ينقسم الصف بالتساوي إلى مسيحيين ومسلمين ، وتلامذة الداخليّ وتلامذة الخارجيّ . ينتمي معلّم الحساب ، ميشال مرمورة ، إلى عالمٍ لن يلبث أن يواجِه الاضمحلالَ والمنفى في كوارث العام 1948 . وهو معلّم دمث وحاد الذكاء ، وعلى الرغم من توتره العصبيّ لأنه صديقٌ لمعظم أهل تلامذته ( وابنُ أرشمندريت الكاتدرائية الذي عمّدني ) فقد نجح في تعليمنا أوليات الكُسور بمهارة كبيرة . وقد التقيتُه عبر السنوات في ماديسون وويسكونسين وبرينستون وفي ما بعد في تورونتو حيث لا يزال يعيش ، ولم يبارحه حنينُه إلى ماضيه المبدَّد . أما باقي تقديمات المدرسة في سان جورج فلم تترك أيَّ أثر فيّ . كانت تجمع التعليم اللامبالي وإلى المناخ الانتقاليّ ، وفي نظرة استرجاعية بعد مضيّ خمسين عاماً، أرى أنها توحي عموماً برُوتين عبثيّ يسعى للحفاظ على نفسه في الوقت الذي تعاني فيه هوّيةُ البلد تبدلاً لا عودة عنه . ولما كنتُ أطوَل قامةً وأسرع نمواً قياساً إلى عمري ، بعد أن بلغتُ الثانية عشرة وصرتُ بحاجة إلى إذن مرور للذهاب إلى المدرسة ، فقد كان الجنود البريطانيون ، عند حواجز الأسلاك الشائكة ، يفتّشون حقيبتي ويدققون في إذن المرور برِيبة فيما أَعْيُنُهم الأجنبية المعادية تتفحصني طولاً وعرضاً بصفتي مصدرَ شغب محتمَلاً .
ومع أنّ إذن المرور حَصَرَ حركتي في المنطقة التي تقع فيها مدرستي ، فإنّ أسرة عمتي كانت تملك سيارة ستوديبيكر خضراء فاهية يُسمَح لألبرت وروبرت بسَوقها . فكنا نحن الثلاثةَ نتجول في الطالبية ، داخلين خارجين بتكاسل من بيوت أصدقائهما . وعندما أكون بمفردي ، أقود دراجتي حول الساحة الصغيرة إلى الغرب من بيتنا . وعلى مبعدة صفين من الأبنية خلف البيت ، كان فيلق الآلات الهوائية في الجيش البريطانيّ يُجري تدريباته تحت شمس الظهيرة القاسية ، وأذكر أني ، في أيام العطل الأسبوعية ، كنت أقعي خلف الصخور لمشاهدتهم ، مشدوهاً من صيحاتهم الأعجمية وأحذيتهم السوداء المسمّرة تَخْبط الأسمنت الأسود الذي يكاد أن يذوب من شدّة الحرّ ومن نفير أبواقهم الهجين الوحشيّ .
توّلع ابنُ عمي ألبرت بالشِعر الإنكليزيّ ، فهو يلقيه ويُكْثر من تقليب بؤبؤ العين في حركة دائرية ، في تقليد ساخر لمعلّم اللغة الإنكليزية ولممثل مسرحيّ في ذروة انطلاقه في آن معاً : " نصف فرسخ ، نصف فرسخ ، نصف فرسخ قُدُماً إلى الأمام / في وادي الموت ، يكرّ السِتمئة خيّال ، جميعاً " ، وكان يلقي الأبيات ويدُه اليمنى ترتفع رويداً رويداً مع ارتفاع نبرة صوته . " لا شأن لهم في أن يعطوا الجواب . لا شأن لهم في أن يسألوا لماذا ، / دأبهم فقط أن ينفّذوا وأن يموتوا . إلى وادي الموت/ يكرّ الخيّالة السِتمئة " . وفهمتُ من ذلك أنه يُفترض بنا نحن كذلك أن نكون جنوداً مقدامين نهجم دوماً إلى أمام ، تحدونا فكرةٌ واحدة فقط هي تأدية الواجب . ويعلو صوتُ ألبرت إذ يعلن : " العالم كلّه مشدوهٌ بهم ، العالم كله . مَجِّدوا هجومهم / مَجِّدوا هجوم فرقة الخيّالة الخفيفة ، الخيالة البواسل الستمئة " . لم أكن أعرف شيئاً عن " فرقة الخيّالة الخفيفة " * . وقد مرّ وقت طويل قبل أن أحفظ القصيدة تدريجياً عن ظهر قلب . وحين كنتُ ألقيها برفقة ابن عمي ، خطر لي أنّ كلماتها قادرة على محو كل تفكّر أو شعور . فعبارة " لا شأن لهم أن يسألوا لماذا " نبوءة مريعة في دقّتها عن موقف لم أخبره مباشرةً وإنما تعرّفتُ إليه واستحوذ عليّ بعد عشرين سنة حين كنتُ أشاهد الجموع المصرية العريضة تحيي جمال عبد الناصر وتصفّق له في حر ّالقاهرة .
أُجْلِيَتْ أسرة عمتي نبيهة عن القدس على مراحل بحيث لم يبقَ منها ، مطلعَ ربيع العام 1948 ، غيرُ ابن عمتي الأكبر يوسف وقد هَجَرَ بيت الطالبية عند سقوط الحيّ بأكمله بيد الهاغاناه [ الصهيونية ] . فانتقل للسكن في شقة صغيرة في البَقْعة الفوقى ، وهو حيّ مجاور من أحياء القدس الغربية . ثم ما لبث أن غادر موطئ القدم الأخير هذا في آذار / مارس دونما عودة هو أيضاً . ومنذ أيامي الأولى في القدس إلى آخرها فيها ، أذكر بوضوح أنّ الطالبية والقَطَمُون والبقعة الفوقى والتحتا كانت مأهولةً بالفلسطينيين دون سواهم ، وينتمي معظمُهم إلى عائلات نعرفها ولا يزال لأسمائها وقعٌ أليف في أذني – سلامة ، دجّاني ، عوّاد ، خُضر ، بدّور ، دافيد ، جَمال ، برامكي ، شمّاس ، طنّوس ، قُبَيْن – وقد أمسوا جميعهم لاجئين . لم أشاهد أياً من المهاجرين اليهود الساكنين حديثاً في القدس إلا في أحياء أخرى من القدس الغربية . فعندما أسمعُ الآن إشارات إلى القدس الغربية ، فإنّها تعني دوماً بالنسبة إليّ الأحياءَ العربيةَ لمرابع طفولتي . ولا يزال يصعب عليّ أن أتقبّل حقيقةَ أنّ أحياء المدينة تلك ، حيث ولِدتُ وعشتُ وشعرتُ بأني بين أهلي ، قد احتلها مهاجرون بولونيون وألمان وأميركيون غزوا المدينة وحوّلوها رمزاً أوحَدَ لسيادتهم ، حيث لا مكان للحياة الفلسطينية التي انحسرتْ إلى المدينة الشرقية التي أكاد لا أعرفها . فلقد أَضْحت القدس الغربية الآن يهودية بالكامل ، وطُرِدَ منها سكانها السابقون نهائياً في أواسط العام 1948 .



* استوحى الشاعر الانكليزي لورد تنيسون ( 1809 – 1892 ) قصيدته الشهيرة " هجوم فرقة الخيّالة الخفيفة " من الهجوم شبه الانتحاريّ الذي شنّته الفرقة المذكورة من الجيش البريطانيّ على موقع روسيّ خلال حرب القرم . وسقط منها 250 قتيلاً من أصل عديدها البالغ 600 خَيّال . والقصيدة تمجّد طاعة الجنود العمياء للأوامر العسكريّة .



