أنا حاولت ، وحصلت على نتيجة قوية جداً.
ولكن الأمر صعب بالفعل عزيزي بهجت.
الزن يعتمد على ممارسة التأمل خلال نشاط الحياة الإعتيادي، وهذا ما يفرقه عن البوذية بشكل رئيس.
فلست بحاجة لتخصيص فترة في مكان منعزل لممارسة شيء، فالزن هو حياة تبقى معك 24 ساعة.
وليس إجراءات معينة للتنفس تقوم بها مثلا خمس أو عشر دقائق يوميا كما في اليوجا.
صحيح هناك أديرة معينة للزن وله كهنة في الصين وفي الغرب أيضاً ، وله تمارين تنفس، ولكن أساس الزن هو ممارسة مجموعة من المباديء أثناء العمل والأكل والقراءة وغير ذلك من نشاطات الحياة اليومية.
- فالمبدأ الأول يقول لا تفكر بأي شيء ولا تلق بالاً لأي شيء في الحياة سوى ما تفعله الآن، فإذا أكلت ركز في اللقمة إلى درجة أن تصبح أنت الآكل والمأكول ، هذه مبالغة تعني لا تفكر بأي شيء في الوجود سوى ما توجد فيه الآن فقط.
- وإذا تمرنت على مهارة معينة، سواء في الكمبيوتر، أو العمل أو القراءة أو أي شيء آخر، فلا تنتقل إلى التي تليها حتى تصبح أستاذاً في تلك المهارة ، وهذا المبدأ من مباديء الزن، استفادت منه جداً فنون القتال اليابانية، التي نشأت أصلاً بناءً على تلك الفلسفة، فاعتمدت على تعليم المقاتل حركة واحدة فقط بالسيف أو باليد أو الرجل يكررها كل يوم حتى لا يخطيء فيها مقدار ذرة، وحتى أنها تصبح رد فعله اللاإرادي على الهجوم، فتصبح الحركة جزءاً من تكوينه أصلاً ، ولا يعود بحاجة إلى التفكير في استخدامها كوسيلة دفاع رداً على الهجوم، بل يقوم بها بشكل تلقائي دون مرور واعٍ بالمخ عندما يتعرض لهجوم في أي وقت.
- مبدأ آخر قادم مباشرة من البوذية ، وهو التخلص من عقل القرد وهو مصطلح بوذي شهير جداً Monkey Mind بمعنى أن يصبح الإنسان هنا والآن Here and Now ، فلا يوجد هناك، ولا يوجد مستقبل أو ماضٍ ، وعلى الإنسان أن يعمل بجد لكي يوقف بندول الساعة، والذي هو العقل، وقد شبهوه بالقرد وبندول الساعة لأن العقل لا يهدأ لمدة دقيقة حتى يحاول فوراً أن ينتقل إما إلى الماضي ليسترجع ذكريات سابقة، وإما إلى المستقبل ليتخيل أو يتمنى أو يتخوف من القادم.
والتغلب على عقل القرد ، او على بندول الساعة يعني تثبيت التركيز في الحاضر تماماً ، لأن الحاضر هو الوجود الحقيقي، وهو الذي سيبنى عليه كل شيء، كما أنه نتيجة طبيعية للكارما التي حصلت من كل ما مضى.
- وهذا هو المبدأ الآخر : الكارما، حيث أن الزن تؤمن بالتناسخ حياة بعد حياة بعد حياة ، نتيجة لأنه عبارة عن البوذية المخلوطة بالداوية الصينية التي جاء بها لاو تسو، فالزن هو تزاوج الداوية الصينية والبوذية الهندية، وقد انتقل إلى الصين على يد كاهن بوذي حيث سماه الصينيون Chan ، وعندما ذهب من الصين إلى اليابان ولاقى رواجاً قوياً في اليابان، حرف النطق الياباني الكلمة وخرجت التسمية الشائعة التي نعرفها Zen والتي هي محاولة اليابانيين أن ينطقوا كلة Chan الصينية. فالكارما هي ببساطة:
what goes around comes around
وقد قال الكاتب ألبير كامي (الأصلي) عبارة مشابهة لتلك أراها توضح المقصود بها جيداً :
Don't wait for the Last Judgment. It happens every day.
فكل إنسان حر، والحرية تعني الإختيار والإختيار لا بد أن يأتي بنتائج يتحمل مسئوليتها كاملة الإنسان الذي قام بذلك الإختيار، فهنا علاقة بين الوجودية وبين مبدأ الكارما.
- هناك مبدأ هام جداً : What is, is
وهذا يعني ، لا تعافر في تغيير شيء لا تقدر على تغييره، واعمل على تغيير ما تستطيع تغييره فقط.
وهو يطابق المبدأ البوذي الذي تقوم عليه البوذية كلها وهو : التخلص من الرغبة.
وأن التخلص من الرغبة يعني خلاص النفس البشرية، فالحياة معاناة كما تقول البوذية، والمعاناة بسبب الرغبة، ويمكن التخلص من المعاناة، والتخلص من المعاناة هو في الطريق الثماني، وهو بعض من التعاليم البوذية في ثمانية نقاط، ليس هذا مجالها، فهذا المبدأ من مباديء الزن هو مقابل ذلك المبدأ البوذي.
فكل معاناة الإنسان تأتي بسبب رغبته في شيء لا يستطيع تحقيقه أو الحصول عليه.
