{myadvertisements[zone_1]}
 
تقييم الموضوع:
  • 0 صوت - 0 بمعدل
  • 1
  • 2
  • 3
  • 4
  • 5
القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
ديك الجن غير متصل
Moderator
*****

المشاركات: 63
الانضمام: Aug 2008
مشاركة: #1
القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
19 كانون الأول/ديسمبر
في مثل هذا اليوم من أوائل القرن العشرين الماضي ولد القديس جان جينيه لقيطا ومجرما بالفطرة... وبالولاء نفسه الذي يتوجه في القديس الى الفضيلة والطهارة توجه تدريجيا إلى ممارسة الشر والجريمة بشبق ونهم وإلتزام عقائدي قل مثيله في عالم الأدب والثقافة.

كلما كبرت ذنوبي في نظركم إزدادت حريتي

في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين تحولت حياة جينيه إلى ظاهرة إجتماعية، إلى نوع من الخرافة أو الأسطورة مما صعد ردود الأفعال النقدية عليها وبخاصة في فرنسا.

هو الذي بدأ بنشر يومياته على عكس العادة أراد أن يقدم أوراق إعتماده كممثل لكل المظلومين والمقهورين والمنبذين والمضطهدين في العالم
بعد أن تقيأ فرنسا

لقد أدركت وأنا طفل صغير انني لست فرنسيا، وانني لا أنتمي إلى القرية. وقد أدركت ذلك بطريقة ساذجة وغبية.
فقد طلب منا المعلم أن يكتب كل واحد منا موضوعا إنشائيا يصف فيه بيته. وحدث أن كان موضوعي هو الأفضل والأجمل بين كل المواضيع التي كتبت عن الموضوع المذكور. وقد قرأه المعلم بصوت عال وجميع التلاميذ سخروا مني قائلين: "لكن هذا البيت الذي يصفه ليس بيته. انه طفل لقيط" وعندئذ حدث فراغ رهيب لدى الطفل الموهوب، وفي تلك اللحظة بالذات كره فرنسا، وفي ما بعد سوف يقول إنه تقيأها!


تقيأها هاربا عبر البلاد متجها شرقا وجنوب فجاب القارة كلها مشردا معوزا متمردا حتى أنه جرب سجون القارة كلها من رومانيا حتى إسبانيا ليتطوع بعدها في العشرينات من عمره في الجيش ويرسل إلى لبنان وسوريا كجندي في 1930 ويمكث هناك في الأخير عاما كاملاً وشهراً

صاحب مسرحيات: الخادمات، الشرفة، الستائر...
وروايات: يوميات لص، المحكوم بالإعدام ، سيدتنا ذات الورود...
وأعمال مثل: الأسير العاشق، أربع ساعات في صبرا وشاتيلا...


سيرافقنا بعض الوقت.. لنعطي لهذا القديس الجهنمي جزءاً من حقه وواجبه علينا...

فابقوا معنا
وأهلا بكم جميعا
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-20-2010, 07:59 PM بواسطة ديك الجن.)
12-20-2010, 07:54 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
الحوت الأبيض غير متصل
Party Pooper
*****

المشاركات: 2,292
الانضمام: Jun 2010
مشاركة: #2
الرد على: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
نشرت مقابلة معه في عدد مبكر من أعداد مجلة الكرمل (أجرى المقابلة سعد الله ونوس) سأحاول الحصول على النص
12-20-2010, 08:18 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ديك الجن غير متصل
Moderator
*****

المشاركات: 63
الانضمام: Aug 2008
مشاركة: #3
RE: الرد على: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
(12-20-2010, 08:18 PM)الحوت الأبيض كتب:  نشرت مقابلة معه في عدد مبكر من أعداد مجلة الكرمل (أجرى المقابلة سعد الله ونوس) سأحاول الحصول على النص

سعدالله ونوس صديق لجان جينيه وهو قريب فكريا "الوجودية اليسارية" وفنيا "مرجعية المسرحي الفرنسي، أنتونان أرتو" لهذا الثائر الملتزم الذي يعرف أحياء دمشق المتطرفة ومخيماتها معرفة حميمية.. وبهذا لم يكن بعيدا عن الجو السائد فكريا وثقافياً...
بمناسبة المقابلة/ اللقاء في مجلة الكرمل.. كان هناك ايضا الشاعر علي الجندي الصديق هوالآخر لجان جينيه وبقية الإرهابين حتى كارلوس... طيب الله أثاره في سجون فرنسا الحنون...

أهلابك وبمساهماتك أيها الحوت الأبيض
وابقى معنا للتتمة
محبة
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-21-2010, 07:41 PM بواسطة ديك الجن.)
12-21-2010, 07:40 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
الحوت الأبيض غير متصل
Party Pooper
*****

المشاركات: 2,292
الانضمام: Jun 2010
مشاركة: #4
الرد على: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
حسنا حصلت على المقابلة (مصورة طبعا).. الحديث ليس عن مقابلة تقليدية (يشرح ونوس السبب في البداية) ويتخللها شروحات كتبها ونوس عن حياة جينيه ومؤلفاته. الحوار طويل جدا (من صفحة ٨ إلى ٤٤ في الكرمل) وسأحاول طباعته كله تباعا لكنني قد أحتاج مساعدة فهل من متطوع (راسلني وسأرسل لك المقابلة).

المصدر: مجلة الكرمل العدد ٥ ص٨-٤٤

جان جينيه

ولدت في الطريق وسأموت في الطريق

أجرى الحوار سعد الله ونوس

أعترف منذ البداية أن هذا العمل ناقص، وأنه لن يكتمل أبدا.

أولا، لأني لم أستطع، إلا في حالات نادرة، تنظيم سياق الأحاديث الطويلة التي دارت بيني وبين جان جينيه، بحيث تتخذ طابع الحوار المتسلسل أو المتسق. وحين كنت أهيّء عددًا من الأسئلة المترابطة لتنظيم الحوار، كان جينيه يعرف كيف يقلب خطتي، ويمسك مبادرة السؤال. أي أنه كان يقصي، وبكل كياسة، إمكانية أن يتحول الحديث إلى حوار للنشر.

ثانيًا، لأن عالم جان جينيه شديد الثراء، متعدد الآفاق والمستويات.. وأحاديث كانت تنبثق بصورة عفوية، ثم تسترسل وفق تداعيات الحديث ذاته، لا يمكن أن تكشف ثراء هذا العالم، ومستوياته المركبة إلا إذا أدرجت في ثنايا دراسة شاملة عن أدب جينيه، وحياته. هذه الدراسة متعذرة الآن، وحتى لو تيسر لي إعدادها، فإنها ستظل محدودة الأهمية ما لم تترجم أعمال جان جينيه إلى العربية. ومعها دون ريب دراسة سارتر الضخمة عنه "القديس جينيه ممثلا وشهيدا".

ثالثًا، لأننا أمام كاتب، سأغامر وأعرّفه بأنه عقل متوقد لا يكف عن تأمل ذاته، وتأمل العالم حوله. لهذا فإن أية لفتة أو ملاحظة عابرة تكفي لأن يهدم كل إجابة سابقة، ويعيد صياغتها سؤالا يباغتنا بجديته وطزاجته. "وجينيه"، كما يقول "كلود بونفوا"، لا يبحث عن حل التناقضات، بل على العكس، إنه يؤكدها، ويستمتع بها.

هذه الأسباب الثلاثة هي التي تحدوني إلى القول بأن هذا الحوار سيظل مقاطع مجتزأة وغير تامة. إنها بقع ضوء تنبش من العتمة بعض زوايا عالم جينيه، وبعض القضايا الثقافية التي تهمنا.