يتبع إن شاء الله

القدس التي عرفتُها أنا وعائلتي في تلك الأيام كانت أصغر وأبسط وأكثر تنظيماً بكثير من القاهرة . وكان البريطانيون ، أصحابُ الانتداب عليها ، قد قرروا الجلاء عنها فجأةً عام 1948 ، قبل حوالي ستة أشهر من مغادرة عائلتي المدينةَ لآخر مرة . وكان الجنود البريطانيون يحتلون المدى المدينيَّ كله ، فيما اختفى معظمُهم من أحياء القاهرة . وكان الانطباع العام عن القدس أنها مدينة يَغْلب عليها الطابع الإنكليزيّ إلى حد كبير ، نظيفةُ المساكن ، منظّمةُ السَير ، يُكْثر أهلُها من شرب الشاي ، وسكانُها عربٌ من ذوي الثقافة الإنكليزية ، كما هو حال عائلتي وعائلات أصدقائنا . والحقيقة أني لم أفقه أيّ معنى فعليّ للانتداب ولا للحكومة الفلسطينية اللذيْن يظهر اسمُهما على العُملة والطوابع البريدية . كانت القدس أكثر هدوءاً من القاهرة ، ولكنها تفتقر إلى العظمة والثراء اللذين يُحْدقان بنا في القاهرة ؛ من بيوت فخمة ومتاجر ثمينة وسيارات كبيرة وجموع كثيفة ضاجّة ، ثم إنّ سكان القدس بدوا أكثر تجانساً من سكان القاهرة ، فهم بالدرجة الأولى من الفلسطينيين ، مع أني أذْكر لمحات وجيزة لليهود المتديّنين وزيارةً واحدة قمت ُبها إلى " ميا شاريم " ، أو إلى مقربة منها ، حيث شعرتُ بمزيج من الفضول والجفاء ، دون أن أستوعب أو أفقهَ معنى الحضور المغاير والمجفّل لليهود المتديّنين ببذلاتهم وقبعاتهم ومعاطفهم المغمّسة كلها بالأسود .
تحتفظ ذاكرتي بذكرى واضحة عن أحد زملائي في الصف . وأحسبُ أنّ دافيد عزرا ، الذي كان أبوه سمكرياً ، قد كان اليهوديّ الوحيد في الصف الابتدائيّ السابع ( وكان اليهود كثرة في المدرسة ) ولا يزال التفكير به يستحوذ عليّ ويحيّرني ، نظراً إلى التغيّرات اللاحقة التي طرأتْ على حياتي وحياة فلسطين . كان قويّ البنية، اسود الشعر ويحدثني بالإنكليزية . وبدا لي أكثر تفرّداً وكبرياء وأقلَّ شفافيةً وأدنى مرتبةً اجتماعيةً من أيّ تلميذ آخر في الصف . وهذا كله هو ما جذبني إليه . ومع أنه لم يكن يشبه اليهود المشرقيين الذين عرفتهم في " إعدادية الجزيرة " أو في النادي القاهريّ ، فإنّني لم أفقه تماماً معنى يهوديته بالنسبة إلينا ، رغم أني أّذْكر بوضوح أنّ وجوده بيننا لم يُثِر فيَّ أيّ شعور غريب . كان رياضياً ممتازاً بَهَرَني بكتفيه وقدميه القويّة ، وبلعبه العدوانيّ . ولم يرافقنا عزرا مرةً حين كنا نغادر المدرسة في مجموعات صغيرة بعد انتهاء الدروس في الأصائل ، لنجتاز حواجز التفتيش ، مستأمنين بكثرة عددنا . وفي آخر مرة شاهدتُه فيها ، كان عزرا يقف في ناصية الشارع يتطلّع نحوي فيما ثلاثة أو أربعة منا نسير متمهلين نحو الطالبية . وعندما قرّر أهلي فجأةً العودة إلى القاهرة ، قبل عيد الميلاد ، تحوّل انقطاعُ صلتي بعزرا إلى رمز للفجوة غير القابلة للتجسير بين العرب الفلسطينيين واليهود ، وهي فجوةً قُمِعَ الحديثُ عنها لغياب المفردات أو المفاهيم التي تسمح بمناقشتها ، كما تحوّل إلى رمز للصمت الرهيب الذي سوف يُطبِق على تاريخنا المشترك منذ ذلك الحين فصاعداً .
وفي الوقت الذي كان الخريف ينحسر فيه عن القدس ، ارتدّ كلٌ منا أكثر فأكثر إلى عائلته وإلى حلقة ضيّقة من أبناء العمومة والأعمام والعمات . قمنا بزيارة واحدة إلى خالي منير موسى في بيته الجديد في يافا ، بعد أن انتقل إليها من صفد ، وكان يقع في شارع رمليّ كئيب لا يملك أياً من سِحر غموضِ مسكنه المتكهّف في صفد أو غموضه وقد وجدتُه مسلّيا ًللغاية . ولما كان هو وعائلته حديثي الوفود إلى المدينة ، فإنّه لم يكن لهم أصدقاء في الجوار . في القدس كنا نلتقي كثيراً العم شفيق ، ابنَ عم أبي من الدرجة الثانية ، والعمّةَ لُور ، الألمانية الحلوة من أهالي شتوتغارت ، وتتكلم العربية بطلاقة مقلقة ولكنْ بلَكنة ألمانية شديدة ، وكان يرافقهما ابناهما ، نبيل وإريكا راندا ، وهما في مثل عمري وعمر روزي تقريباً . وكان شفيق مديراً لفرع الصبيان في " جمعية الشبان المسيحية " ( " الواي " ) YMCA ، ولور تعمل مساعدةً له ، وهو شديد الحماس لعمله في الـ" واي " الواقعة على مبعدة بضعة صفوف من الأبنية عن بيتنا ، وتساعده أيضاً في تنفيذ برامج الألعاب الرياضية والحِرَف وتعليم اللُغات والتدبير المنزليّ .
مثّلتْ " جمعيةُ الشبان المسيحية " المؤسسةَ الاجتماعيةَ الكبرى خلال سنواتي الأخيرة في القدس ، وعى نحوٍ يفوق الكنيسة التي صرتُ أنفر منها لقداديسها القاتمة العصيّة على الفهم . وكان للجمعية حوضُ سباحة داخليّ وملاعبُ تنس ومجموعةُ أجراس رائعة في أعلى البُرج ، وأنا أحسبُ – بطريقة لا واعية – أنها جميعها ملكٌ " لنا " . فلكل فرد من أفراد العائلة صلةٌ ما بـ" الواي " ، مساهماً في برامجها أو مستخدِماً تسهيلاتها ( وما أزال أستطيع أن أشاهد ابنَ عمي جورج يلعب التنس هناك بعد ظهر يومٍٍ مشمس ) أو عضواً في مجلس إدارتها . على أنّ " الواي " أضحت جزءاً من القدس الإسرائيلية وحُرِم عمي شفيق وعائلته نهائياً من العودة إليها ، وقد سافروا إلى الولايات المتحدة مطلعَ العام 1948 بناءً على منحة من " جمعية الشبان المسيحية " .
رمت بهم الأقدار أولَ الأمر في شيكاغو ، ثم في وِسكُنْسِن الريفية في ظروف بائسة . ولفترة ، عمل الرئيسُ الأنيقُ لفرع الفتيان في " جمعية الشبان المسيحية " مُساعداً في غرفة تعليق الملابس في مركز " الواي " بشيكاغو ، ثم أخذ يجول في شمال وِسكُنْسن بصفته منظِّمَ نشاطات أندية " الليّونز " . وبشق النفس هَمَدَ غضبُه لِما جرى في فلسطين ولأيامه الأولى في أميركا مع مرّ السنين ، مع أنه نجح في أن يستمد بعض الرضى ، بل الفرح ، من إقامته الأميركية المتأخرة أكثر من أيّ فرد آخر من أفراد عائلتي . ومع ذلك لم ينجح عمي شفيق في أن يصالح بين شطريْ حياته .
في تلك السنوات المقدسية الأولى ، بَهَرَني شخصٌ متفرّد ، لم أكوّن فكرة واضحة عنه إلا بعد وقت طويل . فقد كان نَهَمُ أبي لِلعب " الطاولة " يُشْبعه غالباً كهلٌ كثُّ الشاربيَن يرتدي دائماً بذلة سوداء ويعتمر الطربوش ويدخن السجائر بلا انقطاع من خلال مَبْسَم عاجيّ ويقحّ بوتيرة مقلقة وسط غمامة من دخان السجائر تشكل هالةً حول رأسه . إنه خليل بيدس ، ابنُ خال أبي ومدرِّسُ اللغة العربية للصفوف العليا في مدرسة سان جورج . على أني لم أشاهده قط في المدرسة ولا دريتُ بصلته المهنية بها إلا بعد أربعة عقود من الزمن ، عندما أبلغني ابنُ عمي يوسف أنّ خليل بيدس قد درّسه اللغة العربية . أما الواقعة الثانية التي علمتُ بها لاحقاً عن بيدس فهي أنه والد يوسف بيدس ، الذي عمل فترةً في " شركة التعليم الفلسطينية " وكان شاهد زواج أبي ثم حلّ في بيروت لاجئاً ، بعد أن عمل لفترة قصيرة في " البنك العربيّ " . وفي غضون عشر سنوات ، أو يكاد ، تحوّل يوسف بيدس إلى واحد من أكبر رجال المال في لبنان . فصار صاحب بنك انترا ، المالك حصصاً كبيرةً في شركات الطيران وأحواض بناء السفن والعقارات التجارية ( بما في ذلك بناية في روكفلر سَنْتِر ) . ومارس يوسف نفوذاً قوياً في لبنان ، إلى أن أشهر إفلاسه وانهار بنكُ انترا عام 1966 . وتوفي يوسف معدَماً إثر إصابته بمرض السرطان في لوسيرن في سويسرا ، وكانت تعتني به العمة نبيهة التي انتقلت للإقامة في سويسرا قبيْل وفاته . وقد رأى البعض إلى الصعود والانهيار المذهليْن ليوسف بيدس نذيرَ النزاعات اللبنانية – الفلسطينية الرهيبة التي سوف تنفجر في السبعينيّات ، ولكني أُؤْثر اعتبارهما رمزاً للمسار المبتور الذي فرضتْه أحداثُ العام 1948 على العديد منا .





