سوريا "

هزل نظري بسبب ما عانيته من التهابات في قناة العين ونوبات التراخوما. ولسنتين كان عليّ أن أشع النظارات السوداء في زمنٍ لم يكن يضعها فيه أحد. ثم وجدتني وأنا فيا لسادسة او السابعة، محكوما بأن أستلقي كل يوم في غرفة معتمة والكمادات تعطي عيني لمدة ساعة. وإذ نما قصر النظر، ازدادت صعوبة تمييز الأشياء، فيما كان أهلي يرون أن النظارات ليست "صالحة" لي بل إنها تصير "مضرة" بالتأكيد إذا اعتدت عليها. في كانون الأول/ديسمبر 1949، وأنا في الرابعة عشر من العمر، ذهبت لمشاهدة مسرحية "الاسلحة والإنسان" في قاعة إيوارت في الجامعة الامريكية في القاهرة، فلم أستطع أن أميّز شيئا مما يجرى على المسرح، إلى أن أعارني صديقي مصطفى حمد الله نظارتيه. بعد ذلك بشهور ستة، وعلى أثر شكوى من أحد الاساتذه حصلت على نظارة مرفقة بتعليمات صارمة من أهلي بأن لا أضعها كل الوقت. وقيل لي إن نظري ضعيف بما فيه الكفاية وإنه سوف يزداد ضعفاً.

في الثانية عشرة، قيل لي إن الشعر النامي بين فخذي لم يكن "طبيعياً" وهو ما زاد من حرجي الذاتي المتخضم أصلا. على أن اقسى نقد هو ما طاول وجهي ولساني وظهري وصدري ويدي وبطني. لم أدرك حينها اني متعرض لهجوم معين ولا اختبرت تلك الاصلاحات والقيود بوصفها حملات منطمة – وهو ما كانته فعلا. بل افترضتها جميعا مقومات عملية تهذيب لا بد أن يمر بها المرء كجزء من مرحلة النمو. فإذا النتيجة الصافية لتلك الاصلاحات تعمّق ارتباكي وخجلي من ذاتي.
على أن اطول عملية اصلاح واكثرها إخفاقا كانتتلك التي تتعلق بقامتي، وقد أضحت هَوَس أبي موضوعه الأثير، عند بلوغي المراهقة. وفي حزيران/يونيو 1957 عندما تخرجت من جامعة يرينستون، بلغ الأمر ذروته عندما أصر أبي على أخذي إلى صانع حمالات ومشدات في نيويورك ليشتري لي نيرا ارتديه تحت قميصي. وأكثر ما أحبطني في تلك التجربة هو أني قد بلغتُ الحادية والعشرين، لم اعترض على كون أبي قد خوّل نفسه ان يحزّمني مثل طفل شقي ترمز قامته الملتوية الى ماهية ذميمة تستحق عقابا علمياً. خلا وجه المظف الذي باعنا القماط من أي تعبير، فيما كان أبي يقول بود" ألم أقل لك إنه ]القماط[ يعمل بطريقة رائعة. لن تكون لك متاعب معه".
توّج النيِّر الأبيض، المصنوع من القطن والـ "لاتكس" الأبيضين، ذو الرباطات المتصالبة عبر الصدر وفوق الكتفين سنوات بذلها أبي من المحاولات لجعلي "اقف مسقيم القامة". "الكتفان إلى الخلف" كان يقول "الكتفان إلى الخلف"، فتضيف أمي بالعربية: "لا تسترخِ" علما أنها ملتوية القامة مثلها مثل أمها. ولما استمرت المعصية، استسلمت للاعتقاد أن قامتي موروثة من آل بدر، أسرة أمها فكانت تتفلّت منها بين الحين والآخر آهة قَدَرية واستنكارية في آن معاً، ترفقها بعبارة "حردبة بيت بدر"، وهي عبارة ليست موجة الى احد بالتخصيص لكنها تتقصد بالتأكيد إلقاء اللائمة الى نسبي إن لم يكن عليها هي أيضاً.