والحل هو في التخلص من تلك الرغبة ، وفي العمل على ما يستطيع الإنسان تغييره، وتقبل ما لا يستطيع تغييره.
وهذا نستطيع أن نجده في كتاب ستيفن آر كوفي ، the seven habits of highly effective people ، في شرح ستيفن لمبدأ أن تكون Proactive الذي تحدثت عنه من قبل.
فهو يقول أن معاناة الناس تأتي بسبب رغبتهم في تغيير ما لا يستطيعون تغييره، بينما يهملون المنطقة التي لهم عليها نفوذ ويستطيعون إحداث تغيير حقيقي فيها، ويبقون على تأسفهم على تلك المنطقة الخارجة عن نطاق نفوذهم.
وقد مثل هذا برسمة النفوذ أو التأثير الفردي، والتي قسمها إلى : دائرة الرغبة أو الإهتمام Circle of Concern، ودائرة النفوذ أو التأثير Circle of Influence:
فلو عمل الإنسان من خلال دائرة تأثيره، واستطاع أن ينجح من خلال هذه الدائرة الصغيرة، سوف يؤدي نجاحه هذا ونجاحه التالي والتالي والتالي ، إلى اتساع دائرة النفوذ تلك، ومع الوقت تصبح دائرة النفوذ أو التأثير أكبر ، وتصغر دائرة الرغبة أو الإهتمام الخارجة عن قدرة الإنسان، وكلما عمل الإنسان من خلال دائرة نفوذه ، واتسعت تلك الدائرة بعد نجاحه فيها، فإن النتيجة هي أن يحصل على المزيد من النفوذ والقوة التي يستطيع بها أن يقوم بالتغيير الذي كان يتمناه في البداية ولم يكن يستطيعه .
وهذا مثال على اتساع الدائرة بعد النجاح :
هو يعطي بهذا مثلاً بسيطاً جدا:
موظف صغير جداً في شركة، كانت لديه أفكار عظيمة. ولكنه كان يعمل في أدنى درجات السلم الوظيفي في تلك الشركة.
ولكنه لم يجلس ليتحسر على غباء الموظفين الكبار، ويندم على حظه، بل عمل وأتقن عمله من خلال وظيفته الصغيرة، وعندما كان يقدم التقارير، كان يحرص أن يقدم اقتراحاً لمدرائه عن تحسينات قد تؤدي إلى جودة إنتاج الشركة.
من خلال إتقانه لعمله في دائرة تأثيره الصغيرة جداً وسعيه لتحسين عمل البيئة المحيطة به، والتي يعلوه كل موظفيها، حصل على الإعجاب المستمر، واستمر في الترقي في وظيفته، حتى في يوم من الأيام قدم اقتراحاً لمدير الشركة الضخمة ، أي صاحب الشركة نفسه، وأعجب صاحب الشركة كثيراً بالإقتراح، فعينه مسئولاً على تنفيذ المشروع الذي يعتمد على اقتراحه ذلك، وأصبح الموظف الصغير بالأمس من أكبر مدراء الشركة الفاعلين فيها ، وبالفعل أثبت أن أفكاره كانت عبقرية وتغيرت الشركة تماماً بعدما تولى هو إدارتها.
في المقابل نجد النماذج التي لا تعمل في دائرة تأثيرها الصغيرة لأن لديها طموحات عالية جداً ولكنها خارج نطاق تلك الدائرة حالياً ، فيحتقر أولئك الناس العمل في دائرة نفوذهم ، لأنهم يفقدون الأمل في إحراز أي تقدم نظراً للفارق الهائل بين دائرة نفوذهم وبين دائرة طموحهم، مما يؤدي إلى ترديهم في فشل أبدي لأنهم لا يعملون أي شيء ويصابون بالشلل التام في الحياة.
هذا بالضبط ما يعنيه What is, is في فلسفة الزن.
ولم أجد أحداً شرحه أفضل من ستيفن آر كوفي.
المهم أن مثال موظف الشركة هو لمجرد تبسيط المبدأ وإيصاله إلى الفهم ولا ينبغي أن يفهم على أن هذه حدود النصيحة.
وما يهمني فعلاً هو كيف نفيد من هذا المثل ومن هذا المبدأ لتغيير أوطان بكاملها؟
فيجب أن نتعلم الخروج من محيط الوظيفة والعمل والطموح الشخصي الضيق لنصلح مجتمعاتنا كلها، على الفرد العربي أن يخرج من أنانيته
ويبدأ في التفكير بأن بلده إذا لم تتطور مع تطوره الشخصي فلن تعود صالحة للحياة الآدمية لأبنائه من بعده، وعليه أن يستغل هذا المبدأ ليترك بصمته
على بلاده كلها وليس مجرد حياته كشخص تصادف وجوده في تلك البلاد.
دائماً ما تقوم الكورسات والكتب التي تشرح هذا المبدأ بسرد حكاية طريفة لأحد حكماء الزن ، أختم بها هذه المشاركة.
حيث انه عند وفاته، وقد كان من أكبر معلمي الزن على الإطلاق، اجتمع حوله تلاميذه وقالوا له:
قل لنا ما هي الحقيقة يا معلم؟
فأجابهم :
- ما برد فهو بارد، وما سخن فهو ساخن.
What's cold is cold, and what's hot is hot
ثم مات.