http://www.daralhayat.com/portalarticlendah/181866
محمد أركون رائد حوار الأديان رحل عن 82 عاماً
الخميس, 16 سبتمبر 2010
091617b.jpg
Related Nodes:
091617b.jpg
الراية العالية في ليل الثقافة العربية
سيرة ومؤلفات
بحثاً عن سياق تاريخي واجتماعي
الحافر عميقاً في بنية الفكر العربي
الطريق الى التحديث
الممنوع والممتنع
الثورة على الاستشراق والمآزق
خارج جدران اليقين
لم يكد المفكر الجزائري محمد أركون يتلقّى دعوة الى الاشتراك في ندوة حول نصر حامد أبي زيد في القاهرة، حتى وافاه الموت على سرير المرض في منزله الباريسي. ورحل أركون، الباحث الكبير في الفكر الإسلامي عن 82 عاماً أمضى قسطاً كبيراً منها منكباً على الفكر الديني، قارئاً وكاتباً، مقتفياً آثار المفكرين والفلاسفة الإسلاميين التنويريين الكبار.وكان أركون أستاذاً لامعاً لتاريخ الفكر الإسلامي في جامعة السوربون في باريس وفي جامعات عالمية كثيرة، وأحد رواد الدعوة الى الحوار بين الأديان.ولد محمد أركون في 1928 في قرية توريرة ميمون الصغيرة في منطقة القبائل (شمال شرق الجزائر)، في بيئة اجتماعية بالغة التواضع. وبعد إنهاء الدراسة الابتدائية في قريته، أتم دروسه الثانوية لدى الآباء البيض في وهران ثم درس الأدب العربي والحقوق والفلسفة والجغرافيا في جامعة الجزائر العاصمة. ثم تولى التدريس في عدد من الجامعات قبل أن يعين في 1980 أستاذاً في السوربون الجديدة - باريس 3. ودرّس فيها تاريخ الفكر الإسلامي وطوّر اختصاصاً هو الإسلاميات التطبيقية. ومنذ 1993، بات أستاذاً متقاعداً في السوربون، لكنه استمر في إلقاء محاضرات في أنحاء العالم كافة. وفي العام 2008، تولى إدارة مشروع «تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا من القرون الوسطى حتى اليوم»، وهو كتاب موسوعي شارك فيه عدد كبير من المؤرخين والباحثين.وترك أركون كتباً كثيرة ذات منهج علمي ورؤية تحليلية جديدة، وسعى في كل ما كتب الى ترسيخ الحوار بين الأديان والحضارات، وجاب الكثير من مدن العالم محاضراً عن الدين الإسلامي والحضارة العربية.
****************************************************
الراية العالية في ليل الثقافة العربية
الخميس, 16 سبتمبر 2010
أدونيس
Related Nodes:
الطريق الى التحديث
سيرة ومؤلفات
بحثاً عن سياق تاريخي واجتماعي
الحافر عميقاً في بنية الفكر العربي
الممنوع والممتنع
الثورة على الاستشراق والمآزق
محمد أركون رائد حوار الأديان رحل عن 82 عاماً
خارج جدران اليقين
كمثل غيره من المنارات، يُنهي محمد أركون سفره في ليل العالم الثقافي العربي - الإسلامي. كان نقطة التحامٍ وراية عالية في المعترك الذي يخوضه الجهل والتخلّف والعماء، ضد المعرفة والتقدم، وضد الإنسان.