ومهما يكن من أمر وراثتي حدبة بيت بدر، فقد ثابر أبي على مساعيه. وتضمنت تالياً عددا من "التمرينات" كأن يمرر عصاً تحت إبطي ويجعلني أُبقي عليها ساعتين على التوالي، او أن أقف أمامه وأنفذ خلال مالا يقل من نصف ساعة أمرة "واحد" افأشد مرفقي إلى الخلف بأقوى وأسرع ما أستطيع، على افتراض أن التمرين من شأنه تقويم اعوجاج ظهري. وكان كلما وقعت في مرمى نظره، يهيب بي "الكتفان إلى الخلف". وغنيّ عنالقول مدى الاحراج الذي كان يسببه لي عندما نكون برفقة أناس آخرين. ورغم ذلك مرت اسابيع عديدة قبل أن أتجرأ على مطالبته بالكف عن إصدار تلك الأوامر في الشارع والنادي وحتى ونحن داخلان إلى الكنيسة. فتعاطى مع اعتراضي بحكمة:" هاك ما سوف أفعل" وقال مُطمئِناً" سوف أكتفي بقول "ظهر" فلا يفهم المقصود إلا أنا وأنت" وهكذا ظللت أعاني من " ظهر" لسنوات وسنوات إلى إن أبتُليتُ بنيِري.

ومن ملحقات الصراع حول قامتي أنها أثرت في صدري، وقد ورثت عن ابي ضخامة الصدر ونفوره البالغين. في مطلع مراهقتي أُعطيت جهازا معدنيا لتوسيع الصدر، مرفقا بتعليمات لاستخدامه من أجل تنمية حجم مقدم جسمي وتقويمه، وقد عانى ما عانه من اعوجاج قامتي المستمر. لم أتمكن من السيطرة على نوابض الجهاز التي تقفز مجنونة في وجهك متهدِّدة متوعِّدة، إن كنت لا تمتلك القوة الكافية للابقاء عليها مشدودة. وحقيقة المشكلة كان شرحى مرة لأمي التي لم تُخفِ تعاطفها معي، أن صدري أكبر بكثير من حجمي الطبيعي، فإن أنا دفته على الامام بعدوانية ووسعته اكثر مما هو واسع، تحولت إلى صورة كاريكاتورية فظة عن رجلّ برميليّ الصدر مكتمل النمو. فتهمت امي الامر وحاولت اقناع ابي دون نتائج تذكر. فالحال أنه عندما كان في الولايات المتحدة تأثر أيما تأثر بغريغوري سانداو، بطل كمال الاجاسام الاسطوري ذي الصدر المتضخم النمو والظهر المستقيم الذي مثل في فيلم "عوليس" فقال لي أبي ذات مرة إن ما يصلح لسانداو "يجب أن يكون صالحاً لك".

على أن مقامتي المتكررة كانت تدفع أبي على حدود اليأس فيلطمني لطمات موجعة حول كتفيّ، بل إنه سدد مرة قبضة عنيفة إلى ظهري. وكان بمقدوره أن يكون عنيفاً من الناحية الجسدانية فيصفعني صفعات قوية على وجهي وعنقي، فأنكمش عنها أو أتجنبها بطريقة تشعرني بمذلة كبيرة. أسفتُ لقوته وضعي أسفا لا تستطيع الكلمات التعبير عنه، ولكن لم يصدر عني رد او احتجاج حتى عندما اعتدى علي بالضرب المبرح على نحو مهين وأنا طالب دراسات عليا في هارفارد، عقابا على وقاحتي، كما صرح لأمي. فتعلمت أن أتحسس مجئ الصفعة من طريقته الغريبة في مصِّ شفته السفلى الى داخل فمه وأخذه نَفَساً عميقاً فجأةً. وكنت أؤثر العناية المدروسة التي يجلدني بها –مستخدما مهماز الخيل- على العنف الغريزي الحانق والمخيف لصفعاته ولكماته التي تنهال على وجهي. وكانت أمي تصفعني هي أيضاً عندما تتملكها سورة الغضب، ولكن صفعاتها أقل تواتراً وأضعف وقعاً من صفعاته.