يتبع إن شاء الله

اكتشفتُ بعد وقت طويل أنّ خليل بيدس كان أكثر بكثير من مجرد أستاذ اللغة العربية . تلقى دروسه الأولى في مدرسة الجالية الروسية ( " الموسكوبية " ، وهي الآن مركز احتجاز واستجواب إسرائيليّ للفلسطينيين خصوصاً ) ثم في روسية نفسها برعاية أبرشية الكنيسة الأرثوذكسية فيها . وعندما عاد إلى فلسطين مطلعَ القرن ، شارك في " الندوة الأدبية " التي كانت تَعْقد جلساتها في " موسكوبية " الناصرة وهي بدورها الآن مركز للشرطة الإسرائيلية في المدينة . ثم انتقل إلى القدس ، مُشْبعاً بأفكار القوميين الثقافيين المسيحيين الروس في القرن التاسع عشر ، من دوستويفسكي إلى بِردايِف ، فبدأ يكتسب الاعتراف ، بل الشهرةَ ، كروائيّ وناقد أدبيّ . وخلال العشرينيّات والثلاثينيّات ، أسهم خليل بيدس في بناء الهوية الوطنية الفلسطينية ، خصوصاً في مجابهتها مع المستوطنين الصهيونيين الوافدين . ومن الأدلة على مدى عزلي المحْكم عن الوضع السياسيّ الفلسطينيّ بل وجهلي به ، عندما كنتُ صبياً ، أني لم أفقه شيئاً عن مكانة بيدس الحقيقية في فلسطين . فلم أرَ إليه إلا كهلاً جذّاباً تَصْدر عنه قحّةُ سجائر جارحةٌ وله أسلوبٌ مرح جداً في لعب " الطاولة " مع أبي . وقد اكتشفتُ بعد بضع سنوات أنّ تلك الخصال لم تدم بعد خسارته لوطنه . وخلافاً لأولاده ، توفي خليل بيدس قبل أن يكابد مصير اللاجئين .
يغمرني الآن إدراكٌ لهَول التفكك الذي عانته عائلتُنا وأصدقاؤنا ، وقد كنتُ بالجهد واعياً له ، أنا الشاهدَ الذي لم يشاهد شيئاً في العام 1948 . وحين كنت صبياً في الثانية عشرة والنصف في القاهرة ، غالباً ما كنتُ ألاحظ أَمارات الحزن والحرمان على وجوه وفي حيوات أناس عرفتهُم سابقاً بما هم أبناء الطبقة الوسطى العاديون في فلسطين . على أنه لم يكن لي أن أستوعب كامل أبعاد النكبة التي حلّتْ بهم ، ولم أستطع تجميع الشذرات السَردية المختلفة لأكوِّن منها روايةً متكاملةً لما جرى فعلاً في فلسطين . ذات مرة ، فيما نحن جالسون حول مائدة الطعام في القاهرة ، تحدثت ابنةُ عمي إفلين ، شقيقةُ يوسف التوأم ، بشغف عن إيمانها بالقاوقجي ، وهو اسم لم يعنِ لي شيئاً عندما سمعتُ به أول مرة : " سوف يأتي القاوقجي ويطردهم جميعاً " ، قالت بعزم أكيد . التفتُّ إلى أبي طلباً للمعلومات ، فوصف الرجل بشيء من الارتياب ، بل عدم الاحترام ، على أنه " جِنِرال عربيّ " . وغالباً ما كانت عمتي نبيهة تتحدث بكآبة واستفظاع وهي تصف أهوال أحداث دَير ياسين – " نقلوا الفتيات عارياتٍ إلى معسكر(هم) على ظهور الشاحنات" . فافترضتُ أنها تصف العار الذي لَحِق بكشف النساء أمام أعين الذكور ، أكثر مما تصف رُعب مجزرة مروّعة ارتُكِبَتْ عن سابق تصوّر وتصميم في حق مدنيين أبرياء . ولم أتخيّل حينها عيونَ مَنْ تقصد ، ولا كان في استطاعتي تخيّل ذلك أصلاً .
لاحقاً ، في القاهرة ، حافظ مقدارٌ من الرسميات على التماسك السابق للعلاقات بين أفراد الأسرة الموسعة . على أني أذكر اكتشافي شروخاً وتباينات وانتكاسات لم تكن موجودةً من قبل . وبدا وكأننا جميعاً قد تخلّينا عن فلسطين بما هي مكان لا عودة إليه ، لا يكاد يرد ذكرُه في الأحاديث ، ولكننا نفتقده بصمت وبلوعة باعثة على الشفقة . وكنت قد بلغتُ من العمر ما يسمح لي بأن ألاحظ أنً ابن خال أبي ، شْبِير الشمّاس ، الشيخ ذا السطوة والجاه في القدس ، ظهر الآن في القاهرة وقد شاخ وازداد هزالاً ، يرتدي بذلة رمادية لا تتبدّل وكنزةً خضراء وتنوء عصاه الملتوية تحت وطأة قامته الضخمة وهو يقعي بألم وتمهّل على كرسيّ يلازمه بصمت . وله ابنتان عزباوان جذّابتان ، أليس وتينا ، تعمل واحدتُهما سكرتيرة في منطقة قناة السويس والأخرى في القاهرة . أحببتُ ابنيْه الصاخبين النكدين ، اللذيْن يعبّر قلقُهما المستجدُّ عن نفسه في هجمات متبجحة ضد المصريين والبريطانيين واليونانيين واليهود والأرمن . أما الأم فتحولتْ إلى نوّاحة دائمة تصرخ محتجةً على مصاعب دفع الفواتير والعثور على سكن لائق والتفتيش عن عمل . وكنا نزورهم في بناية معتمة متعددة الطبقات في هيليوبوليس ، لا مصعد فيها ، وقد تقشّر الدهانُ عن جدرانها , وأذكر مدى هلعي من فراغ الشقة ومن مناخ الهجران الذي توحي به .
لم تأتِ أمي مرةً على ذكرِ ما حلّ بهم جميعاً . ولا أنا سألتُ أبي عن الأمر لافتقاري إلى الأبجدية اللازمة لصياغة السؤال ، مع أني كنتُ أستشعر أنّ خطباً عظيماً قد حلّ . مرةً واحدة ، شرح أبي الوضع الفلسطينيّ العام ، على طريقته التعميمية المميّزة ، عندما لاحظ أنّ شبير وعائلته " خسرا كل شيء " ثم أضاف بعد برهة " ونحن أيضاً خسرنا كل شيء " . وإذ عبّرتُ له عن ارتباكي من قَصْدِه ما دامت أعماله ومنزله ونمط حياتنا في القاهرة لا تبدو أنها تغيَّرتْ ، أجاب ببساطة : " فلسطين " . صحيح أنه لم يكن يحبّ ذلك المكان كثيراً ، غير أنّ اعترافه السريع ، الأحاديّ المقاطع الصوتية [ بخسارة فلسطين ] ، ومسارعَته إلى دفن الماضي ، كانا الأمرَيْن الأشدّ تعبيراً عن جبلّته المميزة . وغلباً ما ردّد : " ما مضى مضى وانقضى ، يكفي الرجل الحكيم أن ينشغل بالحاضر وبالآتي " ويضيف فوراً : " اللورد بيكون " ، كأنما ليضفي على قوله ختمَ التكريس وليقفل موضوعاً لا يرغب في مناقشته . وكنتُ دائم الدهشة أمام إدارته الظهرَ للماضي على ذلك النحو الجلود والصارم حتى عندما تكون آثاره لا تزال مستمرة في الحاضر . فهو لم يبكِ مرةً ولا عبّر عن المشاعر التي لا بدّ أنها كانت تنتابه في اللحظات الحرجة . وأذكر أني وصلتُ حدّ التوسل إلى أمي لتخبرني ما إذا كان بكى في جنازة أخيه أسعد في يافا . " لا " ، قالت أمي بحزم ، " بل اكتفى بوضع نظارته السوداء ، وعَلَتْ وجهَه حمرةٌ شديدة . لكنه لم يذرف دمعة واحدة " . ولمّا كنتُ أعتقد أنّ سخاء دمعتي هو في عِداد مثالبي الكثيرة ، فقد اعتبرتُ فعلة أبي مظهرَ قوةٍ يُحسَدُ عليها .
حلّ اثنان من إخوة أمي في القاهرة في النصف الثاني من كانون الأول / ديسمبر 1947 . إمِيل ، الأخ الأصغر ، عمل في طنطا ، البلدة الريفية الكبيرة والمغبرة على دلتا النيل ، في مصنع زجاج تملكه إحدى النسيبات البعيدات لجدتي واسمُها ميلفينا فارس التي كانت تحيّرنا بالرقعة السوداء على عينها وبسلوكها شبه المخبّل . أما ألِيف ، الشقيق الآخر الذي يَكْبر أمي ببضع سنوات ، فكائنٌ لطيف على شيء من الاستكانة ، متزوج وأب لأربعة أولاد ، لا يهوى شيئاً أكثر من تركيب أحجيات خشبية مصوّرة ضخمة وفهرسةِ كتبِ مكتبته الخاصة الصغيرة وإعادة فهرستها . في نابلس ، عمل في " البنك العربيّ " ، ولكنّه في مصر استحصل على وظيفة في منظمة الأونيسكو في القاهرة ثم في الإسكندرية . غادر إلى بغداد ثم انتقل إلى بيروت ، ويعيش الآن في سِيَاتِل [ في الولايات المتحدة ] . له من العمر خمسة وثمانون عاماً ، وهو ضحية للثورتين العراقية والمصرية ، ثم تلقّى الضربة القاضية التي هي الحرب الأهلية اللبنانية . في القاهرة ، كان ألِيف وزوجته سَلوى يعبّران عن استهجانٍ عاجز واستكانة ضارعة لم أشهد مثيلاً لهما من قبل .
أما حياة إمِيل المضطربة وتنقلاتُه العديدة ومنازلُه الكثيرة وتذمراتُه المتكررة من قساوة شروط العمل وكثرةِ المصاعب فقد زعزعتْ عزلتنا البرجعاجية ونمطَ الحياة المستقر والمريح الذي كنا نظن أننا ننعم به . كان عازباً بائساً يسعى لشق طريقه في مصر بعد سقوط فلسطين . وبعد سنوات عديدة ، علمتُ أنه تزوج مُسلمةً مصرية وأنجب منها ابنتين أخفاهنّ جميعاً عنا خلال نشأتنا . لم نتطرق علناً إلى موضوع فلسطين إلا نادراً ، على أنّ إشارات طائشة من أبي كانت توحي إيحاءً بالانهيار الكارثيّ لمجتمع وبتغييب وطن . مرةً قال عن آل الشمّاس إنهم كان يستهلكون عشر خوابٍ من زيت الزيتون سنوياً - " وهذا في بلادنا دليل يَسار " ، قال ، ذلك أنّ وفرة الزيت تعني وفرة أشجار الزيتون والأراضي . وقد اختفى كل هذا الآن .