* * *

-١-

وقفت السيارة في زحام المساء. أمسك جان جينيه مقبض الباب، وفتحه بسرعة. صاح "جوزي فالفيرد"، المخرج المسرحي المعروف، ومدير مسرح جيرار فيليب، الذي نقلنا من ضاحية "سان دينيس" إلى باريس:
- انتبه.. لا تنزل هنا، وإلا سحقتك السيارة.
أجاب جينيه:
- ولدت في الطريق. وعشت في الطريق. وسأموت في الطريق.
احتج فالفيرد:
- ومع ذلك لن نتركك تنسحق تحت عجلات سيارة.
فعقب جينيه:
- وما أهمية ذلك! ثم حيا فالفيرد بحركة مؤدبة جدا، ونزل من السيارة. تبعته، ومشينا وسط الزحام تلفنا رخاوة المساء. كنا نتجه نحو محطة قريبة ليستقل منها القطار. سألته أين يعتزم السفر، فأجاب:
- لا أدري. أي قرية أو مدينة صغيرة بعيدا عن باريس. لا أطيق العيش في باريس. ولكن ما زال ثمة وقت. هل نشرب فنجان قهوة؟
وكنا نحاذي مقهى تبعثرت طاولاته على الرصيف، اخترنا أقربها وجلسنا.

["ولدت في الطريق..

في ١٩ كانون أول ١٩١٠، ولدته أم لم يعرفها أبدا. وملفوفًا بقماط أودعته في دار للأيتام. فيما بعد، حين أصبح في الحادية والعشرين من عمره، أعطي شهادة ميلاد، وعرف أن أمه اسمها غابرييل جينيه. وهذا كل شيء. دار الأيتام عهدت بتربية جينيه الطفل إلى عائلة ريفية في مورفان. وفي سن العاشرة حدث ما يسميه سارتر في كتابه "القديس جينيه شهيدا وممثلا"، أهم حدث درامي في حياته. لقد اتهم بالسرقة. وسيق إلى إصلاحية الأحداث في ميترى. وفي كتابه "يوميات لص" يصف حالته آنذاك: "كنت أتألم. وعانيت خجلا رهيبا من رأسي الحليقة، وثوبي الحقير، وحبسي في هذا المكان الوضيع.. ولكي أستطع مواصلة العيش رغم ألمي، وحين كان وضعي شديد الانطواء..، أعددت، ودون وعي، نظاما صارما. ويمكن شرح آلية هذا النظام على النحو التالي - ومنذئذ سأستخدمه دائما -. من صميم فؤادي، سأجيب على كل تهمة توجه إلي، حتى لو كانت باطلة، نعم.. لقد فعلتها. وأصبحت لا أكاد ألفظ هذه العبارة، أو أي عبارة تحمل المعنى نفسه، حتى أحس في داخلي الحاجة لأن أصير ما اتهموني به.".. ثم يقول في مقطع آخر: لقد بدا لي طبيعيا، وأنا الذي رماني أهلي منذ ولادتي، أن أفاقم خطورة وضعي بالشذوذ الجنسي، وأن أفاقم خطورة الشذوذ بالسرقة. وخطورة السرقة بالجريمة أو الإعجاب بالجريمة. وهكذا رفضت بشكل قاطع عالما كان قد رفضني"].

ما إن جلسنا حتى أخرج سيجاره، وهي دائما ماركة "الفهود السود". أشعل سيجارا جديدا من عقب السيجار المتلاشي. قال لي:
-يمكنك أ، تعتمد على فالفيرد. إنه صديق حقيقي. كان قد عرف من صديقة مشتركة هي "بول تيفنين" التي تنقح وتنشر الأعمال الكاملة للمسرحي "أنتونين آرتو"، أن لدي متاعب مع مركز التدريب الذي أرتبط به. وأنهم لدواع بيروقراطية بحتة، يريدون أن يبعدوني عن باريس. تلفن فورا إلى فندقي، ثم جاء بعد قليل ليأخذوني إلى جوزي فالفيرد، كي يعرفني عليه، ويطلب معونته. تصرف معي ببساطة ودودة، وكرم عفوي. إن الكرم يفيض منه بالتلقائية نفسها التي يعيش بها. هو كرم هؤلاء الذين لم يملكوا شيئا. ويحتقرون أن يمتلكوا شيئا.

*روى لي:
[-"ولدت في الطريق.. وعشت في الطريق "مرة واحدة في حياتي. قبضت ثمن أحد مؤلفاتي، واشتريت بيتا بمائتي ألف فرنك، شقة من غرفتين وردهة. انتابتني حالة غريبة كنت أنام في إحدى الغرفتين، فأحس أن الثانية وحيدة وحزينة. أنهض من فراشي، وأذهب إليها. ألاطفها وأحدثها. كانت حالة من الهياج المكتئب. أنوس بين فراغين كلاهما غيور ونزق. عرفت آنذاك أني لم أخلق لأعيش في بيت، أو لأمتلك بيتا، بعد تسعة عشر يوما بعت الشقة، وبثمنها سافرت إلى استامبول ومنها إلى اليونان حيث مكثت هناك أربع سنوات. أعيش متنقلا من فندق إلى فندق.. وفي السنوات الأخيرة، ولعلها أجمل سنوات عمري، عشت مع الفهود السود في جحور أمريكا. وعشت مع الفدائيين الفلسطينيين".]

تعرفت عليه في أواخر عام ١٩٧٠ في دمشق. كان قد جاء ليعيش مع الفدائيين، ويجمع أكبر قدر ممكن من الوثائق عن القضية الفلسطينية. زار المخيمات، وشاطر الفدائيين حياتهم في القواعد والخيام. إنه واحد من أكبر مناصري القضية الفلسطينية في الغرب. أو ربما كانت كلمة "مناصر" غير صحيحة. فهي بالنسبة له قضيته. ومن قبل كانت قضية الفهود السود قضيته. والفرق بين التعبيرين هو أكثر من فرق شكلي في حجم التأييد، بل يعكس الموقف العميق لجان جينيه من العالم، وسيتوضح ذلك تدريجيا من خلال المناقشات التي امتدت بعد هذا اللقاء، واستمرت أياما وأياما أثناء إقامته المتقطعة في باريس عام ١٩٧٤. ولكن قبل أن أستأنف حديثنا في المقهى، أحب أن أشير إلى إحدى مزايا جينيه النادرة وهي صفاء الذاكرة وحدتها. ففي دمشق التقينا مرتين فقط. الأولى ذهبت والأخ علي الجندي إلى فندق سميراميس للترحيب به. مكثنا قليلا، ودار الحديث عن اتحاد الكتاب.. ومبرر أن يكون هناك اتحاد يجمع الكتاب. والثانية، سهرة تواقتت مع ليلة المعراج، فاضطررنا للإنزواء في إحدى ردهات الطابق الرابع في سميراميس. كنا أربعة. جينيه، علي الجندي، قاسم الشواف، وأنا، تحدثنا في السياسة، والأدب والشعر.. وحين التقيته بعد ثلاث سنوات في باريس، كان يذكر كل أحاديثنا، من موضوع اتحاد الكتاب.. إلى شعر فرلين الذي اختلف جينيه مع علي الجندي في تقويمه.