وكان يُدرك أن هذا المعترك يتخطّى، بمعناه ودلالاته، السياسة وأنظمتها. فلئن كانت الحركات الأصولية في مختلف تجلياتها، تتخذ من السياسة ميدانها المباشر، فقد فَطِنَ محمد أركون الى أن عملها السياسي مهما نجح في أن يستنفر، باسم حماية الدين والدفاع عنه، قوى مختلفة ومتنوعة، وأن يجيّشها، فإن مدار هذه الحركات يتخطى السياسي الى ما هو أبعد وأعمق: الى الثقافي - الإنساني. هكذا كان يعي أن أخطر ما تقوم به الحركات الأصولية، لا يتمثل في السياسة، كما يرى كثيرون بين الأنظمة وجماعاتها، وإنما يتمثّل بالأحرى، في العمل على تحويل الثقافة الى طبيعة. ذلك أن النظر الى الثقافة بوصفها طبيعة، أي فطرية وثابتة ونهائية كمثل الطبيعة، ليس، في الممارسة، إلا تهديماً منظّماً للثقافة وللطبيعة في آن. وفي هذا تهديمٌ للإنسان نفسه، ونفيٌ لكل إبداع.
*
مرة، في نقاشٍ حميم حول بعض أطروحاته، اقترحت عليه، باسم صداقتنا الطويلة المتينة، أن نبادر الى التأسيس لفريق عملٍ يخطط لكتابة تاريخ جديد للثقافة العربية، يخرجها من «تمركزها» حول نفسها، ومن أطر الانقسامات الدينية والمذهبية، ومن المناهج الكتابية التقليدية، ويقرأ الحياة العربية والإبداع العربي في سياق الثقافة الكونية ومُشكلاتها. قَبِلَ الفكرة، مبدئياً، وسألني أن أضع مخططاً مختصراً، نبعثه في اجتماع قريب. وهكذا فعلت، وأسمح لنفسي هنا بأن أوجزه في هذه النقاط السبع:
1 - الذات، بوصفها اندراجاً في الطبيعة (فترة ما قبل الإسلام)،
2 - الذات، بوصفها اندراجاً في ما بعد الطبيعة (الوحدانية، النبوّة، الوحي... الخ)،
3 - الذات، بوصفها معرفة (العقل، الحدس، الحقيقة... إلخ)،
4 - الذات، بوصفها مخيّلة (الفنون، الآداب...)،
5 - الذات، بوصفها رغبةً (الجسد، الحب، الجمال...)،
6 - الذات، بوصفها علاقة (الآخر، الأرض، التاريخ...)،
7 - الذات، بوصفها سياسة (الجماعة، المدينة، القانون، النظام... الخ).
في اجتماع لاحق، ناقشنا هذا المخطط، ودخلنا في تفاصيل كثيرة، ومما قاله، متسائلاً:
ألن يوسّع هذا المشروع حدود الحرب التي شُنّت علينا؟ حتى الآن، يشنُّها أهلُ الجهالة. وفي هذا المشروع ما يؤلّب علينا أهل الوظيفة والتعلّم، أولئك الذين يحتلّون المدارس والمعاهد والجامعات والمؤسسات.
كيف لنا أن نتحمّل مثل هذه الحرب الواسعة؟
فكّر في الأمر.
*
فكّرتُ، أيها الصديق الراحل، وأفكّر.
أعرف مثلَك أن السائد في ثقافتنا وحياتنا يتمثل في الأفكار التي تقول بالإصلاح. وأعرف مثلك، في ضوء الخبرة التاريخية، أن الفكر الإصلاحي يستند، قبل كل شيء، الى المسبّقات الراسخة، وأنه لا ينغرس في الواقع لكي يغيره، بل لكي يدعمه. ولطالما تساءلنا معاً: كيف يمكن أن نُصلح وضعاً بالفكر نفسه الذي أدّى الى نشوئه؟
فكّرت، أيها الصديق الراحل، وأفكّر.
لم تعد المسألة في الحياة العربية - الإسلامية مسألة إصلاح.
إنها مسألة تأسيس.
*
أيها الصديق الكبير الراحل،
لا أقول لكَ وداعاً. سأرجئ هذا الوداع. لكن، باسمه، أتابعُ الاحتفاء بصداقتنا في الحرية والإبداع، الصداقة التي تُميت الموت.