يتبع إن شاء الله

ومن العائلات اللاجئة آل الحلبي ، ميرا وسامي ، جيرانُنا في الزمالك ، نقارن بين شقتهم الضيقة وظروف معيشتهم العسيرة جداً وبين ثرائهم السابق في يافا . وحسبتُ أنّ ميرا ابنة مدللة جداً لأهل ميسورين ومرموقين ، تجيد الفرنسية ( وهو أمر غير مألوف في محيطنا ، ويدلّ على تعليم نخبويٌّ وعلى الكثير من التجوال في فرنسا ) وتتمتع بأنفة طبيعية أثارت إعجابنا جميعاً بصبرها الأيوبيّ ، مع أن والديّ كان يقولان بين الحين والآخر إنها أضحت تعيسة ومُحبَطة وعرضةً للضغوط الدائمة , ومن العائلات أيضاً تلك التي انتهى آباؤها وأمهاتُها إلى العمل عندنا في البيت أو في محلات أبي . ماريكا ، اللاجئة البسيطة ، التي شجّعتْها عمتي على حضور القداديس باللغة العربية في كاتدرائية جميع القديسين – وهي المؤسسة الإنكليزية القحة التي كنا نرتادها بصفتنا منتمين إلى المذهب الأنغليكانيّ – أصبحتْ خادمةَ أمي الشخصية .
على أن عمتي نبيهة هي التي عَصَمتنا أكثر من أيٍّ كان عن نسيان مأساة فلسطين . تجيئنا للغداء كل يوم جمعة – فيطغى حضورها الحيويّ على حضور آنطي ميليا ، التي تكبرها سناً وقد هزلتْ إلى حد كبير – وتأخذ في وصف مشقّات أسبوع قضته في زيارة عائلات اللاجئين في شُبرا ، وفي حثّ السلطات الحكومية القاسية القلب على توفير أذونات عملٍ وسكنٍ لعائلات اللاجئين التي ترعاها ، وفي التنقل بلا كلل بين جمعية خيرية وأخرى طلباً للمساعدات المالية .
وما يستعصي عليّ تفسيره الآن هو كيف اتفق أنّ مسألة فلسطين وخسارتها الفاجعة ، التي هيمنتْ على حياتنا أجيالاً ، وأثَّرتْ عملياً في جميع معارفنا ، محْدثةً تغييرات عميقة في عالمنا ، تعرضتْ لقمع نسبيّ من قبل والديّ : فلا هي مدارُ نقاشٍ ولا تستحق منهما تعليقاً . ففي فلسطين ولِدا ونشأا مع أنّ حياتهما في مصر ( وغالباً ، في لبنان ) وفّرتْ لهما إطارَ عيش جديداً . أطفالاً ، عُزِلنا أنا وشقيقاتي ، عن " الشريرين " كما عن أيّ شيء قد يُوقع الاضطرابَ في " رؤوسنا الصغيرة " ، على حدّ تعبير أمي الأثير . على أنّ قمع فلسطين في حياتنا تمّ كجزء من عمليةِ لا تسييس واسعةِ النطاق من قِبل والديْن لا يثقان بالسياسة ، بل يكرهانها ، لشعورٍ بأنّ وضعهما في مصر على مقدار من الهشاشة لم يكن يسمح لهما بالمشاركة في السياسة ولا بمجرّد النقاش فيها . فبدت السياسة دوماً شأناً يخصّ سوانا . وعندما بدأتُ أتعاطى السياسة بعد عشرين سنة ، عارضني والداي معارضة شديدة . قالت أمي : " سوف ينخرب بيتك " . " أنتَ أستاذ أدب " قال أبي ، " اِلزمْ وظيفتَك " . وكانت آخر كلماته لي قبل وفاته بساعات قليلة : " أنا متخوّف مما قد يفعله بك الصهاينة . احذر ! " . على أنّ جوازات السفر الأميركية التي يحملها أبي ونَحْملها نحن الأطفال حَمَتنا ، مثل تعويذات ، من سياسات فلسطين ، فيما نحن نجوز موظفي الهجرة [ الأمن ] والجمرك بسهولة مسلّية قياساً إلى الصعوبات التي كان يكابدها الأناسُ الأقلُّ امتيازاً وحظاً في سنوات الحرب تلك وما بعدها . أما أمي فلم تكن تحمل جواز سفر اميركياً .
بعد سقوط فلسطين ، سعى والدي سعياً حثيثاً ، إلى آخر أيامه ، ليستحصل لأمي على وثيقة أميركية من أيّ نوع كان ، فأَخفق . ولأنّها أرملتُه ، فقد كررتِ المحاولة إلى آخر حياتها وأَخفقتْ هي أيضاً . ولما كانت متورطة بجواز سفر فلسطينيّ ، ما لبث أنِ استُبدل بوثيقة سفر ، فقد أضحت مصدرَ إحراج لطيف ومسلٍّ عندما تسافر معنا . يروي أبي ( وتُردِّد هي مِنْ بعده ) كيف كان يَدُسّ وثيقةَ سفرها تحت سُتفة جوازاتنا الأميركية الأنيقة الخضراء اللون على أملٍ خائبْ أن يُجيز لها الموظفُ الدخولَ على اعتبارِ أنها واحدٌ منا . ولكنّ هذا لم يحدث قط : ففي كل مرة ، كان يستدعيها موظفٌ أعلى رتبةً ، وينتحي بوالديّ جانباً متجهّمَ الوجه ، حذرَ النبرة ، لشروح ومواعظ ، بل لإنذارات ، فيما أنا وشقيقاتي ننتظر واقفين ، ضجرين ، لا نفهم ما يجري . وعندما يؤذَن لنا أخيراً بالدخول ، لم يكن أحد يتجشّم عناءَ أن يَشْرح لنا أنّ وجود أمي الشاذ بيننا كما تدلّ عليه وثيقةُ سفرٍ محرجةٌ إنما هو ناجم عن تجربة اقتلاعٍ جماعيةٍ صاعقة . فلا نلبث أن ننسى مسألة جنسية أمي في غضون ساعات قلائل من دخولنا لبنانَ أو اليونان أو الولايات المتحدة نفسَها ، وتستأنف الحياة العادية مجراها .
بعد العام 1948 ، سكنتْ عمتي نبيهة الزمالكَ على مبعدة ثلاثة صفوف من الأبنية من منزلنا ، وباشرتْ عملها الخيريّ المستوحد والمضني لصالح اللاجئين الفلسطينيين في مصر . فبدأتُ بالاتصال بالجمعيات الخيرية والبعثات الناطقة بالإنكليزية العائدة للكنائس البروتستانتية . بما فيها " جمعية الرسالة الكنسية " والإرساليات الأنغليكانية والبرِسبيتيرية . وأعطت الأولوية في عملها للأطفال والمشكلات الطبية . غير أنها سعت تالياً لإيجاد عمل للرجال ، وللنساء أحياناً ، في بيوت أصدقائها أو متاجرهم . وأَوضَحُ ذكرياتي عن العمة نبيهة هو وجهها المتعَب وصوتُها الشاكي المثير للشفقة يروي مشقات لاجئيـ" ـها " ( كما نسمّيهم ) والأفدح منها مشقات انتزاع التنازلات من الحكومة المصرية التي ترفض منح الإقامات لأكثر من شهر واحد . فأضحت هذه المضايقات المبرمَجة لفلسطينيين مقتلَعين ، وبلا حماية ومدقعين غالباً ، هاجسَ عمتي الأكبر ، تروي عنها بلا توقف ، وتضمِّنها تقاريرَ تمزِّق القلب عن سوء التغذية وإصابات الأطفال بالزنطاري وسرطان الدم ، وعن عائلات من عشرة أفراد متكردسة في غرفة واحدة ، ونساءٍ مفصولات عن أزواجهنّ ، وأطفالٍ بائسين يتسولون ( وهو مصدر غيظها فوق ما يتصوّره العقل ) ورجالٍ مصابين بتشمُّع الكبد والبلهرسيا وسوى ذلك من أمراض الكبد والرئتيْن . هذا ما روته لنا أسبوعاً بعد أسبوع على مدارِ ما لا يقلّ عن عشر سنوات .
وكان أبي ، إلى كونه أخاها ، هو صديقها وحافظِ أسرارها الأكثر حميميةً . أما علاقتها بأمي فلائقة دائماً ولا أقول إنها علاقة محبة ( " كانت تغار مني في بداية زواجنا " ، تقول أمي ) . ويبدو أنّ المرأتين اللتين لعبتا الدور الأكبر في حياة أبي تعاقدتا بعد زواجه على ما يتيح التعاون والضيافة والمشاركة بينهما ، لا الحميمية. ونشأتْ بيني وبين عمتي علاقةٌ مميزة – وهي أيضاً عرّابتي – تَظْهر في التعبير عن العاطفة المتبادلة على نحو يكاد أن يكون محرجاً ، وفي شعوري بأنّ مشاهدتها والاستماعَ إلى حديثها ومراقبتها تعمل إنما هي تَجربةٌ ينبغي أن أسعى إليها سعياً وأتعلّق بها تعلّقاً .