سألته: ألن تكتب شيئا عن القضية الفلسطينية. قرأت المقال الذي نشرته في "النوفيل أوبسرفاتور" عن الفهود السود منذ فترة.. وتوقعت بعده أن أقرأ لك بعض المقالات عن الفلسطينيين. لا شك أن ذلك سيفيد قضيتنا جدا.
وجم لحظة ثم أجاب:
- أتظن! أما أنا فلا أعتقد أن ذلك سيفيد في شيء.
- لماذا؟ إن كاتبا له وزنك وشهرتك يمكن أن يؤثّر جدا في توضيح القضية، إذا لم تجعل قارئك يبدّل رأيه تماما، فإنك ستهز على الأقل، القناعات التي رسختها في ذهنه سنوات طويلة من الدعاية الصهيونية.
- تقول أني كاتب له وزن.. هل أنت جاد؟
- أتريد أن تتواضع. كم مرة أعيدت طباعة مؤلفاتك، وإلى كم لغة ترجمت؟
- هذا صحيح. ولكن هل تعرف لماذا يشتري القرّاء مؤلفاتي، أو ماذا يهمهم فيها؟ (لم أجب. وتابعت الإصغاء) سأقول لك.. ما يهمهم هو سيرتي الشخصية. الوجه الفضائحي في حياتي هو الذي يشغل فضولهم، ويدفعون لشراء كتبي. أما ما عدا ذلك فليس لدي أي تأثير حقيقي. لهذا أقول ليس لي قراء. هناك آلاف من الفضوليين الذين يتلصصون من النوافذ التي تطل على حياتي الشخصية. يريدون أن يعرفوا ماذا يجري في هذا العالم الإباحي، الوقح، الأزوتي، العاري، ولا شيء أكثر. لقد أصبح مزعجا بالنسبة لي هذا الاهتمام بالشخص-الفضيحة. أريد أن يعمني الصمت، وأن أبدأ شيئا جديدا. لا أريد أن يتداول أحد اسمي، أ, تنشر الصحف شيئا عن عملي.
باختصار.. أريد أن تنتهي هذه الأسطورة.

["أن تنتهي الأسطورة..
.. ومن قبل، كان جل همه كما يعترف في "يوميات لص" هو أن تنجح أسطورته. أي أن ينتزع للعالم السفلي الذي عاش فيه، عالم الهامشيين من لصوص ولواطيين ومجرمين وسجناء، شرعية توازي في جذريتها ورسوخها شرعية العالم الآخر الذي تنظمه القوانين والأخلاق التقليدية. ثم أبعد من الشرعية، أن يستنبت هذا العالم المظلم جمالية وهاجة تسمو به، وتجعله يطفح بالغواية. يقول في "يوميات لص": "قررت أن أعيش مطأطأ الرأس، وأن أتبع قدري في الاتجاه المظلم. الاتجاه المعاكس لاتجاهكم. وأن أستثمر ما هو نقيض الجمال في عالمكم". وهذا القرار، أو الاختيار الوجداني الحاسم على حد تعبير سارتر، لا يتخذ كامل بعده، وقوته، إلا إذا أعلنه. أو بدقة أكثر، إلا إذا أنشده متحديا العالم الذي رفضه طفلا وشابا. عبر هذا الإنشاد، يتجاوز القرار محتواه العملي المباشر، الذي يتبدى في السرقة واللواط والجريمة، كي يتحول إلى أغنية، جمالها الوحشي يلسع ويغوي، ورنينها المتوتر الغريب يقلق ويبهر. عبر الإنشاد أيضا، يتخطى "الخارج عن القانون" وضعه، فيغتني ويزدوج بالشاعر. كما تتخطى سيرته الشخصية ملفات القضاء لتنفتح على أفق رحب هو الشعر. وهو بداية الأسطورة.

وجينيه لم يفعل، حين قرر أن يكتب، إلا بناء هذه الأسطورة. أسطورته. وهو يبنيها بدأب المتعبد، ونشوة الوثني الذي يمارس طقوسه الخاصة. إن كتاب "يوميات لص"، الذي صدر عام ١٩٤٩، هو الحركة الأخيرة في نشيد واحد، مبني كالطقوس على التكرار، والتصاعد المتوتر. لقد سبقته، عدا القصائد، أربع روايات هي: "نوتردام الورود - ١٩٤٤" و "معجزة الورود - ١٩٤٦"، و "الموكب الجنائزي - ١٩٤٧"، و "كوريل مدينة برست - ١٩٤٧". وفي هذه الروايات كلها ينهل جينيه من موضوع واحد، هو سيرته الخاصة، وسيرة الوسط السفلي الذي عاش فيه. إن الشخصيات والأحداث والمضامين تتكرر من رواية إلى أخرى، في إيقاعية تثير الاضطراب، لكنها لا تثير الملل أبدا. فكل تكرار يدفع السيرة-الفضيحة خطوة أبعد نحو تحدي المجتمع القائم، ويفجر من عتمتها ينابيع جمالية ثرة، تتألق بها، وتتسامى. إن الأسطورة تتكامل وتنجح باضطراد، يقول "كلود بونفوا" في دراسة عنوانها "جينيه" "إن أدبه يتوضع في منظور واحد، هو الذي يجعل من العسير أن نفهم بشكل جيد أي واحد من أعماله، إلا من خلال علاقته بالأعمال الأخرى، وبالرجوع إلى حياة المؤلف نفسه".
]

كنت أريد متابعة الحديث عن أهمية كتابته عددا من المقالات عن القضية الفلسطينية، ولكن استوقفتني هذه العبارات الباترة التي صور بها علاقته مع قرائه. كانت لهجته تقريرية، وعيناه الموّارتان بالحياة تكسوهما غشاوة أسيانة. لم ألمح أي تواضع زائف بل على العكس كانت كلماته تنبش ما أدركت فيما بعد أنه تناقضه الذاتي العميق. قلت:
- منذ ربع قرن كان أقصى ما تريده، كما ورد في "يوميات لص" هو أن تنجح أسطورتك. فماذا حدث الآن؟ هل تشعر أن القراء أساؤوا فهمك، أو أن هذا النجاح لم يحقق ما توخيته؟
مجّ سحابة من سيجاره، وغلغل نظرته الأسيانة في الليل الذي يهبط خلسة ثم قال:
- أنت تتحدث عن "يوميات لص"، ولكن صلتي بمؤلفاتي انتهت. مذ فرغت من كتابتها انتهت. إنها لا تعنيني على الإطلاق، لا أحب الحديث عنها ولا خوض أي نقاش حولها.
- ومع هذا فهي مؤلفاتك، إنها تبعة وصلة بينك وبين الآخرين.
- لا.. هذا لا ينطبق علي. اسمع.. أتعرف كيف بدأت الكتابة؟
- أعرف بدأت الكتابة في السجن.
- صحيح.. ولكن سأقص عليك كيف تم ذلك. أثناء الحرب العالمية الثانية كنت موقوفا في أحد السجون. وكان بين زملائي في الزنزانة واحد يكتب لأخته قصائد بالغة السخف. إلا أن الآخرين كانوا يمطرونه، حين يلقيها عليهم، وابلا من الإعجاب والدهشة. فقررت ذات يوم أن اتحدى هذا الدعيّ، وأن أحاول كتابة الشعر. نظمت قصيدتي الطويلة "المحكوم بالإعدام"، وهي قصيدة مهداة لذكرى صديقي "موريس بيلورج" الذي نفذ فيه حكم الإعدام عام ١٩٣٩، لأنه قتل عشيقه، كي يسرق منه مبلغا زهيدا من المال. حين قرأتها عليهم، لم يفهموا منها شيئا، بل انهمروا علي بالتعليقات الواخزة والسخريات اللاذعة. فماذا كان رد فعلي في تصورك! شعرت خلاياي تتفتح غبطة، وملأني استقبالهم المهين للقصيدة زهوا وفرحا حقيقيين.. هذه البداية الشبيهة بالدعاية تختزل تقريبا كل علاقتي بالكتابة. بعدها بقيت أكتب. ولكن لم يكن الأمر إلا بالنسبة لي. كنت أجد متعة شخصية في الكتابة. وكل ما كتبته لم يكن إلا إرواء لهذه المتعة. أما الآخرون فلم يخطروا ببالي، ولم أسمح لمتطلباتهم وهمومهم أن تنسل إلى تلك العلاقة الحميمة التي يذوقها المرء وهو يعكف على نفسه، بل وعلى جسده أيضا. كنت أكتب لأتنشي، ولأمزق الصلات أكثر فأكثر مع العالم الذي يرفضني وأرفضه.
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-22-2010, 12:47 AM بواسطة الحوت الأبيض.)
12-22-2010, 12:40 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ديك الجن غير متصل
Moderator
*****