********************************************************
الممنوع والممتنع
الخميس, 16 سبتمبر 2010
علي حرب
Related Nodes:
الطريق الى التحديث
الراية العالية في ليل الثقافة العربية
سيرة ومؤلفات
بحثاً عن سياق تاريخي واجتماعي
الحافر عميقاً في بنية الفكر العربي
الثورة على الاستشراق والمآزق
محمد أركون رائد حوار الأديان رحل عن 82 عاماً
خارج جدران اليقين
من عجيب الصدف أن يرحل ثلاثة من أعلام الفكر، شهراً وراء آخر. فها نحن، بعد غياب الجابري ونصر حامد أبو زيد، نفاجأ بغياب الفيلسوف الجزائري وأستاذ الإسلاميات في جامعة باريس محمد أركون.
وأركون هو واحد من أصحاب المشاريع الفكرية النقدية الذين تركوا بصمتهم في الثقافة العربية المعاصرة. ولكنه لم يدرج عمله النقدي تحت الصفة أو الهوية العربية، بل اختار الإطار الإسلامي. من هنا عنون كتابه الأول الصادر بالفرنسية: نقد العقل الإسلامي.
وقد استخدم أركون في استراتيجيته النقدية عُدَّة فكرية متعددة الرؤوس بتعدد الاختصاصات والمناهج، مستفيداً بذلك من الطفرة المعرفية التي شهدتها علوم الإنسان في النصف الثاني من القرن العشرين، في مجالات اللغة والفلسفة والإناسة والتاريخ والتحليل النفسي... بكل ما انطوت عليه من الجدة والابتكار، بآفاقها العقلية وحقولها الفكرية وشبكاتها المفهومية.
ولم يؤْثر أركون، لمشروعه النقدي، العنوان الإسلامي لأنه أوسع وأشمل، بل لأنه لم يشأ تحييد المجال الديني من عمل الدرس، بل أخضعه للتحليل والتشريح، أصولاً وفروعاً.
وهكذا فإن النقد الأركوني استهدف الجبهتين: الممنوع والممتنع. والممنوع يشمل كل ما يحظّر قوله أو كشفه أو المجادلة فيه من الثوابت والمقدسات والمتعاليات...
ولكن الأهم، عند أركون، ليس فقط الجرأة الفكرية على قول ما يمنع قوله، بل تفكيك الممتنع، أي ما يستعصي على الفهم أو التناول، لا بسبب الضغوط من جانب الطاغية أو الكاهن، بل لأنه ما من نشاط عقلي إلا وتلابسه الأوهام.
من هنا فإن تجديد الفكر يتم بإخضاع العقل لعمل التفكيك للكشف عن بداهاته الخادعة وقوالبه الضيقة وممارساته المعتمة... وما حاوله أركون هو الحرث في هذه المنطقة التي تتشكل مما هو مهمّش أو مستبعد أو محرّم أو مسكوت عنه، مما أتاح له زحزحة الإشكالات وإعادة صوغ القضايا وتركيب الثنائيات.
ولا شك أن أركون، إضافة الى جرأته الفكرية، قدم الجديد والثمين من الأفكار والمعارف في ما تناوله من القضايا والمسائل. فالذي يقرأ أعماله يخرج بعد قراءتها على غير ما دخل، أعني يفوز بفهم جديد، وجدير بالاعتبار، للإسلام والدين عموماً. وهذا العمل ليس بالقليل. فمن غير فهم تسيطر الثرثرة والشعوذة أو العماء والإرهاب.
فتحية لأركون الذي رحل، ولكن آثاره باقية، ما بقي قراء ينشغلون بها أو يشتغلون عليها، لتجديد مناهج الدرس وأدوات المعرفة، بقراءاتهم الخصبة والفعالة، لا سيما إذا كانت النصوص المقروءة تتعدى أصحابها باحتمالاتها المفتوحة وإمكاناتها الغنية.