يتبع إن شاء الله

بفضل عمتي نبيهة ، اختبرتُ فلسطين أولَ الأمر تاريخاً وقضيةً من خلال الغضب والاستنكار اللذيْن أثارهما فيّ عذابُ اللاجئين ، هؤلاء " الآخرين " الذين أدخلَتْهم هي إلى حياتي . وهي أيضاً أول مَنْ نقل إليَّ مشقات أنْ يكون المرء بلا وطن أو مكان يعود إليه ، محروماً من حماية سلطة أو مؤسسات وطنية ، عاجزاً عن أن يعطي ماضيه أيَّ معنى غيرَ الأسف المرير العاجز ، وعن أن يعطي أيَّ معنى لحاضره غيرَ الوقوف في الصف يومياً والبحثِ القلق عن العمل ومعاناةِ الفقر والجوع والمذلّة . أحسستُ إحساساً حاداً جداً بكل هذا من خلال الاستماع إلى أحاديثها ومراقبة تنظيم عملها اليومي المحموم , كانت على مقدار من اليُسر بما يسمح لها بأن تمتلك سيارة وتستخدم سائقاً صبوراً إلى حدٍ استثنائيٍّ هو الأُسطى إبراهيم المتهندم في بذلة سوداء وقميص أبيض وربطة عنق داكنة إضافة إلى طربوش أحمر ، كان يعتمره المصريون المحترمون من الطبقة الوسطى إلى أن حظرته ثورة 1952 . وكان إبراهيم يبدأ يوم عمله في الثامنة ويعود بها إلى البيت في الثانية بعد الظهر ، ثم يقلّها مجدداً إلى عملها في الرابعة حيث يلازمها حتى الثامنة أو التاسعة . ومقاصدها اليومية هي البيوت و المستوصفات والمدارس والمكاتب الحكومية .
أيام الجمعة ، تُلازم عمتي البيت لاستقبال الناس الذين سمعوا أنها مصدر عون ودعم . وقد أُصِبتُ بصدمة كبيرة عندما زرتها ذاتَ يوم جمعة وبصعوبةٍ استطعت ُالوصول إلى الباب . تقع شقتُها في الطبقة الثانية من بناية في شارع فؤاد الأول عند تقاطع من تقاطعاته الأكثر زحمةً وضجيجاً ، في زاويةٍ منه محطةٌ لشركة " شل " ، وتحت الشقة محل فالسيلاكيس ، البقّال اليونانيّ المشهور ، الذي يحتل الطبقة الأرضية بكاملها . كان محله مزدحماً دوماً بالزبائن ، الذين تسدّ سياراتُهم المتوقفة السيرَ وتُنتج جلبةً شبهَ متصلة من الصراخ الأجش والتعنيف . ولسببٍ ما ، لم تكن عمتي تكترث لهذا الضجيج اللعين ، بل تتصرّف في اللحظات النادرة عندما تكون في البيت وكأنها في منتجع . " كأننا في كازينو " ، كان تعليقها على الجلبة المسائية . و" الكازينو " لا يعني لها مربع القمار وإنما يعني ، لسببٍ لم أجد له أيّ تفسير ، مقهى على قمة خيالية يسودها الهدوء والبرودة . وإذ أحاول ولوج بنايتها ، ينضاف إلى أصوات الشارع ، الباعثةِ على الصمم ، صراخُ ، بل نحيبُ ، العشرات والعشرات من الفلسطينيين المحتشدين على السلالم صعوداً إلى باب شقتها بعد أن يكون البوّابُ السودانيّ المتجهّم الوجه قد قطع التيار عن المصعد احتجاجاً . ويسود ذلك البحرَ المتلاطمَ من البشر ما يشبه النظام . فهي ترفض استقبال أكثر من عارضِ حالٍ واحد ، وهو ما يعني أنّ الحشد لا يكاد يتناقص حجماً أو تململاً على امتداد يوم طويل جداً .
وإذ ألجُ غرفة الجلوس أخيراً ، أجدها جالسةً بهدوء على كرسيّ مستقيم دون طاولة أو أوراق ظاهرة ، تصغي إلى امرأة في منتصف العمر يروي وجهُها المخطّط بالدمع حكايةً بائسة عن الفقر والمرض ، حكايةً تحفّز عمتي على المزيد من الفاعلية والتصميم . " قلتُ لكِ أن تكفي عن تناول تلك الحبوب " ، تقول حانقة ، " لا مفعول لها غير إصابتك بالدوخة . اِفعلي ما أقوله لكِ . وأنا من جهتي سوف آتي بخمسة جنيهات إضافية من الكنيسة إذا وعدتِني بالكفّ عن تناول الحبوب والمداومة المنتظمة على عملك غسّالةً " . وحين تعترض المرأة ، تقاطعها آمرةً : " هذا كل ما في الأمر . عودي إلى البيت ولا تنسي أن تبلغي زوجك أن يذهب لمقابلة الدكتور حداد مجدداً هذا الأسبوع . سوف أتدبر أمرَ وَصْفته . ولكنْ شدِّدي عليه أن يذهب " . فتغادر المرأة بإشارة من عمتي ، وتدخل أخرى تجرّ وراءها ولديْن .
قبعتُ صامتاً هناك ما يقارب الساعتين ، والاستعراضُ الحزين يتوالى فصولاً . وبين حين وآخر ، تقصد عمتي المطبخ لتناول كوبٍ من الماء . عدا ذلك ، كانت تجلس هادئة تصرّف حالاً حزينة بعد أخرى ، فتوّزع المال تارةً والأدوية والنصائح الإدارية تارةً أخرى وتساعد ، أطواراً ، على إيجاد أمكنة للأطفال في المدارس التي تملَّقَتْها لقبول هؤلاء المشردين البائسين الذاهلين ، ولتشغيل النساء خادماتٍ في المنازل ومساعداتٍ في المكاتب ، ولتشغيل الرجالِ حمّالين ومراسلين وحراساً ليليين وعمالَ مصانع وممرِّضين في المستشفيات . كنتُ في الثالثة عشرة والنصف حينها ، وما أزال أذكر عشرات التفاصيل والوجوه والخطابات المقتضبة الباعثة على الشفقة ونبرةَ عمتي التنفيذية . على أني لا أذكر أبداً أني أدركتُ بوضوح أنّ هذا المشهد المحزِن إنما هو النتيجة المباشرة لسياسةٍ ولحربٍ كانت لهما كلُّ تلك العواقب الوخيمة على عمتي وعلى عائلتنا نحن بالذات . وكانت تلك تجربتي الأولى في محاولة التخفيف من عذابات الهوية الفلسطينية بواسطة عمتي وبناءً على التعرّف إلى بؤسِ وضعفِ هؤلاء اللاجئين الفلسطينيين الذين تستدعي حالتُهم المساعدةَ والعطفَ والمالَ بقدرِ ما تستثير الغضب .
الانطباع الإجماليّ العالق في ذاكرتي عن ذلك الزمن هو حالة طوارئ صحيّة مستمرة . ولما كانت عمتي تفتقر إلى مكتب أو مؤسسة علنية تَدْعمها ، فقد كان حضورها عند أولئك الناس الذين تعهدتْهم طوعاً يقتصر على حضور أصحاب " أبو قراط " ، أعني حضورها بما هي طبيبة متوحدة مع مرضاها يحدوها انضباطٌ مذهل ورسالةٌ أخلاقية . والحال أنّ العديد من أولئك اللاجئين الفلسطينيين فقدوا صحّتهم مع فَقْدهم وطنهم . واذا المناخ المصريّ الجديد بدلاً من أن يحتضنهم ، يزيد في استنزافهم ، حتى في وقتٍ تعلن فيه الحكوماتُ ، قبل الثورة وبعدها ، الدعم لفلسطين وتُقْسم الأَيمان الغليظة على إبادة العدو الصهيونيّ . ولا تزال تطنّ في أذني البياناتُ الإذاعية وتتراءى لي عناوينُ الصحف المتحدية بالعربية والفرنسية والإنكليزية ، تذيع تلك الشعارات على جموع صمّاء أساساً . في ذلك الحين ، كانت التفاصيل والتعاسة المعيشة لشعبٍ تائهٍ مريض هي ما يثير اهتمامي أكثرَ من أيّ شيء آخر . ولذلك كان العلاج الوحيد هو الالتزام الشخصيّ ونمطاً من الاستقلالية الفكرية مكّنا امرأةً منمنمة متوسطة العمر من أن تناضل ضد شتى العقبات دون أن تخور عزيمتها أو تفقد ثقتها بالنفس . وكائناً ما كانت آراؤها السياسية ، فإنها لم تفصح عنها في حضوري مرةً ، أو كادت ألا تفعل ذلك قط ، لأنها لم تجد ضرورةً لذلك . فالحاسم عندها هو اللحم الحيّ ، بل الوحشيّ ، للعذاب الفلسطينيّ ، الذي دأبتْ على التعامل معه صبحاً وظهراً وعشية . لم تبشّر مرةً تبشيراً ولا هي حاولتْ أن تَكْسب أحداً إلى جانب قضيتها . تعمل ببساطة وحيدةً ودون مُعين ، ترتجل الأمور ارتجالاً أو تتصرّف بوحي مما يصدر مباشرةً عن إرادتها . وبعد ثلاث سنوات أو أربع على مباشرتها خدماتها ، ظهر شابٌ غامض خيّل إلينا أنه يَشْغل منصب سكرتيرها الشخصيّ ، لكنها ما لبثتْ أن تخلّت عنه وعادت إلى توحّدها . وذلك أنّه لم يستطع أحدٌ أن يجاريها في عملها .