المشاركات: 63
الانضمام: Aug 2008
مشاركة: #5
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
الحوت الأبيض
شكرا جزيلا لمساهمتك
العدد من مجلة الكرمل متوافر عندي وقد كان اللقاء الطويل مرجعاً في موضوعي هذا...
قد قال لي الكبير سعدالله ونوس في يوم من الأيام بما معناه أننا إذا أردنا أن ندرس ظاهرة كبيرة ومعقدة ومتنوعة مثل جان جينيه لابد لنا من إيجاد مفتاح للدخول إلى أعماق هذه الشخصية ومعرفتها ضمن ظروف حياتية خاصة قلما نجد مثلها عند أديب أو فنان أو حتى مفكر آخر..
وطفقت أبحث عن المفتاح وتناطحت مع كؤوس الخمر والكتب المتوفرة آنذاك بما فيها اللقاء القديم نسبياً المنشور في الكرمل.. في إيجاد مفتاح يفتح أقفال هذه الشخصية المتعددة حتى وجدته.. وقد إجتمعت مع عدد من الأشخاص عاديين ومثقفين عرفوا جان جينيه عن قرب في دمشق وبيروت والجزائر.. وأذكر أن سعدالله كان من المرات النادرة معجباً وراضياً عن هذا الإكتشاف "المفتاح" وطلب مني قراءة الدراسة قبل تقديمها في محاضرة مختصة.. وكان هذا وساماً أفتخر به كما أفتخر دوما بصداقتي لهذا الأستاذ الكبير والعمل معه والتتلمذ على يديه على الأقل مسرحياً...

شكرا لك من جديد وأعود لأكمل ما بدأته كلمحة عن جان جينيه قبل الدخول في معالجة بعض من أعماله إن سنحت الظروف.. على فكرة ما أكتبه هنا مختلف تماماً عن الدراسة المطولة التي كنت قد أجريتها عن مسرح جان جينيه فاقتضى التنويه...

مرحبا بك وبكل الزملاء وشكرا للمساهمة بانتظار المزيد دائماً
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-22-2010, 06:16 PM بواسطة ديك الجن.)
12-22-2010, 06:12 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ديك الجن غير متصل
Moderator
*****

المشاركات: 63
الانضمام: Aug 2008
مشاركة: #6
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
(12-20-2010, 07:54 PM)ديك الجن كتب:  19 كانون الأول/ديسمبر
في مثل هذا اليوم من أوائل القرن العشرين الماضي ولد القديس جان جينيه لقيطا ومجرما بالفطرة... وبالولاء نفسه الذي يتوجه في القديس الى الفضيلة والطهارة توجه تدريجيا إلى ممارسة الشر والجريمة بشبق ونهم وإلتزام عقائدي قل مثيله في عالم الأدب والثقافة.

كلما كبرت ذنوبي في نظركم إزدادت حريتي

في الأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين تحولت حياة جينيه إلى ظاهرة إجتماعية، إلى نوع من الخرافة أو الأسطورة مما صعد ردود الأفعال النقدية عليها وبخاصة في فرنسا.

هو الذي بدأ بنشر يومياته على عكس العادة أراد أن يقدم أوراق إعتماده كممثل لكل المظلومين والمقهورين والمنبذين والمضطهدين في العالم
بعد أن تقيأ فرنسا

لقد أدركت وأنا طفل صغير انني لست فرنسيا، وانني لا أنتمي إلى القرية. وقد أدركت ذلك بطريقة ساذجة وغبية.
فقد طلب منا المعلم أن يكتب كل واحد منا موضوعا إنشائيا يصف فيه بيته. وحدث أن كان موضوعي هو الأفضل والأجمل بين كل المواضيع التي كتبت عن الموضوع المذكور. وقد قرأه المعلم بصوت عال وجميع التلاميذ سخروا مني قائلين: "لكن هذا البيت الذي يصفه ليس بيته. انه طفل لقيط" وعندئذ حدث فراغ رهيب لدى الطفل الموهوب، وفي تلك اللحظة بالذات كره فرنسا، وفي ما بعد سوف يقول إنه تقيأها!


تقيأها هاربا عبر البلاد متجها شرقا وجنوب فجاب القارة كلها مشردا معوزا متمردا حتى أنه جرب سجون القارة كلها من رومانيا حتى إسبانيا ليتطوع بعدها في العشرينات من عمره في الجيش ويرسل إلى لبنان وسوريا كجندي في 1930 ويمكث هناك في الأخير عاما كاملاً وشهراً

لكنه بعد فترة طبعاً يفر من الجيش حاملاً معه بعض الحقائب الخاصة بضباط زنوج! ليعود إلى الممالك السفلى، يقول في يوميات لص:
المملكة النَّباتية هي أليفتي، أنظر إليها باحترام لا بشفقة، فهي أفراد عائلتي، وإذا ربطت نفسي بالممالك السفلى، فإن هبوطي هناك، كان لأجل الطحالب ونبات السرخس ومستنقعاته، وبعدا عن البشر…