**************************************************
خارج جدران اليقين
الخميس, 16 سبتمبر 2010
عيسى مخلوف
Related Nodes:
محمد أركون رائد حوار الأديان رحل عن 82 عاماً
بعد وفاة نصر حامد أبو زيد يفارقنا محمد أركون. ماؤنا القليل أصلاً يصبح أقلّ، فيما يتكاثر من حولنا الجفاف.
عمل محمد أركون طوال أكثر من نصف قرن على تقديم قراءة جديدة للإسلام. قراءة تستند إلى مرجعيات ومناهج علمية وتنطلق من الفكر النقدي العقلاني. وستظلّ أفكاره، حتى بعد رحيله، مدار بحث في الأوساط العلمية والجامعية، شرقاً وغرباً.
لا شكّ في أنّ فرنسا كانت محطة مهمّة في تكوين محمد أركون المنهجي هو الذي جاءها من الجزائر لمتابعة تحصيله العلمي. كان من بين أساتذته المستشرق المعروف ريجيس بلاشير ومن بين أصدقائه مفكرون وعلماء اجتماع كان لهم الأثر في توجهات فكره النقدي وأدواته، ومن بينهم المستشرق والمؤرّخ الآخر كلود كاهين الذي ساهم في تجديد المنهج التاريخي للشرق الإسلامي، والفيلسوف بول ريكور وعالم الاجتماع بيار بورديو. ولقد اكتشف مع هذا الأخير معنى القراءة الأنتروبولوجية وطرائقها لمجتمع محدّد وكيفية بناء جهاز مفهومي جديد. ففي كتابه «الحسّ التجريبي» قدّم بورديو تصوّراً علمياً أنتروبولوجياً للثقافة وللحياة اليومية لمنطقة القبائل الجزائرية، أي للبيئة التي ولد ونشأ فيها أركون، وتعمّق في تحليل تلك البيئة الشفهية التي لا تملك ذاكرة مكتوبة.
ضمن هذا المناخ العلمي، بدأ مشروع محمد أركون في تأسيس قراءته الجديدة للإسلام والتي لا ترتكز إلى الاجتهاد والتأويل وإنما إلى المنهج العلمي والفكر النقدي. ولا أظنّ أنّ هذا المشروع خضع إلى الآن إلى قراءة معمّقة في المجتمعات العربية والإسلامية، بل هو لا يزال محصوراً في بعض الأوساط الجامعية التي تبحث عن نوافذ أخرى وسط عالم يزداد انغلاقاً على نفسه. أما من جهة الوسط الثقافي الفرنسي (من المعروف أنّ معظم نتاج أركون كُتب باللغة الفرنسية، ونَقل القسم الأكبر منه إلى العربية هاشم صالح وكأنه جزء من نتاجه هو نفسه)، فلم يلتفت لنتاج أركون الذي تمحور حول نقد العقل الإسلامي، أوّلاً لأنّ هذا العمل، بحسب أركون نفسه، يتوجّه في المقام الأول إلى المسلمين أنفسهم، وثانياً لأنّ القراء الفرنسيين كانوا غارقين في «الإسلاميات الكلاسيكية»، ولاحقاً، بعد السبعينات والثمانينات من القرن العشرين، في خطاب العلوم السياسية.
أراد أركون أن يوسّع ميدان الدراسات الإسلامية ويذهب إلى دراسة الظاهرة الدينية ككلّ، أي أنّه انتقل إلى تقديم دراسة نقدية مقارَنة للأديان الثلاثة: اليهودية والمسيحية والإسلام. وذلك، في رأيه، يفتح آفاقاً جديداً لتدريس الإسلام ولفهم أعمق للثقافة العربية.
