«أي عاقل يعرف تماما مصلحة العدو في اغتيال الحريري، وخلق فتنة طائفية»، هذا استنتاج وزير السياحة اللبناني فادي عبود، حكم لن يصدقه كثير من اللبنانيين العقلاء. فهم يدركون أن جرائم إسرائيل كثيرة لكنها في هذه الجريمة تحديدا هي آخر المتهمين المحتملين.
تصفية رفيق الحريري، رئيس الوزراء الأسبق، لم تكن في مصلحة إسرائيل، التي تفضل لبنان بتوازنات سياسية بين القوى المتنافسة لا ترك البلاد بقيادة فريق واحد. كل الضحايا من فريق سياسي واحد، وكل الضحايا عزل بلا ميليشيات تنتقم لهم، فكيف تقع الفتنة؟
الحريري أيضا - وإن كان صريحا في عدائه ضد إسرائيل - لم يكن مؤيدا لجعل بلاده ممرا تشن عبره حروب إقليمية ضد إسرائيل. كما أنه - وإن كانت له مواقف داخلية خلافية - عاش ومات ضد مفهوم الميليشيات المحلية ولم يفكر في بناء ميليشيات لجماعته. وحتى آخر يوم في حياته كان يطالب بتخليص لبنان من الميليشيات، بما فيها قوة حزب الله.
لا أدري كيف استنتج الوزير أن هناك قاتلا واحدا فقط جديرا بالاتهام؟ يقول إن إسرائيل اغتالته من أجل إثارة الفتنة الطائفية. السؤال: لماذا؟ فإسرائيل ليست في حاجة إلى اغتيال الحريري مع وجود قوى لبنانية تتحدث صراحة بلغة طائفية وتصر على التخندق الطائفي، وليست في حاجة إلى اغتياله ما دام هناك فرقاء لا يتورعون عن القتل الطائفي والاحتلال الطائفي.
محاولة رمي التهمة على إسرائيل تبدو واهية بلا أدلة حقيقية. دم كثير سال على الأرض اللبنانية وكل ضحاياه هم من معسكر سياسي واحد، في حين لم تجرح إصبع سياسي واحد في المعسكر المنافس!
المتهمون المحتملون باغتيال الحريري كثر. قد يكونون أفرادا مدسوسين أو جماعات متمردة داخل مؤسساتهم، أو ما وراء ذلك أو أكثر تعقيدا. ومهما كانت الاحتمالات فإنه ليس هناك أكثر عدلا من التعاطي مع هذه الجرائم، التي عصفت بلبنان وهزت المنطقة، من منح المحكمة الدولية فرصة التحقيق، وفتح الأبواب لها. المحكمة الدولية ليست مثل مراكز التحقيق العربية تدار استجواباتها في الخفاء وتذيع أحكامها النهائية في العلن، بل جميع نشاطاتها علنية، ومرافعاتها مفتوحة للجميع، وكل المشتبه فيهم سيعطون الفرصة لإعلان براءتهم.
الخطر الحقيقي هو من الفتنة التي خلفتها تلك الجرائم، لا المحكمة الدولية، والتي بقيت مشتعلة حتى اليوم. لم يقدم الفريق الآخر على خطوات تصالحيه تهيل التراب، لا على جثث الضحايا فقط، بل أيضا على الروح العدائية والفتن الطائفية والقبول بنزع السلاح والاحتكام فقط إلى مرجعية الدولة ومؤسساتها الشرعية المدنية والعسكرية.
لا ندري ما هو ثمن محاكمة المتهمين بقتل الحريري، قد يكون غاليا كما توحي التهديدات الرافضة للمحكمة، لكن السؤال الآخر ما هو الثمن في حال لم تكن هناك محكمة، أيضا؟ هذه هي المعضلة. فالمحكمة هدفها تحقيق العدالة في جرائم غادرة، وهدفها الأبعد أن تؤسس لمفهوم الردع، وأن ارتكاب الجرائم لن يكون بلا ثمن. فالمحكمة ضرورة لمستقبل لبنان من أجل تحقيق الاستقرار السياسي بضمانة دولية وليس الانتقام للحريري ورفاقه.
alrashed@asharqalawsat.com
صباح القبض على القيادي في «التيار الوطني الحر» فايز كرم، بتهمة التعامل مع إسرائيل، أيقظني ابني البالغ من العمر 12 عاما وهو يصرخ بصوت عالٍ: «ماما، هل أنت متأكدة من أنك لست عميلة إسرائيلية؟» السؤال موجع ومضحك في آن معا. فقد تكشّف بعد القبض على 150 عميلا إسرائيليا - والحبل على الجرار - بينهم ضباط وقياديون ومهندسون تكنولوجيون رفيعو المناصب،
أن لبنان مخترق بشكل سافر، ليس فقط منذ خروج الجيش السوري من لبنان، وإنما أيضا عندما كان في قبضة النظام الأمني السوري الذي ظننا أيامها أن نملة لا تدب من دون إذن منه.
وما لم يتمكن الأمين العام لحزب الله من قوله في مؤتمره الصحافي مساء الاثنين الماضي،
أن نظاما أمنيا سوريا - لبنانيا، مخترقا إلى الحد الذي كشف عنه العملاء في اعترافاتهم الأخيرة، بات يصعب اتهامه وحده، أو اتهام حلفائه بارتكاب جريمة بحجم اغتيال الرئيس الحريري وما جاء بعدها من اغتيالات، دون البحث في تورط إسرائيلي له خيوطه وشباكه التي يمكن أن يلتقطها التحقيق ليبني عليها.