يلتقي جان جينيه مع جان بول سارتر 1942 فيفتح أمامه عوالم الشهرة والأدب والفكر فيخرج هذا الشيطان الصغير من عالمه السفلي عالم الجريمة واللواط الذي يعتبره وساما على صدره إلى عالم الأضواء.. بعد أن يحكم عليه مدى الحياة لسرقاته المتعددة وعدم إمكانية إصلاحه كما جاء في نص الحكم يخرج بمساندة كبار كتاب فرنسا على رأسهم كوكتو وسارتر عام 1948 ليرتفع أعلى وأعلى خصوصاً بعد كتاب سارتر الضخم 700 صفحة: القديس جينيه ممثلا وشهيدا.. 1952وهو الذي أراد أن يكتب مقدمة لعمل جينيه فخرج بهذا المتن معتبرا جان جينيه قديس الوجودية ومثالها الأكمل...
ومنذ الستينيات يعش جينيه مرتاحاً من عائدات كتبه وتمثيل مسرحياته، ولكنه كان دائماً يرفض الاستقرار والعيش في مجتمع الطبقة الوسطى.. فقد كان لديه رغبة في التنقل حول العالم، بحقيبة صغيرة تحتوي على الألبسة الداخلية وجواريه، وهذا مقترن بخوفه المتزايد من كونه قد ردّ إليهإ إعتباره وفقد أهم عناصر تكوينه الشيطانية...
ثورة الطلاب 1968كان ضربة جعلته يصحح من خدر الرخاء الذي ألم به والشهرة التي انغمس بها فيعود غاطساً في عوالمه السابقة ولكن هذه المرة مع إلتزام سياسي إجتماعي ثوري مميز: يدعم جماعة بادر ماينهوف الألمانية اليسارية المتطرفة وينظـّر لها هي والألوية الحمراء... يسافر إلى الولايات المتحدة ويشترك مع منظمة الفهود السود الإرهابية ويصبح الناطق الرسمي لها... في أول أيار 1970 يلقي خطابا تحريضيا حادا ضد الحكومة الأمريكية في حرم جامعة بيل.. ليبعد بعدها ويعود فيلجأ إلى الثورة الفلسطينية ويرافقها في أحداث أيلول الأسود في جبال جرش وأم قيس شمال الأردن ويفرّ معها شمالاً نحو دمشق ثم بيروت ثم باريس...
ويستمر في نضاله الذي بلغ أعلى ذراه من أجل حقوق الشعب الفلسطيني وكلفه ذلك حقداً كبيراً إنصب عليه خاصة بعد وفاته حيث كان أول شخص غربي يدخل مخيمات صبرا وشاتيلا بعد المجزرة التي إرتكبها الإسرائيليون ليروي ما رآه من فظاعات في مقاله الطويل أربع ساعات في شاتيلا وربما كانت كتابته بعيد خروجه من مخيم شاتيلا في أيلول1982 من أهم ما كتب عن المجزرة التي ارتكبت بحق الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين لاسيما أنها تمّت بعد رؤيته بأم العين لأبشع جرائم البشرية:
إذا نظرنا بانتباه إلى ميت فإن ظاهرة غريبة تلفت نظرنا فغياب الحياة في هذا الجسد يعادل الغياب الكلي لهذا الجسد ووسط جميع الضحايا التي تعرضت للتعذيب لا يستطيع ذهني أن يتخلص من تلك النظرة اللامرئية كيف كان شكل ممارِس التعذيب من هو إنني أراه ولا أراه إنه يفقأ عيني.... كم يلزم من الأمتار لتكفين مثل هذا العدد الكبير من الموتى وكم من الصلوات..
إن قاتلين قد أنجزوا العملية لكن جماعات عديدة من فرق التعذيب هي في غالب الظن التي كانت تفتح الجماجم وتشرح الأفخاذ، وتبتر الأذرع والأيدي والأصابع وهي التي كانت تجر بواسطة حبال محتضرين معوقين رجالاً ونساءً كانوا لا يزالون على قيد الحياة.


إن هذه الشهادة الشخصية نشرها جان جينيه في مجلة الدراسات الفلسطينية بالفرنسية ثم نشر نصها العربي في العدد السابع من مجلة الكرمل عام 1983 مبيناً مقدار الجريمة في أفعال الإسرائيليين والتي تفوق أي تصور جعلته ينتقل من الصورة التي تنقلها وسائل الإعلام الملفقة إلى أخرى أكثر صدقاً لاسيما في ظل حساسيته الشعرية العالية في نقل مسرح تلك الجريمة البشعة بكل ما تحويه من سينوغرافيا خاصة بالموت بصيغته الجماعية... وهكذا عايش بين بيروت دمشق باريس القضية وحياة اللاجئين الفلسطينيين في المخيمات لشهور ومشاهدته لمعاناتهم هي ما دفعه لكتابة الأسير العاشق عام 1986.. أهم وثيقة تاريخية لمسيرة الثورة الفلسطينية قبل موته في العام ذاته..


(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-22-2010, 06:25 PM بواسطة ديك الجن.)
12-22-2010, 06:22 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
fancyhoney غير متصل
واحد من الناس
*****

المشاركات: 2,545
الانضمام: Apr 2005
مشاركة: #7
الرد على: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
متابع
12-23-2010, 07:20 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
هاله غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,810
الانضمام: Jun 2006
مشاركة: #8
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
الجزء التالي من المقابلة

[ و أنا أصغي اليه شعرت أني أنفذ , و لو على نحو غامض الى واحد من التناقضات الأساسية في وضع جينيه. و لكي أوضح هذا الشعور كنت بحاجة الى الكثير من التركيز و الى تنسيق أفكار مشتتة كانت تخطر دائما في ذهني كلما قرأت واحدا من أعماله. تذكرت استنتاجا قديما بأن جينيه "مخاتل" بارع. و كان قد بلور هذا الاستنتاج في رأسي أحد مقاطع روايته "نوتردام الورود" .. يقول:

"عالم الأحياء ليس نائيا جدا عني و لذا فاني أبعده قدر ما أستطيع و بكل الوسائل المتوفرة لدي. بهذا الجهد يتراجع العالم حتى يغدو مجرد نقطة ذهبية في سماء مظلمة. و تنفغر بين هذا العالم و عالمنا -عالم السجن- هوة هي من الاتساع بحيث لا يبقى أبدا ما هو حقيقي الا قبرنا. حينئذ أبدأ في هذا القبر وجود ميت حقيقي. و باصرار متزايد أقطع و أحذف من هذا الوجود كل الأفعال و لا سيما الصغيرة جدا التي يمكن أن تذكرني و بسرعة أن عالم الأحياء يتحدد على بعد عشرين مترا من هنا , تماما خلف جدران السجن. أولا أنحي من اهتماماتي تلك التي يمكن أن تذكرني أفضل من سواها أنها كانت ضرورية للمشاغل الحياتية المعتادة. فمثلا أن أعقد رباط حذائي, يذكرني كثيرا أني كنت أفعل ذلك في العالم الآخر كي لا ينحل حين أجتاز عدة كيلومترات سيرا على الأقدام. كذلك لن أزرر بنطلوني لأن هذا الفعل يجبرني على أن أرى نفسي من جديد في مرآتي (..) و لا ينبغي أن يقتصر التحول على شكل الاهتمامات و انما على جوهرها. يجب ألا أفعل ما هو نظيف أو صحي. لأن النظافة و الأمور الصحية لصيقة بالعالم الأرضي. يجب ان أتغذى من حذر المحاكم. أن أتغذى من الحلم. لا أريد أن أكون جميلا: بل أن أكون شيئا آخر. أن أستعمل لغة أخرى. و أن اؤمن جديا اني سجين الى الأبد".

في هذا المقطع يتحدث جينيه عن نفسه دون اي مواربة روائية. هو يتخذ قراره باصرار و اخلاص لا يتركان مجالا للشك في صدق عزيمته. و لكن هل هو صادق فعلا؟ أمام هذا السؤال تبرز "مخاتلة" جينيه الكاتب. انه يخاتل نفسه و يخاتلنا في آن واحد. فاذا كان قد قرر أن يبتر صلته مع عالم الأحياء و أن يعيش ميتا حقيقيا في قبر أو في السجن فان الامتداد الطبيعي لمثل هذا القرار يجب أن يكون الصمت المطلق. لكن جينيه يتكلم. انه يعلن قراره بصوت مرتفع. و هذا الاعلان موجه بالضبط الى العالم الذي يريد أن يمزق كل صلة تربطه به. و اذن .. فانه يعود فيتواصل معه عبر الكلمات. و بالكلمات يتجاوز القرار دلالته العملية ليتحول, كما قلت سابقا, دلالة شعرية أو أدبية, بالكلمات أيضا ينشق كما التمزق تناقض مدوخ ليس سهلا تخطيه. و جينيه نفسه يقول في مقطع آخر من الرواية: "ينبغي أن أكذب لأكون صادقا, بل و أمضي ابعد من ذلك. عن أية حقيقة أريد أن أتحدث؟ اذا كان حقيقيا أني سجين يلعب -أو يتلاعب ب- مشاهد من حياته الداخلية فلا تطلبوا اذن أي شئ آخر سوى اللعب" .. أما في رواية "الموكب الجنائزي" فانه يصرخ: "هذا الكتاب حقيقي, و هو أيضا دعابة كاذبة".
]