يتبع إن شاء الله

>>

أو اعد التصفح في وقت لاحق لخلل ما في موقع الإستضافة !

>>



صورة زفاف والديّ ، وديع وهيلدا ، في الكنيسة المعمدانية في الناصرة 24 ديسمبر1932


منظر خارجي للفرع الرئيسي في القاهرة لشركة الراية للقرطاسيات التي أسسها وديع في شارع الملكة فريدة ... وديع عند الباب يرتدي ربطع العنق المقوسة والى يمينه سكرتيرته أنّا مندل 1932


إدوارد سعيد ، نم عن مواهب مبكرة في قيادة الوركسترا على سطيحة شقتنا القاهرية بشارع عزيز عثمان



مع أبي ، على شاطىء الأسكندرية 1936


<<

من شركائها الطبيبين الدكتور وديع باز حداد، طبيب العائلة وهو رجل قصير القامة قوي البنية أشيب الشعر، مقدسي الأصل، يعيش في شبرا أحد أفقر أحياء القاهرة منذ أن نال شهادة الطب في بيروت. وبعد وفاته في آب/أغسطس 1948، حل محله فورا ابنه فريد. وقد اعتمدت عمتي أيضا على أخي وجيه الأصغر، كامل، صاحب صيدلية عبر الشرع، لتزويد المشمولين برعاية عمتي نبيهة بكميات لا يستهان بها من الأدوية المجانية أو شبه المجانية. ولقد أفعل تأريخ تلك الفترة ذِكر الدكتور وديع، مع انه لعب دولا مثيرا للاعجاب بين فقراء القاهرة من خلال مهمته الخيرية المذهلة في عمقها والتي لم تلق ما تستحقه من التقدير، مثله مثل عبقريته في التشخيص ( على ما تشهد بذلك أمي والعمة نبيهة). عمل متعاقدا مع مستشفى "مدرسة القاهرة الطبية"، المدرسة الطبية والمجمع الاستشفائي الكبير الخاضعين لاشراف الدولة والواقعة آنذاك على طريق المعادي فيما يتجاوز قصر العيني بقليل. وقد استطاعت عمتي من خلاله ادخال المرضى الى ذلك المستشفى مجانا او بأكلاف زهيدة. وما أزال أذكر عزوفه عن هذر الكلام ويهو يغلي الإبر الطبية والحقن الزجاجية في عبوة معدنية صغيرة فوق مصباح قابل للطوي يعمل على الكحول، ممتنعا عن تناول رشفة قهوة واحدة او جرعة ليموناضة تقدم له، رافضا على الدوم تقاضي أي اجر لقاء أتعابه، أو هو "ناسياً" تقديم فاتورة للتحصيل.

والدكتور حداد دائم التنقل وكلي الحضور، لا تستطيع إليه وصولا عبر الهاتف الا بشق النفس. على أنه مثله مثل عمتي عُرف عنه وجوده في منزله بعد ظهر يومين او ثلاثة ايام في الاسبوع، ولما كان منزلة والعيادة يقعان في شقة واحدة فقد كنت تشاهد العشرات، وجميعهم من فقراء المصريين يتجمعون خارج بابه دون مواعيد مسبقة ينتظرون مشاهدته. وهو رجل صموت يمتنع عن هذر الكلام فلا يمكث في مكان واحد وقتا يضطره الى ذلك، أما زوجته إيدا، السويدية الألمانية النحيلة، فهي صيغة مبكرة عم نسميهم الان "المهووسين بالمسيح" إذ تستغل فرصه وجود مرضى زوجها ومعظمهم من المعوزين ينتظرون بقلق دورهم للمعاينة لتحدهم عن مريم العذراء ويوسف وطفلها يسوع. وكانت فريدا قربان المغتربة اللبنانية المسنة المعروفة من الجميع باسم "آنطي فريدا" أو "مس فريدا" تعمل ناظرة في المدرسة المحلية وتعرف السيد حداد عن قرب ولم تكن تكل عن إبلاغنا بالمحاولات المبلة التي تبذلها السويدية العجوز لهدي العديد من فقراء شُبرا، وجلهم من المسلمين الى المسيحية. فقد كانت تدعوهم من قارعة الطريق الى غرفة الجلوس ثم تطفئ الانوار وتتحفهم بعرض للشرائح الفوتوغرافية الملونة وتروح تحكي لهم برتابة لامتناهية عن العائلة المقدسة والخلاص والفضائل المسيحية. وإذ يكتشف الغرباء الضجرون والمرتبكون أن الأجنبية العجوز منشغلة عنهم يلتقط كل منهم قطة آثاث منقولة –مزهرية أو بساطا او علبة- وينسل خارجا من غرفة الجلوس المتواضعة للدكتور حداد. وفي أقل من ساعة تكون الغرفة قد جُردت من محتوياتها في الوقت الذي يجول الطبيب فيه على مرضاه، والزوجة تلقي مواعظها اللهمة.