ضمن مشروعه لنقد الفكر الإسلامي، تناول محمد أركون أيضاً مسألة فهم الحضارات واحترام الاختلاف، وانتقد الاستشراق الذي ينظر إلى الثقافات الأخرى بصفتها ثقافات غريبة. ودعا، انطلاقاً من نزعته الإنسانية المتأثرة بفلاسفة عصر الأنوار في فرنسا، إلى نبذ العنف والعمل على إرساء حوار عميق بين الحضارات لتفادي الصدامات التي تعيق النموّ والتقدّم وتعود بالأذى على الإنسانية جمعاء.
يقول نيتشه: «اليقين سجن». في قراءته الفكرية وتحليله النقدي للعقائد، وقف أركون ضدّ كلّ أشكال السجون والجهل والعنف، وضدّ ما أسماه «السياجات الدوغماتية»، وذلك للخروج من عمى الأحكام الواحدة المطلقة والتحليق في رحابة الأسئلة الجوهرية بحثاً عن الحقيقة في أوجهها المختلفة.
**************************************************
الثورة على الاستشراق والمآزق
الخميس, 16 سبتمبر 2010
رضوان السيد
Related Nodes:
الطريق الى التحديث
الراية العالية في ليل الثقافة العربية
سيرة ومؤلفات
بحثاً عن سياق تاريخي واجتماعي
الحافر عميقاً في بنية الفكر العربي
الممنوع والممتنع
محمد أركون رائد حوار الأديان رحل عن 82 عاماً
خارج جدران اليقين
عرفتُ أعمال محمد أركون الأولى في مطلع السبعينات عندما ذهبتُ للدراسة بألمانيا، وتعلمتُ هناك بعض الفرنسية. وما كان التعرف على كتاباته مُصادفة، إذ كنتُ قد بدأت الاهتمام بالقرنين الرابع والخامس للهجرة (العاشر والحادي عشر للميلاد) واللذين اكتملت خلالهما التكوينات الرئيسية للثقافة العربية الإسلامية، وازدهرت شتى التيارات الفكرية. وكنا جميعاً نحن المهتمين بالحضارة الإسلامية قد قرأنا كتاب آدم متز (الصادر عام 1901 بالألمانية): نهضة الإسلام، والذي ترجمه محمد عبدالهادي أبو ريدة الى العربية بعنوان: «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري. المهم أنني بدأتُ الاهتمام بالماوردي (المتوفى عام 450هـ) صاحب الكتاب المعروف: الأحكام السلطانية، عن مقولة الخلافة، ومؤسسات الدولة في عصره، ووجدت أن الجميع يرجع الى أطروحة أركون الحديثة الصدور يومها عن «الإنسانوية في القرن الرابع الهجري: نموذج مسكويه». وقد تابع بعدها الاهتمام بالقرن وشخصياته مثل العامري ويحيى بن عربي والتوحيدي، ونشر عنهم جميعاً مقالات، كما نشر لهم نصوصاً قصيرة في الـ BEO واستوريا إسلاميكا، ثم في أرابيكا في ما بعد.
قرأت له مقالة ممتازة عن «السياسة والأخلاق عند الماوردي»، وسارعت الى ترجمتها وترجمة مقالة أخرى لهنري لاووست عنه، لخصّتهما بعد ذلك في مقدمتي على نشرتي لقوانين الوزارة وسياسة الملك للماوردي (1978) ووقتها سارعت بالمقالة (الصادرة عام 1968) معجباً الى استاذي جوزف فاك أس (1974) الذي قال لي ضاحكاً: أعرفها وهي مقالة ممتازة وفكرتها جديدة، فما اهتم أحد من قبل حقاً بدراسة آراء الماوردي في كتابه غير المهشور، والمعروف بأدب الدنيا والدين، لكن صديقي أركون ترك الآن تقاليد الاستشراق، وانصرف لنقده ونقضه! وما لبث فان أس أن زوّدني بالفعل بعدد من المقالات الجديدة (التي كتبها أركون في نقد الاستشراق نقداً ابستمولوجياًَ، وليس تاريخياً كما فعل العروي، أو من حيث الخطاب في علاقته بالسلطة كما فعل فوكو وبعض اليساريين. لكنه ما لبث أن ترك مسألة الاستشراق الى حد بعيد بعد كتاب ادوارد سعيد (1978)، وانصرف لمصارعة الدوغمائيات في ديانات التوحيد، وبخاصة في الإسلام، وعلى الأخص: الإسلام السني!