بعد فترة صمت حاولت خلالها أن أستجمع أفكاري .. قلت:

- لآ أدري .. يبدو لي أن المسألة ليست بهذه البساطة. لا يراودني اي شك في أنك كنت تكتب لمتعتك الشخصية و أن العالم الخارجي لم يكن يعنيك الا بمقدار ما تهينه أو تزدريه, و لكن مع هذا فان القضية تنطوي على اشكال شبيه بالفخ. ان كل كتابة , اعني طبعا الكتابة التي تنشر أو تذاع هي مباشرة حوار مع العالم الخارجي .. و حتى لو كان المضمون الجوهري لهذه الكتابة هو رفض العالم و تمزيق امكانية محاورته فانها في التحليل الأخير ليست الا حوارا معه. ربما كان حوارا شرسا لكنه حوار على أية حال. لهذا افكر أنك حين بدأت الكتابة انزلقت و لو على كره منك الى عملية تواطؤ مزدوجة. فمن جهة أنت تواطأت مع هذا العالم الذي تعاديه لأنك قررت العبور اليه و لو على جسر من الكراهية و الاحتقار, و هو كذلك تواطأ معك اذ قبل كراهيتك و احتقارك و احتضن عبورك اليه مستجيبا للحوار.

كان يصغي باهتمام و على وجهه يرين هدوء و ديع. لا يبدو أني أثرت اعتراضا لم يكن يتوقعه. أجاب ببطء:

- لهذا لا أريد أن تكون لي صلة بأعمالي. أو بالأحرى لم تعد لي صلة بها. أن ما تسميه تواطؤا و هو شرط كل كاتب غربي كان يؤرقني منذ البداية. كتبت فعلا من أجل متعتي الشخصية. و لكن تدريجيا يجد المرء نفسه يدخل في اللعبة و يصبح جزءا منهل, ثم يصبح شاقا أن يتحرر من شباكها. أعطوني مكانا و دخلا. و ها أنذا لا أفعل شيئا من ثلاثين سنة الا محاولة الفرار من هذا المكان و الانفاق من هذا الدخل. عذبتني هذه المسألة كثيرا و لا تزال تعذبني. (أشعل سيجارا من سيجار) هل تعرف لماذا بدأت دار غاليمار تصدر أعمالي الكاملة في عام 1951 أي بعد تسع سنوات فقط من بدايتي الكتابة؟
- هل هناك سبب معين؟
- طبعا. في تلك السنة قررت نهائيا التوقف عن الكتابة. و لهذا بدأت دار غاليمار نشر أعمالي الكاملة.
- أكان هذا القرار لأنك استنفذت "المتعة الشخصية" أم للخلاص من وضع متناقض؟
فكر لحظة ثم أجلب بما يشبه الخفة:
- شعرت أنه لم يعد لدي ما أقوله لنفسي .. و بالتالي لم تعد لدي لا الحاجة و لا الامكانية لقول اي شئ .. (غامت عيناه في تأمل عميق ثم التفت نحوي بحيوية). ساقول لك شيئا. يستحيل على أي كاتب غربي أن ينجو من عملية "احتواء" النظام القائم لأدبه. و كثيرا ما أفكر أنه ما كان ينبغي أن أكتب أبدا.

[" قال هذه الجملة الأخيرة و كأنه يتنهد. في وضع جينيه يبدو التمزق كالجرح الغائر. و هو ينوس موجوعا و نازفا بين الرفض - الفعل و بين الرفض - الكلمة, يقول: "في معظم الأحيان تضايقني الكتابة. يضايقني أن أكتب, و قبل ذلك أن أصل الى حيازة تلك النعمة التي هي ضرب من الخفة و الانسلاخ عن الأرض و عما هو صلب أو عما يسمى عادة الواقع. أن الكتابة تفرض علي نوعا من الاختلال في وضعيتي, في الحركات , و حتى في الكلمات. أما السرقة و العيش بين اللصوص فانهما يفرضان حضور الجسد و الذهن العملي. هذا الحضور الذي يتمثل في الحركات الموجزة, المحسوبة, الرزينة, الضرورية, العملية. لذلك اذا أبديت بين اللصوص تلك الخفة و انتظار ملاك الالهام و الحركات التي تناديه و تريد ترويضه فانهم لن يعاملوني بأية جدية. و اذا أخضعت نفسي لحركاتهم و كلماتهم الوجيزة الدقيقة فاني لن أكتب شيئا بعد. اذن يجب أن أختار .. أو أن أتناوب.. أو أن أصمت". . طبعا للسرقة هنا الى جانب معناها الحقيقي دلالة رمزية أبعد. انها فعل الرفض أو الفعل الصدامي مع المجتمع القائم. و النوسان أو "التناوب" على حد تعبيره بين الرفض -الكلمة, و الرفض - الفعل استمر فترة غير قصيرة بعد أن أصبح جينيه كاتبا معروفا. و يخيل الي أنه في كل مرة كان يحس فيها بهيولية عمله ككاتب كان ينبثق في أعماقه حنين دافق للعودة الى اللص. أي الى التحدي العملي. لقد بدأ الكتابة في السجن عام 1942 و لكن في عام 1948 أي بعد أن أصدر كل رواياته و مسرحيتي "الخادمات" و "رقابة مشددة" وجد نفسه مرة أخرى في السجن يهدده حكم بالمؤبد. يومها توسط لدى رئيس الجمهورية "اوريول" لفيف من الكتاب و على رأسهم سارتر فأصدر عفوا عنه. و بعد هذا التاريخ ودع جينيه اللص و لم يبق أمامه الا أن ينوس بين الكتابة و الصمت أو يتجاوزهما الى عمل جديد .."]

استطرد و كان يتابع الفكرة نفسها:

- ان أفضل أيامي هي تلك التي تركت فيها الكتابة بحثا عن الفعالية الحية و اليومية. في حياتي ما يشبه جزيرتين يهمرهما الهدوء و التاغم. هما بالذات الفترتان اللتان قضيتهما مع الفدائيين الفلسطينيين في قواعدهم و مع الفهود السود. كان ذلك رائعا بالنسبة لي . كنت أشعر بالوضوح و بأنني افعل ما يجب فعله. ثم بدأ يروي لي عن زيارته لقواعد المقاومة و الأيام التي قضاها مع الفدائيين. كان صوته ينبض بالحماسة و ملامح وجهه تتفتح كشراع ملون. كان يبدو جليا أن عمله مع المقومة يحقق له انسجاما داخليا مبهجا.

سألته بعد أن روى الكثير من الذكريات و الأحداث:

-ما الذي دفعك لمساندة المقاومة و تبني قضيتها؟ أجابني بلهجة حاسمة و دون اي خبث:
-لأنني عرقي.
-عرقي! (تساءلت مندهشا لا سيما و ان كلمة "عرقي" هي أسوأ شتيمة في أوربا. كما أنها دائما سلاح الصهيونية لمحاربتنا و تشويه سمعتنا. اضافة الى أنها سلاحها الفعال للابتزار السياسي منذ نشأتها).
- نعم أنا عرقي ضد البيض. أو بكلمة أدق ضد العرق الأوروبي و لهذا فمن الطبيعي أن أكون مع كل العروق الأخرى المضطهدة. (فيما بعد سنعود لمناقشة هذه النقطة في سياق آخر و بشكل أعمق .. تركته يتابع) ثم أني أحس دائما و ساستعمل هنا تعبيرا قد يبدو لك غريبا, أحس جسديا أني مع المنبوذين و المضطهدين. و حين يفجرون تمردهم أو ثورتهم اشعر أني أنضم اليهم حسيا ثم عقليا فيما بعد.
- هل يعني هذا أن عدالة القضية الفلسطينية بذاتها ليست هي التي تحدد موقفك؟
- اسمع .. ما ينبغي و ما اعتقدت أن علي دائما أن أفعله هو تدمير الغرب و حضارته. لذلك فاني لا أستطيع الا أن أكون مع الحركات التي تحارب الغرب و تحاول زعزعته. ان اسرائيل هي أوربا .. هي الغرب مزروعا في بلادكم. و لهذا فان عدالة القضية في حالة المقاومة الفلسطينية هي بالنسبة لي بداهة.