خلال زيارتنا الأولى للولايات المتحدة، في أواخر صيف عام 1948، تلقى أبي برقة تنعى وفاة الطبيب الكريم وتطالبه بمبلغ من المال لتغطية نفقات الدفن. لم يترك وديع حداد لعائلته قرشا واحد و"إيدا" بالطبع عديمة الكفاءة حين يتعلق الأمر بتحصيل المعاش. أما ابنه البكر، فريد، فكان وقتها نزيل السجن بتهمة الشيوعية. فقد ألقي القبض عليه فور تخرجه من كلية الطب، ولكن أخلي سبيله بعد بضعة شهور، وما إن سنحت له الفرصة حتى تحول إلى مساعد طبي لعمتي، فسار على خطى أبيه من حيث نمط العيش غير المبالي بالذات، ولا يأبه البتة للمال أو للترقي، خلا أنه خلافا لأبيه ظل إلى حين مصرعه في السجن أواخر العام 1959، عميق الالتزام السياسي. ثمة ألفة كاملة جمعت فريداً بعمتي, وكانت تحيل عليه الفلسطينيين فيعالجهم مجاناً، لا يزعزعه العذاب اليومي الذي يواجهه بل يقوي من عزيمته. وبعد أربعين سنة سوف أكتشف أن رفاقه الشيوعيين أنفسهم كانوا يعدونه قدّيسا، لخدماته الاستثنائية كما لمزاجه الودود منتهى الود.

التقيت فريدا مرات عديدة خلال سنوات الكلية الأخيرة في أواسط الخمسينيات (و مثلي خريج المدارس الكولونيالية البريطانية). إلا أنه كان مقترا إلى حد مغيظ في الحديث عن سياسته أو عن نشاطاته غير الطبية. لم يرد ذكر فلسطين مرة في أحاديثنا على امتداد عقد من الزمن تقريبا. كان يكبرني بما بين اثنتي عشرة وخمس عشرة سنة، تزوج في سن مبكرة من آدا ورُزقا ولدين أو ربما ثلاثة أولاد. واستطاع بطريقة ما أن يوزع حياته بين هليوبولس حين سكن وعائلته وفتح عيادة لأبناء الطبقة الوسطى، وبين عمله الخيري في عيادته القديمة في شُبرا وفي مستشفى "كلية القاهرة الطبية" ونشاطه السياسي المتزايد سرية. وعندما بلغتُ الثامنة عشرة وكنت في سنتي الأولى في الجمعة برنستون، أمزج على نحو غريب بين مظهر الجامعي الأمريكي ذي الشعر البحرية وبين عربي كولونيالي من أبناء البرجوازية الكبرى يَحدب على فقراء الفلسطينيين، أذكر ابتسامته الأنيسة كلما سألته عن "معنى" عمله وحياته السياسية:" لنلتقِ حول فنجان قهوة ولنناقش الأمر" ويقول فيما هو يتجه صوب الباب مغادرا، ولم نلتق مرة في مناسبة اجتماعية. ولكني حين كنت أثقّف نفسي تدريجيا في التاريخ والسياسية العربيين. بنيت تفسيرا متكاملا لما لحصل له فاعتبرته حية للقلاقل وللتيارات القومية المغالية التي سادت إبان السنوات الأولي من العهد الناصري. كان مناضلا شيوعيا ملتزماً، وطبيباً يواصل عمل أبيه، ونصيرا لقضية وطنيه واجتماعية لم نكن نستطيع أنا وهو أن نتناقش فقيها، بل ولا أن نتلفظ باسمها لولا وقائع ولادتنا الفلسطينية.

لم يخطر في بالي أنه تعرض عام 1959 لضغط متزايد من عائلته وعائلتي للانسحاب من الحزب، في وقت كان الحزب فيه يمارس عليه ضغطا لا يقل حدة لبذلا لمزيد من أجل القضية أيا تكن العواقب الشخصية. وكنت في الكلية في يوم من أواخر أيار كانون الأول /ديسمبر 1959 عندما استُدعي من شقته في هليوبولس للتحقيق معه لدى جهاز أمن الدولة. وبعد أسبوعين دخلت زوجته آدا شعثاء الشعر شبه عارية تزعق في كنيسة هليوبولس الأنغليكانية، مقاطعة القداس الأسبوعي باللغة العربية:"طرقوا الباب وقالوا لي أن أهذب للإتيان بفريد من قسم الشرطة في الحي، ظننتهم أطلقوا سراحه ولكني عندما وصلت إلى المكان، قال رجل خلف مكتبه إن علي أعود ومعي ثلاثة رجال أو أربعة، سألته لماذا، فاكتفى بالقول إني سوف أحتاج إليهم لحمل نعش فريد". كانت في حال من الهياج الشديد فلم تستطع إضافة المزيد، فأعادها قس الرعية إلى منزلها بينما سار ابن عمي يوسف مع ثلاثه من رفاقه الى قسم الشرطة ومنه اقتيدوا الى مدفن موحش في العباسية حيث التقاهم ضابط من جنديين شمَّرا عن زنديهما وكان يحرسان حفرة فاغرة ينتصب في طرف منها صندوق من الخشب الخشن:"يمكنكم إنزال النعش في الأرض بشرط أن يوقع أحدكم إيصالا بذلك. ولن يسمح بفتح الصندوق أو إلقاء أي سؤال". نفَّذ أصدقاء فريد الفلسطينيون ما أُمروا به، ذاهلين محزونين، فأهال الجنديان بعض التراب بسرعة في الحفرة." والآن عليكم أن تغادروا"، وقال الضابط باقتضاب، مكررا أنه لا يحق لهم فتح نعش صديقهم.

ظلت حياة فريد وموته موضوعا رئيسيا ضامرا في حياتي لأربعة عقود من الزمن، لم تكن كلها فترات من الوعي أو من النضال السياسي النشط. ولما كنت أعيش في الولايات المتحدة في عزلة كاملة عن الأوساط الاجتماعية والسياسية التي قد تكون على صلة بالأوساط التي عرفها فريد، فقد شعرت أنه يتوجب علي محاولة اكتشاف ما جرى له بالضبط بعد اعتقاله، ولو اقتضى الأمر سنوات. وفي عام 1973، حين كنت في باريس، عرّفني الممثل السياسي الفلسطيني فيها إلى شيوعيين مصريين في تلك الفترة قالا ان فريد قتل جراء التعذيب في السجن. ومع أنهما لم يشهدا الجريمة بأم العين، فقد أكدا لي أنهما واثقان من "مصادرهما" وهي عبارة تنضح بغباء المباهاة العالمثالثية وبتقاليد العمل السري وبالادعاء الموارب بالأهمية الذاتية التي كانت سائدة في تلك الفترة. وبعد عشرين عاما من ذلك كنت في زيارة إلى القاهرة وقد باشرتُ العمل على هذه السيرة الذاتية، فقدّمتني الصديقة منتى أنيس الى جل قبطي مسن هو أبو سيف وزوجته "طانط أليس" وكان صديقين مقربين لفريد، بل اتضح لي لاحقا خلال تلك الزيارة أن أبو سيف كان المسؤول المباشر عن فريد في التراتب الحزبي، ذهبت ومنى لمقابلة الزوجين المسنين، وقد تقاعدا وانزويا في شقة أرضية مُكرِبة في مجمع سكني مبني على النمط الروماني، على النيل في ما يتعدى بولاق، كأنما حكم عليهما هما أيضا أن يطويهما النسيان. كان الجو داكناً ومغبراً وقائظاً لا يخفف منه إلا الأثاث المرتب بعناية وشايُ "الطانط إليس" وكعكها اللذيذ المذاق.

