عن مسلسل "السيد المسيح"
طباعة أرسل لصديق
عريب الرنتاوي - الدستور الاردنية
17/ 08/ 2010
أوقفت قناتا المنار و"إن بي إن" اللبنانيتان التابعتان لحزب الله وحركة أمل، عرض المسلسل الرمضاني "السيد المسيح"، بعد تهديد الكنيستين المارونية والكاثوليكية برفع درجة الاحتجاج على بث الدراما الإيرانية بحجة أنها تقوم على مغالطات تاريخية ودينية، تستند إلى "إنجيل برنابا" غير المعترف به من كثير من الكنائس ويُعد تحاملا على المسيح والمسيحية من وجهة نظرها.
حتى الآن تبدو القصة عادية، فثمة سيل لا ينقطع من الشواهد على تفشي ظاهرة "الوصاية الدينية" على الفن والسياسة والأدب والشعر والرواية في دولنا ومجتمعاتنا...هذه المرة جاءت "الوصاية" من الكنيسة ورجال الدين المسيحي وليس من "المسجد" ورجال الدين الإسلامي، وفي كلتا الحالتين كنا نستشعر الخطر الكامن وراء خروج الدين أو إخراجه، عن حيّزه وفضائه وحقله.
طبعاً سيقال لنا أن القيامة كانت لتقوم ولا تقعد، لو أن المشهد جاء معكوسا، كأن تقوم دولة أو مؤسسة مسيحية، بإنتاج فلم عن رسول المسلمين، يصوره ويروي سيرته بصورة لا تتفق مع "السائد" من مفاهيم الناس وقناعاتهم وعقائدهم، كانت الشوارع ستمتلئ بالمتظاهرين والإطارات المحترقة ودعوات المقاطعة وصيحات الثأر والانتقام... هذا صحيح ولا نختلف عليه، مع أنه لا يبرر
أبداً استنفار الكنيسة وتلويحها بورقة "التصعيد وحرق الإطارات" كذلك، ولا يجعل من تدخلها في "حقل الدراما" أمراً طبيعياً ومُجازاً.
في ظني أن مسلسل "السيد المسيح" – الذي لم أشاهد سوى نصف حلقة منه فقط – لم يُبن على "إنجيل برنابا" كما ادعت المصادر الكنسية ومعارضو المسلسل، بل هو استند على "القراءة القرآنية" للمسيح والمسيحية، وهذا ما تشي به وتشير إليه، وإن بصورة غير مباشرة، ملاحظات الكنيسة على "المسلسل" والتي تركّزت بشكل خاص حول إنكار صلب المسيح وقيامته وألوهيته، وهذا ما تقوم عليه الرواية الإسلامية، التي وإن اعترفت بعذرية السيدة مريم "..التي أحصنت فرجها فنفخنا فيها من روحنا وجعلناها وابنها آية للعالمين"، إلا انها تنزع عن السيد المسيح صفة الألوهية، ولا تقر بأنه ابن الله (لم يلد ولم يولد)، ولا تعترف بصلبه، واستتباعا لا تعترف بقيامته، وأظن أن هذه الحقائق معروفة لتلاميذ الصفوف الابتدائية الأولى.
لم يكن منتجوا المسلسل بحاجة "إلى إنجيل برنابا" لنفي واقعة صلب المسيح (حسب الإنجيل المذكور، يهوذا هو من صلب وليس السيد المسيح)، فالقرآن قال: "وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبّه لهم"، فهؤلاء لديهم روايتهم الدينية الخاصة بهم، ثم أن مصادرهم تحدثت عن اعتماد "إنجيل متّى" كمصدر للسرد التاريخي لحياة السيد المسيح.
عقائديا، ليست إيران، ولا المحطتين اللتين عرضتا المسلسل، في وارد الإساءة للسيد المسيح، فهو من منظور هذه الأطراف، نبي معترف به، والإيمان به وبغيره من الأنبياء، وبكتابه وبغيره من الكتب، ركن من أركان الإيمان الخمسة، لا يخضع لحسابات السياسة وتقلبات المواقف والتحالفات، لكن يبدو أن البعض استكثر على "جمهورية إيران الإسلامية" إنتاج مسلسل درامي عن "السيد المسيح"، ربما لاعتقاده بأن لديه وكالة حصرية، تجعل منه المرجع الوحيد المعتمد في كل ما تعلق بالمسيح والمسيحية.
والحقيقة أنني تابعت قبل سنوات، مسلسل إيراني آخر عرضته "المنار" بعنوان "مريم المقدسة " للمخرج شهريار بحراني، ويحكي سيرة السيدة العذراء، وغالباً باعتماد ذات المصادر والمرجعيات، ولم يثر المسلسل يومها مثل اللغط الذي أثاره مسلسل "السيد المسيح" مع أنه تطرق لحياة عدد من الأنبياء ولجانب من سيرة السيد المسيح، والمسلسل بكامل حلقاته معروض على "اليوتيوب" على أية حال.
وأصدقكم القول أنني استغرب الجرأة التي تعرض فيها الدراما الإيرانية لـ"قصص الأنبياء"، ومن دون تردد في تشخيصهم وتصويرهم وتمثيل شخصياتهم، وهو أمر غير مألوف في الدراما العربية، لا بالنسبة للأنبياء ولا لبعض الصحابة أحياناً، ومن دون يثير ذلك أي ردات فعل من قبل "متشددي أهل السنة والجماعة" الذين عادة ما ينبرون لمواجهة مثل هذه "الانتهاكات" المُفترضة، وكنت أعتقد بأن ردة الفعل الاحتجاجية الأولى على المسلسل ستأتي من اللبنانيين السنة، وليس من كاثوليك لبنان وموارنته.
ما حصل في لبنان مؤخرا، ينهض كشاهد على "تطاول" المؤسسة الدينية على الحياة العامة، وتغول الدين على الفن والثقافة والسياسة والأدب والإعلام والصحافة،
ونحن الذين طالما انتقدنا تغوّل بعض "المؤسسات الدينية الإسلامية" وتطرف بعض مدارسها، لا نمتلك إلا أن ننتقد تطاول بعض"المؤسسات الدينية المسيحية" على هذا العمل وتطرف بعض مدارسها، ومن دون أن ننسى الإشادة بروح التعاون والاستجابة التي أظهرتها المحطتان والمرجعيات السياسية والروحية التي تقف وراءها، لا لأننا مع قمع الحريات والعودة لمحاكم التفتيش
أيا كان جنسها أو طائفتها، بل لأننا دائما مع قطع الطريق على الفتن الطائفية والمذهبية، ولا شك أن وقف بث المسلسل، أسهم في تنفيس مناخات احتقان وتأزم لعبت السياسة قبل الدين، دوراً رئيسا في إذكائها وتصعيدها
عريب الرنتاوي
- الدستور الاردنية