بعناد عدت ألح على السؤال الذي بدأنا به الحديث:

- ما دمنا نتحدث عن عدالة القضية الفلسطينية فاني سأعود الى مسألة الكتابة. رغم كل ما قلته فاني ما زلت مقتنعا بأنه مفيد كثيرا أن تكتب عددا من المقالات عن المقاومة و عن عدالة قضيتها.

مرة ثانية انسدلت على عينيه تلك الغشاوة الاسيانة. أجاب:
- قلت لك, لن يأخذني أحد على محمل الجد.
-لماذا؟
- لسبب بسيط. لقد كنت دائما ضد اي نظام. و لهذا لن أنجح الآن في اقناع القراء حين أدافع عن قيام نظام مهما كان نوعه.

و دفعني بهذه الاجابة من جديد الى دوامة تناقضاته.

ص 19

يتبع
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-27-2010, 03:32 AM بواسطة نادي الفكر العربي.)
12-24-2010, 11:47 AM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
ديك الجن غير متصل
Moderator
*****

المشاركات: 63
الانضمام: Aug 2008
مشاركة: #9
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
الزميلة هالة والزميل الحوت

شكرا لمساهمتكما المعمقة التي أتاحت لي أخذ نفس قبل العودة إلى النقطة الإشكالية التي يمكن منها الدخول إلى عالم القديس الشيطاني هذا.. لقاء ونوس/جينيه كان فيه الكثير من المرجعيات التي أمدتني على إتمام ما بدأت فيه.. لعل وعسى.

شكرا لمتابعتك fancyhoney
وأهلا بكل من مر وعبر


عاما سعيدا للجميع87
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-26-2010, 07:26 PM بواسطة ديك الجن.)
12-26-2010, 07:25 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}
هاله غير متصل
عضو رائد
*****

المشاركات: 2,810
الانضمام: Jun 2006
مشاركة: #10
RE: القديس الشيطاني جان جينيه.. 100 عام على ولادته
بل أنا من يشكركم و عام سعيد للجميع .. و نواصل الحوار الرائع

-٢-

كنا نسير بين الأعمدة الضخمة التي تحمل شريط االمترو قرب محطة "الموت-بيكي"، وكان صليل عجلات المترو يسفعنا بين حين وآخر، كموجة متطاولة من الارتجاج والصخب. كان جينيه يروي أنه أمضى فترة من خدمته العسكرية في دمشق إبان الانتداب الفرنسي على سورية، وأنه منذ ذلك الوقت، وهو يحب العرب ويحن إلى تلك المدينة. سفعتنا موجة جديدة من الصليل، فتقلص وجهي بصورة لا إرادية، وعندما تخافتت الضجة مبتعدة، باغتني بسؤال:

- لماذا جئت إلى فرنسا؟

لا يرمي السؤال إلى مجرد الاستفسار، فهو يعلم أني جئت للقيام بدورة تدريبية في أحد المسارح، وهو نفسه كان قد ساعدني في تخطي بعض الصعوبات الإدارية. ترددت لحظات، ثم قلت:

- الدورة التدريبية ذاتها لا تعنيني كثيرا. لكنها تتيح لي الفرصة كي أطالع وأتعلم.
- لا يمكن أن تتعلم أي شيء هنا.

سألته ماذا يعني، فتوقف وواجهني بعبوسه الحزين قائلا:

- اسمع، إن الحضارة الأوروبية تمت وانتهت. إنها الآن في طور الاحتضار أو الموت. فماذا يمكن أن تتعلموا من حضارة تحتضر أو تموت؟!

لم يفاجئني هذا الحكم القاطع. فأنا أعلم أن جينيه ينظر إلى الحضارة الأوروبية نظرته إلى جثة تتفسخ. ولكن السؤال هو كيف يمكن أن يفيدنا هذا الحكم في حل إشكالية علاقتنا بالغرب. حاولت أن أستوضح:

- بالنسبة لك من السهل أن تقول ذلك. أما بالنسبة لنا فإن الأمر مختلف. إن هذه الحضارة التي تقول إنها تمت وانتهت ما زالت تملك القوة التي تمكنها من هدم استقلالنا والهيمنة على مقدراتنا. ونحن لن نستطيع مقاومتها بكفاءة وفعالية ما لم نعرفها، ونتمثل علومها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى علينا أن نعترف موضوعيا بأن هذه الحضارة قد أحرزت خلال القرنين الأخيرين مخزنا هائلا من المعارف والعلوم هو الذي أتاح لها تقدمها وسيطرتها. وأنا أعتقد، أننا معوزون لكي نبني تقدمنا الخاص إلى استيعاب هذه المعارف، واقتباسها بما يتلاءم وظروفنا التاريخية.
- ولكن الاقتباس كالترجمة سواء بسواء.

لم أفهم مغزى ملاحظته، ولكني أحسست نفورا حيال كلمة ترجمة، فسارعت أضيف:

- لا.. لا أقصد أن ننسخ الحضارة الأوروبية، بل أن نتمثل معارفها كي ننقدها ونقاومها، وبالتالي كي ننجز تقدمنا المستقل.
- وهذا يقتضي أن تترجموا هذه المعارف؟
- إذا شئت.
عندئذ ومضت عيناه، وكأنهما تعكسان ألقا ذهنيا شديد الصفاء. وبدأ يتكلم ببطء موحيا بأن أفكاره تتوالد تدريجيا، وفي تلك اللحظات بالذات:
- هل تعلم أن لكلمتي "ترجمة" Traduction، و"خيانة" Trahison جذرا مشتركا في اللغة الفرنسية؛ وعلى المستوى الحضاري، فإني أعتقد أن كل "ترجمة" تنظوي بشكل ما على "خيانة". سأحاول أن أوضح فكرتي بالعودة إلى مثل معروف في التاريخ، لقد ترجم القرآن أول مرة إلى اللاتينية، عام ١١٤٣م والذي أنجز ترجمته هو واحد من فريق التراجمة الذي شكله "بيير الموقر" لنقل أصول الدين الإسلامي. لقد كان الهدف المعلن لتشكيل هذا الفريق في إسبانيا هو تزويد المقاتلين الصليبيين بمعرفة دقيقة عن عدوهم، ومحاربة الهرطقات التي تهدد الكنيسة. ولكن كنت دائما أتساءل هل كان هذا هو دافع "بيير الموقر" الحقيقي؟ لا أعتقد. فهذا الدافع المعلن لا يكاد يستر دافعا آخر أعمق، هو باختصار افتتانه الخفي بالإسلام. لقد كان مدفوعا بغواية باطنية نحو الدين-العدو، وإني أتساءل إذا لم تؤد ترجمة القرآن، وهي تصوغ وتكشف ذلك الافتتان، إلى هدم المسيحية ولو جزئيا: [فيما بعد قرأت دراسة لمكسيم رودينسون عنوانها "الصورة الغربية والدراسات الغربية الإسلامية"، وفيها يتطرق إلى مشروع بيير الموقر، ويحاول أن يوضح الأسباب التي تكمن خلف مشروعه، يقول رودينسون في هذا المقال: "ويلتقى تيار الاهتمام الفكري بالإرث العلمي الإسلامي، مع تيار حب الاستطلاع الذي ساد على المستوى الشعبي، يلتقي التياران في ذلك الجهد المرموق الذي قام به بيير الموقر رئيس رهبان كلومي (١٠٩٤ - ١١٥٦) من أجل الحصول على معرفة علمية موضوعية عن الدين الإسلامي، ونقل هذه المعرفة لأوروبا. ويمكن أن نتبين عدة أسباب لهذا المشروع الذي يدعو إلى الدهشة. "وما يهمنا هنا هو السبب الأخير الذي يذكره رودينسون بعد عدة أسباب أخرى، إذ يقول: "ولعل ما كان يدفعه، وبصورة لاشعورية، هو فضول متجرد كان يخجل منه، فكان يخفيه حتى عن نفسه"] وكانت أفكار جينيه ما تزال تتوالد:

- أنت قلت أنك تريد ترجمة أو اقتباس معارف الغرب لكي تنقده وتقاومه لكن ما الذي يضمن لك نجاح خطتك؛ إن الاقتباس هنا غالبا ما يؤدي، وفي غفلة منا، إلى الافتتان بالآخر. وبالتالي إلى محاولة تقليده، وفي أسوأ الحالات إلى التماهي معه. - ألا توجد فرصة للتعلم من الغرب دون الوقوع في فخ الافتتان به؟
- ليس وأنتم تعتقدون أن الغرب هو الأقوى والأنضح ثقافة.
- ماذا تقترح علينا إذن؟
- أن ترفضوا هذا الغرب، وأن تبدعوا أنفسكم بأنفسكم.
[في نهاية مسرحية "الزنوج" ينسحب الجميع، ولا يبقى على الخشبة إلا الزنجي "فيلاج" والزنجية "فرتو". يحاول "فيلاج" أن يعبر لها عن حبه، لكنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا بحركات وصور مستعارة من البيض. تشعر الفتاة بالخيبة. فرتو: كل الرجال مثلك، إنهم يقلدون. ألا تستطيع أن تبدع شيئا آخر. فيلاج: من أجلك أستطيع أن أبتدع كل شيء ثمارا، كلمات أكثر نداوة، نقالة بعجلتين، برتقالا بلا بذور، فراشا يتسع لثلاثة، إبرة لا تخز. أما حركات الحب، فإنها أشد صعوبة. على كل أنت تصرين.. فرتو: سأساعدك. الشيء المؤكد على الأقل، هو أنك لن تستطيع أن تغلغل أصابعك في خصلات شعري الأشقر الطويل. وهكذا فإن الزنوج حين يبدؤون باكتشاف نواتهم الحقيقية، يجدون أنفسهم مجبرين على إبداع كلمات الحب الأصيلة، والصور الشعرية المبتكرة. أي إبداع ثقافة زنجية أصيلة في هذا المنظور ينبغي أن نفهم كلام جينيه على الترجمة الخيانة وإبداع الذات. على أن هناك نقطة هامة لم يفت المسرحية أن توضحها، وهي أن بحث الزنوج عن ثقافة أصيلة لم يصبح ضرورة ممكنة إلا بعد أن حطموا، ولو على مستوى الخيال البحت، سادتهم البيض.]

أخذنا نرشف قهوتنا بهدوء، بعد أن انتبذنا ركنا في أحد المقاهي. كان موضوع الحديث لا يزال يلح علينا، بعد فترة من الشرود والصمت، بدأ جينيه يتكلم:

- للأسف، لقد لاحظت أنكم موشومون بالثقافة الغربية، وأنكم تشكلون أنفسكم وفقا للنموذج الأوروبي، وها يعني أن الغرب اصطادكم في فخه الماكر. لقد نجح في أن يصبح مرآتكم، وأن يحفر في أعماقكم شعورا مستمرا بالنقص حياله. وقد جاءت هزيمة حزيران، وهي بكل مظاهرها هزيمة أمام "الأوروبي"، لتعمق شعوركم بالنقص، وتضاعف حاجتكم لأن تعكس لكم المرآة صورة مرضية. ولكن أية مفارقة! إنكم تبحثون عن صورة مرضية في مرآة لا يمكن أن تعكس لكم إلا سيماء الضعف والنقص والانسحاق. هذا هو الفخ الذي تتخبطون في حبائله. حين يصبح العدو هو بالذات مرآتكم ومرجعكم في الثقافة والسلوك والطموح، فإني أتساءل أين وكيف تأملون هزيمته!
- ما تقوله يمس النقطة الحساسة والموجعة لدى معظم المثقفين العرب. إنه موضوعنا الأساسي، أو إشكاليتنا التاريخية كما يسميها عبد الله العروي. ولكن هل يمكن حل مثل هذه الإشكالية على مستوى ثقافي بحت؟.. لا أظن. إن جوهر المشكلة يكمن في الوضع التبعي الذي يميز مرحلتنا السياسية الراهنة. وإن تحطيم التبعية، ومن ثم حل الإشكاليات الثقافية-الاجتماعية التي تتوالد ضمنها لا يمكن أن يتم إلا في سياق ثورة جذرية وشاملة. هز رأسه، وبعد صمت قصير، أجابني متأنيا:
- مبدئيا أتفق معك. إلا أني أعتقد أن شرط قيام أي ثورة جذرية هو أن تكسروا المرآة الغربية على المستويين الثقافي والنفسي.
- لن نختلف الآن على ترتيب الأولويات. احتد صوته قليلا، واندفعت كلماته سريعة:
- الأولويات هنا أساسية. إن الغرب الذي استمرأ مذاق السيطرة على الشعوب واستغلالها، يتسلح بتاريخ من القوة والدهاء كي يحبط أي مشروع ثوري. طبعا، أنا أفهم أن الثورة الجذرية في النهاية هي مواجهة الغرب وهزيمته. صحيح أن الثورة ستحل كل الإشكاليات التي تعانون منها. ولكن كيف تقوم الثورة، وأنتم تتخبطون في لعبة مرايا شبيهة بشباك العنكبوت. اسمع.. هل تعرف أن أهم معوقات المقاومة الفلسطينية، أنها لم تستطع أن تفلت من الفخ الغربي. لقد استدرجها الفخ بكثير من المكر. انظر إلى اهتمام بعض زعماء المقاومة ومثقفيها بما تكتبه الصحف الأوروبية عنهم. أحيانا أحس أنهم يتصرفون وفقا لما يمكن أن يرضي هذه الصحف وقراءها. حتى التصريحات والبرامج السياسية تصاغ أحيانا على هذا الأساس.


يتبع
(تم إجراء آخر تعديل على هذه المشاركة: 12-26-2010, 08:10 PM بواسطة هاله.)
12-26-2010, 08:08 PM
عرض جميع مشاركات هذا العضو إقتباس هذه الرسالة في الرد
{myadvertisements[zone_3]}


الانتقال السريع للمنتدى:


يتصفح هذا الموضوع من الأعضاء الان: بالاضافة الى ( 4 ) زائر
{myadvertisements[zone_2]}
إتصل بنا | نادي الفكر العربي | العودة للأعلى | | الوضع البسيط (الأرشيف) | خلاصات التغذية RSS