يتبع إن شاء الله...


(f)

سألت ما إذا كانت زوجة فريد وأولاده قد خلفوا وراءهم أي عنوان أو اتصلوا بأي من أصدقائهم القدامى، بعد أن هجرتهم إلى اوستراليا. فنفيا بحزن، كأنهما يقولان إن تلك صفحة طويت بعد موت فريد. ثم أخرجت إليس صورة فوتغرافية محفوظة بعناية لعرس الزوجين الشابين يبدو فيها فريد البدين متهندماً في بذلة أنيقة، وآدا الحلوة ترتدي فسطانا من الـ "تافتا" الأبيض. فأخذنا نتأمل معنا برهة زائلة من الهناءة الزوجية نعما بها ذات مرة. أهدياني الصورة تقديرا لاستمراري في الاهتمام بقضية طواها النسيان لسنوات عديدة. "ثم أخذوه مباشرة إلى السجن –وقد شاهدته شخصيا- وجعلوه يتجرد من ثيابه، كما كان شأننا جميعا. وتحلّق حولنا الحراس وانهالوا علنا بالهراوات والعصي. إنه "حفل الاستقبال" والذي يعرفه جميع المعتقلين. ثم سيق فريد مباشرة للاستجواب، مع أنه تأذى كثيرا جراء الضرب وبدا مصعوقاً يرتعد بشدة. سألوه ما إذا كان طبيبا روسيا –وكنا جميعا من اليساريين وننتمي إلى مجموعات شيوعية متخلفة، وكانت مجموعتنا، انا وفريد تسمى "العمال والفلاحين" فأجاب:" لا أنا طبيب عربي" . فشتمه الضابط وأخذ يضربه على رأسه خلال ما لا يزيد عن عشر ثوان. ثم انتهى كل شي، تدحرج فريد وقد فارق الحياة".

بعد مغادرتنا شقة آل أبو سيف، خطر في بالي أن أسألهما ما إذا كانا يعرفان أن والد فريد كان فلسطينياً، ولكن أوان السؤال كان قد فات, افترضت أنهما اعتبراه، أساساً، رفيقاً وعضواً مثلهما في أقلية مسيحية، ولعلهما كانا يعتبرانه من "الشوام", وجازفت في التفكير في أنه نظرا إلى كثرة اليهود في الحركة الشيوعية المصرية، فالأرجح أن فريد لم يرد التشديد على أصله الفلسطيني ذي الطاقة الشِقاقية. وكان عجزي عن أن أناقش فريد في قضية فلسطين مثالاً آخر على قمع تلك القضية بما هي قضية سياسية في حياتي المبكرة.

لعبتْ فلسطين دولا أكثر إشكالا في النزاع النامي ببطء بين أبي وشركائه في العمل: عمتي نبيهة وأبنائها. وقد ازداد ذلك الدور غموضا بسبب الصمت المطبق على قضية فلسطين وجهلي الجزئي بها, وَفَد ابنها الثاني جورج الى القاهرة مع زوجته هدى قبل شهور قليلة من سقوط فلسطين، في منتصف العام 1948. وعندما قدم يوسف وزوجته عائدة من طريق عمان، بعد ذلك بوقت قصير، توتر الجو كثيرا بين الشابين وأبي، كعائلة، وزدنا التصاقا بعضنا ببعض، بعد أن لم يعد من قُدْسٍ إليها نعود. على أن السؤال الكبير كان: مَن هو المسؤول الاول في الشركة؟ وهو سؤال ارتكز إلى سرد وإلى تأويل للسرد واختلفا اختلافا بيّنا بين فرعها العائلي وفرعنا, بالنسبة إليّ لعبتْ أمي دور المؤرخ الرئيسي وبالطبع المترجم الأمين، صحيح، قالت، أن العم بطرس (ابن عام والدي المباشر وزوج شقيقته) هو الذي أسس التجارة في القدس حوالي العام 1910. على أنه كان آنذاك محلا صغيرا يقتصر على بيع الكتب والقرطاسيات، ولما عاد وديع من الولايات المتحدة حوالي العام 1920، وظف مبلغا من المال في "شركة فلسطين التعليمية" العائدة لابن عمه –لم يدر أحد مقداره بالضبط لأنه ، كما تروي أمي دائما، لم يكن يحتفظ بقيود أو سجلات –فصارا شريكين متساويين. وبحسب رواية أمي، فإن وديع حمل معه العديد من الأفكار الامريكية الجديدة، وهذا ما دفع الشركة في مسالك المجازفة وحقق لها ازدهارا غير متوقع.

وما إن مضت سنوات معدودات، حتى غادر وديع إلى مصر، وقد ضاقت فلسطين بطموحاته. وفي القاهرة أنشأ "شركة الراية للقرطاسيات" واستحصل لها على وكالات لشركات عديدة، مثل شركة "رويال" للآلات الطابعة وألام "شيفرز" و "آرت ميتال" للمفروشات المتبية وحاسبات "مونرو" وهي أسماء أَلِفْتُها جميعاً منذ الطفولة. وسريعا فاقت مبيعات القاهرة مبيعات فلسطين. وزعم ابنا عمي الاكبران لاحقا، وأحسب أن عمتي نبيهة شاركتهم ذاك الزعم- أن العم بولس ظل هو المسؤول عن الشركة طول تلك الفترة (1929-1940) وإثباتا لذلك احتفظا بمئات الصفحات من الرسائل المكتوبة بين بخط اليد أرسلها بولس إلى أبي في القاهرة. أذكر أني شاهدتُ واحدة فقط من تلك الرسائل. ذلك أن أبي المنكب على عمله لم يرَ حاجة للاحتفاظ بسجلات، خلافا لان عمه المهووس هوساً مرضيا بتدوين كل شيء والاحتفاظ بكل شاردة وواردة حتى أدنى التفاصيل. وبالطبع، احتفظ ابنا عمتي بنسخ كاربونية عن تلك الرسائل المطولة الرنانة. وبواسطتها استطاع الشابان، في المناخ المشحون الذي ساد فترة ما بعد 1948، أن يبرهنا لمصلحتهما أن أبي كان يعتبر دائما إداريا من الدرجة الثانية وشريكا يتوجب لجمهُ باستمرار على يد مدير تنفيذي أكبر سنا وأوفر حكمة هو الممسك فعلا بزمام الأمور ويعرف كيف يدير الشركة على نحو سليم، ولم من بعيد.

أثار جورج ويوسف الأزمة تلو الأزمة في مكتب أبي، تحرِّضهما عمتي على خوض هذا الصراع المقيت مع احتفاظها بصلة وثيقة جدا بشقيقها. ولم تسنح لنا إلا لمحات خاطفة إلى تلك النزاعات من خلال روايات أمي التي غالباً ما تكون ضمنية ومجزوءة عن قصد. فبسبب امتناع أبي الحسابيّ والتهرِّب والصامت إلى درجة ما، عن الخوض في الماضي بما هو رواية تروي فتكون من ثم عرضة للتحليل والتقويم لم يعبّر إلا لزوجته عن ردود فعله المصدومة والحانقة تجاه استفزازات أبناء شقيقته. وقد تبيّن أنهما يحاسبانه دورياً لمبالغته في الاستدانة باسم الشركة وفي لعب دور "البائع" –فيكتسب النعتُ هنا معنى سلبياً بل تحقيرياً، إذ ينطبق عليه- ولممانعته منح الشابين إلى تعيير ابني شقيقته البيروقراطي النزعة لـ"الباعة": "ما نحن ، بحق الجحيم، إن لم نكن بيّأعين، نستخدم باعة ذوي خبرات تسويقية لتنفيذ ما علينا تنفيذه" وبعد حين من وصوله القاهرة، كلّف يوسف بإدارة فرع الاسكندرية، على أنه عاد الى العاصمة بعد بضعة شهور تعسة قضاها في ما اعتبره أريافاً. في تلك الأثناء، ونتيجة للعادات الاجتماعية الشديدة التكتم والعظيمة الشكلانية التي تميّزنا كعائلة، كنا نَعْقد الاجتماعات العائلية الدورية من غدوات وعشوات في بيتنا أو بدعوات من أبي ناهيك عن النزهات دون أن نشعر نحن الأطفال خلالها بأي أثرٍ للتوتر.

يتبع إن شاء الله

أكثر من رائع

ما رأيكما, بتحويل الموضوع لصيغة أكروبات ريدر ووضعه على سيرفر ما.. لإمكانية تحميله كاملاً؟

و لا يمكن للإنسان "السوي" إلا أن يشكركما. و يقبلكما "أخوياً" :D.
محبتي
ابن سوريا