إنما في ذلك الوقت كانت قد نضجت لديه رؤية «الإسلاميات التطبيقية التي أراد من خلالها ايضاح منهجه في الخروج على الفيلولوجية الاستشراقية. وبالإسلاميات التطبيقية التي تعتمد الرؤى والمناهج والمعارف الحديثة في علوم المجتمع والإنسان، ومسائل نقد النص، اقبل على قراءة بعض السور القرآنية قراءة تأويلية تبحث تارة عن اللامفكر فيه في النص، وطوراً عن العجيب الغريب والمدهش. وظل على هذا النحو طوال الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي، يجرّب كل الجديد على النصوص وعلى الرؤى، ويضع «البرامج» ويعيد المطلوبات ويكررها، ويصطدم بالمستشرقين أو بالحداثيين المتطرفين أو باليمين الأوروبي العنصري، لكن نقطة تركيزه تبقى: تحطيم الأرثوذكسيات والدوغمائيات في العقل الإسلامي القديم، لكي يستطيع المسلمون عيش الحداثة وتنفسها. أما في العقد الأخير من السنين، فإن آراءه هدأت بعض الشيء. إذ ما عاد ثائراً على الفكر الإسلامي القديم كله، وصار انتقائياً مثل يساريي الخلدونيين وليبراليي الرشديين.
وطريقة الاستاذ أركون منذ أواخر السبعينات، أن يعمد لترجمة كتبه الى العربية بعد ظهورها بالفرنسية بشهور قليلة. والاستاذ هاشم صالح هو مترجمه المعتمد. وقد بلغ أوجه شهرته لدى الشبان العرب في التسعينات وما بعد. وأسقط عن نفسه الحرم الذي فرضه عليه الإسلاميون. ومع أن كتبه في الأكثر مقالات مجموعة، لكنني لا أعرف بين المفكرين العرب من هو مثلُهُ نشاطاً وعملاً وبحثاً عن المعرفة الجديدة في كل آن، وسعياً للإقناع الهادئ بأطروحاته.
آخر مرة رأيته فيها في مطار الدار البيضاء شكى إلي مما كتبه ديفيد بورز في كتابه الأخير. فقلت له: لكنك ذكرت يا أستاذ رأياً له قبل عشر سنوات في «الكلالة» باعتباره رأياً ثورياً يغير نظام الأسرة في الاسلام! فما ابتسم كما كان يفعل عندما أمزج بين المزح والجد في حديثي معه، وقال: في مقالته التي تذكرها كان الأمر أمر الكلالة، وهو الآن أمر الإسلام كله والنبوة كلها!
ما رأيت مثل أركون في معرفته بالتراث الفكري والأدبي العربي - الإسلامي. ثم انه متضلع في علوم الإنسانيات المعاصرة. وكان يملك منذ السبعينات هماً حقيقياً للنهوض بالدراسات العربية الاسلامية بعيداً عن مناهج المستشرقين غير الملائمة. ثم تجدد لديه هدف آخر عمل عليه طوال ثلاثين عاماً وهو تحرير العقل الإسلامي من الموروث، وتكسير الأرثوذكسية، من طريق فكفكة النصوص والاقتحام من طريق اللامفكر فيه. والردود السلبية التي لقيها حولته الى مناضل لا يتوانى ولا يهادن ولا يراجع، ولا يمل من تكرار الفكرة بأساليب شتى، كما انه لا يرد مباشرة على ناقديه، وإنما يجيب على الإشكاليات في مقالات وكتب. وقد صدرت له بالعربية والفرنسية في الأعوام الخمسة الأخيرة خمسة كتب، وعشرات المقالات التي لو عاش لعاد فجمعها في كتب. رحم الله أركون، فقد خسرنا معرفته وبراءته وقامته الفكرية العالمية العالية.