الكتابة عن هذا الأمر الآن، وأنا في طورٍٍ متقدم من حياتي، مناسبة لتدوين تلكالتجارب بوصها كلاً متكاملاً. والغريب أنها لم تخلِّف عندي أي غضب، وإن تكن خلّفت بعض الحزن. وما يفاجئني أنها رسّخت فيّ حباً لأهلي مترسباً وعجيباً في قوته. فقد تعيشت كل الاجراءات الاصلاحية التي مارسها أبي علي مع تصميم غريب لديه على تركي أسلك طريقي نفسه في ما بعد، وقد كان بالغ السخاء خلال دراستي في برينستون وهارفارد ودائم التشجيع لي على السفر ومواصلة دروس البيانو والعيش عيشاً رخياّ، وهذا إلى اسعداده الدائم لتسديد ديوني ( على طريقته الخاصة، طبعا). غير أن ذلك أبعدني عنه بوصفي ابنه الوحيد والوريث المحتمل الوحيد للتجارة العائلية، تلك التي باعها بهدوء في السنة التي نلتُ فيها شهادة الدكتوراه في الآداب. ولكني لم استطيع أن أغفر له أن ذلك التنازع على جسدي وفرضه الاصلاحات والعقوبات الجسدانية عليه، رسّخا لديّ شعوراً عقيماً بالخوف العميم الذي قضيتُ معظم حياتي أحاول التغلب عليه. وما أزال أفكر أحياناً أني جبان، تتوعدني كارثة جبارة ضامر تتحفز للانقضاض عليّ بسبب ذنوب ارتكتبها وسوف أُعاقل عليها لا محالة في القريب العاجل.

ما لبث خوف أهلي من جسدي الناقص والمعيب أخلاقيا أن أنسحب على مظهري. فعندما كنت ما أزال في حوالي الخامسة، جزّوا شعري الجمعّد الطويل في قصة قصيرة عادية. ولما كنتُ أتمتع بصورة "سوبرانو" لا بأس به وتجدني أمي المولعة بي "حلواً" فقد شعرتُ باستنكار أبي لذلك بل بجزعه من أن أكون "مخنّثاً" وهي كلمة قضّت مضجعي إلى أن بلغتُ العاشرة. ومن الأمور الغريبة في مراهقتي المبكرة تهجُّمه على "رخاوة" وجهي، وخصوصاً فمي. كانت أمي تروي قصتين أثيرتين " الاولى عن ليوناردو دا فنشي وكيف انه استخدم رجلاً كنموذج لصورة يسوع، وبعد سنوات مضت على تهتّك الرجل ذاته، استخدمه مجددا ولكن كنموذج لتصوير يهوذا الاسخريوطي. والقصة الثانية هي استشهادها بلنكولن الذي دان شخصاً لبشاعته فتحداه احد اصدقائه بقوله إن أحداً ليس مسؤولاً عن بشاعته، ويروى أن لنكولن قال له" كل امرئ مسؤول عن وجهه". وعندما كنت أوَبَّخ لجنوحي ضد شقيقاتي أو لكذبي بصدد التهامي كل قطع الحلوى أو لإنفاقي كل المال الذي اُعطيته، يمد أبي يده فجأة إلى أمام، واضعا ابهمه والسبابة على جانبيْ فمي ضاغظاً عليه قارصاً المنطقة كلها في عدد من المخعات القصيرة القوية إلى اليسار وإلى اليمين وهو يُصدر همهمة كريهة " ممممممممممممم" يعقبها فورا قوله "هذا الفم الرخو الذي لك". وأذكر وقفاتي المطوّلة أمام المرآة أرى نفيس بقرف الى أن جاوزت سني العشرين، أمارس التمارين، كإبراز فمي إلى أمام والكزِّ على أسناني رافعاً ذقني إلى أعلى عشرين أو ثلاثين مرة، في محاولة جاهدة لـ(شد) ما تهدّل من وحهي. وكان نموذجي الأول طريقة غلين فورد في الشد على عضلات فكيّه تعبيراً عن الجبروت المعنوي وعن المشقات التي كُتِب على "الاقوياء"، أن يعانوها، فحاولتُ تقليده في ردود أفعالي على اتهامات أهلي. واستتباعا لرخاوة وجهي وفمي، منعني أهلي من وضع النظارات، وقد أفتتْ أمي، الدائِمةُ الاستعداد لخلط اللإدانة بالإطراء في أن النظارات إنما تعتّم على "وجهك الحلو هذا".

يتبع إن شاء الله..