صحيح أن نصر الله لم يقدم إثباتات لكنه قدم قرائن، تستحق النظر فيها. وسيكون أمرا معيبا ومريبا جدا، أن لا تنظر المحكمة الدولية بعين الاعتبار إلى ما قدمه نصر الله، وإن كان كل بند ذكره يحتاج إلى بحث وتحقق علميين، متاحين سواء لدى السلطات اللبنانية أو في إسرائيل.
لكن السؤال الحقيقي هو:
هل بمستطاع المحكمة الدولية أن تطلب ولو شهادة شخص واحد في إسرائيل؟ فما بالك باستجواب متهم؟
أمران رئيسيان كشف عنهما المؤتمر الصحافي لحسن نصر الله، بصرف النظر عن رأيك الشخصي بحزب الله. أولهما أن إسرائيل كانت تسرح وتمرح في لبنان، أثناء وجود الجيش السوري، وهذا بات ثابتا وأكيدا، بفضل اعترافات العملاء التي تشيب لها الرؤوس. والأمر الثاني أن
لحزب الله قدرات تكنولوجية متطورة، تفوق تلك التي للدولة اللبنانية للأسف، وربما العديد من الأنظمة الرسمية العربية في المنطقة. ولم يخف السيد حسن نصر الله أن كشفه عن قدرات الحزب على اعتراض الصور التي تلتقطها الطائرات الإسرائيلية التجسسية فوق الأراضي اللبنانية، هو كشف عن تقنية قديمة، وهناك الآن ما هو أكثر منها تطورا. معرفته بنوعية الطائرات الإسرائيلية التي حلقت فوق بيروت، ونوعها، يوم الانفجار، وعددها، يعود على الأرجح إلى تعاون مع السلطات السورية التي ربما هي من رصد المعلومات، قائلا إن «أي دولة صديقة تستطيع أن تعطي المحكمة مثل هذا الجدول التقني للطائرات».
لكن في المقابل لم يخف نصر الله مهارة الحزب الاستطلاعية في معرفة أماكن وجود بعض العملاء، لا بل العديد منهم، حيث رصد وجود العميل غسان الجد في موقع جريمة اغتيال الحريري، عشية وقوع الانفجار، وعنده إثباتات على ذلك، كما قال. والفضيحة هي بإعلانه أنه تم إبلاغ أحد الأجهزة الأمنية عن هذا العميل بالغ الأهمية عام 2006، لكنه فر بعد ذلك بثلاث سنوات دون أن يتم القبض عليه.
الطريقة التي تم بها تقديم المعلومات، تشي بوجود جيش من المحللين، والتكنولوجيين الذي يعملون ليل نهار، لأرشفة الوثائق وقراءتها، وتحليلها. ومن الصعب أن تفهم كيف يعمل الحزب من دون أن تزور «معلم مليتا السياحي»، الذي يعتبر أرشيفا حيا سياحيا للحرب بين إسرائيل وحزب الله.
أطرف التعليقات وأكثرها دقة على مؤتمر نصر الله هو ذاك الذي صدر عن رئيس حزب الكتائب، أمين الجميل، الذي اعتبر أن المعطيات التي قدمت: تنطوي على «جانب جيمس بوندي، قائم على التكنولوجيا المتطورة في التجسس، يوفر معلومات لا تكفي لتشكيل براهين دامغة». الجيمس بوندية عند حزب الله باتت نهجا، في مقابل الجيمس بوندية الإسرائيلية التي تكشفت بوجود عملاء بالعشرات على كل الأراضي اللبنانية مزودين بكاميرات وأجهزة مرتبطة بالأقمار الاصطناعية، إضافة إلى سيارات مزودة بآلات خاصة، تشحن خصيصا إلى لبنان لهذا الغرض وأحيانا قطع أثاث تخفي داخلها أجهزة تواصل بالغة التطور. وما اعترف به العملاء من إدخال مجموعات إسرائيلية إلى الأراضي اللبنانية عن طريق البحر، ومن ثم خروجها بحرا أو برا،
كلها مشاهد آتية من الأفلام الأميركية التي باتت جزءا من الحياة اللبنانية في غفلة من مواطنين لا يعرفون ما يحاك لهم في ظلمات الأقبية الاستخباراتية.
يقال إن الصيني يتجسس كما يتنفس، والتجسس ضرورة أمنية لا مفر منها، تمارسها إسرائيل علينا بطريقة باتت تنتهك حتى المكالمات التي نتبادلها مع أصدقائنا وأقربائنا. والدول التي لا تتجسس على غيرها لا تعرف كيف تحمي شعبها. لكن هذه مسألة والعمالة مسألة أخرى.
ليست إهانة أن تكون إسرائيل هي من اغتال الرئيس الحريري، فمن طبعها أن تقتل القتيل وتمشي في جنازته.
لكن الإهانة الكبرى أن تبقى الدولة اللبنانية، آخر من يتجسس على إسرائيل بالمعنى المحترف للكلمة، بعد خمس سنوات على خروج الجيش السوري من لبنان، فيما يتولى هذه المهمة حزب الله. ثم نسأل أنفسنا، لماذا يحل حزب مكون من طائفة واحدة مكان الدولة؟