+++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++++
الحافر عميقاً في بنية الفكر العربي
الخميس, 16 سبتمبر 2010
سعد البازعي
Related Nodes:
الطريق الى التحديث
الراية العالية في ليل الثقافة العربية
سيرة ومؤلفات
بحثاً عن سياق تاريخي واجتماعي
الممنوع والممتنع
الثورة على الاستشراق والمآزق
محمد أركون رائد حوار الأديان رحل عن 82 عاماً
خارج جدران اليقين
حين علمت بوفاة محمد أركون كنت بالصدفة المحضة أشاهد مقابلة تلفزيونية على قناة «الحرة» مع الكاتب الكويتي أحمد البغدادي. كنت أقول ها هو البغدادي أستاذ العلوم السياسية الكويتي الذي توفي قبل أسابيع قليلة، والذي التقيته العام الماضي ولأول مرة في ندوة حول التنوير أقيمت في الكويت وكان ضيفها أو متحدثها الرئيس هو المفكر الجزائري محمد أركون. كانت تلك الندوة لقائي الأول بأركون أيضاً.
رحم الله البغدادي ورحم أركون فهما ككل البشر بحاجة إلى رحمة الله. كان الاثنان من أهل الرأي والمدافعين عن حرية التعبير عنه، كما كانا رموزاً لما عرف في العالم العربي بالتنوير أو الاستنارة (بغض النظر عما يعنيه هذا المصطلح بالضبط) فجزاهما الله خيراً عن جهودهما.
لقد توفي أركون ولما يمضي وقت طويل على وفاة عدد من أعلام الفكر البارزين في الثقافة العربية الإسلامية. قبله رحل الجابري، وقبل ذلك عبدالوهاب المسيري ومحمود أمين العالم وغيرهم كثير. ترك أولئك أثراً بعيداً على الفكر العربي الحديث وحفروا عميقاً في بنية الثقافة العربية المعاصرة. وليس أحد منهم بحاجة إلى الاستدلال على أهميته، فهي واضحة وضوح الشمس. لكنهم بحاجة إلى الكثير من التحليل والتقويم لمزيد الاستفادة من عطائهم.
من بين الأسماء التي أشرت إليها يبدو لي أن من يقف مقابل أركون هو المسيري، فقد سار هذا الأخير من منطلق إسلامي باتجاه الحضارة الغربية ناقداً لها وداعياً إلى إعادة تقييم العلاقة بها، في حين انطلق أركون من منطلقات غربية باتجاه الحضارة الإسلامية، ناقداً للفكر والتيارات الدينية تحديداً. كلا المفكرين اتكأ على أدوات فكرية غربية في نهاية المطاف.
في ندوة التنوير في الكويت علقت على محاضرة أركون حول التنوير الغربي وعلاقته بالثقافة الإسلامية وذكرت له وللحضور أننا في العالم العربي أقل نقداً للتنوير من الغرب نفسه (كما في نقد مدرسة فرانكفورت مثلاً). لكنني كنت وما زلت أدرك أن أركون وإن لم ينقد التنوير كان يقدم للعالم العربي الإسلامي عطاءً بالغ الأهمية في نقد ثقافة ذلك العالم. لقد تعلمت منه مثلما تعلم الكثيرون كيف نعيد النظر في بعض مسلمات التاريخ الثقافي الإسلامي، وأفدت منه كما أفاد كثيرون في ضرورة تحويل ذلك النقد إلى مسار لدخول العالم المعاصر. نعم لم أجد نفسي متفقاً مع بعض أطروحاته الأساسية لكني كنت وما زلت أراه إحدى العلامات الكبيرة في مسيرة الفكر العربي الإسلامي.
**********************************************************************